فمما تقدم يرى أن المحرك الأول الفعال هو نفس الفلك المحدود، وأن المحرك الأول البعيد هو عقل هذا الفلك عينه ؛ أي المسبب الأول الذي يحرك هذا الفلك عن شوق.
ويعزو ابن سينا مجموع هذه النظرية إلى أرسطو في عبارتين،
13
فيلوم تلاميذه على تحريفهم إياها، ولا يمكن قبول هذا الزعم مطلقا، ولكنه يمكن أن يذكر - على ما أعتقد - وذلك ضمن معنى زعم ابن سينا - وخلافا لتفسير منتشر - أن المحرك الأول عند أرسطو ليس الله، بل العقل الذي يتلو الله.
ويسيطر العقل الفعال - الذي يأتي آخر العقول - على عالمنا،
14
فعن هذا العقل تصدر الصور التي يجب أن تتقبلها المادة الأرضية، فمما يحدث - بفعل الطبيعة وتقلبات الكواكب - صلاح كل قسم من هذه المادة لصور معينة، فيتقبل القسم المادي - المستعد على هذا الوجه - صورته من العقل الفعال، ومن الواضح - بالحقيقة - أنه يوجد في المادة استعدادات نوعية تعدها لصور معينة.
ويقول ابن سينا على سبيل المثال إن مادة الماء إذا ما سخنت تصير بالتناقص مستعدة لتقبل صورة الماء، كما تصير بالتزايد مستعدة لتقبل صورة النار، بيد أن الوجه الذي تحدث به هذه النوعية يبقى غامضا في نظرنا، كما نعتقد أن الأمر كان هكذا في نظر ابن سينا. ومع ذلك فإن هذه المسألة تسوقنا إلى دراسة العالم الطبيعي، التي لا تدخل ضمن موضوع هذا الفصل، وتجرنا إلى مدخل علم الفلك، الذي لا نرى الخوض فيه في هذا الكتاب؛ ولذا فلنقف نظرية انبثاق الموجودات عند هذا الحد، ولنعن الآن بمذهب العلل العظيم. •••
وإليك كيف يعرف ابن سينا مبدأ العلة ويحلله:
15 «المبدأ (العلة) يقال لكل ما يكون قد استتم له وجود في نفسه - إما عن ذاته وإما عن غيره - ثم يحصل عنه وجود شيء آخر ويتقوم به.» والمبدأ لا يخلو أن يكون كالجزء لما هو معلول له أو لا يكون كالجزء؛ فإن كان كالجزء فإما أن يكون جزءا ليس يجب عن حصوله بالفعل أن يكون ما هو معلول له موجودا بالفعل، فإنك تتوهم العنصر موجودا ولا يلزم من وجوده بالفعل وحده أن يحصل الشيء بالفعل كالخشب للسرير، وإما أن يجب عن وجوده بالفعل وجود المعلول له بالفعل، وهذا هو الصورة، كالشكل والتأليف للسرير.
Unknown page