8 «وجب أن يكون مبدأ هذه الحركة اختيارا وإرادة لخير حقيقي.»
وماذا يمكن أن يكون هذا الخير الذي تبحث النفس الفلكية عنه؟ إنه يستخرج من كون الحركة الفلكية أزلية ظاهرا: «فبقي أن يكون الخير المطلوب بالحركة خيرا قائما بذاته، ليس من شأنه أن ينال، وكل خير هذا شأنه فإنما يطلب العقل التشبه به بمقدار الإمكان»، ووجب أن يكون الفلك في حال ثبات ما بلغ قسم من هذا الخير، ووجب أن يتحرك الفلك دائما؛ كيما يبلغ القسم البعيد المنال.
وهكذا يوضح انتظام حركة الكواكب ودوام هذه الحركة، وقد أضاف المؤلف إلى ذلك قوله: «وتحقيق هذا هو أن الجوهر السماوي قد بان أن محركه محرك عن قوة غير متناهية، والقوة التي لنفسه الجسمانية متناهية، لكنها بما تعقل الأول، فيسيح عليها من قوته ونوره دائما، تصير كأن لها قوة غير متناهية ... إذن مبدأ حركة الفلك هو الشوق إلى التشبه بالخير الأقصى في البقاء على الكمال الأكمل بحسب الممكن، ومبدأ هذا الشوق هو ما يعقل منه ، وأنت إذا تأملت حال الأجسام الطبيعية في شوقها الطبيعي إلى أن تكون بالفعل أينا لم يتعجب أن يكون جسم يشتاق شوقا إلى أن يكون على وضع من أوضاعه التي يمكن أن تكون له، وإلى أن يكون على أكمل ما له من كونه متحركا.»
9
وتدل المشاهدة على أن حركات الأفلاك تختلف فيما بينها سرعة وميلا، فيستنبط من هذا أن الغرض الذي يميل شوق الأفلاك إليه ليس واحدا لها كلها، وإلا لكانت حركاتها متساوية، وغرض كل واحد منها في شوقه هو عقل خالص خاص. وتختلف الحركات باختلاف هذه العقول،
10
غير أن السبب الأول لحركة جميع الأفلاك وميلها البعيد واحد، وهو الله، وينشأ عن الاشتراك في هذا الميل الأخير صفتان شاملتان لحركاتها، وهما الدوران والنظام؛ قال ابن سينا:
11 «إن جوهر هذا المحرك الأول واحد، ولا يمكن أن يكون هذا المحرك الأول الذي لجملة السماء فوق واحد، وإن كان لكل كرة من كرات السماء محرك قريب يخصه، ومتشوق معشوق يخصه، على ما يراه المعلم الأول ومن بعده من محصلي الحكمة.»
وإذا ما صعدنا في سلسلة الحركات التي تنتقل في الموجودات وجدنا تعذر ذهابها إلى غير نهاية، فلا بد من انتهائها إلى محرك لا يتحرك، ولو كان الأمر غير هذا لوجدت سلسلة بلا نهاية من الأجسام المتحركة التي يكون لها - معا - حجم لا نهاية له، والتي تستلزم قدرة لا نهاية لها لتتحرك؛ أي تكون حائزة لجميع الأمور التي أثبت استحالتها؛ ولذا فإن المحرك الأول الذي لا نهاية لقدرته يكون خارج الأجسام، وهو ذات روحاني غير متحرك ما دام فاعلا للحركة بنفسه، وغير ساكن ما دام غير قابل للحركة، وما دام السكون لا يفهم أمره إلا من أجسام قادرة على تقبل الحركة، فالمحرك الأول هو فوق الأجسام والحركة والزمان،
12
Unknown page