واتخذ الخلفاء ألبستهم كالقلنسوة والأثواب المزركشة بالذهب، ورويت أخبار ملوكهم، وترجمت كتب أدبهم وحكمتهم.
ذلك الانقلاب في السياسة والاجتماع ترك أثرا عميقا في الأدب العربي، وكان فاتحة عصر سار فيه الأدب أشواطا بعيدة، وطبعه بطابع استساغته الأذواق، بل قل إنه هيأ أذواقنا لفهمه والأنس به والارتياح إليه والاهتزاز له، فالشعر العربي مثلا في العصر العباسي أقرب إلى شعورنا منه في العصر الأموي وصدر الإسلام والجاهلية.
لست من المغالين في أثر الفرس في الأدب العربي، فأنا لا أدعي أن تطور أدبنا كان نتيجة سيطرة الآداب الفارسية عليه، ولكني لا أجحد أثر العقلية الفارسية الذي كان عنصرا قويا في تطور الأدب العربي، وليس هنا محل الإفاضة في إقامة الحجة على أن العرب أثروا في الفرس أضعاف ما أثر الفرس في العرب، ولعلنا نعالج هذا الموضوع مفصلا عند الكلام على ابن العميد والصاحب ابن عباد، ولكن لا مندوحة من الإلمام به هنا على سبيل الإيجاز.
دان الفرس بدين العرب بعد الفتح وتسموا بأسمائهم وتعلموا لغتهم، وهجروا الخط الفارسي واصطنعوا الحروف العربية، وأصبحت اللغة الفارسية بعد الفتح غيرها قبله؛ لكثرة ما دخل عليها من الألفاظ العربية، فالفرس والحالة هذه رفدوا الآداب العربية كمستعربين مطبوعين بطابع الروح العربية ومأخوذين بسحرها، إلا ما اقتضته طبيعة العرق والإرث من طراز التفكير والفهم والحس والخيال.
لم يكن الانقلاب العباسي انقلابا سياسيا فحسب، بل نجم عنه انقلاب في الحياة الاجتماعية والفكرية، وهبت على أثره حركة علمية قوية، فدونت الكتب وترجمت كتب اليونان والفرس، وظهرت آراء في الدين والفلسفة، ورفعت الشعوبية عقيرتها، ونغض الزنادقة والملاحدة رءوسهم، وقاموا بدعوات مصدرها دين زرادشت ومزدك.
أما الحياة إذ ذاك فقد اقتضت طبيعة الحضارة أن يرتاح القوم إلى متعها ولذاتها، ويأخذوا بنصيب غير يسير من شهواتهم، فشاع الغناء والشراب، وظهر الخلعاء والمجان والإباحيون على كثرة المنكرين لتلك الأعمال من العلماء الأتقياء والزهاد الصالحين.
كل ذلك فتح للأدب العربي أبوابا لم تكن مفتوحة على مصراعيها من قبل، فتنوعت الأغراض وكثرت الفنون وتعددت المناحي وظهر التأنق في النثر والشعر، وطلبت الرقة والدماثة، فضلا عما أوحته تلك الحياة من سمو في الخيال وعمق في التفكير مع المحافظة على فصاحة العربية والأخذ بأساليبها.
والحق أن مرونة العربية وسعة مادتها ساعدتها على تقبل تلك العناصر الجديدة وصبغها بصبغة عربية لا عجمة فيها، وذلك من خصائصها التي مازتها عن كثير من اللغات، ولولا ذلك لما أتيح لها أن تكون لغة الدين والسلطان والعلم والأدب.
هذا هو العصر الذي كان ابن المقفع أحد أعلامه ومفاخره.
شعب ابن المقفع
Unknown page