عصر ابن المقفع
شعب ابن المقفع
أثر العرب في الفرس
أثر الفرس في العرب
نسب ابن المقفع ووطنه
أوليته
علمه وأدبه
صفته وأخلاقه
حكمته وآراؤه
رميه بالزندقة
كتبه
أسلوبه وخصائصه
شعره
نصوص من كلام ابن المقفع
أمثلة من رسائله
تحميد لابن المقفع
أمثلة من حكمه
عصر ابن المقفع
شعب ابن المقفع
أثر العرب في الفرس
أثر الفرس في العرب
نسب ابن المقفع ووطنه
أوليته
علمه وأدبه
صفته وأخلاقه
حكمته وآراؤه
رميه بالزندقة
كتبه
أسلوبه وخصائصه
شعره
نصوص من كلام ابن المقفع
أمثلة من رسائله
تحميد لابن المقفع
أمثلة من حكمه
ابن المقفع
ابن المقفع
أئمة الأدب (الجزء الثاني)
تأليف
خليل مردم
عصر ابن المقفع
نشأ ابن المقفع في أواخر الدولة الأموية يوم كان عنصره الفارسي مغلوبا على أمره خاضعا للعرب في الدين والدنيا، والعرب إذ ذاك يسمون الفرس بالموالي بعد أن كانوا يسمونهم في الجاهلية أبناء الأحرار.
وشهد ابن المقفع ثورة الفرس على العرب، تلك الثورة التي قادها أبو مسلم الخراساني، فكانت أكبر عامل في قيام الدولة العباسية وتقويض الدولة الأموية، فتنفس الفرس الصعداء وثأروا لتيجان الأكاسرة من عمائم العرب.
ولقد كان مروان بن محمد - آخر خلفاء الأمويين المتعصبين للعرب - يحذر قومه من الدعوة العباسية المستنصرة بالعجم، إذ كتب عنه كاتبه عبد الحميد بن يحيى رسالة لفرق العرب حين فاض العجم من خراسان بشعار السواد قائمين بالدولة العباسية، قال فيها: «فلا تمكنوا ناصية الدولة العربية من يد الفئة العجمية، واثبتوا ريثما تنجلي هذه الغمرة ونصحو من هذه السكرة، فسينضب السيل وتمحى آية الليل، والله مع الصابرين، والعاقبة للمتقين.»
ولكن قضي الأمر، فانقرضت دولة بني أمية وقامت دولة بني العباس، ولم ينس بطلهم أبو جعفر المنصور صنيعة الفرس، فأقصى العرب عن أعمال الدولة واستوزر من الفرس واستعمل واستقضى، وكان من الوصايا التي بنيت عليها سياسة الدعوة العباسية: «إن قدرت أن لا تبقي بخراسان من يتكلم بالعربية فافعل.»
على أن أبا جعفر كان أحزم من أن يدع غلاة الفرس يعيدون الدولة الفارسية كسروية كما كانت قبل الفتح العربي، فمكر بهم ومكروا به حتى قتل أبا مسلم، راميا من وراء ذلك أن يضع حدا لأحلامهم، وله من خطبة بالمدائن بعد قتل أبي مسلم: «إن من نازعنا عروة هذا القميص أجززناه خبيء هذا الغمد، وإن أبا مسلم بايعنا وبايع الناس لنا على أن من نكث بنا فقد أباح دمه، ثم نكث بنا فحكمنا عليه حكمه على غيره، ولم تمنعنا رعاية الحق له من إقامة الحق عليه.»
وكأن هذا الدواء لم يكن حاسما، فخرج في خراسان رجل مجوسي اسمه سنباذ، كان من أصحاب أبي مسلم وصنائعه، فأظهر غضبا لقتل أبي مسلم، وأعلن أنه يريد أن يمضي إلى الحجاز ويهدم الكعبة، وتبعه كثير من المجوس والمزدكية والرافضة والمشبهة، ولكن المنصور أبادهم أيضا.
وأخذ أبو مسلم بعد قتله صفة دينية، فالمسلمية - وهم أصحابه - يعتقدون إمامته، ويقولون إنه حي يرزق، وإنه سيخرج إليهم، وعلى هذه العقيدة قام إسحاق التركي أحد أصحاب أبي مسلم وادعى أن أبا مسلم رسول بعثه زرادشت صاحب دين الفرس.
فانظر كيف حاول غلاة الفرس أن يستعيدوا ملكهم ودينهم ولغتهم؟! ولكن بالرغم من كل ذلك فقد كان من المستحيل أن تتحقق أمانيهم بعد أن دان أكثر الفرس بالإسلام وشاعت بينهم العربية.
ومهما يكن فلقد أصبح لهم في دولة بني العباس من نفوذ الأمر وخطر الشأن ما ليس بالقليل، فانتعشت عاداتهم وبعثت أعيادهم كالنوروز والمهرجان والرام والسذق،
1
واتخذ الخلفاء ألبستهم كالقلنسوة والأثواب المزركشة بالذهب، ورويت أخبار ملوكهم، وترجمت كتب أدبهم وحكمتهم.
ذلك الانقلاب في السياسة والاجتماع ترك أثرا عميقا في الأدب العربي، وكان فاتحة عصر سار فيه الأدب أشواطا بعيدة، وطبعه بطابع استساغته الأذواق، بل قل إنه هيأ أذواقنا لفهمه والأنس به والارتياح إليه والاهتزاز له، فالشعر العربي مثلا في العصر العباسي أقرب إلى شعورنا منه في العصر الأموي وصدر الإسلام والجاهلية.
لست من المغالين في أثر الفرس في الأدب العربي، فأنا لا أدعي أن تطور أدبنا كان نتيجة سيطرة الآداب الفارسية عليه، ولكني لا أجحد أثر العقلية الفارسية الذي كان عنصرا قويا في تطور الأدب العربي، وليس هنا محل الإفاضة في إقامة الحجة على أن العرب أثروا في الفرس أضعاف ما أثر الفرس في العرب، ولعلنا نعالج هذا الموضوع مفصلا عند الكلام على ابن العميد والصاحب ابن عباد، ولكن لا مندوحة من الإلمام به هنا على سبيل الإيجاز.
دان الفرس بدين العرب بعد الفتح وتسموا بأسمائهم وتعلموا لغتهم، وهجروا الخط الفارسي واصطنعوا الحروف العربية، وأصبحت اللغة الفارسية بعد الفتح غيرها قبله؛ لكثرة ما دخل عليها من الألفاظ العربية، فالفرس والحالة هذه رفدوا الآداب العربية كمستعربين مطبوعين بطابع الروح العربية ومأخوذين بسحرها، إلا ما اقتضته طبيعة العرق والإرث من طراز التفكير والفهم والحس والخيال.
لم يكن الانقلاب العباسي انقلابا سياسيا فحسب، بل نجم عنه انقلاب في الحياة الاجتماعية والفكرية، وهبت على أثره حركة علمية قوية، فدونت الكتب وترجمت كتب اليونان والفرس، وظهرت آراء في الدين والفلسفة، ورفعت الشعوبية عقيرتها، ونغض الزنادقة والملاحدة رءوسهم، وقاموا بدعوات مصدرها دين زرادشت ومزدك.
أما الحياة إذ ذاك فقد اقتضت طبيعة الحضارة أن يرتاح القوم إلى متعها ولذاتها، ويأخذوا بنصيب غير يسير من شهواتهم، فشاع الغناء والشراب، وظهر الخلعاء والمجان والإباحيون على كثرة المنكرين لتلك الأعمال من العلماء الأتقياء والزهاد الصالحين.
كل ذلك فتح للأدب العربي أبوابا لم تكن مفتوحة على مصراعيها من قبل، فتنوعت الأغراض وكثرت الفنون وتعددت المناحي وظهر التأنق في النثر والشعر، وطلبت الرقة والدماثة، فضلا عما أوحته تلك الحياة من سمو في الخيال وعمق في التفكير مع المحافظة على فصاحة العربية والأخذ بأساليبها.
والحق أن مرونة العربية وسعة مادتها ساعدتها على تقبل تلك العناصر الجديدة وصبغها بصبغة عربية لا عجمة فيها، وذلك من خصائصها التي مازتها عن كثير من اللغات، ولولا ذلك لما أتيح لها أن تكون لغة الدين والسلطان والعلم والأدب.
هذا هو العصر الذي كان ابن المقفع أحد أعلامه ومفاخره.
شعب ابن المقفع
ابن المقفع فارسي الأصل، والفرس شعب آري عريق في الملك والحضارة والعلم والحكمة والأدب وله دين وأساطير، واسم نبيهم زرادشت واسم كتابهم أفستا، وتعاليم زرادشت مؤسسة على مبدأين متقابلين؛ وهما: هرمز أو الله مبدأ الخير، وأهرمن مبدأ الشر، وزروان أكيرين أي الوقت غير المحدود، وهو فوق المعبودين السابقين في القدرة والمنزلة، وشريعته جارية على مبادئ حياة الأفراد وشئونهم من حيث الحقوق والواجبات، ولقد دعا إلى عبادة النار ونبه إلى ثواب الآخرة وعقابها.
ومن أديان الفرس أيضا دين ماني، القائل بأن مبدأ العالم كونان، أحدهما نور والآخر ظلمة، وكذلك دين مزدك القائل بتناول اللذات والانعكاف على بلوغ الشهوات وترك الاستبداد والمشاركة في الحرم والأهل وفعل الخير وترك القتل وإدخال الآلام على النفوس.
وكان لملوكهم عناية بالغة في العلم والأدب كالضحاك وأردشير بن بابك وابنه سابور، ولقد ترجمت فلسفة اليونان وحكمة الهنود إلى الفارسية، فضلا عما ألفه الفرس أنفسهم والعرب يقرون لهم بالعلم، حتى إن النبي عليه السلام قال: «لو كان العلم معلقا بالثريا لتناوله قوم من أبناء فارس.»
أما كتب أدبهم وحكمتهم، فالفضل في بقائها أو التعريف بها للعرب ومن كتب بالعربية من الذين ترجموها أو أشاروا إليها؛ لأن الأصول الفارسية درست، ومن أجلها كتاب جاويذان خرد الذي يقال إنه أقدم كتاب في العالم، وضعه الملك أوشهنج ونقله من اللسان القديم إلى اللسان الفارسي كنجور بن إسفنديار، ونقله إلى العربية الحسن بن سهل، وكتاب هزار أفسان ومعناه ألف خرافة وهو أصل ألف ليلة وليلة، وكتاب روزية اليتيم، وكتاب خرافة ونزهة، وكتاب الدب والثعلب، وكتاب مسك زنانة وشاه زنان، وكتاب نمرود ملك بابل، وكتاب رستم وإسفنديار، وكتاب بهرام شوس، وكتاب شهريزاد مع أبرويز، وكتاب الكارنامج في سيرة أنوشروان، وكتاب التاج وما تفاءلت به ملوكهم، وكتاب دارا والصنم المذهب، وكتاب خداي نامه، وكتاب بهرام ونرسي، وكتاب أنوشروان، وكتاب عهد أردشير، وغير ذلك من الكتب التي لا محل لاستقصائها هنا، هذا فضلا عن الكتب التي ترجمها ابن المقفع مما لم يرد ذكره الآن، والتي سيأتي الكلام عليها فيما بعد.
ولكن من الغريب أن أمة هذا مبلغها في الملك والحضارة والعلم والأدب لم يحفظ لها التاريخ شيئا من الشعر قبل الإسلام يعتد به.
واللغة الفارسية تنقسم إلى ثلاثة أقسام: الفارسية القديمة، وعصرها من سنة 550 إلى سنة 330 قبل الميلاد. والفهلوية وقد أزهرت في عصر الساسانيين، وعنها ترجمت الكتب إلى العربية، وقد ظلت حية إلى ما بعد الفتح العربي بأكثر من قرن. والفارسية العصرية وعصرها من بعد الفتح العربي إلى العصر الحاضر، وهي التي دخل عليها كثير من الكلمات بالعربية بعد أن دان أكثر الفرس بالإسلام.
على أن الفرس وإن دانوا بالإسلام فما زالت نفوسهم تطمح إلى الاستقلال عن العرب، قال أحد غلاتهم:
أنا ابن المكارم من آل جم
وطالب إرث ملوك العجم
فقل لبني هاشم كلهم
هلموا إلى الخلع قبل الندم
وعودوا إلى أرضكم بالحجاز
وأكل الضباب ورعي الغنم
والذين لم يحسن إسلامهم من الفرس قاموا في صدر الدولة العباسية بمقالات دينية تضرب بعرق إلى المجوسية، وفتنوا بها كثيرا من الناس، مثل بها فريد المتكهن الذي كان يصلي الصلوات الخمس بلا سجود متياسرا عن القبلة، وسنباذ وإسحاق اللذين مر ذكرهما، وغير أولئك ممن حارب العرب بالقول أو الفعل.
أما الذين لم يدخلوا في الإسلام، فقد بقي كثير منهم في بلادهم على المجوسية، وظلت بيوت نيرانهم موقدة يقضون بها مناسكهم.
ولئن شاعت العربية في بلاد فارس وحذقها العلماء، فالفارسية ظلت حية بين أبنائها، فلقد روي عن جيش المختار الذي ثار على عبد الملك بن مروان أنه كان يتكلم بالفارسية، وهذا أبو تمام الطائي يقول وقد سمع مغنية فارسية في أبر شهر:
أيا سهري ببلدة أبر شهر
ذممت إلي في نومي سواها
شكرتك ليلة حسنت وطابت
أقام سرورها ومضى كراها
سمعت بها غناء كان أولى
بأن يقتاد نفسي من غناها
ومسمعة يحار السمع فيها
ولم تصممه لا يصمم صداها
مرت أوتارها فشفت وشاقت
ولو يسطيع حاسدها فداها
ولم أفهم معانيها ولكن
ورت كبدي فلم أجهل شجاها
فبت كأنني أعمى معنى
يحب الغانيات وما يراها
وقد كان ذلك في أوائل القرن الثالث. وفي القرن الرابع سمعنا المتنبي يقول في شعب بوان:
ولكن الفتى العربي فيها
غريب الوجه واليد واللسان
ملاعب جنة لو سار فيها
سليمان لسار بترجمان
وهكذا، فلقد ضن الفرس بلغتهم وتحينوا الفرص حتى أتيح لهم أن يستقلوا عن العرب ويكونوا لهم أدبا رائعا.
أثر العرب في الفرس
العرب والفرس أمتان متجاورتان، كان اتصال بينهما قبل الإسلام وبعده، وتركت كل منهما أثرا في الثانية، أما أثر العرب في الفرس قبل الإسلام فضئيل؛ لأن الفرس كانوا أعظم من العرب في الملك والحضارة والعلم، ومع ذلك فقد اتخذ الأكاسرة كتابا من العرب كلقيط بن يعمر الإيادي الشاعر الجاهلي القديم الذي كان كاتبا في ديوان سابور ذي الأكتاف في القرن الرابع للميلاد، وهو صاحب القصيدة البارعة التي يحذر بها قومه من غزو الفرس، والتي منها قوله:
وقلدوا أمركم لله دركم
رحب الذراع بأمر الحرب مضطلعا
وعدي بن زيد العبادي كاتب كسرى.
ولقد كان للفرس رأي حسن في أخلاق العرب وتربيتهم، فقد روي أن بهرام جور - أحد ملوك الفرس - أرسله أبوه وهو حدث إلى المنذر بن النعمان ملك الحيرة ليشرف على تهذيبه وتعليمه، فأحضر له مؤدبين علموه الكتابة والرمي والفقه وأجاد العربية، وظل في الحيرة حتى مات أبوه، وساعده المنذر على تمليكه على الفرس، وكان ذلك في أوائل القرن الخامس للميلاد، ومن هنا وهم أدباء الفرس وقالوا: إن بهرام هو الذي ابتكر الأوزان الشعرية، وفاتهم أنه تلقاها عن العرب في الحيرة.
ثم لما بعث النبي - عليه السلام - كان سلمان الفارسي أول من آمن به من الفرس، فدان بالإسلام وأخلص له حتى قال النبي - عليه السلام: «سلمان منا أهل البيت.»
ولما فتح العرب بلاد فارس في خلافة عمر - رضي الله عنه - بدأ الفرس يدخلون في الإسلام، فلم ينقض القرن الأول حتى شملهم الإسلام إلا قليلا منهم، وشاعت بينهم اللغة العربية، واختلطوا بالعرب وتسموا بأسمائهم، وكتبوا الفارسية بالحروف العربية، وأثرت فيهم الثقافة الإسلامية أثرا عميقا، بل خلقتهم خلقا جديدا حتى جعلتهم يقطعون الصلة بينهم وبين أدبهم القومي قبل الإسلام إلا يسيرا منه.
قال نولدكي: «إن الآداب اليونانية لم تمس من حياة الفرس إلا ظاهرها، ولكن دين العرب وسننهم نفذت إلى قلوبهم.»
فاللغة الفارسية بعد الإسلام أضحت غيرها قبل الإسلام لكثرة ما دخل عليها من الكلمات العربية وأساليب بيانها، وأصبح القرآن والحديث مصدر الأدب الفارسي، فشاع الاقتباس منهما والإشارة إليهما، حتى إنه يكاد يكون في كثير من مناحيه أدبا عربيا مترجما، فالأوزان الشعرية ومصطلحات فنون البلاغة في المعاني والبيان والبديع مأخوذة بأعيانها عن العربية، فضلا عن الاستشهاد بتاريخ العرب وخلفائهم، وضرب المثل ببلغائهم وشعرائهم، واعتبارهم المثل الأعلى في البلاغة، حتى إن الناظر في الأدب الفارسي ليصعب عليه فهم روحه إذا لم يكن ذا إلمام بالحياة الإسلامية واللغة العربية.
وقد كان من اللباقة في المنطق والإنشاء أن يكثر الفارسي من استعمال الألفاظ العربية، قال كيكاوس حفيد قابوس بن وشمكير في كتاب ألفه لتهذيب ابنه جيلان شاه واسمه قابوسنامه: «إذا كتبت رسائلك بالفارسية فلتكن مشوبة بالعربية، فإن الفارسية الصرف لا تعذب في المذاق.»
اجتهد الفرس في تكوين أدبهم هذا، ولكن اللغة العربية كانت صاحبة المحل الأرفع عندهم، فقد ظلت لغة الدين والحكومة والعلم فيما بينهم حتى بعد أن استقلوا عن العرب، وظلوا يصطنعونها في تلك الأغراض الثلاثة حتى اجتاح المغول بلادهم في القرن السابع، فأضحت منذ ذاك الحين لغة الدين والفلسفة فقط.
ويجدر بنا هنا أن نورد دليلا من كلام ابن المقفع على مبلغ إكبار الفرس للعرب، قال: «إن العرب حكمت على غير مثال مثل لها، ولا آثار أثرت أصحاب إبل وغنم وسكان شعر وأدم، يجود أحدهم بقوته ويتفضل بمجهوده ويشارك في ميسوره ومعسوره، ويصف الشيء بعقله فيكون قدوة، ويفعله فيصير حجة، ويحسن ما شاء فيحسن ويقبح ما شاء فيقبح، أدبتهم أنفسهم ورفعتهم هممهم وأعلتهم قلوبهم وألسنتهم، فمن وضع حقهم خسر، ومن أنكر فضلهم خصم.»
وإليك مثالا آخر يدلك على مبلغ تأثر الفرس بالروح الإسلامية ومقتهم لعاداتهم المجوسية حتى الأعياد القومية منها، كتب بديع الزمان الهمذاني رسالة في ذم السذق - وهو أحد أعياد الفرس المشهورة - جاء فيها: «هذا هو العيد والضلال البعيد، إنهم يشبون نارا هي موعدهم، والنار في الدنيا عيدهم، والله إلى النار يعيدهم، ومن لم يلبس مع اليهود غيارهم لم يعقد مع النصارى زنارهم ولم يشب مع المجوس نارهم، إن عيد الوقود لعيد إفك، وإن شعار النار لشعار شرك، وما أنزل الله بالسذق سلطانا، ولا شرف نيروزا ولا مهرجانا، وإنما صب الله سيوف العرب على رءوس العجم لما كره من أديانها وسخط من نيرانها، وأورثكم أرضهم وديارهم وأموالهم حين مقت أفعالهم.»
ولهذا الحديث شجون، وهناك كثير من الأدلة على مبلغ أثر العرب في الفرس من حيث الدين والأدب، نكتفي بما ذكرناه هنا على أن نأتي بالبقية في رسالة الوزيرين: ابن العميد والصاحب ابن عباد.
ولعل القارئ بعد الآن لا يستسرف نبوغ الفرس في الأدب العربي بعد أن راز مبلغ أثر العرب فيهم، وابن المقفع واحد منهم.
أثر الفرس في العرب
كان اتصال بين العرب والفرس في الحيرة واليمن قبل الإسلام وفي بلاد فارس بعد الإسلام، أما في الحيرة واليمن فقد كانت السيادة للفرس؛ لأن ملوك الحيرة كانوا تحت سيطرة الأكاسرة، كما أنهم أعانوا عرب اليمن على إخراج الأحباش من أرضهم، وكان ذاك بسعي سيف بن ذي يزن لدى أنوشروان، فعرف اليمنيون هذه الصنيعة لهم ودعوهم أبناء الأحرار، وما زالت ألسنتهم رطبة بالثناء عليهم حتى بعد الإسلام بنحو ثلاثة قرون، قال البحتري في قصيدته في إيوان كسرى يشير إلى جميل صنعهم مع أجداده اليمانيين:
فلها إن أعينها بدموع
موقفات على الصبابة حبس
ذاك عندي وليست الدار داري
باقتراب منهم ولا الجنس جنسي
غير نعمى لأهلها عند أهلي
غرسوا من ذكائها خير غرس
أيدوا ملكنا وشدوا قواه
بكماة تحت السنور حمس
وأعانوا على كتائب أريا
ط بطعن على النحور ودعس
وأراني من بعد أكلف بالأش
راف طرا من كل سنخ وأس
وأما في بلاد فارس فقد كان العرب هم السادة، وأثر الفرس في العرب قبل الإسلام لم ينفذ إلى قلوب العرب؛ لأنهم لم يدينوا بدينهم، اللهم إلا مجوسية في تميم وزندقة في قريش، ولم يكونوا في الحيرة واليمن محكومين لهم حكما مطلقا، ولأن للعربي حرية غريزية تأبى عليه الانقياد لغيره، ولأنه فخور بعروبته مزهو ببلاغته، على أن اتصال العرب بالفرس ومجاورتهم لهم أدخلت على العربية طائفة صالحة من الألفاظ الفارسية، مثل: «حربا
1
وبربط
2
وإبريق
3
وإستبرق
4
ويرندج
5
ودمقس
6
وزنبق
7
وبخ بخ
8
وغرنوق
9
وفنزج
10
وفالوذ
11
وياسمين وشاهسفرم ونرجس
12
والخورنق والسدير،
13
إلى غير ذلك من الكلمات الفارسية التي استعملها العرب قبل الإسلام بعد أن عربوها وتداولها بلغاؤهم في أشعارهم، ولقد أغرق بعض متنطعي الفرس وزعم أن مكة - قلب البلاد العربية ومبعث نور الإسلام - اسم فارسي مركب من ماه أي القمر، وكاه أي محل.
وقد أثرت اللغة الفارسية في الشاعر عدي بن زيد العبادي كاتب كسرى حتى ثقل لسانه؛ لذلك فالعلماء لا يرون شعره حجة، وكذلك أعشى قيس فإنه كان يفد على ملوك فارس؛ ولذلك كثرت الفارسية في شعره كما قال ابن قتيبة في الشعر والشعراء.
ولم يقف الأمر عند اللغة والشعر، بل تعداه إلى العلم، فالحرث بن كلدة الثقفي طبيب العرب رحل إلى أرض فارس وأخذ الطب عن أهل تلك الديار من أهل جنديسابور، وذلك يقتضي تعلم لغتهم وإتقانها.
هذا وقد وقع في القرآن الكريم عدة كلمات فارسية، مثل سندس وإستبرق وأباريق وزنجبيل، وروي عن النبي - عليه السلام - أنه استعمل كلمات فارسية على سبيل التلطف، قال أبو هريرة: هجر النبي
صلى الله عليه وسلم
فهجرت وصليت، ثم جلست فالتفت إلي وقال: شكم درد؟
14
فقلت: نعم. فقال: قم فصل، فإن في الصلاة شفاء.»
ثم لما فتح العرب بلاد فارس ودان الفرس بالإسلام بقيت الفارسية مستعملة في دواوين الحكومة هناك إلى أيام عبد الملك بن مروان إذ أمر بنقلها إلى العربية، فلما حلت العربية محل الفارسية لم يجد العرب غضاضة في اقتباس بعض مناهج الكتابة الديوانية عن الفرس، فلقد روي عن عبد الحميد بن يحيى كاتب بني أمية أنه استعان بالأوضاع الفارسية لما شرع معالم الكتابة العربية. قال أبو هلال العسكري في كتاب الصناعتين: «من عرف ترتيب المعاني واستعمال الألفاظ على وجوهها بلغة من اللغات، ثم انتقل إلى لغة أخرى تهيأ له فيها من صنعة الكلام ما تهيأ له في الأولى، ألا ترى أن عبد الحميد الكاتب استخرج أمثلة الكتابة التي رسمها لمن بعده من اللسان الفارسي فحولها إلى اللسان العربي؟»
ولكن نقل الدواوين من الفارسية إلى العربية لم يجعل القوم يتناسون لغتهم، بل ظلت حية فيما بينهم مع تعلمهم للغة العربية، وكان لهم شأن في الأدب وأمور الحكومة أيام بني أمية، قال سليمان بن عبد الملك: «العجب لهذه الأعاجم كان الملك فيهم فلم يحتاجوا إلينا، فلما ولينا لم نستغن عنهم.» وقال أيضا: «ألا تتعجبون من هذه الأعاجم؟ احتجنا إليهم في كل شيء حتى في تعلم لغاتنا منهم.»
ومن علمائهم الذين اشتغلوا باللغة والأدب في أيام بني أمية عنبسة الفيل أحد أصحاب أبي الأسود الدؤلي، وأبو داود عبد الرحمن بن هرمز الأعرج، توفي في أيام هشام بن عبد الملك، وحماد الراوية الذي كان بنو أمية يستزيرونه من الكوفة ليحدثهم بأيام العرب وينشدهم أشعارها، وحماد عجرد الذي نادم الوليد بن يزيد، وأبو العباس الأعمى واسمه السائب بن فروخ أحد شعراء بني أمية، وزياد الأعجم الشاعر المتوفى سنة 100.
هذا إلى ما لهم من الأثر البين في الغناء العربي والموسيقى العربية في القرن الأول، فإن الغناء العربي ما زال ساذجا حتى ظهر بالمدينة نشيط الفارسي وطويس وسائب خاثر، فسمعوا شعر العرب ولحنوه وأجادوا فيه.
ولا محل هنا للإسهاب بذكر من اشتركوا في تدوين العلوم الإسلامية من الفرس، كالقراءات والحديث والفقه وما يتفرع عنها؛ لأن عددهم عظيم جدا حتى قال ابن خلدون: «من الغريب الواقع أن حملة العلم في الملة الإسلامية أكثرهم العجم.»
وقد شرعت مقالاتهم وآراؤهم في الدين تنتشر رويدا رويدا منذ أيام بني أمية، حتى إنها دبت لبعض الخلفاء، فالجعد بن درهم مولى سويد بن غفلة كان صاحب رأي أخذ به جماعة بالجزيرة، ويروى أنه كان يرى رأي المنانية فاستهوى مروان بن محمد آخر خلفاء بني أمية؛ لأنه كان مؤدبه؛ ولذلك رمي مروان بالزندقة.
قال ابن أبي ليلى: قال لي عيسى بن موسى - وكان ديانا شديد العصبية - من كان فقيه البصرة؟ قلت: الحسن بن أبي الحسن. قال: ثم من؟ قلت: محمد بن سيرين. قال: فما هما؟ قلت: موليان. قال: فمن كان فقيه مكة؟ قلت: عطاء بن أبي رباح ومجاهد وسعيد بن جبير وسليمان بن يسار. قال: فما هؤلاء؟ قلت: موالي. قال: فمن فقهاء المدينة؟ قلت: زيد بن أسلم ومحمد بن المنكدر ونافع بن أبي نجيح. قال: فما هؤلاء؟ قلت: موالي. فتغير لونه ثم قال: فمن أفقه أهل قباء؟ قلت: ربيعة الرأي وابن أبي الزناد. قال: فما كانا؟ قلت: من الموالي. فاربد وجهه ثم قال: فمن كان فقيه اليمن؟ قلت: طاوس وابنه وابن منبه. قال: فما هؤلاء؟ قلت: من الموالي. فانتفخت أوداجه وانتصب قاعدا، وقال: فمن كان فقيه خراسان؟ قلت: عطاء بن عبد الله الخراساني. قال: فما كان عطاء هذا؟ قلت: مولى. فازداد وجهه تربدا واسود اسودادا حتى خفته، ثم قال: فمن كان فقيه الشام؟ قلت: مكحول. قال: فمن هذا؟ قلت: مولى. فتنفس الصعداء، ثم قال: فمن كان فقيه الكوفة؟ فوالله لولا خوفه لقلت: الحكم بن عتيبة وعمار بن أبي سليمان، ولكن رأيت فيه الشر، فقلت: إبراهيم والشعبي. قال: فما كانا؟ قلت: عربيان. قال: الله أكبر، وسكن جأشه.
كان ذلك والعرب لم تتفرق كلمتهم بعد ولم تنطفي جمرتهم، فلما أديل من بني أمية لبني العباس بمعونة الفرس عظم شأنهم وطغى نفوذهم، وبعث كثير من عاداتهم وأعيادهم، واتخذت ألبستهم ومآكلهم في قصر الخلافة، وأصبح الوزراء والقواد منهم، وربما كان ديوان الوزارة وضعا من أوضاع الفرس في الدولة العباسية؛ لأن بني أمية لم يتخذوا وزراء.
هذا من حيث القوة، أما من حيث الأدب فقد ترجمت طائفة من كتب أدبهم وحكمتهم وشاعت أخبار ملوكهم وحكمائهم حتى اندمجت فيما بعد مع أخبار خلفاء العرب، خذ مثلا كتاب التاج للجاحظ واقرأ فصلا من فصوله تجد كيف ينقل أخبار الأكاسرة والخلفاء كأنهم من عنصر واحد، وهكذا قل عن بقية كتب الأدب، فإنها تضم كثيرا من آداب الفرس وحكمتهم، وظهر منهم كتاب وشعراء ومترجمون نبغوا في العربية نبوغا لا يزال موضع الإعجاب، كابن المقفع الذي عقدت هذه الفصول لأجله وبشار بن برد ومروان بن أبي حفصة، وبرزوا في كل علم من علوم اللغة والأدب، وكذلك في العلوم الإسلامية كافة، ولو لم يخرج منهم إلا الإمام أبو حنيفة الذي ما زالت أتباعه أكثر من أتباع كل إمام لكفى، وهناك آراء ومذاهب ومقالات في الدين قام بها الفرس تنحرف عن سماحة الإسلام بمقاييس مختلفة، ما عدا الزندقة التي كان الفرس سبب إدخالها على المسلمين، والمانوية التي اتهم بها عدد من المشاهير في صدر الدولة العباسية حتى اضطر المهدي لتتبع الزنادقة والبطش بهم.
أما التصوف فقد لاقى من نفوس الفرس منزلا رحبا؛ لأنهم ذوو نفوس حساسة وخيال واسع، فأثمر في أفكار متصوفتهم أحسن الثمرات، ولولا نبوغ بعض العرب في هذا الطريق لغلب على الظن أن الصوفية وليدة الروح الفارسية.
هذا ولم يقف النفوذ الفارسي في صدر الدولة العباسية عند السياسة والعلم والأدب، بل أخذ القوم بطرائقهم في الملبس والأثاث والآنية والمأكل، حتى إن ملوكهم كانت تصور على أقداح الخمر، قال أبو نواس:
تدور علينا الكأس في عسجدية
حبتها بأنواع التصاوير فارس
قرارتها كسرى وفي جنباتها
مها تدريها بالقسي الفوارس
فللخمر ما زرت عليه جيوبهم
وللماء ما دارت عليه القلانس
وأسماء الملابس والمآكل والأواني والأزهار والأثاث تدلك على مبلغ الأثر الفارسي؛ لأن كثيرا منها معرب عن الفارسية.
فيمكننا والحالة هذه أن نقسم أثر الفرس في الأدب العربي إلى قسمين: الأول في دولة بني أمية، والثاني في دولة بني العباس، أما في عهد الأمويين فقد كان الأدب عربيا خالصا في المادة والمعنى، ولم يكن للفرس عمل فيه إلا مدارسته وحفظه وروايته، وأما في عهد بني العباس فقد كان أثرهم أعمق لا في الأسلوب البياني بل في التفكير والحس والخيال ؛ لأنهم حرصوا كثيرا على الديباجة العربية وأساليب العرب في البلاغة، فكان من وراء ذلك خير للأدب كثير، فهم والحالة هذه عرب في لغتهم وفصاحتهم وأساليب بيانهم، فرس في نسبهم وتفكيرهم وشعورهم وأخيلتهم.
نسب ابن المقفع ووطنه
كل من ترجم لابن المقفع لم يذكر غير اسمه واسم أبيه «روزبه بن داذويه»، وأن كنيته قبل أن يسلم أبو عمرو وبعد أن أسلم سمي عبد الله، وكني بأبي محمد، وأنه من أصل فارسي، إلا ابن النديم فإنه عرفنا باسم جده «المبارك» وأن آباءه من خوز.
وبلاد خوز - وتعرف بخوزستان ويسميها العرب الأهواز - قريبة من البصرة، نزلتها القبائل العربية منذ الفتح، قال ياقوت في معجم البلدان: أرض خوزستان أشبه شيء بأرض العراق وهوائها وصحتها، وأما لسان أهل خوزستان فإن عامتهم يتكلمون بالفارسية والعربية، غير أن لهم لسانا آخر خوزيا ليس بعبراني ولا سرياني ولا عربي ولا فارسي، والغالب عليهم الاعتزال، وفي كورهم جميع الملل.
أما داذويه والد ابن المقفع فقد كان مجوسيا مستعربا، ولاه الحجاج بن يوسف الثقفي خراج بلاد فارس، فنال شيئا من مال السلطان، فضربه الحجاج حتى تقفعت يده، فلقب بالمقفع، وعرف ابنه بابن المقفع.
ولد ابن المقفع حوالي سنة ست ومائة، وسماه والده روزبه، ونشأ بالبصرة في ولاء آل الأهتم، والبصرة بلدة اختطتها العرب في خلافة عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - وكانت لعهد ابن المقفع أعظم مدن العلم والأدب في الإسلام، لا سيما اللغة والفصاحة وفنون الأدب؛ لأن بغداد لم تكن بنيت بعد، وهي منذ القرن الأول مجمع أهل العلم والأدب، فيها المربد الذي خلف سوق عكاظ في الجاهلية، كان يؤمه الشعراء مع رواتهم للمناضلة والمناشدة، وفيه مجالس للعلم والأدب وحلقات للمناشدة والمفاخرة، ومن أشهر حلقاته حلقة الفرزدق وراعي الإبل، ورجال الأدب الذين نبغوا في البصرة أعظم من أن يحصوا في مثل هذه الرسالة، ويكفيك أن أبا الأسود الدؤلي أول من شرع وضع النحو هو بصري، وكذلك جماعته الذين أتوا من بعده كابن أبي إسحاق الحضرمي أول من علل النحو ، وعيسى بن عمر الثقفي أول من ألف فيه، وهارون بن موسى أول من ضبطه، وسيبويه أول من أجاد في تأليفه، والبصرة إذ ذاك مجتمع فصحاء الأعراب أيضا، يفدون إليهم فيلقون كل تجلة وإكرام من رواة اللغة والأدب الذين يتلقون عنهم شوارد العربية ونوادر الإعراب.
ولم تكن مدينة تناظر البصرة في تلك النهضة العلمية غير الكوفة، فهما مدينتا العلم والأدب في الإسلام، ولكن البصرة كانت الراجحة، وللبصريين والكوفيين مذاهب في العربية، احتدم الجدال بشأنها وألف فيها عدد من الكتب.
وفي البصرة نبغ قتادة بن دعامة، وبشار بن برد، وصالح بن عبد القدوس، والرقاشي، وابن مناذر، وسلم الخاسر، وأبو نواس، والسيد الحميري، والخليل بن أحمد الفراهيدي، وسيبويه، وغيرهم من أئمة الأدب في القرن الذي عاش فيه ابن المقفع.
وفي البصرة كان الحسن البصري يعقد حلقته ويلقي دروسه العامة، ومن تلك الحلقة نبغ واصل بن عطاء الغزال رئيس المعتزلة، إذ ترك حلقة أستاذه واعتزل إلى أسطوانة من أسطوانات المسجد؛ ولذلك غلب الاعتزال فيما بعد على أهل البصرة.
بمثل تلك المدينة الفاضلة نشأ ابن المقفع في ولاء آل الأهتم، وآل الأهتم معروفون بالبلاغة والفصاحة واللسن والخطابة والشعر في الجاهلية والإسلام، ومنهم عمرو بن الأهتم الذي كان يضرب به المثل في البلاغة، والذي كان في وفد بني تميم إلى النبي
صلى الله عليه وسلم
قال ابن دريد في كتاب الاشتقاق: «وفي بني الأهتم رجال معروفون خطباء يطول الكتاب بأسمائهم.» وهكذا فقد أتيح لابن المقفع أن يشب بين معدن الفصاحة في مدينة العلم والأدب.
أوليته
جرت العادة في تراجم أدبائنا أن لا يعنى المترجمون بأولية الأديب ونشأته وكيف درس وبمن تخرج وعمن أخذ وما هي الحوادث التي جعلت منه أديبا، وإنما يعرضونه لنا ثمرة ناضجة إلا في النزر اليسير، وابن المقفع أحد من أغفلت هذه الجهات في سيرته، بل أحد أولئك الذين غمطوا في حياتهم ومماتهم وبعد مماتهم، فابن خلكان لم يعقد له ترجمة خاصة، بل ذكره بالمناسبة في ذيل ترجمة الحسين الحلاج.
فلم يبق لدينا إلا النبذ المنتشرة في كتب الأدب نجمعها ونستخلص منها صورة تمثل أولية ابن المقفع ما أمكن، مع الاستعانة بالزمن والبيئة التي عاش فيهما.
عرفت أن ابن المقفع نشأ في البصرة وفي ولاء آل الأهتم، وعرفت أي مركز للعلم والأدب كانت البصرة، ومن هم آل الأهتم في الفصاحة، فلا عجب أن يكون الناشئ في تلك البيئة من أعلام البلاغة، أما مشايخ ابن المقفع في الفصاحة فلا نعرف إلا واحدا منهم، هو أبو الجاموس الأعرابي، قال ابن النديم: «أبو الجاموس ثور بن يزيد الأعرابي، كان يفد إلى البصرة على آل سليمان بن علي، وعنه أخذ ابن المقفع الفصاحة، ولا مصنف له.» ولابن المقفع جملة تدل على سعة روايته لكلام العرب، قال: شربت الخطب ريا، ولم أضبط لها رويا، فغاضت ثم فاضت فلا هي نظاما وليس غيرها كلاما. على أن له فقرة أخرى تدل على مبلغ اعتماده على نفسه في أدب النفس والدرس، سئل مرة: من أدبك؟ فقال: نفسي، كنت إذا رأيت حسنا أتيته، وإذا رأيت قبيحا أبيته. أما معرفته بالفارسية فقد كان عالما بلغات الفرس وآدابها وخطوطها، روى عنه ابن النديم أقوالا في لغات الفرس وخطوطهم تدل على رسوخ قدمه في أدب قومه.
وبعض المعاصرين ممن ترجم له يدعي أنه كان يعرف اللغة اليونانية؛ لأنه ترجم بعض الكتب اليونانية، ونحن لا نرى ذلك؛ لأن ما نقله عن اليونانية إنما كان ترجم إلى الفارسية قبل ابن المقفع وهو نقله عن الفارسية كما سيأتي ذلك عند الكلام على كتبه.
عند ابن هبيرة
ابن المقفع وإن كان معدودا من كتاب العصر العباسي فإنه بدأ حياته الكتابية في دولة بني أمية وهو فتى لا يزيد عمره كثيرا عن عشرين سنة، فحينما كان زميله عبد الحميد بن يحيى يكتب بالشام لمروان بن محمد آخر خلفاء بني أمية كان ابن المقفع الشاب نابه الذكر يكتب لداود بن هبيرة في العراق.
وداود هذا كان مع أبيه والي العراق يزيد بن عمر بن هبيرة الذي ولاه مروان بن محمد سنة ثمان وعشرين ومائة، وبقي مع أبيه في العراق يدافعان دعاة بني العباس إلى أن قتل مروان سنة اثنتين وثلاثين ومائة، فأمن أبو جعفر يزيد بعد أن عجز عن الظفر به، ثم قتله ومن معه من أهله وحاشيته، وكان داود من جملة من قتل، ولكن ابن المقفع نجا تلك المرة من سيف أبي جعفر واستبقاه لوقت آخر مع أنه قتل كاتبا غيره من كتاب ابن هبيرة، ولم تبق الأيام على أثر مما كتبه ابن المقفع عن داود.
عند بني العباس
خدم ابن المقفع بعد مقتل ابن هبيرة والي الأمويين على العراق أعمام السفاح الثلاثة: سليمان وعيسى وإسماعيل أبناء علي بن عبد الله بن عباس، كما أنه ترجم لأبي جعفر المنصور كتبا في المنطق عن الفارسية، فقد كتب لعيسى بن علي أيام ولايته على كرمان وعلى يديه أسلم، جاءه يوما وقال له: قد دخل الإسلام في قلبي، وأريد أن أسلم على يدك. فقال له عيسى: ليكن ذلك بمحضر من القواد ووجوه الناس، فإذا كان الغد فاحضر. ثم حضر طعام عيسى عشية ذلك اليوم، فجعل يأكل ويزمزم على عادة المجوس، فقال له عيسى: أتزمزم وأنت عزم الإسلام؟ فقال: كرهت أن أبيت على غير دين. فلما أصبح أسلم على يده وسمي بعبد الله، وكني بأبي محمد وكان يكنى أبا عمرو.
وتأدب عليه بعض بني إسماعيل بن علي والي الأهواز ثم الموصل، ولعل ذلك السبب في عده من المعلمين، قال الجاحظ: «ومن المعلمين ثم البلغاء المتأدبين عبد الله بن المقفع ...»
وكتب لسليمان بن علي أيام ولايته على البصرة وأعمالها، وقد دامت ولايته على البصرة من سنة 133 في خلافة السفاح إلى سنة 139 حين عزله أبو جعفر المنصور وولى مكانه سفيان بن معاوية الذي قتل ابن المقفع، وقد مات سليمان هذا سنة 142، وهي السنة التي قتل فيها ابن المقفع.
ولما خرج عبد الله بن علي والي الشام على ابن أخيه المنصور بالشام والجزيرة سنة 137 وهزمه المنصور؛ فر عبد الله إلى البصرة واحتمى بأخويه: سليمان وعيسى، وبقي هناك إلى أن عزل أخوه سليمان سنة 139، فاختفى عبد الله خوفا من المنصور، فطلبه المنصور من سليمان وعيسى فأبيا أن يسلماه إياه إلا بأمان يمليان شروطه، وكتب هذا الأمان عبد الله بن المقفع وتشدد به وتصعب، وكان من جملة ما كتبه: «ومتى غدر أمير المؤمنين بعمه عبد الله فنساؤه طوالق ودوابه حبس وعبيده أحرار، والمسلمون في حل من بيعته.» فأحفظ ذلك أبا جعفر واشتد عليه، وكان من جملة الأسباب الداعية لقتله كما سيأتي، ولا بد من أن يكون كتب كثيرا عن هؤلاء الأمراء الثلاثة، ولكن لم يصل إلينا شيء مما كتبه عنهم على التعيين، إلا أن هناك رسالة تعرف برسالة الصحابة لا يبعد أن يكون ابن المقفع كتبها عن سليمان بن علي أيام إمارته على البصرة وبعث بها إلى المنصور يذكره بأمور تتعلق بأمور الدولة وسياستها، وهي تشابه من بعض الوجوه التقارير التي يرفعها رجال الدولة اليوم إلى الملوك.
ابن المقفع وسفيان بن معاوية
في سنة 139 عزل المنصور عمه سليمان بن علي عن البصرة وأعمالها، وولى مكانه سفيان بن معاوية بن يزيد بن المهلب بن أبي صفرة، وفي نفس المنصور موجدة على سليمان الذي حمى أخاه عبد الله الخارج على الخليفة ولم يسلمه إلا بأمان تشدد ابن المقفع في شروطه فأحفظ المنصور وغاظه، ولا مرية في أن المنصور أراد بتولية سفيان أن يقلم أظفار أعمامه، فاستلم عمه عبد الله بن علي وجعله في حبسه وأبقى على سليمان في البصرة، ولكن ابن المقفع لم يملأ عينه سفيان هذا، فكان يسخر به ويتنادر عليه ويعرض به وينال من أمه، فإذا دخل عليه قال: السلام عليكما. يريد سفيان وأنفه؛ لأنه كان كبير الأنف، وقال له يوما: ما تقول في شخص خلف زوجا وزوجة؟ وقال سفيان يوما: ما ندمت على سكوت قط. فقال له ابن المقفع: الخرس زين لك، فكيف تندم عليه؟ فكان سفيان يحقد عليه ويقول: والله لأقطعنه إربا إربا وعينه تنظر. وقد بر بقسمه فقتله شر قتلة، اختلفت الرواية في شكلها ولم تختلف في فظاعتها، فقيل: ألقاه في بئر وردم عليه الحجارة. وقيل: أدخله حماما وأغلق عليه بابه فاختنق. وقيل: بل أمر به فقطعت أعضاؤه عضوا عضوا وألقيت في التنور وهو ينظر إليها حتى أتى على جميع جسده، ثم أطبق عليه التنور. وقال: ليس علي في هذه المثلة بك حرج؛ لأنك زنديق وقد أفسدت الناس. وكان ذلك سنة 142 وعمر ابن المقفع يومئذ ست وثلاثون سنة، وخلف ولدا اسمه محمد.
غضب سليمان وعيسى ابنا علي لذلك وخاصما سفيان بن معاوية إلى المنصور، وأحضراه بين يديه مقيدا، وجاءا بالشهود الذين رأوا ابن المقفع دخل داره ولم يخرج، فأدوا الشهادة على ذلك، ولكن المنصور الذي كان يحقد على ابن المقفع شروط ذلك الأمان الذي سبقت الإشارة إليه قال للشهود: أنا أنظر في هذا الأمر. ثم قال أيضا: أرأيتم إن قتلت سفيان به، ثم خرج ابن المقفع من هذا البيت - وأشار إلى باب خلفه - وخاطبكم، ما تروني صانعا بكم؟ أأقتلكم بسفيان؟ فرجع الشهود عن الشهادة، وعلم سليمان وعيسى أنه قتل بعلم المنصور، وهكذا ذهب دم ابن المقفع هدرا، ويرجح المؤرخون أن المنصور هو الذي أمر سفيان بقتله، ويظهر أنه اضطهد قبل قتله، قال ابن قتيبة في عيون الأخبار: كان ابن المقفع محبوسا في خراج كان عليه وكان يعذب، فلما طال ذلك وخشي على نفسه تعين من صاحب العذاب مائة ألف درهم، فكان بعد ذلك يرفق به إبقاء على ماله.
علمه وأدبه
جمع ابن المقفع بين ثقافتي العرب والفرس، وإذا قلنا ثقافة الفرس ضممنا إليها حكمة الهنود وفلسفة اليونان؛ لأن الفرس ترجموا كتب الهند واليونان لا سيما والإسكندر فتح بلاد فارس، فشاعت بها الفلسفة اليونانية، وابن المقفع ترجم عن الفارسية كتبا من وضع الهند واليونان، منها أدبي ومنها فلسفي مثل كتب المنطق، وذلك لا يكفي للقيام به معرفة اللغة المترجم عنها فقط، بل يقتضي إتقان علم المنطق والتبصر به، قال القفطي في أخبار الحكماء: ابن المقفع أول من اعتنى في الملة الإسلامية بترجمة الكتب المنطقية لأبي جعفر المنصور ، فهو في هذا العلم معدود من الأوائل، وله فضيلة السبق في نقله إلى العربية، وكذلك فإن بعض المستشرقين يظن أن ابن المقفع هو الذي شرع طريقة تدوين التاريخ في اللغة العربية؛ لأنه ترجم كتاب خداينامه «سير ملوك العجم»، فكان مثالا للعرب في كتابة التاريخ.
أما بلاغته، فإنه أحد بلغاء الناس العشرة، بل هو معدود في طليعتهم، وهاك أسماءهم كما رتبها ابن النديم: «عبد الله بن المقفع، عمارة بن حمزة، حجر بن محمد، محمد بن حجر، أنس بن أبي شيخ، سالم، مسعدة، الهرير، عبد الجبار بن عدي، أحمد بن يوسف.»
وسواء أكان بلغاء الناس عشرة أم أكثر أم أقل، فابن المقفع في السابقين منهم، وقل منهم من اجتمع له من أدوات النبوغ كما اجتمع لابن المقفع: علم واسع، وعقل راجح، وذكاء حاد، وطبع فياض، ولغة شريفة، وقد قيل: لم يكن للعرب بعد الصحابة أذكى من الخليل بن أحمد، ولا كان في العجم أذكى من ابن المقفع، ولقد كان الخليل يحب أن يجتمع بابن المقفع، فجمع بينهما عباد بن عباد المهلبي، فمكثا ثلاثة أيام ولياليهن يتحادثان، فلما افترقا سئل الخليل عن ابن المقفع فقال: ما شئت من علم وأدب إلا أن علمه أكثر من عقله. وسئل ابن المقفع عن الخليل فقال: ما شئت من علم وأدب إلا أن عقله أكثر من علمه.
وأية شهادة أعظم خطرا من شهادة الخليل بن أحمد سيد الأدباء وأعظمهم اختراعا وتوليدا في الوضع والتأليف، على أن البقية الباقية من كتب ابن المقفع خير دليل على ذلك الأدب الغض والعقل الحكيم.
والجاحظ يعترف لابن المقفع في البلاغة وفنونها، ولكنه ينكر عليه معرفته في علم الكلام، قال: ومن المعلمين ثم البلغاء المتأدبين عبد الله بن المقفع، كان مقدما في بلاغة اللسان والقلم والترجمة واختراع المعاني وابتداع السير، وكان إذا شاء أن يقول الشعر قاله، وكان يتعاطى الكلام ولا يحسن منه لا قليلا ولا كثيرا، وكان ضابطا لحكايات المقالات، ولا يعرف من أين غر المغتر ووثق الواثق، وإذا أردت أن تعتبر ذلك إن كنت من خلص المتكلمين ومن النظارين فاعتبر ذلك بأن تنظر في آخر رسالته الهاشمية، فإنك تجده جيد الحكاية لدعوى القوم، رديء المدخل في مواضع الطعن عليهم، وقد يكون الرجل يحسن الصنف والصنفين من العلم فيظن بنفسه عند ذلك أنه لا يحمل عقله على شيء إلا بعد به.»
قد يكون الجاحظ مصيبا في حكمه؛ لأن علم الكلام كما يريده الجاحظ لم يكن أثمر في زمن ابن المقفع، كما أن ابن المقفع نفسه لم يكن عالما مختصا بالكلام يناظر الناس في عقائدهم ومذاهبهم، ولكن الجاحظ مع ذلك أثبت له «جودة الحكاية للدعوى»، وذلك أقصى ما يطلب من الناقل والمترجم، وابن المقفع مترجم في الفلسفة لا واضع، على أن له آراء حكيمة في الدين والحياة والأخلاق تعد مثلا أعلى في السمو، ولكن ليست على طريقة المتكلمين والمناظرين، سيأتي الكلام عليها في غير هذا المكان.
ترك ابن المقفع ثروة عظيمة للأدب العربي وأمثلة رفيعة يطبع على غرارها بلغاء هذه الأمة، فترجم وألف مقدارا غير قليل من الكتب عدا الرسائل التي كان يكتبها للأمراء، وهو لم يعش أكثر من ست وثلاثين سنة، فلو عمر أطول من ذلك لرفد أدبنا بأضعاف ما رفد، ولله ما أصدق قوله:
ويقتلني فيقتل بي كريما
يموت بموته بشر كثير
ولقائل أن يقول: ما بال الناس يغلون في رفع منزلة ابن المقفع وأكثر تآليفه مترجمة عن الفارسية ليس له منها إلا الصوغ والرصف؟ وقد فاته أن الترجمة في كثير من الأحيان أشق من التأليف، والمجودون بها قليل جدا، والكتب التي تترجم في عصرنا الحاضر أوضح دليل، فما كان علميا منها يتعثر بالعجمة من حيث المصطلحات، وما كان أدبيا منها لم تأنس به نفوس القراء لبعده عن أساليب العربية اللهم إلا النزر اليسير، فإذا قارنت هذه التراجم بترجمة ابن المقفع ظهر لك تفوقه ونبوغه، على أن له من بنات أفكاره ما يستهوي العقول ويسحر الألباب، حتى زعم بعضهم أنه عارض القرآن في كتاب الدرة اليتيمة، هذا فضلا علن أن عصر ابن المقفع كان عصر ترجمة في أكثر العلوم.
صفته وأخلاقه
إذا صح أن أسلوب الكاتب مرآة أخلاقه وطبعه، فلا شك أن ابن المقفع كان حسن الخلق سهل الطبع كريم السجية حلو المعاشرة وافر المروءة، وقد وصفها الجاحظ بكونه جوادا فارسا جميلا، وما أظن أديبا عمل بما كان يقول كابن المقفع، قال: «ابذل لصديقك دمك ومالك، ولمعرفتك رفدك ومحضرك، وللعامة بشرك وتحيتك ولعدوك عدلك، وضن بدينك وعرضك عن كل أحد.» ولقد بذل هو دمه وماله في سبيل المروءة والكرم والصداقة، وأي إيثار أبلغ من إيثاره لعبد الحميد بن يحيى كاتب بني أمية؟ فقد صح أن عبد الحميد لجأ إلى ابن المقفع بالبحرين بعد مقتل مروان بن محمد، ففاجأه الطلب وهو في بيته، فقال الذين دخلوا عليهما: أيكما عبد الحميد؟ فقال كل منهما: أنا. مخافة على صاحبه، وأوشك الجند أن يقتلوا ابن المقفع لولا أن صاح بهم عبد الحميد قائلا: ترفقوا بنا، فإن لكل منا علامات، فوكلوا بنا بعضكم، وليمض البعض الآخر إلى من وجهكم فيذكر له تلك العلامات. ففعلوا، وأخذ عبد الحميد فقتل سنة 132.
وقال ابن قتيبة في عيون الأخبار: بلغ ابن المقفع أن جارا له يبيع دارا له لدين ركبه وكان يجلس في ظل داره، فقال: ما قمت إذا بحرمة ظل داره إن باعها معدما وبت واجدا. فحمل إليه ثمن الدار وقال: لا تبع.
لم يشهر ابن المقفع بالمجون والخلاعة، ولكنه كان يصحب من عرفوا بذلك، قال صاحب الأغاني: كان مطيع بن إياس ويحيى بن زياد الحارثي وابن المقفع ووالبة بن الحباب يتنادمون ولا يفترقون، ولا يستأثر أحدهم على صاحبه بمال ولا ملك، وكانوا جميعا يرمون بالزندقة. وهؤلاء الذين صحبهم كانوا معروفين أيضا بالخلاعة، ولكنه هو كان إلى الحشمة والتصون أميل.
وروى صاحب الأغاني أيضا أن معن بن زائدة وروح بن حاتم وابن المقفع اجتمعوا يوما عند ابن رامين، فلما غنتهم جاريته الزرقاء بعث معن إليها بدرة فصبت بين يديها، وكذلك فعل روح، أما ابن المقفع فبعث فجاء بصك ضيعته وقال: هذه عهدة ضيعتي خذيها، فأما الدراهم فما عندي منها شيء.
وهكذا كان الغناء يبعث صبوته ويهز أريحته، وله في الفكاهة جواب يدل على أنه نال حظا منها، قال الجاحظ في كتاب البخلاء: روى أصحابنا عن عبد الله بن المقفع قال: كان ابن جذام الشبي يجلس إلي، وكان ربما انصرف معي إلى المنزل، فيتغدى معنا ويقيم إلى أن يبرد، وكنت أعرفه بشدة البخل وكثرة المال، فألح علي في الاستزارة وصممت عليه في الامتناع، فقال: جعلت فداك، أنت تظن أني ممن يتكلف وأنت تشفق علي، لا والله إن هي إلا كسيرات يابسة وملح وماء الحب. فظننت أنه يريد اختلابي بتهوين الأمر عليه، وقلت: إن هذا كقول الرجل: يا غلام، أطعمنا كسرة وأطعم السائل خمس تمرات، ومعناه أضعاف ما وقع اللفظ عليه، وما أظن أن أحدا يدعو مثلي إلى الحربية من الباطنية ثم يأتيه بكسرات وملح. فلما صرت عنده وقربه إلي
1
إذ وقف سائل بالباب فقال: أطعمونا مما تأكلون أطعمكم الله من طعام الجنة. قال: بورك فيك. فأعاد الكلام، فأعاد عليه مثل ذلك القول، فأعاد عليه السائل، فقال: اذهب ويلك فقد ردوا عليك. فقال السائل: سبحان الله ما رأيت كاليوم أحدا يرد من لقمة والطعام بين يديه! قال: اذهب ويلك وإلا خرجت إليك والله فدققت ساقيك. قال السائل: سبحان الله ينهى الله أن ينهر السائل وأنت تدق ساقيه! فقلت للسائل: اذهب وأرح نفسك، فإنك لو تعرف من صدق وعيده مثل الذي أعرف من صدق وعده لما وقفت طرفة عين بعد رده إياك.
هذا وفي انصرافه إلى المواضيع الأخلاقية في أكثر ما ألف وترجم وحثه على الوفاء والصدق والمروءة والإيثار والشجاعة والتقوى. وترك الكذب والحسد. وتقبيح الجبن والبخل؛ دليل على كرم أخلاقه وشرف نفسه، ولقد رفع من قدر الكتابة بمقدار ما غض الشعراء في زمانه من قدر الشعر حين أسرفوا في المدح والقدح، فابن المقفع يمثل الأديب الشريف.
حكمته وآراؤه
جمع ابن المقفع بين عقل الحكيم وتفكيره وطبع الأديب وذوقه، فليست حكمته حقائق عارية، وليس أدبه من هواجس النفس ونزغات الأهواء، وإذا حاولنا عزل حكمته عن عاطفته وجدناها حكمة مشرقية، وأعني بذلك أنها غير مادية، بل هي في كثير من نواحيها روحية مبنية على الرحمة وحب الخير وبث الفضيلة ومساعدة الناس، فالحقيقة عنده مرغوب فيها ما نفعت أو ما كان نفعها أكثر من ضررها، فإذا كان تمحيصها يؤدي إلى تعاسة أو بؤس فالأفضل أن يغفل أمرها أو يحول ضررها إلى منفعة، وهذا النوع من حكمة المتفائلين أقرب إلى علم تهذيب الأخلاق منه إلى الفلسفة الخالصة.
ولكنه مع ذلك لا يقنع بهذا القدر الحكيم من حب الخير، فبين جنبيه نفس أديب تأبى عليه الرضا بذلك المقدار، وتكلفه المبالغة والغلو، فيضيف إلى حكمته الإيثار والمروءة والشجاعة والأريحية والنبل والشرف والشهامة، فهو يستحسن الغنى إذا كان مقرونا بالجود، والعدل مضافا إلى الرحمة، والعقل إذا كان مع الورع، والقوة مع العفو، والشرف مع التواضع، واللذة مع التصون، والصداقة مع الإيثار، وقد مر بك خبر عبد الحميد الكاتب لما التجأ إليه، وخبر جاره الذي أراد أن يبيع داره.
ترجع حكمة ابن المقفع إلى مصادر شتى، فالإقدام والشجاعة والحمية والأنفة والكرم والإيثار عربي، وحب الخير وتعظيم أمر الدين والمساواة والتقوى والاهتمام بأمور الآخرة إسلامي، وما سوى ذلك كالرضا والقناعة وسعة الصدر والأخذ بالحزم والتدبير في شئون الفرد والجماعة وعبادة الجمال هندي وفارسي ويوناني.
على تلك الأصول تعتمد حكمته، وعنها تتفرع آراؤه في الدين والحكومة والأخلاق وحياة الفرد والجماعة، أما الدين فإنه يعظم من شأنه كثيرا ويعتده أعظم نعمة أنعم الله بها على عباده ويرى الوقوف عند حدوده، وأما الحكومة فيجب أن تقوم على العدل، فتجزي المحسن بإحسانه وتجازي المسيء بإساءته، ولا فضل لأحد على أحد عندها إلا بالطاعة والإخلاص، وأما رأس الحكومة فمقدس وواجب الإطاعة والمداراة، ولا تصلح الناس إلا به إذا كان عادلا، وما أجل خطر الملك عند ابن المقفع في أمور الدين والدنيا! فبصلاحه صلاح الرعية وبفساده فسادها، وحقه على الناس أعظم من حق الناس عليه ، وذلك رأي فارسي؛ لأن الفرس كانوا يعتقدون أن الأكاسرة يستمدون سلطتهم من الله، وقد شغل السلطان جزءا كبيرا من حكمة ابن المقفع، فمن ذلك قوله: «الناس على دين السلطان إلا القليل، فليكن للبر والمروءة عنده نفاق، فسيكسد بذلك الفجور والدناءة في آفاق الأرض.»
وقوله: «لا تكونن صحبتك للسلطان إلا بعد رياضة منك لنفسك على طاعتهم في المكروه عندك وموافقتهم فيما خالفك، وتقدير الأمور على أهوائهم دون هواك، فإن كنت حافظا إذا ولوك حذرا إذا قربوك أمينا إذا ائتمنوك، تعلمهم وكأنك تتعلم منهم، وتؤدبهم وكأنك تتأدب بهم، وتشكر لهم ولا تكلفهم الشكر، ذليلا إذا صرموك، راضيا إن أسخطوك، وإلا فالبعد منهم كل البعد والحذر منهم كل الحذر، وإن وجدت عن السلطان وصحبته غنى فاستغن به، فإنه من يخدم السلطان بحقه يحل بينه وبين لذة الدنيا وعمل الآخرة، ومن يخدمه بغير حقه يحتمل الفضيحة في الدنيا والوزر في الآخرة.»
وقوله وهو غاية في طاعة السلطان ومداراته: «جانب المسخوط عليه والظنين عند السلطان، ولا يجمعنك وإياه مجلس ولا منزل، ولا تظهرن له عذرا، ولا تثن عليه عند أحد.»
وابن المقفع يحب الشجاعة والكرم، ويكره الجبن والحرص، قال: «الجبن مقتلة والحرص محرمة، فانظر فيما رأيت وسمعت، من قتل في الحرب مقبلا أكثر أم من قتل مدبرا؟ وانظر من يطلب إليك بالإجمال والتكرم أحق أن تسخو نفسك له بالعطية أم من يطلب إليك بالشره والحرص؟»
وهو يبغض الحسد، ويراه من أكبر النقم على صاحبه، حتى يرثي لمن ابتلي به، قال: «أقل ما لتارك الحسد في تركه أن يصرف عن نفسه عذابا ليس بمدرك به حظا ولا غائظ به عدوا، فإنا لم نر ظالما أشبه بمظلوم من الحاسد، طول أسف ومحالفة كآبة وشدة تحرق، ولا يبرح زاريا على نعمة الله، ولا يجد لها مزالا، ويكدر على نفسه ما به من النعمة فلا يجد لها طعما، ولا يزال ساخطا على من لا يترضاه، ومتسخطا لما لن ينال فوقه، فهو منغص المعيشة دائم السخط محروم الطلبة، لا بما قسم له يقنع ولا على ما لم يقسم له يغلب، والمحسود يتقلب في فضل الله مباشرا للسرور منتفعا به ممهلا فيه إلى مدة، ولا يقدر الناس لها على قطع وانتقاص.»
وكذلك فإنه ينهى عن الكذب ولو بالهزل، قال: «لا تهاونن بإرسال الكذبة في الهزل، فإنها تسرع في إبطال الحق.»
والبخل عنده من أسوأ الأخلاق، قال: «الحرص والحسد بكرا الذنوب وأصل المهالك، أما الحسد فأهلك إبليس، وأما الحرص فأخرج آدم من الجنة.»
وحب المدح والتقريظ معدود عنده من ضعف الرجل، قال: «إياك إذا كنت واليا أن يكون من شأنك حب المدح والتزكية، وأن يعرف الناس ذلك منك فتكون ثلمة من الثلم يقتحمون عليك منها وبابا يفتتحونك منه وغيبة يغتابونك بها ويضحكون منك لها، واعلم أن قابل المدح كمادح نفسه، والمرء جدير أن يكون حبه المدح هو الذي يحمله على رده، فإن الراد له ممدوح والقابل له معيب.»
والثناء والإكرام لسلطان أو مال جديران بالرد والامتهان، قال: «إذا أكرمك الناس لمال أو سلطان فلا يعجبنك ذلك، فإن زوال الكرامة بزوالهما، ولكن ليعجبك إن أكرموك لدين أو أدب.»
وهو ينفر من الدين ويراه عنوان الذل، قال: «الدين رق، فانظر عند من تضع نفسك.»
أما رأيه في النساء فمن أسوأ الآراء، قال: «إياك ومشاورة النساء، فإن رأيهن إلى أفن وعزمهن إلى وهن، واكفف عليهن من أبصارهن بحجابك إياهن، فإن شدة الحجاب خير لك من الارتياب، وليس خروجهن بأشد من دخول من لا تثق به عليهن، فإن استطعت أن لا يعرفن عليك فافعل، ولا تملكن امرأة من الأمر ما جاوز نفسها، فإن ذلك أنعم لحالها وأرخى لبالها وأدوم لجمالها، وإنما المرأة ريحانة وليست بقهرمانة، فلا تعد بكرامتها نفسها ولا تعطها أن تشفع عندك لغيرها، ولا تطل الخلوة مع النساء فيمللنك وتملهن، واستبق من نفسك بقية، فإن إمساكك عنهن وهن يردنك باقتدار خير من أن يهجمن عليك على انكسار، وإياك والتغاير في غير موضع غيرة، فإن ذلك يدعو الصحيحة منهن إلى السقم.»
وفي رأيه أن اللذة في الحياة أخت التدبير والتقوى إذا كانت حلالا، قال: «على العاقل ألا يكون راغبا إلا في إحدى ثلاث: تزود لمعاد أو مرمة لمعاش أو لذة في غير محرم.»
وقال: «لا عقل لمن أغفله عن آخرته ما يجد من لذة دنياه، وليس من العقل أن يحرمه حظه من الدنيا بصره بزوالها.»
وهناك أمور أخرى تتفرع عن هذه الأصول، تعمل كلها على تهذيب الأخلاق ورياضة النفس على المكارم، ستطلع على كثير منها في الفصل الذي سيعقد للمختار من كلامه.
رميه بالزندقة
ما من أحد ترجم لابن المقفع أو أشار إليه إلا روى أنه كان يرمى بالزندقة، حتى إن بعض مترجميه كعبد القادر البغدادي صاحب خزانة الأدب عرفه بالزنديق، وابن خلكان ذكره بمناسبة زندقة الحلاج، وقد زعم الناقلون أنه كان منافقا في إسلامه، لم يسلم إلا ابتغاء عرض الدنيا، وأنه كان يضمر المجوسية، والتمسوا للمنصور وسفيان بن معاوية عذرا في قتله؛ لأنه أفسد على الناس دينهم، وحجتهم في ذلك ما روي عنه من أنه مر ببيت نار المجوس بعد أن أسلم، فتمثل بقول الأحوص:
يا بيت عاتكة الذي اتعزل
حذر العدا وبه الفؤاد موكل
إني لأمنحك الصدود وإنني
قسما إليك مع الصدود لأميل
وأنه قال في رثاء يحيى بن زياد:
لقد جر نفعا فقدنا لك أننا
أمنا على كل الرزايا من الجزع
فعزوا ذلك إلى مذهب الزنادقة في أن الخير ممزوج بالشر والشر ممزوج بالخير؛ لأن مبدأ العالم على قول ماني كونان، أحدهما نور والآخر ظلمة، وأنه بدا له أن يعارض القرآن فألف الدرة اليتيمة، وأنه كان يصحب المتهمين في دينهم كمطيع بن إياس ويحيى بن زياد ووالبة بن الحباب، وأن المهدي قال: ما وجدت كتاب زندقة قط إلا أصله ابن المقفع.
وكل ذلك أدلة لا يقام لها وزن في تكفير المؤمن وإخراجه من ربقة الإسلام. نعم، ليس من المعقول أن يتفق المترجمون على زندقة ابن المقفع من غير سبب معقول، ولكن ذلك السبب خفي علي فلم أتبينه، قد يقال: إن ابن المقفع ولد على المجوسية وشب عليها، وإنه قضى من عمره فيها أكثر مما قضى في الإسلام، وإن المتحول من دين إلى آخر قد تعاوده عقيدته الأولى من غير قصد كما حدث لابن المقفع لما أخبر عيسى بن علي بعزمه على الإسلام، فاستمهله عيسى إلى الغد، ثم حضر طعام عيسى عشية ذلك اليوم، فجعل يأكل ويزمزم على عادة المجوس، فلما استعظم عيسى ذلك منه اعتذر اعتذار فطن لبق، فقال: كرهت أن أبيت على غير دين. ولكن كل ذلك أسباب واهية وفرضيات لا يأبه الإسلام لها.
ارجع إذا شئت إلى ما وصل إلينا من كلام ابن المقفع وامنحه فرط تدبر وأعره فضل تفهم، واقرأ ما بين السطور كما يقولون، فإنك لن تجد فيه جملة تنز إلى المجوسية بعرق أو تضرب من الزندقة على وتر، فما أدري بعد ذلك من أين استدل الناس على زندقته وكيده للإسلام؟ فإن كان من كلامه فليس هنالك مغمز إلا ذلك التأويل البعيد الذي أولوا به قوله:
لقد جر نفعا فقدنا لك أننا
أمنا على كل الرزايا من الجزع
وهو معنى عربي شائع لا يمت إلى مذاهب الفرس بسبب، ومثله قول أعرابية:
فأما وقد أصبحت في قبضة الردى
فشأن المنايا فلتصب من بدا لها
وقول أبي نواس:
وكنت عليه أحذر الموت وحده
فلم يبق لي شيء عليه أحاذر
وإن كان استدلالهم على زندقته بأفعاله، فلم يرشدونا إلى شيء مقنع منها، والإيمان - كما لا يخفى - أمر وجداني لا يمكن لأحد أن يحكم عليه بطريق الحدس والتخمين.
إذا قصدوا بالزندقة جحد أركان الإسلام ومخالفة أحكامه والطعن عليه والكيد له، فابن المقفع لم يثبت عليه شيء من ذلك، وإن أرادوا بها التهاون بالفرائض وصحبة المتهمين في دينهم والتفكير الحر، فقد يكون ابن المقفع زنديقا.
لا أنكر أن الفرس أدخلوا شبهات كثيرة على الإسلام، وأن بعضهم دعا إلى مقالات تخالفه، وأن بعض آراء المانوية استهوت بعض الناس، ولكن الباحث لا يقدر أن يثبت بالبرهان شيئا من ذلك على ابن المقفع.
كتبه
ألف ابن المقفع وترجم عددا صالحا من الكتب، مع أنه قتل في مقتبل العمر، والذي بقي من آثاره لا يزال درة في تاج الأدب العربي، فمنها: (1)
كتاب كليلة ودمنة: وهو أحد الكتب الخالدة المجمع على جودتها، والذي استساغته أذواق أكثر الأمم فنقلته إلى لغاتها، وكان أصلا في الأدب المروي عن ألسنة الحيوانات عند جميع الأمم، والكتاب يرمي إلى تهذيب الأخلاق وإصلاح النفوس، وضعه باللغة السنسكريتية فيلسوف هندي اسمه بيدبا للملك دبشليم الذي يقال إنه تولى بعد فتح الإسكندر، وجعل مواعظه ونصائحه جارية على ألسن البهائم والطيور؛ لاعتقاد البراهمة تناسخ الأرواح على رأي المرحوم جرجي زيدان.
وأبواب الكتاب الهندية اثنا عشر، وهي: باب الأسد والثور، باب الحمامة المطوقة، باب البوم والغربان، باب القرد والغيلم، باب الناسك وابن عرس، باب الجرذ والسنور، باب الملك والطائر فنزه، باب الأسد وابن آوى والناسك، باب اللبؤة والأسوار والشعهر، باب إيلاذ وبلاذ وإيرخت، باب السائح والصائغ، باب ابن الملك وأصحابه.
ونقل عن اللغة السنسكريتية إلى لغة التيبت، كما أنه جلب إلى بلاد فارس في القرن السادس للميلاد، ونقله عن السنسكريتية إلى الفهلوية - أي الفارسية القديمة - برزويه بن أزهر بأمر كسرى أنوشروان، وزيد في الترجمة الفهلوية ثلاثة أبواب، هي: مقدمة برزويه، وباب بعثة برزويه، وباب ملك الجرذان.
وعن الفهلوية كانت الترجمة السريانية الأولى حوالي سنة 570 للميلاد، وعن الفهلوية أيضا نقله ابن المقفع وزاد فيه ستة أبواب، هي: مقدمة الكتاب على لسان بهنود بن سحوان المعروف بعلي بن الشاه الفارسي، وباب عرض الكتاب لابن المقفع، وباب الفحص عن أمر دمنة، وباب الناسك والضيف، وباب مالك الحزين والبطة، وباب الحمامة والثعلب ومالك الحزين.
ثم فقد الأصل الهندي والفهلوي، ولم يبق من التراجم الأولى غير الترجمة العربية لابن المقفع، وعنها نقلته الأمم إلى لغاتهم، وهذه التراجم التي ترجع كلها إلى ترجمة ابن المقفع: السريانية - مرة ثانية - واليونانية والفارسية والعبرية واللاتينية والإسبانية والطليانية والروسية والتركية والألمانية والإنكليزية والدنماركية والهولندية والإفرنسية.
وقد أقبل عليه العرب، فنظمه بعض الشعراء شعرا، أولهم أبو سهل الفضل بن نوبخت الفارسي من خدام المنصور وابنه المهدي، وأبان بن عبد الحميد اللاحقي نظمه بإشارة البرامكة وأوله:
هذا كتاب أدب ومحنة
وهو الذي يدعى كليلة ودمنة
فيه احتيالات وفيه رشد
وهو كتاب وضعته الهند
ونظمه علي بن داود كاتب زبيدة زوج الرشيد، ونظمه بشر بن المعتمد، وكل هذه المنظومات فقدت.
ونظمه أيضا ابن الهبارية المتوفى سنة 504، وسماه «نتائج الفطنة في نظم كليلة ودمنة» وهو مطبوع.
ثم نظمه ابن مماتي المصري المتوفى سنة 606، كما نظم أقساما منه عبد المؤمن بن الحسن من أهل القرن السابع، وكذلك نظمه جلال الدين النقاش من أهل القرن التاسع، وكل ذلك غير مطبوع.
ونقل كتاب كليلة ودمنة أيضا عبد الله بن هلال الأهوازي، نقله ليحيى بن خالد بن برمك في خلافة المهدي، وعارضه سهل بن هارون - أحد كتاب المأمون - بكتاب اسمه ثعلة وعفرة وكلاهما غير موجود.
ومن هنا يظهر لك مبلغ خطر هذا الكتاب والضجة التي قامت حوله والأثر الذي أثره في الأدب. (2)
كتاب الأدب الصغير: في الأدب والحكمة والمواعظ، أول من عثر عليه الشيخ طاهر الجزائري، وجده ضمن مجموعة في بعلبك فنشره في مجلة المقتبس، ثم نشر مع رسائل البلغاء، ثم طبع على حدة بتصحيح أحمد زكي باشا، والكتب لطيف الحجم رائع الأسلوب واضح المعاني، وليس كل ما فيه من الحكم من نتاج ابن المقفع؛ لأنه يقول فيه: «وقد صنعت في هذا الكتاب من كلام الناس المحفوظ حروفا فيها عون على عمارة القلوب وصقالها، وتجلية أبصارها وإحياء للتفكير ... إلخ.» ولكن له الفضل في سبكها وصوغها وإبرازها بذلك المظهر الفتان. (3)
كتاب الأدب الكبير: في الأخلاق والنصائح والآداب والحكم، ويمكن تقسيمه من حيث الموضوع إلى قسمين: الأول في السلطان والثاني في الصديق، وهو شبيه بالأدب الصغير في غايته، ولكن بعض فصوله أطول، وقد طبع بعنوان: «الدرة اليتيمة»، ويغلب على الظن أنه غيرها، ولغة ابن المقفع في الأدبين أجزل منها في كليلة ودمنة. (4)
كتاب الدرة اليتيمة: قال الأصمعي: صنف ابن المقفع كثيرا من المصنفات الحسان، منها الدرة اليتيمة التي لم يصنف في فنها مثلها، وقد ضرب أبو تمام الطائي المثل في بلاغتها بقوله للحسن بن وهب:
ولقد شهدتك والكلام لآلئ
تؤم فبكر في الكلام وثيب
فكأن قسا في عكاظ يخطب
وكأن ليلى الأخيلية تندب
وكثير عزة يوم بين ينسب
وابن المقفع في اليتيمة يسهب
وقد زعموا أنه عارض بها القرآن، ولكن الباقلاني يقول: إن كتاب اليتيمة منسوخ من كتاب بزرجمهر في الحكمة، والدرة اليتيمة لا تزال مكنونة لا يعرف محلها. (5)
فقر في الحكم ورسائل متفرقة وتحميدات لابن المقفع موجودة في رسائل البلغاء. (6)
كتاب خداينامه في السير «سير ملوك العجم»، نقله ابن المقفع عن الفارسية، يقول عنه المستشرق الإنكليزي الأستاذ براون في تاريخ آداب الفرس إنه أجل خطرا من كتاب كليلة ودمنة، ويظن المستشرق الإنكليزي الأستاذ نيكلسون في كتابه تاريخ آداب العرب أن هذا الكتاب كان مثالا للعرب في تدوين التاريخ. وهو مفقود. (7)
كتاب التاج في سيرة أنوشروان، نقله عن الفارسية، وهو مفقود. (8)
كتاب مزدك: نقله ابن المقفع عن الفارسية، ونقله أيضا أبان بن عبد الحميد اللاحقي الذي نظم كتاب كليلة ودمنة. أول ما يتبادر إلى الذهن أن هذا الكتاب يبحث عن مذهب مزدك، ولكن الأستاذ براون ذكر في كتابه تاريخ آداب الفرس - نقلا عن نولدكي - أنه كتاب أدب وضع للتسلية، ويعتبر بمصاف كليلة ودمنة ولا تضر قراءته مسلما، والكتاب مفقود. (9)
كتاب آيين نامه: نقله عن الفارسية، وهو غير موجود.
أما كتب المنطق اليونانية التي ترجمها عن الفارسية، فهي: (10)
كتاب قاطيغورياس ومعناه المقولات لأرسطو، قال ابن النديم: ولهذا الكتاب مختصرات وجوامع مشجرة وغير مشجرة لجماعة منهم ابن المقفع. فيظهر من ذلك أنه لم يترجمه ترجمة حرفية بل تصرف به بالاختصار والتلخيص. (11)
كتاب باريمينياس، ومعناه العبارة لأرسطو أيضا، قال ابن النديم: إن ترجمة ابن المقفع من المختصرات. (12)
كتاب أنا لوطيقا. (13)
المدخل إلى كتب المنطق المعروف بإيساغوجي فرفوريوس الصوري، قال ابن أبي أصيبعة في طبقات الأطباء: وعبارته في الترجمة سهلة قريبة المأخذ. وكل هذه الكتب مفقود.
وكتب المنطق هذه نقلها ابن المقفع عن الفارسية ولم ينقلها عن اليونانية.
أسلوبه وخصائصه
ابن المقفع هو إمام الطبقة الأولى من كتاب العصر العباسي، وصاحب الطريقة التي آخت بين التفكير الفارسي والبلاغة العربية، وهو كاتب حكيم، تغلب عليه الحكمة في كل شيء، وكل ما وصل إلينا من آثاره لا يخرج عن المواضيع الحكمية، فكليلة ودمنة والأدبان الكبير والصغير كتب ترمي إلى تهذيب الأخلاق وإصلاح النفوس، وكذلك قل عن أكثر كتبه التي لم تصل إلينا، ولقد كان القفطي موفقا لما عده من الحكماء.
لم يكن ابن المقفع حكيما في أغراضه ومعانيه فقط، بل هو حكيم في ألفاظه وتراكيبه كما سترى عند الكلام على صناعته اللفظية.
تظهر مزية ابن المقفع في ترتيب أفكاره وحسن تقسيمها، ولعل ذلك نتيجة دراسته للحكمة الفارسية والفلسفة الهندية واليونانية مع صحة طبعه، فأنت لا تجد في حكمه ذلك التفكك وتلك الوثبات التي تجدها في حكم الجاهليين ومواعظهم، على أنه كان مقتصدا في ترتيب تلك الأفكار، فلم يغرق في ربط المناسبات، بحيث إذا شرعت في موضوع لا تدري كيف تنتهي منه كما يفعل بعض علماء الأخلاق.
ما رزقت العربية كاتبا حبب الحكمة إلى النفوس كابن المقفع، فإنه يعمد إلى الحكمة العالية، فلا يزال يروضها بعذوبة ألفاظه ويستنزلها بسلاسة تراكيبه حتى يبرزها إلى الناس سهلة المأخذ بادية الصفحة، فهو من هذه الجهة أكتب الحكماء وأحكم الكتاب.
قل أن تجد كاتبا لا يستعين في إنشائه بالمبالغة والغلو وسحر الألفاظ ورنينه، بل ربما كان ذلك من أقوى العناصر في فن الكاتب، إلا ابن المقفع فإنه واجه الحقائق وحدث عنها حديثا صادقا لا تزيد فيه، وكان مع ذلك من أبلغ المنشئين.
ابن المقفع كاتب لا تستهلك معانيه ألفاظه، ولا تغتال ألفاظه معانيه، فليس هناك لف ولا دوران، ولا ترادف ولا إسجاع، بل تراه يقدر اللفظ على المعنى تقديرا يدل على براعة فائقة وذوق حسن وطبع صحيح مع ألفاظ متخيرة، قال الراغب الأصبهاني: «كان ابن المقفع كثيرا ما يقف إذا كتب، فقيل له في ذلك، فقال: إن الكلام يزدحم في صدري فأقف لتخيره.»
أظهر ما في أسلوبه السهولة والوضوح والجري مع الطبع وعدم التعقيد والإغراب، ولقد عرف البلاغة تعريفا بارعا بقوله: «البلاغة هي التي إذا سمعها الجاهل ظن أنه يحسن مثلها.» وقال لبعض الكتاب: «إياك والتتبع لوحشي الكلام طمعا في نيل البلاغة، فإن ذلك هو العي الأكبر.» ولكنه كما كان يتجنب التقعر فقد كان يكره الإسفاف والتبذل، قال يوصي كاتبا: «عليك بما سهل من الألفاظ مع التجنب لألفاظ السفلة.»
ومن خصائصه وضع الشيء في محله وإيفاء الموضوع حقه مع نفوذ بصر وسمو إدراك، روى الجاحظ في البيان والتبيين عن إسحاق بن حسان بن فوهة أنه قال: لم يفسر البلاغة تفسير ابن المقفع أحد قط، سئل: ما البلاغة؟ فقال: البلاغة اسم جامع لمعان تجري في وجوه كثيرة، فمنها ما يكون في السكوت، ومنها ما يكون في الاستماع، ومنها ما يكون في الإشارة، ومنها ما يكون في الحديث، ومنها ما يكون في الاحتجاج، ومنها ما يكون جوابا، ومنها ما يكون ابتداء، ومنها ما يكون شعرا، ومنها ما يكون سجعا وخطبا، ومنها ما يكون رسائل، فعامة ما يكون من هذه الأبواب الوحي فيها والإشارة إلى المعنى، والإيجاز هو البلاغة.
فأما الخطب بين السماطين وفي إصلاح ذات البين، فالإكثار في غير خطل والإطالة في غير إملال، قال: وليكن في صدر كلامك دليل على حاجتك، كما أن خير أبيات الشعر البيت الذي إذا سمعت صدره عرفت قافيته، فقيل له: فإن مل المستمع الإطالة التي ذكرت أنها حق ذلك الموقف؟ قال: إذا أعطيت كل مقام حقه، وقمت بالذي يجب من سياسة ذلك المقام، وأرضيت من يعرف حقوق الكلام، فلا تهتم لما فاتك من رضا الحاسد والعدو، فإنهما لا يرضيهما شيء، وأما الجاهل فلست منه وليس منك، ورضا جميع الناس شيء لا تناله، وقد كان يقال: رضاء الناس شيء لا ينال.
لا أعرف بليغا كاتبا كان أو شاعرا تفهمه العامة وتأنس به وتكبره الخاصة بل تعجز عن مجاراته إلا ابن المقفع.
نعم، قد يشابهه أبو العتاهية الشاعر من حيث السهولة، وأنه لا يدق عن فهم العامة، ولكن شتان ما هما، ففي شعر أبي العتاهية من المآخذ والمغامز ما يطول استقصاؤه، أما ابن المقفع فلم يؤخذ عليه في كل ما كتب إلا حرف واحد، قال المعري في عبث الوليد: «كان المتقدمون من أهل العلم ينكرون إدخال الألف واللام على كل وبعض، وروي عن الأصمعي أنه قال كلاما معناه: قرأت آداب ابن المقفع فلم أر فيها لحنا إلا في موضع واحد، وهو قوله: العلم أكبر من أن يحاط به فخذوا البعض.»
أدب ابن المقفع وإن كان عربيا مبينا في الألفاظ والتراكيب، فإنه أعجمي في الجمع والتأليف، فهو لا يكاد يستشهد بشعر العرب ولا يتمثل بأمثالهم ولا يروي حكمهم ومواعظهم ولا يسمي فصحاءهم، ولا يشير إلى أيامهم كما تجد ذلك في آثار جمهرة كتاب العرب كالجاحظ وأضرابه، فهو من هذه الجهة إما مترجم عن الفرس أو متصرف بالمعاني الشائعة أو مستمد من صوب عقله.
يقصد إلى المعنى بعناية بالغة، فإذا تم له تصوره قدر له من اللفظ ثوبا ليس بالفضفاض ولا بالضيق، مع زهد بالسجع إلا ما جاء عفوا من غير تعمل، فأسلوبه أسلوب المساواة بين اللفظ والمعنى، على أن في كلامه كثيرا من الإيجاز، ولكنه غير الإيجاز المعجز الذي اختص به العرب الخلص واستبدت به بلاغة العرب خاصة من دون جميع اللغات، وأكثر ما تجد هذا النوع من الإيجاز الحاد المعجز في القرآن الكريم والحديث الشريف، وأمثال العرب وحكمهم وكلام الخلفاء الراشدين وغيرهم من بلغاء العرب وفصحاء الأعراب.
مثال ذلك:
ولكم في القصاص حياة ، و«إنما الأعمال بالنيات»، و«اطلب الموت توهب لك الحياة»، و«قيمة كل امرئ ما يحسن»، و«الشجاع موقى»، وقول بعض الأعراب:
ما غاض دمعي عند نائبة
إلا جعلتك للبكا سببا
ومثل ذلك كثير لا محل لاستقصائه هنا، ولقد روي عن ابن المقفع نفسه أنه بدا له أن يعارض القرآن، فلما وصل إلى قوله تعالى في سورة نوح:
وقيل يا أرض ابلعي ماءك ويا سماء أقلعي وغيض الماء وقضي الأمر واستوت على الجودي وقيل بعدا للقوم الظالمين ، قال: هذا ما لا يستطيع البشر أن يأتوا بمثله.
ولا يخفى أن الإسهاب والإيجاز أمران اعتباريان بالنسبة لكل عصر، فابن المقفع مسهب بالنسبة لمن تقدمه من البلغاء، موجز بالنسبة لمن أتى بعده من الكتاب، ولكن إيجازه غير إيجاز العرب الخلص الذي سبقت إليه الإشارة.
وكلام ابن المقفع مع اتساقه وتساوقه وجريه مع الطبع يسهل تارة ويجزل أخرى، كقوله وفيه من القوة والمتانة ما فيه: «وقد أصبح الناس إلا قليلا ممن عصم الله مدخولين منقوصين، فقائلهم باغ وسامعهم عياب وسائلهم متعنت ومجيبهم متكلف، وواعظهم غير محقق لقوله بالفعل، وموعوظهم غير سليم من الهزء والاستخفاف، ومستشيرهم غير موطن نفسه على إنفاذ ما يشار به عليه ... إلخ.»
أما أثره في الإنشاء العربي فعظيم جدا، يدلنا على ذلك إقبال الناس على آثاره بالقراءة والحفظ والنظم والمعارضة منذ القرن الذي عاش فيه كما مر ذلك عند الكلام على كليلة ودمنة، ولا تزال آثاره الباقية حتى الآن حية تقرأ وتدرس وتستظهر بشوق ولذة مع قدم عهدها، وستبقى خالدة ما بقيت العربية، ولا يزال أسلوبه مثالا عاليا في الإنشاء يحتذيه كثير من الأدباء ويدعو إليه، وهذه مزية لم تتح لغيره من كتاب العربية، وأكاد أقول: من كتاب سائر اللغات.
شعره
لابن المقفع شعر قليل وصفوه بالجودة، وهو معدود من شعراء الكتاب المقلين، ولكنه كان لا يرتضي شعر نفسه، قيل له: لم لا تقول الشعر؟ فقال: الذي أرضاه لا يجيئني، والذي يجيئني لا أرضاه، ولم يبق من شعره إلا أبيات قليلة، منها ثلاثة أبيات رثى بها صديقه يحيى بن زياد الحارثي، رواها أبو تمام الطائي في كتاب الحماسة، وهي:
رزئنا أبا عمرو ولا حي مثله
فلله ريب الحادثات بمن وقع
فإن تك قد فارقتنا وتركتنا
ذوي خلة ما في انسداد لها طمع
فقد جر نفعا فقدنا لك أننا
أمنا على كل الرزايا من الجزع
وروى له الراغب الأصبهاني في كتابه المحاضرات قوله في الشراب:
سأشرب ما شربت على طعامي
ثلاثا ثم أتركه صحيحا
فلست بقارف منه آثاما
ولست براكب منه قبيحا
وروى له القاضي عبد العزيز الجرجاني في كتاب الوساطة هذا البيت:
ويقتلني فيقتل بي كريما
يموت بموته بشر كثير
وجعله مصدرا لقول المتنبي:
غدرت يا موت كم أفنيت من عدد
بمن أصبت وكم أسكت من لجب
وشعر ابن المقفع كما ترى ينادي على نفسه بأنه شعر كاتب لا شاعر.
نصوص من كلام ابن المقفع
أمثلة من الأدب الصغير (1)
على العاقل - ما لم يكن مغلوبا على نفسه - أن لا يشغله شغل عن أربع ساعات: ساعة يرفع فيها حاجته إلى ربه، وساعة يحاسب فيها نفسه، وساعة يفضي فيها إلى إخوانه وثقاته الذين يصدقونه عن عيوبه وينصحونه في أمره، وساعة يخلي فيها بين نفسه وبين لذتها مما يحل ويجمل، فإن هذه الساعة عون على الساعات الأخر، وإن استجمام القلوب وتوديعها زيادة قوة لها وفضل بلغة. (2)
وعلى العاقل أن لا يكون راغبا إلا في إحدى ثلاث: تزود لمعاد أو مرمة لمعاش أو لذة في غير محرم. (3)
أحق الناس بالسلطان أهل المعرفة، وأحقهم بالتدبير العلماء، وأحقهم بالفضل أعودهم على الناس بفضله، وأحقهم بالعلم أحسنهم تأديبا، وأحقهم بالغنى أهل الجود، وأقربهم إلى الله أنفذهم في الحق علما وأكملهم به عملا، وأحكمهم أبعدهم من الشك في الله، وأصوبهم رجاء أوثقهم بالله، وأشدهم انتفاعا بعلمه أبعدهم من الأذى، وأرضاهم في الناس أفشاهم معروفا، وأقواهم أحسنهم معونة، وأشجعهم أشدهم على الشيطان، وأفلجهم بحجة أغلبهم للشهوة والحرص، وآخذهم بالرأي أتركهم للهوى، وأحقهم بالمودة أشدهم لنفسه حبا، وأجودهم أصوبهم بالعطية موضعا، وأطولهم راحة أحسنهم للأمور احتمالا، وأقلهم دهشا أرحبهم ذراعا، وأوسعهم غنى أقنعهم بما أوتي، وأخفضهم عيشا أبعدهم من الإفراط، وأظهرهم جمالا أظهرهم حصافة، وآمنهم في الناس آكلهم نابا ومخلبا، وأثبتهم شهادة عليهم أنطقهم عنهم، وأعدلهم فيهم أدومهم مسالمة لهم، وأحقهم بالنعم أشكرهم لما أوتي منها. (4)
أفضل ما يورث الآباء الأبناء الثناء الحسن والأدب النافع والإخوان الصالحون. (5)
إذا هممت بخير فبادر هواك لا يغلبك، وإذا هممت بشر فسوف هواك لعلك تظفر، فإن ما مضى من الأيام والساعات على ذلك هو الغنم. (6)
لا يمنعك صغر شأن امرئ من اجتناء ما رأيت من رأيه صوابا والاصطفاء لما رأيت من أخلاقه كريما، فإن اللؤلؤة الفائقة لا تهان لهوان غائصها الذي استخرجها. (7)
أعدل السير أن تقيس الناس بنفسك، فلا تأتي إليهم إلا ما ترضى أن يؤتى إليك. (8)
ومن أحسن ذوي العقول عقلا من أحسن تقدير أمر معاشه ومعاده تقديرا لا يفسد عليه واحدا منهما نفاد الآخر، فإن أعياه ذلك رفض الأدنى وآثر عليه الأعظم. (9)
وكان يقال الرجال أربعة: اثنان تختبر ما عندهما بالتجربة، واثنان قد كفيت أمر تجربتهما.
فأما اللذان تحتاج إلى تجربتهما فإن أحدهما بر كان مع أبرار، والآخر فاجر كان مع فجار، فإنك لا تدري لعل البر منهما إذا خالط الفجار أن يتبدل فيصير فاجرا، ولعل الفاجر منهما إذا خالط الأبرار أن يتبدل برا، فيتبدل البر فاجرا والفاجر برا.
وأما اللذان قد كفيت تجربتهما وتبين لك ضوء أمرهما فإن أحدهما فاجر كان في أبرار والآخر بر كان في فجار. (10)
حق على العاقل أن يتخذ مرآتين، فينظر من إحداهما في مساوئ نفسه فيتصاغر بها، ويصلح ما استطاع منها، وينظر في الأخرى في محاسن الناس فيحليهم بها، ويأخذ ما استطاع منها. (11)
وكان يقال: عمل الرجل فيما يعلم أنه خطأ هوى «والهوى آفة العفاف»، وتركه العمل فيما يعلم أنه صواب تهاون «والتهاون آفة الدين»، وإقدامه على ما لا يدري أصواب هو أم خطأ جماح «والجماح آفة العقل». (12)
أمور لا تصلح إلا بقرائنها: لا ينفع العقل بغير ورع، ولا الحفظ بغير عقل، ولا شدة البطش بغير شدة القلب، ولا الجمال بغير حلاوة، ولا الحسب بغير أدب، ولا السرور بغير أمن، ولا الغنى بغير جود، ولا المروءة بغير تواضع، ولا الخفض بغير كفاية، ولا الاجتهاد بغير توفيق. (13)
اغتنم من الخير ما تعجلت، ومن الأهواء ما سوفت، ومن النصب ما عاد عليك، ولا تفرح بالبطالة ولا تجبن عن العمل. (14)
من استعظم من الدنيا شيئا فبطر، واستصغر من الدنيا شيئا فتهاون، واحتقر من الإثم شيئا فاجترأ عليه، واغتر بعدو وإن قل فلم يحذره، فذلك من ضياع العقل. (15)
إن المستشير وإن كان أفضل من المستشار رأيا فهو يزداد برأيه رأيا كما تزداد النار بالودك ضوءا. (16)
أربعة أشياء لا يستقل منها قليل: النار، والمرض، والعدو، والدين. (17)
وسمعت العلماء قالوا: لا عقل كالتدبير، ولا ورع كالكف، ولا حسب كحسن الخلق، ولا غنى كالرضا، وأحق ما صبر عليه ما لا سبيل إلى تغييره، وأفضل البر الرحمة، ورأس المودة الاسترسال، ورأس العقل المعرفة بما يكون وما لا يكون، وطيب النفس حسن الانصراف عما لا سبيل إليه، وليس من الدنيا سرور يعدل صحبة الإخوان، ولا فيها غم يعدل غم فقدهم. (18)
لا تعد غنيا من لم يشارك في ماله، ولا تعد نعيما ما كان فيه تنغيص وسوء ثناء، ولا تعد الغنم غنما إذا ساق غرما، ولا الغرم غرما إذا ساق غنما، ولا تعتد من الحياة ما كان في فراق الأحبة. (19)
ومن المعونة على تسلية الهموم وسكون النفس لقاء الأخ أخاه، وإفضاء كل واحد منهما إلى صاحبه ببثه، وإذا فرق بين الأليف وأليفه فقد سلب قراره وحرم سروره.
أمثلة من الأدب الكبير (1)
إنما يحمل الرجل على الحلف إحدى هذه الخلال: إما مهانة يجدها في نفسه وضرع وحاجة إلى تصديق الناس إياه، وإما عي بالكلام حتى يجعل الأيمان له حشوا ووصلا، وإما تهمة قد عرفها من الناس لحديثه فهو ينزل نفسه منزلة من لا يقبل منه قوله إلا بعد جهد اليمين، وإما عبث في القول أو إرسال اللسان على غير روية ولا تقدير. (2)
لا تعتذرن إلا إلى من يحب أن يجد لك عذرا، ولا تستعينن إلا بمن يحب أن يظفر لك بحاجتك. (3)
لا تجترئن على خلاف أصحابك عند الوالي ثقة باعترافهم لك ومعرفتهم بفضل رأيك، فإنا قد رأينا الناس يعرفون فضل الرجل وينقادون له ويتعلمون منه وهم أخلياء، فإذا حضروا ذا السلطان لم يرض أحد منهم أن يقر له وأن يكون له عليه في الرأي والعلم فضل، فاجترءوا عليه بالخلاف والنقض، فإن ناقضهم كان كأحدهم وليس بواجد في كل حين سامعا فهما وقاضيا عدلا، وإن ترك مناقضتهم صار مغلوب الرأي مردود القول. (4)
ابذل لصديقك دمك ومالك، ولمعرفتك رفدك ومحضرك، وللعامة بشرك وتحيتك، ولعدوك عدلك، واضنن بدينك وعرضك عن كل أحد. (5)
إن آثرت أن تفاخر أحدا ممن تستأنس إليه في لهو الحديث، فاجعل غاية ذلك الجد، ولا تعدون أن تتكلم فيه بما كان هزلا، فإذا بلغ الجد أو قاربه فدعه، ولا تخلطن بالجد هزلا ولا بالهزل جدا، فإنك إن خلطت بالجد هزلا هجنته، وإن خلطت بالهزل جدا كدرته، غير أني قد علمت موطنا واحدا إن قدرت أن تستقبل فيه الجد بالهزل أصبت الرأي وظهرت على الأقران، وذلك أن يتوردك متورد بالسفه والغضب فتجيبه إجابة الهازل المداعب برحب من الذراع وطلاقة من الوجه وثبات من المنطق. (6)
إن رأيت صاحبك مع عدوك فلا يغضبنك ذلك، فإنما هو أحد الرجلين: إن كان رجلا من إخوان الثقة فأنفع مواطنه لك أقربها من عدوك لشر يكفه عنك وعورة يسترها منك وغائبة يطلع عليها لك، فأما صديقك فما أغناك أن يحضره ذو ثقتك، وإن كان رجلا من غير خاصة إخوانك فبأي حق تقطعه عن الناس وتكلفه أن لا يصاحب ولا يجالس إلا من تهوى؟! (7)
وإذا رأيت رجلا يحدث حديثا قد علمته أو يخبر خبرا قد سمعته فلا تشاركه فيه ولا تتعقبه عليه؛ حرصا على أن يعلم الناس أنك قد علمته، فإن في ذلك خفة وشحا وسوء أدب وسخفا. (8)
احفظ قول الحكيم الذي قال: لتكن غايتك فيما بينك وبين عدوك العدل، وفيما بينك وبين صديقك الرضا، وذلك أن العدو خصم تضربه بالحجة وتغلبه بالحكام، وأن الصديق ليس بينك وبينه قاض فإنما حكمه رضاه. (9)
حبب إلى نفسك العلم حتى تألفه وتلزمه، ويكون هو لهوك ولذتك وسلوتك وبلغتك، واعلم أن العلم علمان: علم للمنافع وعلم لتزكية العقل، وأفشى العلمين وأجداهما أن ينشط له صاحبه من غير أن يحرض عليه علم المنافع، وللعلم الذي هو ذكاء العقول وصقالها وجلاؤها فضيلة منزلة عند أهل الفضل في الألباب. (10)
ليكن مما تصرف به الأذى والعذاب عن نفسك ألا تكون حسودا، فإن الحسد خلق لئيم، ومن لؤمه أنه يوكل بالأدنى فالأدنى من الأقارب والأكفاء والخلطاء، فليكن ما تقابل به الحسد أن تعلم أن خير ما تكون حين تكون مع من هو خير منك، وأن غنما لك أن يكون عشيرك وخليطك أفضل منك في العلم فتقتبس من علمه، وأفضل منك في القوة فيدفع عنك بقوته، وأفضل منك في المال فتفيد من ماله، وأفضل منك في الجاه فتصيب حاجتك بجاهه، وأفضل منك في الدين فتزداد صلاحا بصلاحه. (11)
لا تجالس امرأ بغير طريقته، فإنك إن أردت لقاء الجاهل بالعلم والجافي بالفقه والعي بالبيان، لم تزد على أن تضيع عقلك وتؤذي جليسك بحملك عليه ثقل ما لا يعرف وغمك إياه بمثل ما يغتم به الرجل الفصيح من مخاطبة الأعجمي الذي لا يفقه. واعلم أنه ليس من علم تذكره عند غير أهله إلا عادوه ونصبوا له ونقضوه عليك وحرصوا على أن يجعلوه جهلا، حتى إن كثيرا من اللهو واللعب الذي هو أخف الأشياء على الناس ليحضره من لا يعرفه فيثقل عليه ويغتم به. (12)
اتق الفرح عند المحزون، واعلم أنه يحقد على المنطلق ويشكر للمكتئب. (13)
اعلم أن خفض الصوت وسكون الريح ومشي القصد من دواعي المودة، إذا لم يخالط ذلك بأو ولا عجب، أما العجب فهو من دواعي المقت والشنآن. (14)
تعلم حسن الاستماع كما تتعلم حسن الكلام، ومن حسن الاستماع إمهال المتكلم حتى يقضي حديثه، وقلة التلفت إلى الجواب، والإقبال بالوجه، والنظر إلى المتكلم، والوعي لما يقول. (15)
إذا كنت في قوم ليسوا بلغاء ولا فصحاء، فدع التطاول عليهم في البلاغة أو الفصاحة. (16)
اعلم أن بعض شدة الحذر عون عليك فيما تحذر، وأن شدة الاتقاء تدعو إليك ما تتقي. (17)
إني مخبرك عن صاحب كان أعظم الناس في عيني، وكان رأس ما أعظمه عندي صغر الدنيا في عينه، كان خارجا من سلطان بطنه فلا يشتهي ما لا يجد ولا يكثر إذا وجد، وكان خارجا من سلطان فرجه فلا يدعو إليه مؤنة ولا يستخف له رأيا ولا بدنا، وكان خارجا من سلطان الجهالة فلا يقدم إلا على ثقة أو منفعة، وكان أكثر دهره صامتا، فإذا قال بذ القائلين، وكان يرى ضعيفا مستضعفا، فإذا جاء الجد فهو الليث عاديا، وكان لا يدخل في دعوى ولا يشرك في مراء ولا يدلي بحجة حتى يجد قاضيا عدلا وشهودا عدولا، وكان لا يلوم أحدا على ما قد يكون العذر في مثله حتى يعلم ما اعتذاره، وكان لا يشكو وجعا إلا إلى من يرجو عنده البرء، ولا يصحب إلا من يرجو عنده النصيحة، وكان لا يتبرم ولا يتسخط ولا يتشهى ولا يتشكى ولا ينتقم من الولي ولا يغفل عن العدو، ولا يخص نفسه دون إخوانه بشيء من اهتمامه بحيلته وقوته.
فعليك بهذه الأخلاق إن أطقت، ولن تطيق، ولكن أخذ القليل خير من ترك الجميع، وبالله التوفيق.
أمثلة من رسائله
(1)
كتب يعزي عن ولد: «إنما يستوجب على الله وعده من صبر لله بحقه، فلا تجمعن إلى ما فجعت به من ولدك الفجيعة بالأجر عليه والعوض منه، فإنها أعظم المصيبتين عليك وأنكى المرزيتين لك، أخلف الله عليك بخير وذخر لك جزيل الثواب.» (2)
وكتب في حاجة: «أما بعد، فإن من قضى الحوائج لإخوانه، واستوجب بذلك الشكر عليهم، فلنفسه عمل لا لهم، والمعروف إذا وضع عند من لا يشكره فهو زرع لا بد لزارعه من حصاده أو لعقبه من بعده، وكتبت إليك ولحالنا التي نحن بها فيما نذكرك حاجة أول ما فيها معروف تستوجب به الشكر علينا وتدخر به الأيادي قبلنا.» (3)
وكتب يعزي عن ابنة: «جدد الله لك من هبته ما يكون خلفا لك بما رزئته، وعوضا من المصيبة به، ورزقك من الثواب عليه أضعاف ما رزأك به منها، فما أقل كثير الدنيا في قليل الآخرة مع فناء هذه ودوام تلك.» (4)
وله من كتاب إلى بعض أصدقائه: «كان من خبري بعدك أني قدمت بلد كذا، فتهيأ لي بعض ما شخصت له، والمحمود على ذلك الله عز وجل، وأنا على أن يأتيني خبرك محتاج، فأما جملة خبري في فراقك، فقلبي مكة كل ما سواك حرام فيها.» (5)
وكتب إلى يحيى بن زياد الحارثي ابتداء في المؤاخاة: «أما بعد، فإن أهل الفضل في اللب، والوفاء في الود، والكرم في الخلق، لهم من الثناء الحسن في الناس لسان صدق يشيد بفضلهم ويخبر عن صحة ودهم وثقة مؤاخاتهم، فيتخير إليهم رغبة الإخوان، ويصطفي لهم سلامة صدورهم، ويجتني لهم ثمرة قلوبهم، فلا مثني أفضل تقريظا ولا مخبر أصدق أحدوثة منه.
وقد لزمت من الوفاء والكرم فيما بينك وبين الناس طريقة محمودة، نسبت إلى مزيتها في الفضل، وجمل بها ثناؤك في الذكر، وشهد لك بها لسان الصدق فعرفت بمناقبها، ووسمت بمحاسنها، فأسرع إليك الإخوان برغبتهم مستبقين يبتدرون ودك ويصلون حبلك ابتدار أهل التنافس في حظ رغيب، نصبت لهم غاية يجري إليها الطالبون ويفوز بها السابقون، فمن أثبت الله عندك بموضع الحرز والثقة، وملأ بك يده من أخي وفاء ووصلة، واستنام منك إلى شعب مأمون وعهد محفوظ، وصار مغمورا بفضلك عليه في الود، يتعاطى من مكافأتك ما لا يستطيع، ويطلب من أثرك في ذلك غاية بلوغها شديد، فلو كنت لا تؤاخي من الإخوان إلا من كافأ بودك، وبلغ من الغايات حدك؛ ما آخيت أحدا، ولصرت من الإخوان صفرا، ولكن إخوانك يقرون لك بالفضل، وتقبل أنت ميسورهم من الود، ولا تجشمهم كلف مكافأتك، ولا بلوغ فضلك فيما بينك وبينهم، فإنما مثلك في ذلك ومثلهم كما قال الأول:
ومن ينازع سعيد الخير في حسب
ينزع طليحا ويقصر قيده الصعد
ولم أرد بهذا الثناء عليك تزكيتك ليكون ذلك قربة عندك وآخية لي لديك، ولكن تحريت فيما وصفت من ذلك الحق والصدق، وتنكبت الإثم والباطل، فإن القليل من الصدق البريء من الكذب أفضل من كثير الصدق المشوب بالباطل.
ولقد وصفت من مناقبك ومحاسن أمورك، وإني لأخاف الفتنة عليك حين تسمع بتزكية نفسك وذكري ما ذكرت من فضلك؛ لأن المدح مفسدة للقلب مبعثة للعجب، ثم رجوت لك المنعة والعصمة؛ لأني لم أذكر إلا حقا، والحق ينفي من اللبيب العجب وخيلاء الكبر، ويحمله على الاقتصاد والتواضع.
وقد رأيت - إذ كنت في الفضل والوفاء على ما وصفت منك - أن آخذ بنصيبي من ودك، وأصل وثيقة حبلي بحبلك، فيجري بيننا من الإخاء أواصر الأسباب التي بها يستحكم الود ويدوم العهد، وعلمت أن تركي ذلك غبن، وإضاعتي إياه جهل؛ لأن التارك للحظ داخل في الغبن، والعائد عن الرشد مرجف إلى الغي، فارغب من ودي فيما رغبت فيه من ودك، فإني لم أدع شيئا أستتلي به منك الرغبة وأجتر به منك المودة إلا وقد اقتدت إليك ذريعته وأعملت نحوك مطيته، لترى حرصي على مودتك ورغبتي في مؤاخاتك، والسلام.» (6)
وكتب في السلامة جوابا: «أما بعد، فقد أتاني كتابك فيما أخبرتنا عنه من صلاحك وصلاح من قبلك، وفي الذي ذكرت من ذلك نعمة مجللة عظيمة يحمد عليها وليها المنعم المتفضل المحمود، ونسأله أن يلهمنا وإياك من شكره وذكره ما به مزيدها وتأدية حقها.
وسألت أن أكتب إليك بخبرنا ونحن من عافية الله وكفايته ودفاعه على حال لو أطنبت في ذكرها لم يكن في ذلك إحصاء للنعمة ولا اعتراف بكنه الحق، فنرغب للذي تزداد نعمه علينا في كل يوم وليلة تظاهرا ألا يجعل شكرنا منقوصا ولا مدخولا، وأن يرزقنا من كل نعمة كفاءها من المعرفة بفضله فيها والعمل في أداء حقها، إنه ولي قدير.»
تحميد لابن المقفع
الحمد لله ذي العظمة القاهرة والآلاء الظاهرة، الذي لا يعجزه شيء ولا يمتنع منه، ولا يدفع قضاؤه ولا أمره، وإنما قوله إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون.
والحمد لله الذي خلق الخلق بعلمه، ودبر الأمور بحكمه، وأنفذ فيما اختار واصطفى منها عزمه بقدرة منه عليها وملكة منه لها، لا معقب لحكمه، ولا شريك له في شيء من الأمور، يخلق ما يشاء ويختار ما كان للناس الخيرة في شيء من أمورهم، سبحان الله وتعالى عما يشركون.
والحمد لله الذي جعل صفو ما اختار من الأمور دينه الذي ارتضى لنفسه ولمن أراد كرامته من عباده، فقام به ملائكته المقربون يعظمون جلاله ويقدسون أسماءه ويذكرون آلاءه، لا يستحسرون عن عبادته ولا يستكبرون، يسبحون الليل والنهار لا يفترون، وقام به من اختار من أنبيائه وخلفائه وأوليائه في أرضه، يطيعون أمره ويذبون عن محارمه ويصدقون بوعده ويوفون بعهده ويأخذون بحقه ويجاهدون عدوه، وكان لهم عندما وعدهم من تصديقه قولهم وإفلاجه حجتهم وإعزازه دينهم وإظهاره حقهم وتمكينه لهم، وكان لعدوه وعدوهم عندما أوعدهم من خزيه وإخلاله بأسهم وانتقامه منهم وغضبه عليهم، مضى على ذلك أمره، ونفذ فيه قضاؤه فيما مضى وهو ممضيه ومنفذه على ذلك فيما بقي ليتمه ولو كره الكافرون؛ ليحق الحق ويبطل الباطل ولو كره المجرمون.
والحمد لله الذي لا يقضي الأمور ولا يدبرها غيره، ابتدأها بعلمه وأمضاها بقدرته، وهو وليها ومنتهاها وولي الخيرة فيها، والإمضاء لما أحب أن يمضي منها، يخلق ما يشاء ويختار ما كان لهم الخيرة، سبحان الله وتعالى عما يشركون.
والحمد لله الفتاح العليم العزيز الحكيم ذي المن والطول والقدرة والحول، الذي لا ممسك لما فتح لأوليائه من رحمته، ولا دافع لما أنزل بأعدائه من نقمته، ولا راد لأمره في ذلك وقضائه، يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد.
والحمد لله المثيب بحمده ومنه ابتداؤه، والمنعم بشكره وعليه جزاؤه، والمثني بالإيمان وهو عطاؤه.
أمثلة من حكمه
اطلب الرحمة بالرحمة.
من أهلك نفسه في مرضاة غيره عظمت جنايته.
التواضع يورث المحبة.
الكبر مقرون به سوء الظن.
الجواد من بذل ما يضن به.
المتكلف لما لا يعنيه متعرض لما يكره.
الفكر مفتاح القلب.
عمل البر خير صاحب.
أحسن العفو ما كان عن عظيم الجرم.
الاعتراف يؤدي إلى التوبة.
الإصرار وعاء الذنوب.
من عرف ثمار الأعمال كان حقيقا أن لا يغرس مرا.
بالحزم يتم الظفر.
من أحب التزكية تعرض للضحكة.
خسر من أنفق حياته في غير حقها.
من الحق على السلطان رفع ذي الفضيلة وأن يسد فاقته.
لا رأي لمن انفرد برأيه .
أكثر محادثة من يصدقك عن عيوبك.
فساد الوالي أضر بالرعية من جدب الزمان.
كن في الحرص على معرفة عيبك بمنزلة عدوك في معرفة ذلك.
من حرم العقل رزئ دنياه وآخرته.
لا تحمد نفسك على ما تركت من الذنوب عجزا.
كثرة أعوان السوء مضرة بالعمل.
أحسن العمل الصالح ما كان بصدق النية.
Unknown page