وتصر المرأة، وتمنعه من السير، وتخر عند قدميه وهي تقول: «يا سيد أعني!» فلا يغير ذلك من موقفه شيئا فيجيبها بعنف: «ليس حسنا أن يؤخذ خبز البنين ويطرح للكلاب.»
ولكنه يجري على لسان المرأة الجواب الملهم الآتي: «نعم، يا سيد، والكلاب أيضا تأكل من الفتات الذي يسقط من مائدة أربابها.»
قطع بهذه الكلمات آخر خيط يربطه بما تعلمه من الوصايا في صباه؛ فهو يشعر بأن تلك المرأة الكنعانية السائلة الراكعة بين الغبار ليست أقل جدارة بعنايته من أية امرأة يهودية، مهما كان عدد الأصنام التي تعبدها ، فيقف متأثرا بكلامها، فلم يلبث أن رأى فيها ببصيرته النبوية صورة عالم جديد ينشد الخلاص، فيزيل من ذهنه الوهم القائل بأن اليهود هم الشعب المختار، فيفتح قلبه لجميع البشر مجاوزا حدود العادات والتقاليد، فيقول لتلك المرأة: «يا امرأة، عظيم إيمانك، ليكن لك كما تريدين!»
فكانت هذه هي المرة الأولى التي يشفي يسوع فيها امرأة وثنية.
الفصل الثالث
السحب
والآن تبدأ الهجرة، فيسوع الحليم والسراج المنير الذي جال صيفا بأكمله في بلاده مواسيا شافيا، فلم يدع أحدا إلى مقاتلة الأقوياء، ولم يهاجم شعب الرب وزعماءه بأورشليم يضطر إلى الاختفاء في الغاب، وفي قعور الصخور، وإلى مجاوزة شاطئ البحيرة والحدود؛ ليقضي الخريف والشتاء خارجها فرارا من مضطهديه.
انقضى دور التنقل بين المدن والقرى كما بين الأعراس، انقضى دور لذة تنفيذ المقاصد وسعادة الهداية إلى الدين الجديد، فانقلب ينبوع المحبة الصافي، الذي كان يفجره كلامه في قلوب الجمهور إلى نهر كبير ذي مياه صفر عكرة، انقضى دور النصر الجميل بغير قتال، فيخشع الإنسان به أمام رحمة الرب وكرمه، انقضى دور العصمة الأول البعيد من الغيرة، فعلى الرسول أن يواجه الآن خيانة وغدرا وافتراء وجحودا وسخرية، فيثقل ذلك على نفسه، فيؤدي إلى إظهار ثقته بذاته من مخبئها الخفي، فتتحول هذه الثقة إلى اعتزاز، فتقوم الأوضاع الملكية مقام الخشوع، وينتحل ابن الإنسان مظهر ابن الله.
ويظهر أن يسوع ركب سفينة فهاجر في بدء الأمر إلى جولان، فإلى بيت صيدا الواقعة في منطقة بحر الجليل الشمالية الشرقية الهادئة الخصيبة؛ حيث يصب نهر الأردن فيؤلف طبقة غرينية،
1
Unknown page