ومما حدث أن ترجمت إلى العربية كتاب «نابليون» الذي وضعه إميل لودفيغ سنة 1924م، فطبعت ترجمتي له سنة 1946م، وقد اعتمدت في نقله أيضا على تراجمه لتلك اللغات الثلاث. ومما ذكرته في مقدمتي لذلك الكتاب: «وفي كتاب نابليون خيال وغموض وإبهام ... والغموض والإبهام مما لا يلائم الروح الفرنسية الجلية الواضحة ... فكان ما تراه من بعد الترجمة الفرنسية النسبي عن روح الغموض ... وما كانت الترجمة الفرنسية لتبلغ هذا إلا باختصار يعدل خمس الكتاب ... وقد قابلت بين ترجمة كتاب «نابليون» إلى اللغات الثلاث ... فوجدتها تختلف فيما بينها اختلافا كبيرا في غير موضع، فعزوت ذلك إلى ما في الأصل الألماني من إبهام والتباس ... والأمر مهما يكن فقد نقلت الكتاب في البداءة نقلا يكاد يكون حرفيا، مع اجتهادي في التوفيق بين ما اختلف في تلك الترجمات الثلاث ... ثم أعدت النظر في الترجمة بعد سنة، فرأيت أن أهذبه وأصقله، وأوجز القليل من فقراته مع تقديم وتأخير في بعضها أحيانا، فجعلته أكثر انسجاما وارتباطا، وأقل إبهاما، وأحسن أسلوبا، وأجزل عبارة، وأسهل منالا ... ولا أدعي خلو هذه الترجمة من أي خطأ؛ لما ذكرته من غموض الأصل، واختلاف تلك الترجمات الثلاث فيما بينها ...»
ويقول كاتب مصري: «ولعل الترجمة الفرنسية أدق من الإنكليزية إلى حد ما وإن جنحت أحيانا إلى الاختصار ...» والترجمة الفرنسية هي التي اعتمدت عليها في ترجمة ذلك الكتاب على الخصوص؛ لردها النصوص التي اقتطفها لودفيغ - وهي تعدل ثلث الكتاب - إلى أصلها الفرنسي. ومن غريب المصادفات أن بلغت صفحات الترجمة العربية لكتاب «نابليون» 560 صفحة من القطع الكبير، وأن كانت صفحات الترجمة الفرنسية 560 صفحة من القطع الكبير.
وقد جعلنا ترجمتنا لكتاب «نابليون» الضخم في جزء واحد كالأصل لا في جزأين، ولم نقصر في طبعها وحروفها وحركاتها وورقها، ولم نتوخ الربح المادي عند وضع ثمن للنسخة منها ما كانت وجهتنا خالصة لوجه الثقافة والأدب وخدمة العرب، مع ما كابدناه من جهود عنيفة مضاعفة في سبك عباراتها، وجعلها بعيدة من العجمة والألفاظ الحوشية، ومع ما زهدنا عنه في أثنائها من كسب نناله من مهنة المحاماة وغيرها، فكان ما لاحظه القراء من إتقانها، وبعدها من التعجل والاختطاف، وإقبالهم على مطالعتها، وتقديرهم إياها بما لا يقل عن كلمة أحد الأساتذة الأفاضل الآتية، التي نشرها عنها في صحيفة راقية: «لا يكفي أن يكون عمل المترجم نقل العبارة الأجنبية إلى العربية، بل إن ما هو أهم وأعظم من هذا بمراحل كثيرة هو أن ينفذ المترجم إلى روح الكاتب، وروح الكتاب، وأن يفهم شخصية المؤلف تمام الفهم، ويهضم مادة الكتاب أكثر من مرة، وكل هذا استعداد للبدء في كتابة الترجمة لتخرج عربية مائة في المائة؛ أي إن المترجم البارع هو من ينقل الكتاب إلى لغته وكأنه هو الكاتب المؤلف. وهذا هو رأينا في ترجمة كتاب نابليون التي بين أيدينا، فأنت حين قراءتك لها تكاد تجزم بأن العبارة ليست منقولة عن لغة أجنبية؛ لما تقع عليه فيها من فصاحة وبلاغة ملازمتين للأسلوب العربي الرفيع الذي يمتاز به الأستاذ عادل زعيتر ...»
ونعود إلى كتاب «ابن الإنسان» فنقول: إننا لم نسوغ السير في ترجمته ما سوغناه في صيغة ترجمة كتاب «نابليون» الثانية، من إيجاز بعض الفقرات، ومن تقديم وتأخير فيها، ومن تهذيب يخرجها أحيانا عن الترجمة الحرفية؛ لما رأيناه من تقارب ترجماته إلى تلك اللغات الثلاث؛ ولما وطنا عليه أنفسنا - جهد الاستطاعة - من نشر ترجمة حرفية له، مع جعل عبارة هذه الترجمة سائغة غير مملة.
ولم يشر لودفيغ إلى محال النصوص التي اقتطفها من التوراة والأناجيل الأربعة، وهي تعدل ثلث الكتاب؛ شأنه في كتاب «نابليون». فكنا نضطر إلى البحث عدة ساعات في أسفار التوراة الكثيرة والأناجيل الأربعة؛ كي نعثر فيها على النص العربي الأصلي للعبارة الصغيرة الواحدة، وكثيرا ما رأينا الأمر الواحد يرد في غير إنجيل بعبارات مختلفة، فكنا نضطر إلى المقابلة بين هذه العبارات وما عول عليه المؤلف منها، فنقضي في ذلك وقتا غير قليل، فبلغت مطالعتنا للتوراة والأناجيل عشرات المرات، وكان توقع هذه المشاق من أسباب ترددنا في ترجمة الكتاب في بدء الأمر.
ومما كان يجعلني أتهيب نقل الكتاب إلى العربية ما أبصرته من سلوك المؤلف طريقا قد لا ترضي رجال الأديان؛ غير أنني رأيت، بعد امتناع، أن ما وسعته المكاتب: الألمانية والإنكليزية والفرنسية والتركية وغيرها لا تضيق المكتبة العربية به ذرعا، والعرب من تعلم من شدة تساهل وكبير تسامح، كما أثبت ذلك تاريخ حضارتهم العظيمة الشأن.
والمؤلف، كما ذكر في كلمته التي وجهها إلى القراء، ذهب إلى أن السيد المسيح ظهر حقا، غير أن المؤلف وجده إنسانا ابن إنسان، فوفق - على رأيه - بين ما جاء في الأناجيل عن سيرته توفيقا ملائما للسنن النفسية، غير ناظر إلى ما طرأ على النصرانية من الطقوس والمبادئ اللاهوتية بعده. ومن قول المؤلف: «فسرت ما أشرت إليه من معجزات يسوع تفسيرا طبيعيا. ما قصدت كتابة تاريخ رجل، وما أردت بيان أخلاق إنسان؛ فليس مما يزيد يسوع عظمة أو يحط من قدره عزو مائة معجزة جديدة إليه، أو إنكار أية معجزة له. فتراني قد مزجت مختلف الروايات مزجا تبدو به الحقائق ... من أجل ذلك تجد لما هو مسطور في هذا الكتاب من قول ليسوع أو عمل له أصلا في الأناجيل، ولم نر إتمام ذلك إلا بما تصورناه له من نظرات وأوضاع وأوجه تعبير، ووصل بين الفكر والكلام، وبيان للأسباب، وتسلسل للمشاعر.»
وتجد تفصيلا لمناحي المؤلف في وضع هذا الكتاب في كلمته تلك. والمؤلف ظل مخلصا لتلك المناحي في جميع الكتاب. ومما لاحظناه في أثناء ترجمتنا أن المؤلف يحول أحيانا بعض الوقائع التي وردت في الكتاب المقدس تحويلا تقتضيه السنن النفسية التي يراها، والمؤلف قد سار في وضع الكتاب على أسلوبه في القصص والوصف كما سار عليه في كتاب نابليون، مبتعدا عن الأسلوب التاريخي.
وإنني - ككل مسلم - لا أوافق المؤلف على ما ذهب إليه في أمر السيد المسيح. ويدرك القارئ مما تقدم أن إقدامي على ترجمة هذا الكتاب الذي يمثل ناحية من التفكير الغربي هو حرصي على عدم خلو المكتبة العربية من ترجمة له. وإنني إذ أقتصر في عملي على الترجمة، أترك البحث في آراء المؤلف لغيري. فإذا كنت قد وفقت لترجمة هذا الكتاب ترجمة صحيحة لم يضع فيها معنى ، ولم يضطرب فيها لفظ؛ فإنني أكون قد أصبت الهدف.
عادل زعيتر
Unknown page