ويرى يسوع في المنام أنه نقل إلى جناح الهيكل فوق جميع الشعب، فيسمع صوتا كالذي أخذ بمجامع قلبه، حينما كان في حضرة المعمدان يقول له: «إن كنت ابن الله فاطرح نفسك إلى أسفل؛ لأنه مكتوب أنه يوصي ملائكته بك، فعلى أياديهم يحملونك لكيلا تصدم بحجر رجلك.» ويلمع السطح الذهبي تحت قدميه، وتسطع أورشليم التي لم يرها بعد، فيتمنى أن يكون نبيا فيها، ولو طرفة عين، ولكنه يرى المخرج بصوت قلبه القائل: «مكتوب أيضا: لا تجرب الرب إلهك!»
تزاحمت على يسوع التجارب، فغدا في حالة يرثى لها، فأن فحن شوقا إلى وطنه، فأين راحة البال التي كان يتمتع بها أيام عيشه في كنف أبيه؛ حيث لا جحود ولا طمع، وهل يكافح؟ عاودته حمى الخيال، وهو الذي امتحن غير مرة في البرية؛ حيث اعتزل وجاع وارتجف؛ فقد رأى في المنام في هذه المرة أنه نقل إلى ذروة جبل عال فرأى ممالك العالم، فقال له إبليس: «أعطيك هذه جميعها إن خررت وسجدت لي.» فرده بعنف صارخا: «اذهب يا شيطان؛ لأنه مكتوب: للرب إلهك تسجد، وإياه وحده تعبد!»
اتبع يسوع دوي صوته في أذنيه فهرب من منطقة الهول الصحراوية ؛ حيث كدرت الرؤى صفوه بأشد مما فر به إليها مغتما قانطا، فأراد أن يعود إلى بلده، إلى كوخه، إلى منجره، إلى قريته الصغيرة الواقعة على سفح الجبل، إلى عالم السلام؛ حيث ينبت العشب.
دنا يسوع من النهر، فرأى أن يدور اجتنابا لمنطقة المعمدان، وفيما هو كذلك إذ وقفه جمع كبير فار، فرأى في مكان بعيد جنودا متوجهين إلى الشرق، فاستوقف الأمر نظره، فاقترب من الهاربين سائلا عن النبأ، فعلم أن أمير تلك الإيالة هيرودس أنتيباس قد أرسل جنوده المرتزقة فقبضوا على يوحنا المعمدان، فساقوه مقرنا في الأصفاد إلى سجن لا يقدر أحد على إطلاقه منه.
بهت يسوع؛ فقد وجد في ذلك تأويلا لما رأى، فما كذب فؤاده، فالرب هو الذي أمره، فاطمأنت نفسه؛ فقد أذن له في العمل، فليعمل إذن! من أجل ذلك كان نداء الرب! من أجل ذلك جربه الشيطان! كان ذلك لشد عزيمته فيخلف المعمدان القائل: «يأتي من هو أقوى مني.» توترت ملامح يسوع بعد حلم فنظر إليه أولئك مذعورين، فلو كان بينهم من عرفه اتفاقا لعاد غير راض؛ لما رئي من تشنجه الدال على الصلف والكبرياء.
ويسوع، بعد أن تخلص من دهشه، توجه إلى بلده مفكرا على طراز آخر، فأخذ يرسم الخطط على خلاف عادته، ويسأل في نفسه: كيف يبدأ؟ وأين يبدأ؟ وهل يصدقه بعض أصدقائه؟ ويقابل يسوع، في أثناء توجهه إلى الشمال وحيدا، بين ما صنعه المعمدان وما يصنعه فيقول: هل أصاب يوحنا في مناهضته للفريسيين؟ أما كان ينتهي إلى ما هو أفضل مما تم لو تذرع بالحلم والقول اللين، فلم يستفز السلطة الزمنية؟ ثم يسأل عن قدرة إخوته على القيام بشئون الحرفة لو تركوا وحدهم، ومن يقوم منهم مقامه في إمساك المطرقة ودق المسامير؟
وصل يسوع إلى الناصرة، فعلم أن أمه وإخوته ذهبوا إلى قانا البعيدة ساعتين لحضور عرس، فهل يذهب إليها أيضا؟ تمثلت له الثياب الفاخرة والأصوات الجميلة، وله في عادات بلده الطيبة فتنة، وفيه ميل إلى اللهو والراحة مع ما حدث.
ذهب إلى قانا، وفي قانا وجد الفرح بالغا غايته، فرأى الفلاحين يرقصون أمام البيت على صوت الصنوج
12
والمزامير كما لو كانوا جاهلين لأمر اليوم الآخر، فراقبهم عن كثب قصير وقت، فأبصرهم سكارى من غير أن يراهم يشربون، فهل الخمر قليلة؟ وهل استنفد العرس في ثلاثة أيام جميع ما يمكن أولئك الفقراء أن يأخذوه من قبوهم؟ وهل هؤلاء الراقصات غير أخواته حقا؟ وهل ذلك الذي يخبط الورك ضاحكا غير شقيقه حقا؟ هنالك الصراع بين ما في ذهنه من جديد الأفكار وقديم الخواطر ...
Unknown page