يدخل الكهنة باب القلعة فيستقبلهم الحاكم الروماني واقفا، لابسا خوذة وسلسلة، متقلدا حساما لامعا، فينحني الكهنة منتظرين، فيأتي جنديان بالصوان المختوم، فيكسر الحاكم الختم الرومانية، ويكسر الكهنة ختمهم اليهودية التي لم ينالوا حق وضعها إلا بعد طويل جدل، فيخرجون من الصوان الحلل المطرزة بالذهب وثمين الحجارة، فيتبادلون هم والحاكم التحية من غير أن ينطق بكلمة، فينصرفون من حضرته حاملين تلك الحلل عائدين إلى الهيكل.
بيلاطس حاكم غليظ القلب، أفليس لذلك الذل من آخر؟ أفتعجز رومة التي فتحت العالم عن إخضاع ذلك الشعب الصغير الضعيف؟ مضى أكثر من خمس سنوات على قيامه بشئون الحكم باسم القيصر، وعلى ما في تقاريره من أخبار السكون والطاعة، كان يعلم أن النار تحت الرماد، وأن الشرر قد ينتشر منها في أي وقت.
ما أبعد عجز بيلاطس عن رسم صورة القيصر على نقود اليهود من الصواب! وما هو الضرر في اشتمال هذه النقود على صورة القيصر؟ حقا يحترم القيصر كإله، ولا يخرج عن كونه قيصرا مع ذلك، فأين البلد الآخر الذي يكون إلهه ملكا؟ وماذا يقصد اليهود بتسمية مدينتهم بلد الرب؟ وحقا لم يتعرض أحد لما يقوم به اليهود من الشعائر في هيكلهم، ولم تفكر رومة في فرض آلهتها عليهم، فما هو سر ما يثيرونه من الضجيج حول بعض الرموز والصور والأفكار؟
لقد أتى بيلاطس في أول ولايته بالرايات الحاوية لصور القيصر ورفعها فوق المدينة المقدسة؛ فكانت فتنة، وكان احتشاد أمام القلعة خمسة أيام، فحاصرت كتائب بيلاطس اليهود، فهددهم بضرب رقابهم إذا لم يعودوا، فمدوها طالبين الموت، فماذا بقي له غير طي الرايات؟
لم يكن اليهود ليبالوا بغير ما يدفعونه إلى الهيكل من الخرج، واليهود ينادون بالويل والثبور إذا ما دعوا إلى إعطاء رومة ما يفرض عليهم من الضرائب الخفيفة، مع أنهم يدفعون المال إلى الهيكل طائعين؛ واليهود إذا صنعوا ذلك فلكيلا تكون رومة رقيبة على ثرواتهم. ومن يدري ماذا يصنع بالأموال التي يؤدونها إلى الهيكل إذا ما اشتعلت الفتنة في أورشليم، وإذا ما اضطربت بلاد الجليل، وإذا ما وجد من يبلغ رومة حبوط سياسة بيلاطس عزل من ولايته؟
اتجهت أفكار بيلاطس إلى رومة، وساورته الهواجس حول بقاء حامية سيجانوس حيا؛ فمن ذا الذي يخبره بذلك؟ ومن المحتمل أن يكون القيصر قد مات، ورأت زوجة بيلاطس أحلاما مزعجة. وزوجته هذه تؤمن بالرؤى، فألقت الرعب في قلبه، فصار يفكر في أمر القيصر.
كان القيصر طيباريوس شيخا، وكان يقيم بكابري معتزلا، وعاش سيد العالم هذا سنوات في هذه الجزيرة الصغيرة بعيدا من عاصمته، مهملا لشئون حكومته، عاطلا من العمل، عبوسا خصما للجميع، وأنشأ فوق هذه الجزيرة الصخرية قصرا فسكنه، فأخذ يقضي أوقاته في تأمل البحر وفي أمور السحر، فيبدو خليا يوما وظالما يوما، فيعفو مرة ويقتل مرة، ويضطهد ساعة ويحرر ساعة، وهو إذا ما فوض أمور السلطة إلى أناس آخرين ذات حين؛ فلكي يقبض على زمامها في كل حين مستبدا متحرزا محوطا كئيبا.
سال ما سفكه القيصر طيباريوس من الدماء كالنهر، ولماذا؟ فقد ابنه الوحيد فلم يقدر على الانتقام، فوطن نفسه على الحقد والقتل، فصار حرسه يحذر وزيره سيجانوس، وصار هو يحذر حرسه، وصار الجميع يحذرونه.
رأى ذلك القيصر الأمان في تلك الجزيرة الصخرية، وهل يجد في غيرها ما يعتصم به؟ وهل يبصر في الفلسفة الملجأ؟
جاء في رسالة لسينيكا عن ديوجين: «إن مما يعدل مملكة ألا يصيب المرء أذى في عالم من المنافقين والقاتلين والمفسدين.» وقرأ القيصر في مقالة لسينيكا قوله: «ليس بيننا من لم يقترف ذنبا ، ولن ننفك عن اجتراح السيئات حتى نهرم، ولا يكون مصدر الآثام إلا فينا، وما الجسم إلا إصر
Unknown page