فلما كلمته في شأنه أطرق، وقال: حتى أعرف المولى ذنب هذا المذكور، وأنه من الذنوب التي لا تتجاوز عنها الملوك، فقلت له: يا هذا ، تخيلت أن لك همة الملوك، وأنك سلطان. والله ما أعلم في العالم ذنبا يقاوم عفوي، وأنا واحد من رعيتك، وكيف يقاوم ذنب رجل عفوك في غير حد من حدود الله، إنك لدنيء الهمة؛ فخجل وسرحه وعفا عنه، وقال لي: جزاك الله خيرا من جليس، مثلك من يجالس الملوك. وبعد ذلك المجلس ما رفعت إليه حاجة إلا سارع في قضائها من غير توقف كانت ما كانت.»
وإنه لموقف عظيم من رجل عظيم لدى ملك عظيم، يدل في إشراق ووضوح على مكانة محيي الدين لدى الملك الناصر، حتى ليلقبه بالمولى، وحتى ليرمي محيي الدين في وجهه بأعنف كلمة توجه إلى ملك؛ فيصفه بنقص الهمة، ولا يغضب الملك العظيم، بل يخجل، ثم يعفو عن الذنب الذي لا تعفو عن مثله الملوك، ثم يقول: جزاك الله خيرا، فمثلك من يجالس الملوك.
وبهذا الخلق، هزم هؤلاء الملوك أوروبا مجتمعة متكاتفة في ساحات الشام وميادينه.
ويكتب محيي الدين رسالة إلى السلطان الغالب بأمر الله صاحب بلاد الروم؛ ردا على خطاب أرسله له سنة تسع وستمائة:
بسم الله الرحمن الرحيم
وصل الاهتمام السلطاني الغالب بأمر الله - أدام الله عدل سلطانه - إلى والده الداعي له محمد بن العربي، فتعين عليه الجواب بالوصية الدينية، والنصيحة السياسية الإلهية، على قدر ما يعطيه الوقت ويحتمله الكتاب، إلى أن يقدر الاجتماع ويرتفع الحجاب.
إلى أن يقول:
فاحذر أن أراك غدا بين أئمة المسلمين من أخسر الناس أعمالا، الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا، وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا، ولا يكون شكرك لما أنعم الله به عليك من استواء ملكك بكفران النعيم، وإظهار المعاصي، وتسليط النواب السوء بقوة سلطانك على الرعية الضعيفة، فإن الله أقوى منك، فيحتكمون فيهم بالجهالة والأغراض، وأنت المسئول عن ذلك. فيا هذا، قد أحسن الله إليك؛ فأنصف المظلوم من الظالم، ولا يغرنك أن الله وسع عليك سلطانك، وسوى البلاد لك ومهدها مع إقامتك على المخالفة والجور، وتعدي الحدود؛ فإن ذلك الاتساع مع بقائك على مثل هذه الصفات بإمهال من الحق لا إهمال، وما بينك وبين أن تقف بأعمالك إلا بلوغ الأجل المسمى، وتصل إلى الدار التي سافر إليها أباؤك وأجدادك.
يا هذا، ومن أشد ما يمر على الإسلام والمسلمين - وقليل ما هم - رفع النواميس والتظاهر بالكفر، وإعلاء كلمة الشرك؛ فتدبر كتابي ترشد إن شاء الله، ما لزمت العمل به والسلام.
هذه هي لغة العلماء إلى الملوك، علماء الله لا علماء الدنيا.
Unknown page