ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين (القصص: 5).
فالمستضعفون، هم من سيشكلون مادة الأمة الطالعة، وهم من سيكونون الأئمة والقادة، وهم من سيرثون سيادة الملأ وحكومته. والسبيل أمة جديدة، تقوم على مبدأ جديد، واحد لا يفرق، يجمع أصحاب المصلحة في التغيير في مصهر واحد، عبرت عنه الآيات الكريمة بقولها: ... أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه (الشورى: 13).
ومع ذلك المنحى المرحلي - وإن كان أساسا جوهريا في أسس الدولة - تفتحت الآمال أمام المستضعفين، فبدءوا يتذارفون فرداى إليها، دون قبائلهم وعشائرهم، مما جعل دخول كل منهم في المنظومة الجديدة، وتركه ولائه القبلي، سهما يطلق على جسم النظام القبلي، وكان تحول العبد عن سيده إلى جماعة المسلمين، يعني شراءه من قبل المسلمين لصالح الجماعة وإعتاقه ومنحه حريته، وهي الصورة التي اجتذبت أفئدة العبيد إلى جماعة لا تفرق في تشكيلها بين سيد وعبد، ولا ابن قبيلة وأخرى، إلا بمدى طاعته لقواعد الجماعة، التي قررها الوحي، فكان الإضعاف الإسلامي في تلك المرحلة للقبيلة، بإحلاله الولاء لجماعة الإسلام محل أي ولاء آخر، وهو ما تم تدعيمه بالانتماء الفردي في علاقة المسلم بالنبي وبالله، وهو ما ساعد على مزيد من انهيار الولاء للقبيلة، ودعا إليه الوحي بقوله:
ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولي قربى من بعد ما تبين لهم أنهم أصحاب الجحيم (التوبة: 113).
وكان القرار بأن الدولة ستقوم على نظام اجتماعي جديد، يميزها كأمة أخرى تماما دون بقية الأعراب، هو ما أفصحت عنه أبلغ إفصاح، الصحيفة التي عقدت بعد ذلك بسنوات، بعد الهجرة إلى يثرب، والتي قررت أول مبدأ للأمة الموحدة، معبرة عن التجمع الحضري الكيفي، المتجاوز للتجمع القبلي الكمي، في نص مضيء في مبتدئها يقول:
هذا كتاب من محمد النبي، بين المؤمنين والمسلمين من قريش ويثرب، ومن تبعهم وجاهد معهم، أنهم أمة واحدة من دون الناس.
29
يثرب قبل الهجرة
خرجت قريش إذن - بعدائها للدعوة - عن قواعدها التي سنها الملأ، وقعدها الأسلاف منذ «قصي»، في حرية الاعتقاد، التي كانت تكفل سيولة الحركة التجارية، وتضمن اكتظاظ الأسواق بالرواد على مختلف الملل، ومن ثم أفصحوا عن رفض مبرم للدعوة الجديدة ولصاحبها، واحتسبوها - عن غفلة - حلقة في تكتيك البيت الهاشمي، لصالح إمساكه بعنان السلطة وإلغاء سلطة الملأ، مما أدى بصاحب الدعوة إلى يأس مطبق من إفهام تلك الرءوس المكية الصلبة. ولم يبق سوى البحث عن مكان آخر بعيدا عن مكة.
ولما كانت الأرض قد مهدت سلفا، ببرمجة هاشم في تحالفه مع أهل الحرب والدم والحلقة في «يثرب»، وزواجه من البيت الخزرجي، وما تبعه فيه عبد المطلب بن هاشم بزواج آخر يصادق على الحلف، فقد كانت الخئولة اليثربية، مدعاة للمراهنة على نواة أخرى للدولة المقبلة خارج مكة في «يثرب»، المدينة المنافسة الحقيقية لمكة.
Unknown page