ومعلوم أن علاقة مكة بيثرب كانت علاقة تنافسية، لكن مع اختلاف عميق بين كليهما في التشكيل الاقتصادي والاجتماعي؛ فبينما كانت التجارة هي عصب الاقتصاد المكي، فإن أعمدة الاقتصاد اليثربي قد أضافت إلى عماد التجارة، زراعة الكروم والحبوب. وكانت حبوب يثرب غذاء استراتيجيا لأهل مكة، هذا مع نشوء الشكل الحرفي حيث تعاظمت صناعة السلاح إلى حد كبير، وحققت اكتفاءها الذاتي، مع فائض جيد للتصدير، من سيوف ودروع وجحف ورماح وسهام، ولباس حرب من خوذ للرأس لا تظهر غير عيني المحارب، ودروع ذات سمات رومانية تغطي الجسد كله.
أما الشكل المجتمعي، فرغم أنه كان أميل إلى الاستقرار كنتيجة مباشرة لحرفة الزراعة، فإنه كان أقرب إلى القبلية المضطربة، نتيجة التكوين الهجين لعناصر ذلك المجتمع، لوجود عنصر غير أصيل العروبة والاعتقاد، مثلته ثلاث قبائل يهودية كبرى، هي قينقاع والنضير وقريظة، بينما مثل العنصر العربي، قبائل نازحة من اليمن، هي قبائل الأوس والخزرج، الذين حلوا على يهود يثرب، ولم يجد اليهود في وجودهم غضاضة، بل على العكس، وجدوا فيهم تنشيطا للاقتصاد اليثربي، وكأي تاجر سلاح، كان لا بد من دسائس، تؤدي إلى صراعات تورث الضغائن والثارات، بين الأوس والخزرج، لمزيد من التنشيط الاقتصادي.
وقد أدى ذلك الوضع بيثرب قبل الهجرة، إلى صراعات قبلية كادت تمزقها، مما جعلها فراغا من السلطة السياسية، مقارنة بالملأ المكي، وهو ما كان يزيد في ترجيح كفة اليهود الأثرياء. أما العداء بين يثرب ومكة، وخاصة بين عرب يثرب وعرب مكة، فقد تأصل بفعل غياب دور يثرب في مصالح مكة، فرغم وقوع يثرب على طريق الإيلاف الشامي، فإن حكومة الملأ القرشي لم تسع إلى عقد أي لون من التحالف المصلحي، الذي يمكن أن يعود على عرب يثرب بفائدة، اعتمادا على التمزق الداخلي ليثرب، الذي كان كفيلا بشغلها عن مكة وتجارتها، بل وساهمت حكومة الملأ القرشية في إضرام جذوة النار بين الأوس والخزرج، فوقفت إلى جوار الأوس يومي معبس ومضرس،
30
حتى أوشكت عرب يثرب على انهيار تام، بحيث أسقطتها قريش، وخاصة كبار تجارها الأمويين، من معادلتها التجارية. هذا ناهيك عن العداء على المستوى النفسي، والذي كان سببه حرفة الزراعة، التي كان المكي يعيبها ويحتقرها، ويعتبرها مطعنا في الرجولة، والرد النفسي الطبيعي على ذلك، من كراهية يثربية، لتلك النزعة المتعالية من عرب مكة، وهو الحال الذي تصوره بليغا، قولة «أبي الحكم عمرو بن هشام أبو جهل»، ولوعته وعظيم أسفه، عندما شارك اليثاربة في قتله، في وقعة بدر الكبرى: «لو غير أكار قتلني!»
31
والأكار هو الزارع.
ومن هنا كان التحالف بالمصاهرة بين الخزرج والهاشميين، ثم استقبال الخزرج لابن أختهم الهاشمي وصحبه، ردا لجرح تؤججه ذكرى معبس ومضرس، واستشفاء نفسيا، واستجلابا لوضع أهملته قريش وأسقطته من حسابات الإيلاف، واستشرافا لوعد نبوي، استقبله الوعي اليثربي النفاذ، بوحدة تلم الشمل، لتقف يثرب كمنافس له شأن أمام الملأ المكي، وربما كعاصمة لدولة كبرى مع مداولة الأيام.
ومن جانب آخر، أدت حرفة الزراعة إلى سمة ميزت يثرب، فقد كانت دوما في حالة حذر من القبائل الضاربة حولها، خوفا على المحصول من السلب؛ ومن هنا كان الإكثار من إقامة الحصون والآطام في كافة نواحيها، وما تبع ذلك بالضرورة من طبع أهل يثرب بالخبرة الحربية والجلد، وهو ما تمرس عليه أهلها لكثرة ما جرى بينهم من حروب داخلية، أو حروب مع جيرانهم، فكانوا بالمقارنة مع أهل مكة أفذاذ حرب وأهل عدة وسلاح، حتى عرفهم التاريخ بأهل الحرب والدم والحلقة، بينما كانت مكة قد استنامت إلى أمنها، واطمأنت بإيلافها، وترهلت بترفها، في وقت أصبحت فيه يثرب دار سلاح ومنعة، مما جعل اليثاربة رجال بأس يعتدون بأنفسهم إلى حد عدم المبالاة التام بعداوة من يعاديهم، وأمسوا مرهوبي الجانب. ويكفي كي نعرف مدى اهتمام يثرب بالسلاح، أن نقرأ قائمة الأسلحة التي غنمها المسلمون بعد زمان من بني قريظة، وهم بطن يثربية يهودية لم تكن أقوى البطون، فكانت مخلفاتهم ألفا وخمسمائة سيف من نوع سيوف داود المشهورة بقوتها وصرامتها، وألفي رمح من رماح يثرب التي رددت عنها أشعار العرب الكثير، وألفا وخمسمائة ترس وجحفة، وثلاثمائة درع ملبس، أما القسي والسهام فقل في عددها ما تشاء.
32
Unknown page