وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط إن الله يحب المقسطين ، وإبقاء المحكومين على شرائعهم وعوائدهم منظر من مناظر السياسة العالية، وباب من أبواب العدالة يدخلون من قبله إلى أكناف الحرية، وتذكروا إن شئتم قوله تعالى:
قالوا فما جزاؤه إن كنتم كاذبين * قالوا جزاؤه من وجد في رحله فهو جزاؤه ، فجزاء السرقة في دين يوسف عليه السلام هو مضاعفة الغرم على السارق، كما روى الكلبي، وفي رواية: ويضرب. وجزاؤه في شريعة يعقوب عليه السلام أخذ السارق واسترقاقه سنة، وسؤال أصحاب يوسف عليه السلام إخوته عن جزاء من يوجد عنده الصواع ليعاقب به وعدم إجراء حكم دين الملك عليه مبني على رعاية معاملة المحكومين بشرائعهم.
الإسلام يحل للمسلم أن يتزوج المرأة من أهل الكتاب مع استمرارها على دينها والتمسك بعقائدها، ولا يسمح له بهضيمتها في أمر تستدين به أو انتقاصها حقا من حقوق الزوجية، بل تتقاسم فيها امرأته المسلمة قسمة عادلة.
الإسلام يمنح المسلم أن يعطي لغير المسلم عهدا بتأمينه، ولا مساغ لأحد بعد ذلك في نقض ميثاقه أو تبديل شرطه، بل يحتم السعي في تأكيده ورعايته، وفي الحديث الشريف: «إن المسلمين يسعى بذمتهم أدناهم.»
تنظر إلى أبواب الشريعة فتبصر في جملتها أحكاما كثيرة مبنية على التسامح مع غير المحاربين، تطالع أبواب الهبة والوقف والوصية، فتستفيد من أحكامها أن الإسلام لم يقتصر على إباحة معاملتهم بمعاوضة، بل أجاز للمسلم أن يهب جانبا من ماله، أو يوقفه، أو يوصي به لبعض أهل الذمة ويجب تنفيذه والقضاء بصحته، وأحل لنا طعام الذين أوتوا الكتاب، وأن نطعمهم، قال تعالى:
وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم وطعامكم حل لهم ، وأمر بالإحسان إليهم والرفق بضعيفهم وسد خلة فقيرهم، ولين القول لهم على سبيل اللطف والرحمة واحتمال إذايتهم في الجوار على وجه الكرم والحلم، وحرم الاعتداء عليهم ولو بكلمة سوء أو غيبة في عرض أحدهم. وحكى ابن حزم في مراتب الإجماع أن من كان في الذمة وجاء أهل الحرب إلى بلادنا يقصدونه، وجب علينا أن نخرج لقتالهم بالكراع والسلاح، ونموت دون ذلك صونا لهم.
فمن نظر في طبيعة الإسلام جيدا، تحقق صفاء سريرته من مقاصد تضرم في أحشاء أهله جمرة التعصب الباطل ضد ديانة أخرى، كما يزعم بعض من لم يسمعوا دعوته إلا من وراء حجاب.
وشدد الإسلام العقوبة على من ارتد عن الدين بعد أن لبس هديه القويم، فأمر بدعوته إلى الإنابة والتوبة، فإن رجع وإلا ضرب بالسيف على عنقه، وإنما جبر المرتد على البقاء في الإسلام؛ حذرا من تفرق الوحدة واختلال النظام، فلو خلي السبيل للذين ينبذون الدين جهرة ونحن لا نعلم مقدار من يريد الله أن يضله نخشى من انحلال الجامعة وضعف الحامية، وأهل الردة وإن أصبحوا كاليد الشلاء لا تعمل في الجامعة خيرا، لا يخلو بقاؤهم في شمل المسلمين وهم في صورة أعضاء صحيحة من إرهاب يلقيه كثرة السواد في قلوب المحاربين، ثم إن لكل أمة سرائر من حيث الدولة لا ينبغي لها أن تطلع عليها غير أوليائها، ومن كان متلبسا بصفة الإسلام شأنه الخبرة بأحوال المسلمين والمعرفة بدواخلهم، فإذا خلع ربقة الدين وقد كان بطانة لأهله يلقون إليه سرائرهم اتخذه المحاربون أكبر مساعد، وأطول يد يمدونها لنيل أغراضهم من المؤمنين. هذا تأثير أهل الردة على الإسلام من جهة الدولة والسياسة. وأما تأثيرهم عليه من جهة كونه دينا قيما، فإن المرتد يحمله المقلدون من المخالفين على معرفته بحال الدين والخبرة بحقيقته تفصيلا، فيتلقون منه كل ما ينسبه إليه من خرافات وضيعة، أو عقائد سخيفة يختلقها عليه بقصد إطفاء نوره، وتنفير القلوب منه، ولما كان عثرة في سبيل انتشار الدين وجبت إماطته كما يماط الأذى عن الطريق.
وفي جعل عقوبة المرتد إباحة دمه زاجر للأمم الأخرى عن الدخول في الدين مشايعة للدولة ونفاقا لأهله، وباعث لهم على التثبت في أمرهم، فلا يتقلدونه إلا على بصيرة وسلطان مبين؛ إذ الداخل في الدين مداجاة ومشايعة يتعسر عليه الاستمرار على الإسلام وإقامة شعائره.
وأنت إذا جئت تبحث عن حال من ارتدوا بعد الإسلام لا تجد سوى طائفتين: منهم من عانق الدين منافقا، فإذا قضى وطره أو انقطع أمله انقلب على وجهه خاسرا. وبعضهم ربي في حجور المسلمين، ولكنه لم يدرس حقائق الدين، ولم يتلق عقائده ببراهين تربط على قلبه ليكون من الموقنين، فمتى سنحت له شبهة من الباطل تزلزلت عقيدته، وأصبح في ريبه مترددا، وارجع بصرك إلى التاريخ كرتين، فإنك لا تعثر على خبر ارتداد مسلم نبت في بلد طيب نباتا حسنا.
Unknown page