الحرية في خطاب الأمراء
لا يخفى على متشرع بصير أن الملك والدين أخوان يشد كل منهما بعضد الآخر، بل الدين رائد للملك، والملك تابع للدين خادم له، وإن شئت فقل: هما كمثل إنسان الدين عقله المدبر والملك جسمه المسخر له، وذلك الإنسان هو ما نسميه الآن بالإسلام، فبمقدار ما ترتبط الإدارة السياسية بالإدارة الدينية يكمل شبابه وتجري روح الاستقامة في أعضائه، فتصدر أعماله قرينة الحكمة، سالمة من العيوب، ومتى انفكت أولاهما عن أخراهما انحلت حبوته وتناثرت أجزاؤه تناثر خرز مكورة على سطح محدب، فمن صعد نظره في عصر الخلفاء الراشدين يجد السبب الذي ارتقى بالإسلام وانسجم به في سبيل المدنية هو ما انعقد بين الدين والخلافة من الاتحاد والوفاق، ومن ضرب بنظره فيما يشاء من الدول التي حمي فيها وطيس الاستبداد، يجد المحرك لتلك الريح السموم والعثير المشوم ما اعترض بين هاتين السلطتين من الاختلاف.
كان موضع العناية ومحل القصد من الإمارة في نظر أولئك الخلفاء ومن حذا حذوهم كعمر بن عبد العزيز هو خدمة الدين الذي هو خادم للعدالة التي هي خادمة لصلاح العالم، قال الشيخ قبادو التونسي:
وما الجاه إلا خادم الملك لائذا
وما الملك إلا خادم الشرع حزمه
وما الشرع إلا خادم الحق مرشدا
وبالحق قام الكون وانزاح ظلمه
ولما انطوت أحشاؤهم على هذا المقصد الجميل، أطلقوا سراح الرعية في أمرهم بالمعروف وإحضارهم النصيحة، مثل ما سبق في خطبة أبي بكر الصديق رضي الله عنه، وكقول عمر بن الخطاب: «أعينوني على نفسي بالأمر بالمعروف، وإحضاري النصيحة، وأعينوني على أنفسكم بالطاعة.» وكانوا يوسعون صدورهم للمقالات التي توجه إليهم على وجه النصيحة والتعريض بخطأ الاجتهاد، وإن كانت حادة اللهجة قارصة العبارة.
عزل عمر بن الخطاب خالد بن الوليد رضي الله عنهما، وكان أميرا على قنسرين، ولم يجد عمر بدا من الاعتذار عن ذلك بمحضر ملأ من المسلمين؛ حذرا مما عسى أن يقدح في بعض الظنون، فقام وخطب خطبة في شأن العطاء، وألقى في آخرها بالمعذرة، فقال: «وإني أعتذر إليكم من خالد بن الوليد، فإني أمرته أن يحبس هذا المال على ضعفة المهاجرين، فأعطاه ذا البأس وذا الشرف وذا اللسان، فنزعته منه، وأمرت أبا عبيدة ابن الجراح.» فقام أبو عمر بن حفص، وكان ابن عم لخالد فقال: «والله ما اعتذرت يا عمر، ولقد نزعت عاملا استعمله رسول الله
صلى الله عليه وسلم » إلى أن قال: «وقطعت رحما وحسدت ابن العم.» فقال عمر: «إنك قريب القرابة، حديث السن، مغضب في ابن عمك.» ولم يزد على أن التمس لمناقشته وجها وردها ردا لينا، وأخيرا قدم خالد بن الوليد إلى عمر، وحصحص الحق أنه نقي الراحة بريء العهدة مما ظن به، وبذلك كتب عمر إلى الأمصار .
Unknown page