72

Humum Muthaqqafin

هموم المثقفين

Genres

إننا نستطيع أن نلخص رأيه عن الجمال في كلمة واحدة، هي «الروح»؛ فالشيء جميل بمقدار ما يعبر بمادته عن روح الإله الخالق الواحد. كان أفلوطين يكتب أو يملي على عجل، ثم يدع لتلميذه فورفوريوس مراجعة الأوراق، فلما توفي أفلوطين، جمع فورفوريوس رسائله وقدم لها بترجمته لحياة أستاذه، وقد قسم تلك الرسائل ستة أقسام، جعل في كل قسم منها تسع رسائل (مجموع الرسائل أربع وخمسون رسالة)؛ ولذلك سميت بالتاسوعات، وفي إحدى هذه الرسائل ترى رأيه في الجمال مبسوطا في سلاسة ووضوح نادرين. فماذا يقول؟

الحاستان اللتان تتأثران بالجمال هما حاستا البصر والسمع، على أن الأشياء الجميلة قد تكون جميلة في ذاتها كما هي الحال في الأفعال الفاضلة، وقد تكون جميلة بمشاركتها في مبدأ أسمى، هو المبدأ الذي يخلع عليها جمالها بمقدار مشاركتها فيه. وأن الرواقيين ليزعمون أن هذا المبدأ الذي يكسب الجميل جماله هو تناسب الأجزاء وتناسق الألوان، ولو صح ما يزعمون لما وصفنا بالجمال إلا الأشياء المركبة من جملة عناصر؛ لأن التناسب والتناسق لا يكونان - بالبداهة - إلا بين أكثر من شيء واحد. وأما إذا نظرنا إلى عنصر واحد بسيط، أو إلى لون واحد بسيط، لما رأينا فيه جمالا، فعندئذ لا نستطيع أن نقول - مثلا - إن لون الذهب جميل، أو إن النغمة الواحدة جميلة. ودع عنك الجمال الذي نراه في مجالات الفكر والأخلاق والروح؛ لأن هذه كلها مجالات قد لا تكون كائناتها مركبة حتى يجوز لنا أن نقول إن في عناصرها تناسبا وتناسقا؛ وذلك لأن التناسب والتناسق صفتان كميتان يتناولان المقادير العددية في مقاييس الأشياء، وإذن فهما لا ينطبقان على الحقائق الروحية ما دامت هذه الحقائق لا عدد فيها ولا قياس.

كلا، فما الجمال في الأشياء الجميلة إلا صفة ندركها فندرك أن بينها وبين الجانب الروحي فينا شبها من حيث الجوهر. وعلى عكس ذلك الشيء الذي نصفه بالقبح، إنما هو شيء يحمل صفة تتنافر مع حقيقة أرواحنا؛ فالأشياء الجميلة تذكر الروح فينا بطبيعتها الروحانية؛ وذلك لأن هذه الأشياء كلها تشترك في «الصورة» المستمدة من عالم الروح. وإذا ما خلا شيء من تلك «الصورة» كان قبيحا، وإذا شئت لغة أقرب إلى الأفهام، فقل عن هذه «الصورة» إنها هي قوة دلالة الشيء على المصدر الإلهي، أليست «الصورة» تعمل على تنسيق الأجزاء وتوحيدها في كيان واحد؟ ثم أليس معنى ذلك هو أن «الوحدة» التي تجمع الكثرة برباط يوحدها هي سر جمال الشيء؟ وماذا تكون الوحدة في أعلى مراتبها إلا «الواحد» الذي انبثقت منه شتى الكائنات؟ وإذن فإدراك الوحدة في الشيء هو ضرب من الصعود إلى الحقيقة الإلهية الأولى.

وأترك مستوى المرئي والمسموع إلى المستوى الذي لا يتوقف فيه جمال الشيء على بصر أو على سمع، وهناك تدرك الروح منا جمال الشيء بغير استخدامها للحواس؛ إذ يكفيها أن تجد شبيها بينها وبين ما ترى، ولكن متى يكون هذا الشبه قائما؟ إنه يكون قائما حين يخلو الشيء من كل إضافة لا تجانس ماهيته وطبيعته، وعندئذ تواجه الروح الخالصة ماهية «خالصة»، على أن روح الإنسان الرائي قد لا تكون خالصة، وعندئذ لا تكون روحا جميلة، وبالتالي لا يتاح لها أن ترى جمالا، وذلك حين تشوبها العواطف الجموح، فتكون كأنها الجسم قد تلطخ بالطين، فلا مندوحة لصاحبها - إذا أراد تخليصها وتنقيتها - عن أن يزيل عنها أوشابها، ووسيلة هذا التطهر الروحي هي - كما قال أفلاطون في محاورة فيدون - انتهاج السلوك الفاضل؛ فالسلوك الفاضل هو بمثابة تطهير الروح من أدرانها، وحينئذ تصبح صورة خالصة، أو تصبح معنى خالصا، قوامه روحاني خالص ولا أثر للجسد المادي فيه، وحينئذ أيضا تصبح الروح الصافية الخالصة شبيهة بالله، وفي هذه المشابهة جمالها الحق، وبالروح الجميلة في صفائها ندرك الجمال في الأشياء الجميلة.

ليس الجمال صفة حسابية تقاس أبعادها لتكشف لنا ما في الشيء من تناسب بين أجزائه، إنما هو في مقدار دلالة الأشياء على روح خالقها أو قل هو في قوة التعبير الذي عبر به العقل الكبير عن نفسه تعبيرا محسوسا تراه العين أو تسمعه الأذن؛ فصور الجمال المختلفة ضروب مختلفة اختارها الروح الكلي حين أراد أن يطبع ماهيته على المادة فيصنع منها هذا الشيء الجميل أو ذاك؛ فصاحب الروح الصافية والنفس الحساسة إذا ما شهد شيئا وتأمله فوجد في طيه «معنى» يربط له الصلة بينه وبين الله، أو قل بينه وبين سائر الكون، فهو عندئذ إنما يشهد جمالا؛ لأنه يشهد شبها بين الشيء المحسوس من جهة والأفكار العقلية من جهة أخرى.

إن الأشياء الجميلة في هذه الدنيا، ما كانت لتكون كذلك عند المشاهد المتأمل لولا أن كل شيء منها يندرج تحت نموذج في عالم الروح؛ فكائنات الأرض «نسخات» من كائنات السماء، وإدراك الجمال فيها معناه إدراك ما قد اندس في ثناياها من هذه الكائنات السماوية؛ فبرغم أن العين هي التي ترى الشيء الجميل، إلا أنها تراه لكي تترك العقل بعدئذ يجاوز السطح المرئي إلى ما وراءه من معنى كامن، وبهذا يكون الجمال مرده إلى الروح لا إلى المادة، إلى العقل لا إلى الحواس، إلى التأمل لا إلى المشاهدة بالبصر؛ ولهذا لم يكن الجمال أمرا مرهونا بمزاج الفرد الواحد المشاهد، بحيث يجوز أن يختلف الأفراد في تمييز الجميل من القبيح، بل هو أمر عام يدركه كل ذي بصيرة على حد سواء. نعم إن الفرد الواحد يقدر الشيء حين يراه «قريبا» إلى نفسه - أي شبيها بها - ولكنه لم يكن هو الذي خلع عليه الجمال بميوله الشخصية ونزواته، بل الذي خلع عليه جماله هو الذي خلقه وصاغه ليكون أداة تعبر عن حقيقته، وما على الإنسان الفرد إلا أن «يدرك » ما هناك، لا أن يوجده من عدم، فكأنما الإنسان الفرد المشاهد للشيء الجميل يجد من ذلك الشيء حلقة تربطه بينه وبين الله، وذلك حين يرى صورة الله مطبوعة على الشيء، ثم يرى الشبه بينها وبين صورة نفسه؛ لأن أنفس الناس إنما انبثقت من النفس الكلية، وعلى غرارها جاءت.

وننتقل من هذه المبادئ الفلسفية العامة المجردة، إلى الفنان الذي ينتج لنا اللوحة الجميلة أو القصيدة من الشعر أو غيرهما من ألوان الفنون، فبأي مقياس نقيس قيمة فنه؟ إننا نقيس ذلك بمقدار ما قد وفق في تجسيد «الحق» في عمله الفني، إن الفنان العظيم لا يحاكي الطبيعة أبدا، بل يخلق بخياله خلقا جديدا يبث فيه «الحق»، فلئن كانت المحاكاة تنقل ما قد صادفه الفنان في حياته، فالخيال يخلق للفنان ما لم يره في حياته قط. إن الفنان العظيم لينظر بعين بصيرته إلى النماذج العقلية التي كان الله قد طبع صورتها على الأشياء المحسوسة، ينظر إليها ليستلهمها مخلوقا جديدا يخلقه هو في فنه بأن يطبع صور تلك النماذج العقلية على مادته، حتى لا يكون فرق جوهري بين خلق الله وخلق الفنان من حيث طبع المادة بصورة معينة، فتتمخض عن كائن جميل. إن الفن خلق بأدق معنى لهذه الكلمة، بل بأسمى معنى لها وأدومها بقاء على الزمن؛ فهنالك من القيم الروحية ما ليس ينكشف سره وجوهره إلا عن طريق الفن؛ وذلك لأن الفنان يتمتع في خلقه بحرية لا تتوافر لسواه من أفراد الناس حين ينشطون في مناشط حياتهم اليومية أو حياتهم المهنية، لما يضبط هذه الحياة أو تلك من قيود وحدود لا يتقيد بها الفنان وهو يقيم بناءه الفني.

خلاصة الرأي عند أفلوطين - نسوقها لتتضح في ذهن القارئ قبل أن ننتقل إلى مرحلة التطبيق - هي أن الشيء الجميل جميل! يكون فيه من روح ومعنى يجعلانه وسيطا يصل الإنسان المتأمل بالله؛ لأن الجانب الروحاني المعنوي في الشيء الجميل شبيه بالروح الإلهي من جهة وبالروح الإنساني من جهة أخرى؛ ولذلك كانت النشوة عند الاستغراق في الشيء الجميل قريبة من نشوة الحب التي تدمج نفس المحب في نفس حبيبته، فهل رأيت محبا صادقا يلتمس في حبيبته جانبا ظاهرا كالشكل واللون والقوام، أما تراه دائما يلتمس فيها روحا خافيا عن الأعين، روحا لا لون له ولا شكل ولا قوام؟ وحتى إن أعجب العاشق بما في معشوقته من خصائص بدنية كتناسق أجزاء جسدها، فهو في الحقيقة يعجب بهذه الخصائص لما هو مستتر وراءها من «صورة» تدرك بالعقل ولا تدرك بالحواس.

ما الفرق بين قطعة الحجر قبل أن يمسها إزميل الفنان وبعد أن يمسها؟ بديهي أن الحجر لا يستمد جماله بعد نحته من كونه حجرا، وإلا لتساوى التمثال المنحوت في قيمته الجمالية مع أي حجر آخر في مثل حجمه ووزنه، بل يستمدها من الصفة التي أضافها الفنان إليه، وهي صفة لم تكن في قطعة الحجر بادئ ذي بدء، بل كانت في نفس الفنان - لا من حيث هو كائن ذو عينين ويدين - بل من حيث هو كائن ذو خيال؛ ففي خيال الفنان كانت تكمن الصورة الفنية التي سينقلها بإزميله إلى قطعة الحجر، وإذن فقطعة الحجر بعد نحتها تمثالا إنما استحدث جمالها من الروح - أي من الخيال - لا من أية ظاهرة مادية في الحجر أو في غيره من أشياء.

إن الجمال - في الفن وفي الطبيعة على السواء - ليستقي قيمته كلها من كونه وسيلة تبرز الروح الإلهي في جوهرها وصميمها، فترى هذا الروح مشعا خلال القطعة الفنية أو خلال المنظر الطبيعي، مشعا من التمثال أو من الصورة أو من مقطوعة الشعر أو الموسيقى، ولو كان الأمر أمر تناسب في الأجزاء الظاهرة من الجسد أو من المادة المستخدمة في البناء الفني، لكان الوجه الجميل جميلا وهو حي كما هو جميل وهو ميت على السواء، لكن لا، إن العبرة كلها هي بما وراء السطح الظاهر من روح ومعنى.

Unknown page