على أن هذه التفرقة على كل حال تفيدنا في حسم الخلاف بين جماعتين من النقاد: جماعة تجعل معيارها الشكل المحض، وجماعة أخرى تجعل معيارها النجاح في الوصول إلى الهدف المقصود.
وكعادتي أحب أن أزداد فهما - لنفسي وللقراء - بأن أطبق هذا الذي أقوله على أمثلة بعينها من موضوعات الجمال، اختارها من الطبيعة أو من الفنون، لأرى كيف أتذوق جمالها لو أني أخذت بوجهة النظر التي بسطتها.
لنضرب مثلنا من الأدب، وليكن حكاية من حكايات ألف ليلة وليلة؛ فهذه الحكايات معترف لها من نقاد العالم أجمع بما فيها من فن أدبي؛ فألاحظ أنني بمجرد دخولي في دنيا الحكاية أجدني بإزاء عالم ذي قوانين خاصة به، لا شأن لها بقوانين هذا العالم الحقيقي الذي نعيش فيه؛ فتراني لا أتعجب لوقوع أحداث في ذلك العالم الغريب ما دامت تلك الأحداث متمشية مع جو ذلك العالم وقوانينه، ولا أقف لحظة لأسأل إن كانت تلك الأحداث مما يجوز وقوعه في عالمنا أو لم تكن. فلا بأس - مثلا - في أن أجد الناس هناك ينتقلون انتقالات سحرية من مكان إلى مكان، على بساط الريح أو على براق أو غير ذلك، ولا بأس في أن يحك حامل الخاتم خاتمه فإذا الدنيا كلها ملك يمينه يسيرها كيف شاء له هواه. المهم عندي وأنا أعيش الحياة التي ترسمها الحكاية المقروءة هو أن أجد اتساقا وانسجاما وترابطا بحيث لا تصبح العناصر متناثرة مفككة لا شأن لأحدها ببقيتها. فإن أحسست بمثل هذه الوحدة تشمل الأطراف جميعا، أحسست بالفاعلية نفسها التي ينشط بها ذهني وهو يدرك عناصر أي شيء مدرك في الحياة الواقعة، وهي الفاعلية التي حدثتك عنها حين حدثتك عن هذا القلم بين أصابعي كيف يستوي في عالم الذهن قلما واحدا مع أنه ذو عناصر حسية متفرقة. وما دمت قد أحسست في الحكاية المقروءة بمثل هذه الفاعلية الضامة، كان العالم المحكي عنه عالما سوي التكوين متسق البنية، وبمقدار ما ألمس في ذلك العالم من أوجه النقص في طريقة بنائه، يجيء حكمي عليه بالبعد عن الجمال الفني.
إن لذة الحياة داخل الحكاية إنما تتوقف على ضرب من النشاط الذهني أنشطه أثناء انتقالي من هنا إلى هناك في أرجاء ذلك العالم، وأثناء لقائي بمن ألتقي بهم من أشخاص الناس في الحكاية أحاسبهم بما أحاسب به أشخاص الناس في الحياة المألوفة الجارية، بل أحاسبهم بقوانين عالمهم الخاص؛ ولذلك فليس من مصادر جمال الحكاية نوع المادة التي بني منها البناء، أمن طين هو، أم من حجر مصقول، بل مصادر جمالها كله هي شبكة العلاقات التي تتفاعل بها الأجزاء بعضها مع بعض؛ فقد تقرأ المقامة من مقامات الهمذاني أو الحريري فتجد صقلا وعناية بمواد البناء، لكنك - في ظني - لا تشرب من رحيق الفن مقدار ما تشربه وأنت في عالم ألف ليلة وليلة.
وخذ مثلا آخر قصيدة من الشعر، ولتكن إحدى قصائد ذي الرمة التي يرسم بها لوحات حية من حياة الصحراء ووحشها. فها هنا أيضا تراك وقد دخلت عالما فنيا لا تسأل فيه إن كان ما فيه يجري في العالم الواقع أو لا يجري، بل تراك تتابع مجرى الحياة كما ينساب في القصيدة. ولو حللت سر النشوة الجمالية عندئذ، لوجدته هو الفاعلية الذهنية الضامة الموحدة الرابطة التي تجعل من الحياة في القصيدة كائنا واحدا وإن تعددت أطرافه. فافتح ديوان ذي الرمة، واقرأ أول قصيدة فيه، تجد مشهدا بديعا هو مشهد حمار الوحش وقد عضته وحوش من غير أسرته؛ فهو يجري في الصحراء ظالعا وأمامه أتن رمادية اللون، وهو يصيح عليها في يوم حار، وما يزال يجري في أثرها حتى تدنو الشمس من غروبها، وعندئذ يقترب من الماء الذي يطلبه منذ أول النهار. لكن هذا وهم من حواسه؛ فالماء ما يزال بعيدا، وما يزال هو يركض ركضا سريعا ينشد عين الماء، حتى ظهرت أنوار الصباح، وعندئذ يبلغ عينا تصطخب فيها الضفادع، فيبحث لنفسه وللأتن عن مكان مطمئن ليهدأ فيرتوي، لكنه لا يكاد يفعل حتى يسمع صوتا خفيفا يقشعر لسمعه؛ لأنه هو الصوت الذي يخشاه؛ صوت الصائد يتعقبه ويتربص له ... إلخ إلخ. ألم تشعر وأنت تقرأ هذه الخلاصة المقتضبة لجزء واحد من القصيدة، أنك كنت كالذي يحيا في حلم ثم أيقظناه؟ لقد كنت في عالم قائم بذاته له روابطه التي تربط أرجاءه معا في كون واحد فتجعل منه كيانا واحدا.
وتلك هي بعينها الفاعلية التي تحسها إذا ما قرأت أعظم الآثار الأدبية في شتى اللغات: في مهابهاراتا ورامايانا في الأدب الهندي، في الإلياذة والأوذيسة في الأدب اليوناني، في الكوميديا الإلهية لدانتي والفردوس المفقود لملتون، في رحلات جلفر لأولفر سويفت، في روبنصن كروسو لدانيال دي فو، وهي هي بعينها كذلك الفاعلية التي تحسها وأنت تتأمل لوحات التصوير الفني والعمائر بكل أشكالها الفنية من مساجد وكاتدرائيات وقصور وبيوت يتمثل فيها جمال الفن المعماري.
أساس الجمال في كل شيء جميل هو نفسه الأساس الذي ينبني عليه كل كائن حي، ألا وهو أن يسري بين الأجزاء رباط يضمها في وحدة، وهو عند فيلسوفنا كنط الأساس الذي تقوم عليه التصورات العقلية عن الأشياء التي تصادفنا وندركها، ثم هو عنده الأساس الذي تقوم عليه الأحكام الذوقية في عالم الجمال.
3
قد تلتقي أنظار الناس جميعا على الشيء الجميل فتتفق على جماله، ثم يبدأ اختلاف الرأي فيما بينهم حين يبدءون في التفسير والتعليل؛ فماذا في هذا الشيء أو ذاك قد جعله في أعين الناس جميلا؟ أهو - في نهاية التحليل - ما به مما ينفع الناس في حياتهم الكاملة؟ أم هو صورة بنائه وتكوينه بغض النظر عما ينفع وما لا ينفع؟ أم هو شيء غير هذا وذاك؟
إن لكل فيلسوف عن هذا السؤال جوابه الذي يتفق وفلسفته العامة، وسنختار لك هذه المرة أفلوطين، وهو فيلسوف ولد بصعيد مصر سنة 205 ميلادية.
Unknown page