69

Humum Muthaqqafin

هموم المثقفين

Genres

وإني لأعلم أنني بمحاولة التطبيق ربما أكون قد بعدت قليلا أو كثيرا عن الفلسفة الأفلاطونية بمعناها الذي يعرفه الدارسون في قاعات الجامعات، لكن شفيعي في ذلك هو أن أزيد من القدرة على «تذوق» الجمال عند القارئ، إلى جانب الزيادة من حصيلته «العلمية» المجردة.

2

لئن كان أفلاطون قد رد الجمال إلى الخير، بمعنى أن الجميل هو النافع، والنفع ينبغي أن يكون نفعا في سبيل الخير، أقول إن كان أفلاطون قد ربط بين جمال الشيء ونفعه بهذا المعنى، فها هو ذا شامخ آخر من شوامخ الفلسفة - عمانوئيل كنط (1724-1804م) - يقف من أمر الجمال موقفا مضادا، بحيث يجعله منزها عن كل رغبة في نفع كائنا ما كان هذا النفع. وخلاصة الرأي عنده هي أن الجميل جميل في ذاته وبذاته، لا يستند في جماله إلا إلى طريقة تكوينه. لكن خلاصة الرأي شيء، والسبيل إليها شيء آخر، لا سيما عند فيلسوف عرف بعمق التحليل وصعوبته إلا على المختصين الذين ألفوا أن يقرءوه ويفهموه.

والكتاب الذي يبسط فيه «كنط» فلسفته الجمالية، هو كتاب «نقد الحكم» وفيه يقول: إن الحكم الذوقي حاسي لا منطقي؛ أي إنه ليس جزءا من المعرفة العقلية التي تساق عليها الحجج والبراهين، بحيث تتسلسل النتائج من مقدماتها؛ ذلك أن المعرفة العقلية قوامها تصورات تتصل بما هو واقع بالفعل في الحقيقة الخارجية من كائنات وأشياء، وأما إذا كانت أفكارنا لا صلة لها إلا بمشاعرنا نحن من لذة أو ألم، فعندئذ لا يكون ثم تقابل بين مضمون الفكرة من جهة، وحقيقة الشيء الخارجي من جهة أخرى.

وإذا ما كان ثمة رابط يربط ما بين الفكرة التي في رءوسنا وبين الشيء المقابل لها في العالم الواقعي، فعندئذ يكون للإنسان في تلك الفكرة صالح يقضيه إذا أراد، كالذي بيده المفتاح يفتح به الخزانة إذا شاء. أما حين نتأمل بالفكر شيئا جميلا، حين نتأمل بالفكر قطعة موسيقية أو صورة فنية، أو قصيدة من الشعر، أو منظرا من مناظر الطبيعة الحية أو الجامدة، فإننا عندئذ - لكي يجيء حكمنا حكما ذوقيا خالصا - نغض النظر غضا تاما عما إذا كانت الفكرة التي نتأملها فكرة يستفاد بها على أي وجه من الوجوه، بل إننا لنغض النظر عما إذا كانت الفكرة التي نتأملها ذات مقابل خارجي على الإطلاق؛ إذ إننا بعد أن نستخلص من الشيء الجميل فكرة عن تكوينه نضعها موضع التأمل، لا نعود بعد ذلك نهتم لوجود ذلك الشيء أو لعدم وجوده، ويصبح الأمر أمر كيان وتكوين، ننظر فيه لذاته، كي نرى كيف تشابكت فيه العناصر الكثيرة تشابكا جعل منه كائنا واحدا.

وليس جمال الشيء كائنا في إشاعته السرور في أنفسنا، ولا هو كائن في تحقيقه لما ينفعنا في حياتنا العملية؛ لأن السرور والنفع مشوبان بالرغبة والميل، على حين أن الجميل جميل لطريقة بنائه وتكوينه، سواء أفدنا منه أم لم نفد، بل ليس جمال الشيء كائنا في خيريته؛ لأننا حين نحكم على شيء ما بأنه «خير» فإن ذلك يقتضي أن يكون لدي معيار للمثل الأعلى كيف ينبغي أن يكون، ثم أقيس الشيء الماثل أمامي إلى ذلك المعيار المثالي لأرى مدى التطابق بينهما، على حين أن حكمنا على الشيء المعين بأنه جميل، لا يقتضينا أن نعلم شيئا خارجا عن ذاته، بل لا يقتضينا أن نعلم من أي مادة صنع، ولا أن نعلم ماذا تكون ماهيته وطبيعته؛ إذ يكفينا أن ندرك فيه إطار تكوينه الذي على ركائزه أقيم، والذي ربط الروابط بين أطرافه ربطا خلق من كثرته وحدة واحدة، وإن شئت فانظر إلى زهرة «جميلة»، أو إلى زخرف عربي «جميل» في سجادة، أو على سقف أو جدار، فهل تراك تستند في الحكم عليه بالجمال إلى فكرة عقلية أو إلى مبدأ نظري؟ هل ترى الزهرة أو الزخرف «يعني» شيئا سوى نفسه؟ وهكذا يكون الموقف الذوقي دائما.

لكن وجه المفارقة هنا هو أننا على الرغم من إقامتنا أحكام الذوق على النظرة الذاتية الخاصة التي لا يقام على صدقها برهان منطقي عقلي علمي، إلا أننا إذا ما حكمنا على شيء بأنه جميل، توقعنا من كل إنسان في الدنيا أن يحكم عليه كذلك بالجمال، وتوقعنا أن يكون كل إنسان - مثلنا - منزها في حكمه ذاك عن مصلحته الخاصة، كأنما جمال الشيء صفة موضوعية كائنة في الجانب الذاتي في الأحكام الذوقية، وفي الوقت نفسه نجعل تلك الأحكام الذوقية، ممكنة النقل من إنسان إلى إنسان، وموضع اتفاق بين الناس أجمعين.

ألا وهو أن نفرض بأن إدراكنا للجمال مرهون بإدراكنا للعلاقة المتبادلة بين قدراتنا الفكرية وبين الأفكار التي نكونها بوساطة تلك القدرات، ولكن دون أن يكون هناك أفكار بعينها. أعني أن إدراكنا للجمال هو إدراك لنوع الفاعلية الفكرية التي تنشط بها أثناء اكتسابنا للمعرفة، دون أن نربط تلك الفاعلية بمعرفة معينة؛ لأننا لو ربطناها بمعرفة شيء معين، كان ذلك أدخل في باب العلم والمنطق والعقل، منه في باب الذوق والفن والجمال. فكأننا نحن في إدراكنا للجمال ندرك فاعلية خالصة بغير فعل، ندرك علاقات بغير متعلقات، ندرك إطارا بغير مضمون، ندرك قالبا بغير ملء أو فحوى، أو قل إننا ندرك نشاطا عرفانيا بغير شيء معروف معين.

فما علينا - إذا أردنا أن نحدد نوع هذه الفاعلية التي ندركها عندما نتأمل الجمال في الشيء الجميل - ما علينا إلا أن نسأل أنفسنا: كيف يعرف الإنسان ما يعرفه من أشياء العالم المحيط به؟ كيف أعرف أن أمامي «كتابا» وأن في يدي «قلما»؟ الجواب عند كنط هو - في إيجاز شديد - أن الحواس تتلقى خلية متزاحمة مضطربة مهوشة من معطيات تبعث بها الأشياء الخارجية إلى الحواس، كل حاسة في دائرة اختصاصها؛ فأضواء تطرق العين وأصوات تخبط الأذن، ولمسات تمس سطح الجلد، وطعوم على اللسان، وروائح في الأنف، يأتي هذا الزحام المتدفق إلى أعضاء الحس. ولكن ما كل طارق للأبواب يسمح له بالدخول؛ فها هنا يقف الحراس من داخل، لينتقوا ما يراد ويرفضوا ما لا يراد.

ثم ماذا؟

Unknown page