Al-ḥulal al-sundusiyya fī al-akhbār waʾl-āthār al-Andalusiyya (al-juzʾ al-awwal)
الحلل السندسية في الأخبار والآثار الأندلسية (الجزء الأول)
Genres
وأما خطة الاحتساب فإنها عندهم موضوعة في أهل العلم والفطن، وكأن صاحبها قاض، والعادة فيه أن يمشي بنفسه راكبا على الأسواق، وأعوانه معه، وميزانه الذي يزن به الخبز في يد أحد الأعوان، لأن الخبز عندهم معلوم الأوزان، للربع من الدرهم رغيف، على وزن معلوم. وكذلك للثمن، وفي ذلك من المصلحة أن يرسل المتاع الصبي الصغير، أو الجارية الرعناء، فيستويان فيما يأتيانه به من السوق مع الحاذق، في معرفة الأوزان.
وكذلك اللحم تكون عليه ورقة بسعره، ولا يجسر الجزار أن يبيع بأكثر أو دون ما حد له المحتسب في الورقة، ولا يكاد تخفى خيانته، فإن المحتسب يدس عليه صبيا أو جارية يبتاع أحدهما منه، ثم يختبر الوزن المحتسب، فإن وجد نقصا قاس على ذلك حاله مع الناس، فلا تسأل عما يلقى! وإن كثر ذلك منه، ولم يتب بعد الضرب والتجريس في الأسواق نفي من البلد. ولهم في أوضاع الاحتساب قوانين يتداولونها ويتدارسونها كما تتدارس أحكام الفقه، لأنها عندهم تدخل في جميع المتاعات، وتتفرع إلى ما يطول ذكره. وأما خطة الطواف بالليل وما يقابل من المغرب أصحاب أرباع في المشرق، فإنهم يعرفون في الأندلس بالدرابين، لأن بلاد الأندلس لها دروب بإغلاق تغلق بعد العتمة، ولكل زقاق بائت فيه له سراج معلق، وكلب يسهر، وسلاح معد وذلك لشطارة عامتها، وكثرة شرهم، وإعيائهم في أمور التلصص، إلى أن يظهروا على المباني المشيدة، ويفتحوا الأغلاق الصعبة، ويقتلوا صاحب الدار، خوف أن يقر عليهم، أو يطالبهم بعد ذلك، ولا تكاد في الأندلس تخلو من سماع: دار فلان دخلت البارحة، وفلان ذبحه اللصوص على فراشه. وهذا يرجع التكثير منه والتقليل إلى شدة الوالي ولينه، ومع إفراطه في الشدة، وكون سيفه يقطر دما، فإن ذلك لا يعدم وقد آل الحال عندهم إلى أن قتلوا على عنقود سرقه شخص من كرم، وما أشبه ذلك ولم ينته اللصوص.
وأما قواعد أهل الأندلس في ديانتهم فإنها تختلف بحسب الأوقات والنظر إلى السلاطين، ولكن الأغلب عندهم إقامة الحدود، وإنكار التهاون بتعطيلها، وقيام العامة في ذلك وإنكاره، إن تهاون فيه أصحاب السلطان، وقد يلج السلطان في شيء من ذلك ولا ينكره، فيدخلون عليه قصره المشيد، ولا يعبئون بخيله ورجله، حتى يخرجوه من بلدهم. وهذا كثير في أخبارهم.
وأما الرجم بالحجر للقضاة والولاة للأعمال، إذا لم يعدلوا، فكل يوم. وأما طريقة الفقراء على مذهب أهل الشرق في الدورة التي تكسل عن الكد، وتخرج الوجوه للطلب في الأسواق فمستقبحة عندهم إلى النهاية. وإذا رأوا شخصا صحيحا قادرا على الخدمة يطلب، سبوه وأهانوه، فضلا عن أن يتصدقوا عليه، فلا تجد بالأندلس سائلا إلا أن يكون صاحب عذر.
وأما حال أهل الأندلس في فنون العلوم فتحقيق الإنصاف في شأنهم في هذا الباب أنهم أحرص الناس على التميز، فالجاهل الذي لم يوفقه الله للعلم يجهد أن يتميز بصنعة، ويربأ بنفسه أن يرى فارغا، عالة على الناس، لأن هذا عندهم في نهاية القبح. والعالم عندهم معظم من الخاصة والعامة، يشار إليه، ويحال عليه، وينبه قدره وذكره عند الناس، ويكرم في جوار أو ابتياع حاجة وما أشبه ذلك. ومع هذا فليس لأهل الأندلس مدارس تعينهم على طلب العلم، بل يقرأون جميع العلوم في المساجد بأجرة، فهم يقرأون لأن يعلموا، لا لأن يأخذوا جاريا. فالعالم منهم بارع لأنه يطلب ذلك العلم بباعث من نفسه، يحمله على أن يترك الشغل الذي يستفيد منه، وينفق من عنده، حتى يعلم، وكل العلوم لها عندهم حظ واعتناء، إلا الفلسفة والتنجيم، فإن لهما حظا عظيما عند خواصهم، ولا يتظاهرون بها خوف العامة، فإنه كلما قيل يقرأ الفلسفة، أو يشتغل بالتنجيم، اطلعت عليه العامة اسم زنديق، وقيدت على أنفاسه، فإن زل في شبهة رجموه بالحجارة، أو حرقوه قبل أن يصل أمره للسلطان، أو يقتله السلطان تقربا لقلوب العامة. وكثيرا ما يأمر ملوكهم بإحراق كتب هذا الشأن إذا وجدت، وبذلك تقرب المنصور بن أبي عامر لقلوبهم أول نهوضه، وإن كان غير خال من الاشتغال بذلك في الباطن، على ما ذكره الحجاري، والله أعلم.
وقراءة القرآن
666
بالسبع ورواية الحديث عندهم رفيعة، وللفقه رونق ووجاهة ولا مذهب لهم إلا مذهب مالك،
667
وخواصهم يحفظون من سائر المذاهب ما يباحثون به بمحاضر ملوكهم ذوي الهمم في العلوم. وسمة الفقيه عندهم جليلة، حتى أن المسلمين كانوا يسمون الأمير العظيم منهم الذي يريدون تنويهه بالفقيه، وهي الآن بالمغرب بمنزلة القاضي بالمشرق، وقد يقولون للكاتب والنحوي واللغوي فقيه، لأنها عندهم أرفع السمات.
Unknown page