Al-ḥulal al-sundusiyya fī al-akhbār waʾl-āthār al-Andalusiyya (al-juzʾ al-awwal)
الحلل السندسية في الأخبار والآثار الأندلسية (الجزء الأول)
Genres
668
وعلم الأصول عندهم متوسط الحال. والنحو عندهم في نهاية من علو الطبقة، حتى أنهم في هذا العصر فيه منهم كأصحاب عصر الخليل وسيبويه، لا يزداد مع هرم الزمان إلا جدة، وهم كثيرو البحث فيه وحفظ مذاهبه، كمذاهب الفقه. وكل عالم في أي علم لا يكون متمكنا من علم النحو، بحيث لا تخفى عليه الدقائق، فليس عندهم بمستحق للتمييز، ولا سالم من الازدراء، مع أن كلام أهل الأندلس الشائع في الخواص والعوام كثير الانحراف عما تقتضيه أوضاع العربية، حتى لو أن شخصا من العرب سمع كلام الشلوبيني أبي علي المشار إليه بعلم النحو في عصرنا الذي غربت تصانيفه وشرقت، وهو يقرئ درسه، لضحك بملء فيه، من شدة التحريف الذي في لسانه . والخاص منهم إذا تكلم بالإعراب وأخذ يجري على قوانين النحو استثقلوه واستبردوه،
669
ولكن ذلك مراعى عندهم في القراءات والمخاطبات في الرسائل. وعلم الأدب المنثور من حفظ التاريخ والنظم والنثر، ومستظرفات الحكايات، أنبل علم عندهم، وبه يتقرب من مجالس ملوكهم وأعلامهم ومن لا يكون فيه أدب من علمائهم فهو غفل مستثقل. والشعر عندهم له حظ عظيم وللشعراء من ملوكهم وجاهة، ولهم عليهم حظ ووظائف، والمجيدون منهم ينشدون في مجالس عظماء ملوكهم المختلفة، ويوقع لهم بالصلات على أقدارهم، إلا أن يختل الوقت، ويغلب الجهل في حين ما، ولكن هذا الغالب. وإذا كان الشخص بالأندلس نحويا أو شاعرا فإنه يعظم في نفسه لا محالة، ويستخف ويظهر العجب، عادة قد جبلوا عليها.
وأما زي أهل الأندلس فالغالب عليهم ترك العمائم، لا سيما في شرق الأندلس، فإن أهل غربها لا تكاد ترى فيهم قاضيا ولا فقيها مشارا إليه إلا وهو بعمامة. وقد تسامحوا بشرقها في ذلك، ولقد رأيت عزيز بن خطاب أكبر عالم بمرسية حضرة السلطان في ذلك الأوان، وإليه الإشارة، وقد خطب له بالملك في تلك الجهة؛ وهو حاسر الرأس، وشيبه قد غلب على سواد شعره.
وأما الأجناد وسار الناس فقليل منهم من تراه بعمة، في شرق منها أو في غرب وابن هود الذي ملك الأندلس في عصرنا، رأيته في جميع أحواله ببلاد الأندلس وهو دون عمامة، وكذلك ابن الأحمر الذي معظم الأندلس الآن في يده، وكثيرا ما يتزيا سلاطينهم وأجنادهم بزي النصارى المجاورين لهم،
670
فسلاحهم كسلاحهم، وأقبيتهم في الأشكرلاط وغيره كأقبيتهم، وكذلك أعلامهم وسروجهم. ومحاربتهم بالتراس والرماح الطويلة للطعن، ولا يعرفون الدبابيس، ولا قسي العرب، بل يعدون قسي الإفرنج للمحاصرات في البلاد، أو تكون للرجالة عند المصافقة للحرب، وكثير ما تصبر الخيل عليهم أو تمهلهم لأن يؤثروها.
ولا تجد في خواص الأندلس وأكثر عوامهم من يمشي دون طيلسان، إلا أنه لا يضعه على رأسه منهم إلا الأشياخ المعظمون. وغفائر الصوف كثيرا ما يلبسونها حمرا وخضرا، والصفر مخصوصة باليهود ، ولا سبيل ليهودي أن يتعمم البتة. والذؤابة لا يرخيها إلا العالم، ولا يصرفونها بين الأكتاف، وإنما يسدلونها من تحت الأذن اليسرى، وهذه الأوضاع التي بالمشرق في العمائم لا يعرفها أهل الأندلس، وإن رأوا في رأس مشرقي داخل إلى بلادهم شكلا منها أظهروا التعجب والاستظراف، ولا يأخذون أنفسهم بتعليمها، لأنهم لم يعتادوا ولم يستحسنوا إلا أوضاعهم. وكذلك في تفصيل الثياب.
وأهل الأندلس أشد خلق الله اعتناء بنظافة ما يلبسون وما يفرشون، وغير ذلك مما يتعلق بهم، وفيهم من لا يكون عنده إلا ما يقوته يومه، فيطويه صائما، ويبتاع صابونا يغسل به ثيابه، ولا يظهر فيها ساعة على حالة تنبو العين عنها. وهم أهل احتياط وتدبير في المعاش، وحفظ لما في أيديهم، خوف ذل السؤال، فلذلك قد ينسبون للبخل. ولهم مروآت على عادة بلادهم، لو فطن لها حاتم لفضل دقائقها على عظائمه. ولقد اجتزت مع والدي على قرية من قراها، وقد نال منا البرد والمطر أشد النيل، فأوينا إليها وكنا على حال ترقب من السلطان، وخلو من الرفاهية، فنزلنا في بيت شيخ من أهلها من غير معرفة متقدمة فقال لنا: إن كان عندكم ما أشتري لكم به فحما تسخنون به، فإني أمضي في حوائجكم، وأجعل عيالي يقومون بشأنكم، فأعطيناه ما اشترى به فحما. فأضرم نارا، فجاء ابن له صغير ليصطلي، فضربه، فقال له والدي: لم ضربته؟ فقال: يتعلم استغنام أموال الناس، والضجر للبرد من الصغر. ثم لما جاء النوم قال لابنه: أعط هذا الشاب كساءك الغليظة يزيدها على ثيابه. فدفع كساءه إلي. ثم لما قمنا عند الصباح وجدت الصبي منتبها، ويده في الكساء، فقلت ذلك لوالدي فقال: هذه مروآت أهل الأندلس، وهذا احتياطهم أعطاك الكساء وفضلك على نفسه، ثم أفكر في أنك غريب، لا يعرف هل أنت ثقة أو لص، فلم يطب له منام حتى يأخذ كساءه، خوفا من انفصالك بها وهو نائم. وعلى هذا الشيء الحقير فقس الشيء الجليل.
Unknown page