9
مما دفع بالحلم إلى الخروج من ساحة التمني إلى ساحة التوقع، وربما التحقيق! مرهونا بشرط واحد هو تحالف وتوحد كتوحد العرب في ذي قار؛ ذلك التحالف الذي بدأت تباشيره في شعور عام دفع الوفود القبلية من كل صوب وحدب، إلى أن تحث خطاها بين الفيافي والقفار نحو اليمن؛ لتهنئ معد بن يكرب أو سيف بن ذي يزن بطرده الأحباش، وبعودة الحكم العربي إلى اليمن.
مكة حلم السيادة
وقد لعب جدل السياسة الدولية، وما تبعه من تغيرات هائلة على المستوى الاقتصادي؛ دورا خطيرا لصالح عرب الجزيرة، وخاصة في يثرب ومكة؛ حيث أخذت أوضاع الخط التجاري تضطرب وتتقلب؛ مما أثر على بنية التركيب الاجتماعي في المدينتين، وبخاصة مكة التي تطورت كمحطة مرور على طريق القوافل التجارية، حتى أضحى أهلها في حالة تناقض مع الشكل الاجتماعي البدوي المتفكك وغير المستقر؛ فبدأت تدخل مرحلة تحولات بنيوية واضحة في تركيبها الاجتماعي، وبدأت تضمحل في داخلها التركيبة القبلية، مع إفراز جديد لمواقع سلطة ومؤسسات لم تكن موجودة من قبل، وهو إفراز طبيعي للاستقرار والملكية، وما يتبعه بالضرورة من صراع حول امتلاك وسائل الإنتاج، ثم السلطة السياسية، بعد أن اشتدت الحاجة إلى استقرار أمثل، للقيام على شئون هذا العمل التجاري الهائل، وتقسيم الأدوار حول هذا العمل، ثم الحاجة إلى حراسة وحماية قوافل التجارة التي أصبحت تجارة المكيين أنفسهم، وأموالهم هم، وتوفير جو من الأمن العام، وما يترتب على ذلك من ضرورة إنشاء جيش منظم للقيام بالأمر، كان أهم عناصره وركائزه طبقة العبيد؛ «ومن ثم كان حتميا أن يتطور المجتمع المكي من مجتمع يعيش ديمقراطية ومساواة بدائية، إلى مجتمع متمايز طبقيا».
ويشرح لنا الدكتور «أحمد الشريف» ظروف المجتمع المكي من الداخل؛ فيقول: «غير أن الثروة لم تكن موزعة توزيعا عادلا؛ فقد كانت الهوة بين الأغنياء والفقراء كبيرة من الناحية الاقتصادية ... وكان التفاوت الطبقي موجودا - على الرغم من الإحساس بالقرابة، ووجود علاقات الحلف والولاء، وعلى الرغم من الإحساس النفسي العام بالمساواة - متمثلا في الفروق الواضحة بين طبقة الصرحاء وطبقة الموالي، بالنظر إلى ما كانت تكفله الثروة وشرف البيت لصاحبها، من تأهيل للدخول في مراكز القيادة والزعامة ... وكان العرب يتطلعون إلى مثل جديدة في الأخلاق والاجتماع تساير الطبع العربي.»
1
وعليه فقد تهيأت مكة لإفراز عناصر قيادية عربية، «كما قدرت أحداث الجدل الدائر للكعبة المكية أن تكون الكعبة الأولى والمحج الأقدس دون غيرها من الكعبات»، وساعد على ذلك أسواق مكة المختلفة، ومواسمها المتنوعة التي وضعت لجذب التجار، ثم انتشرت لغة قريش وعاداتها بين القبائل الحالة والمرتحلة، بعد أن حتمت مصالح القرشيين التجارية عليهم اليقظة والاهتمام بما يجري حول جزيرتهم من أحداث، لتأثير هذه الأحداث المباشرة على ما بأيديهم. وكان هذا الوعي دافعا لنزعة قوية من التسامح الديني، ولنضوج ميزهم عمن حولهم من أعراب؛ فاستضافوا في كعبتهم المكية الأرباب المرتحلة برفقة أصحابها التجار، وقاموا بتبني هذه الأرباب تدريجيا، فكان أن تركها أصحابها في كعبة مكة، ليعودوها في مواسمها؛ فكثرت المواسم المكية بالاحتفالات الدينية بالأرباب المختلفة، وكثر أيضا الخير والبركة من التجارة، وكان حتميا أن تهفو قلوب العرب وتجتمع عند كعبة فيها أربابهم ومعاشهم وأمنهم ومرحهم وسمرهم، وأن يضمحل بالتدريج شأن بقية الكعبات التي توارت في الظل، ثم في الزوال حتى طواها النسيان.
وكان موقع مكة الجغرافي بعيدا عن يد البطش الإمبراطوري (فارسية أو رومانية)، إضافة إلى حالة الضعف والانهيار التي أصابت هذه الإمبراطوريات، مع الفشل الذريع الذي منيت به المحاولة اليتيمة من روما لضرب مكة كمركز تجاري قوي بواسطة جيش أبرهة الحبشي في عام الفيل. عوامل مجتمعة ساعدت على صعود النجم المكي واتساع السطوة المكية؛ مما أعطى القرشيين الضوء الأخضر للقيام بالدور التاريخي الذي حتمته الظروف عليهم، خاصة بعد أن تدهورت اليمن مرة أخرى، وأصبحت قاصرة عن القيام بهذا الدور، وانتهت كتابع للدولة الفارسية.
وإن ارتفاع النجم المكي وصعوده بعد حملة الفيل، أمر يحتاج إلى الوقوف معه وقفة سريعة، توضح لنا إلى أي مدى بلغ أمر قريش في نفوس القوم، إلى الحد الذي دفع العرب جميعا إلى رجم قبر أبي رغال؛ دليل الجيش الغازي، وإلى الاعتقاد الواثق برب الكعبة المكية الذي صد عن بيته جيشا ما كان ممكنا أن يصده العرب؛ تلك الثقة التي تجلت في الاعتقاد بأن «جيش أبرهة قد تعرض لهجوم جوي فريد في نوعه»؛ إذ أرسل الله على الجيش طيورا ترميه بالأحجار، وينقل السهيلي عن النقاش: «أن الطير كانت أنيابها كالسباع، وأكفها كأكف الكلاب. وذكر البرقي أن ابن عباس قال : أصغر الحجارة كرأس الإنسان، وكبارها كالإبل.» وهذا الذي ذكره البرقي ذكره ابن إسحق في رواية يونس عنه، وفي تفسير النقاش أن السيل احتمل جثثهم فألقاها في البحر.
2
Unknown page