تأسيس (1)
تأسيس (2)
الكعبات
مكة حلم السيادة
قصي بن كلاب
الصراع على السلطة بعد قصي
بنو هاشم من التكتيك إلى الأيديولوجيا
جذور الأيديولوجيا الحنيفية
ظهور النبي المنتظر
العصبية والسياسة
Unknown page
الدولة
تأسيس (1)
تأسيس (2)
الكعبات
مكة حلم السيادة
قصي بن كلاب
الصراع على السلطة بعد قصي
بنو هاشم من التكتيك إلى الأيديولوجيا
جذور الأيديولوجيا الحنيفية
ظهور النبي المنتظر
Unknown page
العصبية والسياسة
الدولة
الحزب الهاشمي وتأسيس الدولة الإسلامية
الحزب الهاشمي وتأسيس الدولة الإسلامية
دور الحزب الهاشمي والعقيدة الحنفية في التمهيد لقيام دولة العرب الإسلامية (مدخل إلى
قراءة الواقع الاجتماعي لعرب الجاهلية وإفرازاته الأيديولوجية)
تأليف
سيد القمني
تأسيس (1)
«إذا أراد الله إنشاء دولة خلق لها أمثال هؤلاء.» قالها «عبد المطلب بن هاشم» وهو يشير إلى أبنائه وحفدته، فبرغم التفكك القبلي في بيئة البداوة التي عاشتها جزيرة العرب، فإن هناك من استطاع أن يقرأ الظروف الموضوعية لمدينة مكة بوجه خاص، وأن يخرج من قراءته برؤية واضحة؛ هي إمكان قيام وحدة سياسية بين عرب الجزيرة، تكون نواتها ومركزها «مكة» تحديدا، برغم واقع الجزيرة المتشرذم آنذاك.
Unknown page
وكان هناك من هو على رأي عبد المطلب من ذوي النظر الثاقب، والفكر المنهجي المخطط، الذين استطاعوا أن يصلوا إلى النتيجة نفسها بعد قراءة واعية للخريطة السياسية، والظروف الاجتماعية والاقتصادية. لكن الكثرة الغالبة لم تكن مع هذه الرؤى، حتى اليهود الذين كانوا يعيشون بين ظهراني العرب - كعرب - ما خطر لهم هذا التوقع قط، وإنما كانوا يترفعون على سائر العرب، ويفاخرون بأن لهم من الأنبياء عددا وعدة، ومن الأسفار المقدسة كتابا سماوي المصدر. ومن ثم أجاز الأستاذ العقاد لنفسه - وهو رجل متزن ومتوازن - أن يجزم قاطعا: «بأن شأن اليهودية في توضيح هذه الحقائق كان أعظم من كل شأن لها في جزيرة العرب.»
1
وهذه الحقائق التي يعنيها الأستاذ العقاد هي أنه برغم عدم قراءتهم الصحيحة لإفرازات الواقع على الأقل بالنسبة لمكة؛ فإن حكاياتهم عن مغامرات أنبيائهم القدامى، وعن دولتهم الغابرة التي أنشأها الملك النبي داود، وما لحقها من تهويلات ومبالغات، كانت وراء الحلم الذي داعب خيال سراة العرب وأشرافهم؛ حتى بدا لكل منهم طيف زعامته للدولة الموحدة مشرقا في الخيال، تدعمه ما بدأت تشهده الجزيرة في مناطق متعددة من محاولات لتوحيد القبائل سياسيا؛ سواء عن طريق التحالفات الجانبية التي شكلت نويات مرجوة لوحدة أكبر، أو عن طريق إخضاع قبيلة لأخرى، أو التحالفات التي تتفق ومنطق البداوة، والتي كانت تتم بين القبائل المنتمية إلى سلف واحد؛ مما يجعل انتظامها تحت إمرة زعيم واحد أمرا أيسر، خاصة عند حدوث جلل طارئ أو خطر مشترك. ولا ننس المحاولات الأخرى المباشرة التي اتخذت صيغة الملك وصبغته؛ كمحاولة «زهير الجنابي» زعيم قضاعة تمليك نفسه على بكر وتغلب،
2
أو الممالك التي قامت فعلا من زمن سابق لكن في ظروف مختلفة - على حدود الإمبراطوريات الكبرى - مثل: مملكة الحيرة، ومملكة الغساسنة.
لكن بقية الناس - حتى داخل مكة - ممن كانوا يعتبرون أنفسهم عقلاء لم يكونوا مع هذا التفاؤل، ولا مع هذا الجموح في الآمال؛ فهذا «الأسود بن عبد العزى» يقدم الاعتراض البدهي والواضح والمباشر، قائلا: «ألا إن مكة لقاح لا تدين لملك.»
3
وهو اعتراض يستند إلى قراءة أخرى؛ فالعرب - أيا كان الظرف الاجتماعي - لا تقبل بفرد يملك عليهم ويسود؛ لأن معنى ذلك سيادة عشيرة على بقية العشائر، وقبيلة على بقية القبائل، وهو ما تأباه أنفة الكبرياء القبلي وتنفر منه. ولعل هذه القراءة تجد حجتها البالغة في تجربة رجل مثل «النعمان بن المنذر»، الذي ورث الملك أبا عن جد في مملكة الحيرة، ومع ذلك وقف يلقي خطابه أمام كسرى الفرس، وفي حضرة وفود دول عدة، مدافعا عن عروبته بقوله:
فليست أمة من الأمم إلا وجهلت آباءها، وأصولها، وكثيرا من أوائلها، حتى إن أحدهم ليسأل عمن وراء أبيه دنيا، فلا ينسبه ولا يعرفه، وليس أحد من العرب إلا يسمي آباءه أبا فأبا، حاطوا بذلك أحسابهم، وحفظوا به أنسابهم، فلا يدخل رجل في غير قومه، ولا ينتسب إلى غير نسبه، ولا يدعى لغير أبيه ... وأما تحاربهم وأكل بعضهم بعضا، وتركهم الانقياد إلى رجل يسوسهم ويجمعهم، فإنما يفعل ذلك من يفعله من الأمم، إذا أنست من نفسها ضعفا، وتخوفت نهوض عدوها إليها بالزحف. وإنما يكون في المملكة العظيمة أهل بيت واحد، يعرف فضلهم على سائر غيرهم، فيلقون إليهم أمورهم، وينقادون لهم بأزمتهم. وأما العرب فإن ذلك كثير فيهم، حتى لقد حاولوا أن يكونوا ملوكا أجمعين.
4
Unknown page
والخطاب هنا - سواء صحت نسبته للنعمان بن المنذر أو لم تصح - لصاحب رؤية سياسية فذة، حاول أن يوضح - بإيجاز - الظرف الاجتماعي العربي، الذي حال حتى هذا الوقت دون قيام وحدة سياسية كبرى لعرب الجزيرة؛ ذلك الظرف المتمثل في «نظام قبلي»، و«عصبية عشائرية» كانت من لزوم ما يلزم عن شكل المجتمع البدوي غير المستقر، للإبقاء على دوام وجود القبيلة؛ باعتبارها وحدة عسكرية مقاتلة يلزمها التماسك اللزج دوما، والذي كانت مادته اللاصقة: رابطة الدم التي اكتسبت قدسية مفرطة، وهو ما يفسر الشكل الديمقراطي البدائي الذي تمتعت به القبيلة؛ بحيث وقف جميع الأفراد داخلها على قدم وساق، بمساواة تامة، وبمعيار الانتساب لأب واحد، وذلك وحده كان كفيلا بإلغاء أي تمايز، إضافة لظرف آخر دعم هذه المساواة؛ وهو مواجهتهم جميعا لذات المصير دوما، كمقاتلين.
والخطاب يوضح أيضا - بشكل وضاء - الأسباب التي لم تؤد بالنظام البدوي إلى إفراز مؤسسات سياسية (ملكية) متوارثة؛ لأن القبيلة وحدة عسكرية طارئة، و«زعامتها بدورها أمر طارئ» متغير، تبعا لمقتضيات الصراع الناشئ وظروفه؛ تلك المقتضيات التي تحدد سمات الزعيم المطلوب آنيا؛ وعليه فالزعامة كانت تمنح منحا لصاحب القدرات التي تناسب الظرف ومقتضياته، وهي صفات مكتسبة لا تنتقل بالوراثة؛ على حين ينضوي الجميع في الظروف الاعتيادية تحت لواء الأحكم، الأكبر، الأكثر دراية والأكثر قدرة على المنح والعطاء. وفي كلا الحالين «تظل المساواة حاضرة»؛ مما جعل البدوي واعيا تماما لفرديته، مصرا على الاعتداد بنفسه؛ بإسراف تمثله دواوين العرب في الحماسة، والفخر، والاعتزاز بالفرد أو بالقبيلة أو بالنسب.
وفي خطاب «النعمان» دعم آخر لوجهة نظر «الأسود بن عبد العزى»؛ فهو يؤكد أن الأمم إنما تقبل الخضوع لملك فرد في وحدة سياسية، إذا «تخوفت نهوض عدوها إليها بالزحف». وقد أثبت الحجاز - ومكة بالذات - أنه بعيد المنال، ولا يتخوف نهوض عدوه إليه؛ فبينما كانت الممالك العربية قد وقعت تحت الاحتلال أو النفوذ الأجنبي - ففقدت اليمن استقلالها منذ الربع الأول من القرن السادس الميلادي، وسقطت تحت حكم الأحباش ثم الفرس، وفقدت مملكة الحيرة استقلالها وتحولت إلى إمارة يحكمها أمير فارسي، واضطربت أحوال المملكة الغسانية بعد أن قلب لها الرومان ظهر المجن - فإن منطقة الحجاز بمدينتيها الرائدتين «مكة ويثرب»، كانت تتمتع باستقلال نقي، هيأها له وضعها الجغرافي، ووعورة الطريق إليها؛ فكانت هي البيئة العربية الخالصة، البعيدة عن مجال الصراع الدولي، وعن التأثر بالحضارات الأجنبية، بدون أن تفقد التواصل معها. ولم تخضع لحاكم أجنبي، ومع ذلك فلم تكن فيها ممالك بالمعنى الحقيقي، «ولا وحدة سياسية كبيرة تنتظم أمر قبائل الحجاز جميعا»؛ وهذا كله إنما هو دعم حقيقي لرأي «الأسود بن عبد العزى»!
وإزاء كل هذه العوائق الواضحة، والمحبطات السافرة للحلم، وللأمل، وللتوقع، لم يجد الآخرون سوى الاهتداء إلى أنه لا حل سوى أن يكون منشئ الدولة المرتقبة نبيا مثل داود، وعندما وصلوا إلى هذا، فشا الأمر بسرعة هائلة بين العرب؛ حتى اشتد الإرهاص بالنبي المنتظر خلال فترة وجيزة، وآمن هؤلاء بذلك، وأخذوا يسعون للتوطئة للعظيم الآتي، وإن ظلت المشاعر القبلية داخل النفوس التي تهفو للوحدة، وظن كل منهم أن الآتي سيكون منهم، مثل «أمية بن عبد الله الثقفي» الذي راودته نفسه بالنبوة والملك، فقام ينادي:
ألا نبي منا فيخبرنا ما
بعد غايتنا في رأس محيانا؟
لكن العجيب فعلا ألا يمضي من السنين غير قليل، حتى تقوم في جزيرة العرب دولة واحدة، بل دولة قوية ومقتدرة، تطوي تحت جناحيها - وفي زمن قياسي - ممالك الروم والعجم؛ بعد أن أعلن حفيد عبد المطلب بن هاشم: محمد بن عبد الله
صلى الله عليه وسلم ، أنه النبي المنتظر!
تأسيس (2)
يقول الدكتور «أحمد شلبي» في كتابه «السيرة النبوية العطرة»: إن «أهم مصادر الثروة عند العرب ارتبطت بالتجارة، وقد اشتهر العرب في الجاهلية بالتجارة شهرة واسعة؛ حتى قيل: «إن كل عربي تاجر.» وكانت الجزيرة العربية تمثل بحرا واسعا تخترقه قوافل الإبل في شبه مجموعات من السفن، تمخر عباب البحر الفسيح، وقد حلت هذه القوافل محل الملاحة بالبحر الأحمر الذي كانت فيه الملاحة عسيرة ... وكان هناك طريقان رئيسيان للقوافل؛ أحدهما من الشمال إلى الجنوب، وغير بعيد عن البحر الأحمر، وهو في الشمال يتفرع إلى الشمال الشرقي تجاه سوريا، وإلى الجنوب الغربي تجاه فلسطين، وهو في الجنوب يسير شوطا مع ساحل حضرموت. أما الطريق الثاني فهو يخترق الجزيرة العربية من البحر الأحمر إلى الخليج العربي مارا بمكة، ويتفرع في قلب الجزيرة إلى فرعين: يتجه أحدهما إلى الشمال الشرقي فيصل شط العرب، ويتجه الآخر إلى الجنوب الشرقي ويسير مع الخليج العربي مارا بدبي ومسقط وظفار. ولما وقعت اليمن فريسة الاستعمار الحبشي ثم الفارسي، استطاع المستعمرون أن يسيطروا على النشاط البحري الذي انكمش انكماشا ظاهرا، أما النشاط البري داخل الجزيرة، فقد انتقل إلى مكة؛ لأن نفوذ القوى الأجنبية لم يستطع قط أن يمتد إلى قلب الجزيرة.»
Unknown page
1
ثم إن الدكتور «شلبي» يعمد إلى إعادة تفصيل هذه المسألة في موضع آخر من كتابه، فيقول: «إن هؤلاء البدو استطاعوا أن يلعبوا دورا مهما في تجارة العالم، في تلك الأزمان السحيقة ... ولم تكن سفن ذلك العهد تستطيع استعمال البحر الأحمر المملوء بالجزر، التي تجعل الملاحة خطرا عليها، ومن عيوب الملاحة في البحر الأحمر أيضا أن شواطئه قليلة الموانئ، وأن به كثيرا من الشطوط الضحلة، التي كان اقتراب السفن منها أمرا محفوفا بالخطر. ولم تكن السفن تستطيع استعمال الخليج الفارسي؛ بسبب وجود الفرس على ساحله الشمالي، وهم أعداء لسكان حوض البحر المتوسط؛ وعلى هذا «أصبحت المواصلات البرية هي الطريق المهم للتجارة عبر البادية»، بين الشمال والجنوب، وبين الشرق والغرب، وقد حدد البدو أماكن للراحة والاستجمام طوال الطريق، فكانت بمثابة محطات يتزودون منها بالماء والزاد، وكانت أيضا بمثابة مخازن يودعون فيها بعض المتاجر لتلحق بقافلة أخرى عبر طريق آخر.»
2
ويضيف هنا الأستاذ «أحمد أمين» قوله: إن «طريق البحر لم يكن طريقا مأمونا، فالتجأ التجار إلى البر يسلكونه، ولكن طريق البر نفسه كان طويلا وخطرا؛ لذلك أحاطوه بشيء من العناية؛ كأن تخرج التجارة في قوافل، وأن تسير القوافل في أزمنة محددة، وطرق محددة.» ثم يشير إلى تحول هو جد خطير؛ برغم أنه كان ناتجا طبيعيا من تحول مكة من مجرد محطة على الطريق، تأخذ عشورها وضريبتها، إلى حاضرة تجارية تظهر فيها طبقة من التجار تحتكر الأمر لنفسها، فيقول:
ثم انحط اليمنيون ... وحل محلهم في القبض على ناصية التجارة عرب الحجاز، وكان ذلك منذ بداية القرن السادس للميلاد؛ فكان هؤلاء الحجازيون يشترون السلع من اليمنيين والحبشيين، ثم يبيعونها على حسابهم في أسواق الشام ومصر، وقليلا ما كانوا يبيعونها في أسواق فارس؛ لأن التجارة مع الفرس كانت في يد عرب الحيرة. وجعل عرب الحجاز مكة قاعدة لتجارتهم، ووضعوا الطريق تحت حمايتهم.
3
ومصداقا لقول الأستاذ «أحمد أمين» نجد الروايات الإخبارية تجمع على قيام «تبع» ملك اليمن في وقت مبكر بحملة لإخضاع مكة ويثرب، كأهم المحطات التجارية على الطريق.
ويقول «المسعودي»: «وهو الملك السائر من اليمن إلى الحجاز، وكانت له مع الأوس والخزرج حروب، وأراد هدم الكعبة، فمنعه من كان معه من أحبار يهود.»
4
كما تجمع هذه الروايات على عدد آخر من محاولات ملوك حمير التبابعة، لتوسيع نفوذهم وسيطرتهم على الخطوط التجارية في أماكن مختلفة من الجزيرة، ومنها قيام «تبع بن ملكي كرب» بتجريد حملتين: الأولى على طريق التجارة مع الفرس، وقصدت منطقة الحيرة؛ والثانية على طريق الشام مصر، وقصدت الحجاز؛
Unknown page
5
هذا إضافة إلى حملة الفيل المشهورة على مكة. ولعل الصراع الذي نشأ في اليمن بين الديانة اليهودية والديانة المسيحية كان ناتج سعي الرومان للحد من نفوذ اليمن وسيطرته على الشريان التجاري. وعادة ما اتخذ مثل ذلك الصراع أشكالا دينية، وقد بدأ بلا جدال في تحالف الحبشة - كمنافس لليمن - مع الروم، واعتناق المسيحية، من أجل دعم سيطرتهم على الطريق التجاري. ثم ظلت اليمن محلا لاصطراع الروم والفرس، أو اصطراع المسيحية المدعومة من الروم، واليهودية المدعومة من الفرس، «لظروف اقتصادية بحتة»؛ حتى الفتح الإسلامي سنة 628م.
وقد فشلت الحملات جميعها على الحجاز ولم تحقق أغراضها، وما إن أطل القرن السادس على ربعه الأخير، حتى بدأت المنافسة بين مكة ويثرب - أهم محطتين في الحجاز - تبدو أكثر وضوحا. وكان ممكنا أن تصبح يثرب صاحبة شأن خطير في العصر الجاهلي، بحسبانها محطة مرور ضرورية يمر عليها الطريق التجاري القادم من مكة شمالا، لولا دخولها مرحلة تمزق، نتيجة الخلافات الداخلية التي ربما كان سببها تركيبها الهجين؛ فبرغم تجانس السكان - فسكانها من الأوس والخزرج من اليمن وبطون اليهود يعودون إلى أصول يمنية - فإن العامل الديني ووجود اليهود فيها كان لا شك عاملا مؤججا للصراع الداخلي، حتى أشرفت على هلاك كامل أدى بها إلى محاولة سبق لمكة؛ فكادت تقوم بها مملكة على يد «عبد الله بن أبي بن أبي سلول» قبل الهجرة النبوية إليها.
6 «ولم تكن قريش بريئة كل البراءة مما يحدث في يثرب»، وإنما أسفرت عن توجهها بالتحالف مع الأوس ضد الخزرج يومي معبس ومضرس، وهو مما يلقي الضوء على المستقبل القريب؛ «عندما يتحالف أهل يثرب وعلى رأسهم الخزرج مع النبي
صلى الله عليه وسلم
ضد قريش»، ويفسر لنا التحالف الذي سبق ذلك بين عبد المطلب بن هاشم ممثلا لبني هاشم، وبين الخزرج من أهل يثرب.
ومع نهاية القرن السادس الميلادي نجد مكة تقف على الطريق، مالكة لمركز رئاسي لا شك فيه، بعد أن أتاحت لها الظروف الداخلية تجميع التجارة الخارجية في يدها، وأتاحت لها الظروف الخارجية أن تستغل الأوضاع العالمية لصالحها، خاصة الصراع الدولي الهائل بين الروم والفرس في الشمال والجنوب، وهو الأمر الذي أعانها على «القيام بأمر تجارة العالم، والنجاح فيه بكفاية أكسبت أهل مكة ثروة عظيمة»، فحظيت باحترام عربي عام؛ حتى باتت مؤهلة للزعامة، في وقت أخذ فيه العرب يتطلعون إلى منطقة عربية مستقلة تتولى زعامة النهضة العربية وتقودها. أو كما يقول الدكتور «أحمد الشريف»: «أصبحت أهلا لأن تكون موضع النواة في قيام نهضة قومية عربية ، واطمأنت قريش إلى هذا المركز، وعملت على دعمه، وحرصت على دوامه.»
7
الكعبات
هكذا تناثرت - في الوسط الاجتماعي العربي - جماعات البشر على هيئة قبائل متنافرة؛ لا حكم فيها ولا سلطة إلا للعرف القبلي، الذي يختلف بدوره باختلاف القبائل وظروفها. ومع تعدد القبائل تعددت المشيخات وكثر الشيوخ وأبطال الغزو؛ أولئك الذين تحولوا بعد موتهم إلى أسلاف مقدسين، وأقام لهم أخلافهم التماثيل والمحاريب، ليلتمسوا عندهم العون كلما حزبهم أمر أو حل بهم جلل. ومن أجل هؤلاء الصالحين السالفين، أقيمت بيوت العبادة، وشرعت طرق التقرب إلى الأرباب أو الأسلاف (الرب لغة هو سيد الأسرة أو القبيلة، وهو بعلها)؛ ومن ثم تعددت الأرباب بتعدد الأبطال والصالحين الراحلين، و«بتعدد الأرباب تعددت الكعبات»! حيث كانت الكعبة (البناء المكعب) هي الصيغة المعمارية المفضلة لبيوت أرباب الجاهلية، وأحيانا أخرى كانت هذه الكعبات تقام تقديسا للأحجار الغريبة والنادرة؛ مثل الأحجار البركانية أو النيزكية، وكلاهما كان يغلب عليه اللون الأسود نتيجة عوامل الاحتراق. ونظن هذا التقديس ناتجا - إضافة لغرابة شكل الحجر - من كونه قادما من عالم غيبي مجهول؛ فالحجر البركاني مقذوف ناري - من باطن الأرض وما صيغ حوله من أساطير قسمته طبقات ودرجات، واحتسبته عالما لأرواح السالفين المقدسين - كذلك الحجر النيزكي، وربما كان أكثر جلالا لكونه كان يصل الأرض وسط مظاهرة احتفالية سماوية تخلب لب البدوي المبهور؛ فهو يهبط بسرعة فائقة محتكا بغلاف الأرض الغازي، فيشتعل مضيئا ومخلفا وراءه ذيلا هائلا؛ لذلك كان هول رؤيته «في التصور الجاهلي» دافعا لحسبانه ساقطا من بيوت وعرش الآلهة في السماء، حاملا معه ضياء هذا المكان النوراني؛ ومن ثم كان طبيعيا أن يحاط بالتكريم والتبجيل.
Unknown page
ومع كثرة الأحجار القادمة من عند الأسلاف، أو الهابطة من السماء، كثرت أيضا الكعبات. وعن الكعبات ومحجات العرب يقول الباحث «محمود سليم الحوت»: «يجب ألا يخطر على بال أحد أن مكة - وإن ارتفعت مكانتها عن سواها من أماكن العبادة - هي القبلة الوحيدة في الجزيرة؛ فقد كان للعرب كعبات عديدة أخرى تحج إليها في مواسم معينة وغير معينة، تعتر (تذبح ) عندها، وتقدم لها النذور والهدايا، وتطوف بها، ثم ترحل عنها بعد أن تكون قد قامت بجميع المناسك الدينية المطلوبة.»
1
وقد اشتهر من بيوت الآلهة أو الكعبات ما وجدنا ذكره عند الهمداني: «بيت اللات، وكعبة نجران، وكعبة شداد الإيادي، وكعبة غطفان»؛
2
وما ذكره الزبيدي: «بيت ذي الخلصة المعروف بالكعبة اليمانية»؛
3
وما جاء عند ابن الكلبي: «بيت ثقيف»؛
4
إضافة إلى ما أحصاه «جواد علي»: «كعبة ذي الشرى، وكعبة ذي غابة الملقب بالقدس»؛ ومحجات أخرى لآلهة مثل: «اللات، وديان، وصالح، ورضا، ورحيم، و«كعبة مكة»، وبيت العزى قرب عرفات، وبيت مناة»؛
5
Unknown page
هذا مع ما جاء في قول الأستاذ العقاد عن «... البيوت التي تعرف ب «بيوت الله أو البيوت الحرام»، ويقصدها الحجيج في مواسم معلومة تشترك فيها القبائل ... «وكان منها في الجزيرة العربية عدة بيوت مشهورة»، وهي: بيت الأقيصر، وبيت ذي الخلصة، وبيت رضاء، وبيت نجران، وبيت مكة ... وكان بيت الأقيصر في مشارف مقصد القبائل، من قضاعة ولخم وجذام وعاملة، يحجون إليه ويحلقون رءوسهم عنده ... «فالأمر الذي لا يجوز الشك فيه أن البيوت الحرام وجدت في الجزيرة العربية» لأنها كانت لازمة ... وقد اجتمع لبيت مكة من البيوت الحرام ما لم يجمع لبيت آخر في أنحاء الجزيرة؛ لأن مكة كانت ملتقى القوافل؛ بين الجنوب والشمال، وبين الشرق والغرب.»
6
ويفهم من العقاد أن هذه البيوت كانت محرمة ولها أيامها الحرام، لكن بيت مكة بالتحديد أخذ في التمايز؛ لموقع مكة العظيم على طرق القوافل التجارية جميعا، حتى جاء وقت - كما قلنا - أصبحت فيه مكة ملتقى تجارة العالم، وأصبح أهلها أهم تجار الدنيا.
ويمكننا هنا التمييز بين مفهوم العربي الجاهلي لمعنى الألوهية ومعنى الربوبية؛ فالألوهية تعني إلها غير منظور يسكن السماء، ومن هناك يتساقط ملاط بيته الإلهي من آن لآخر، على هيئة أحجار سوداء. في حين أن الربوبية تشير إلى تقديس للأسلاف يتفق حجمه مع أهمية رابطة الدم عند العربي البدوي؛ وعلى هذا النحو عبد النبطيون حجرا أسود يرمز إلى الشمس كإله للسماء،
7
وعبد الهذليون حجرا أسود يرمز لمناة، وكان ذو الشرى حجرا أسود، وكذلك كانت الكعبة المكية إطارا لحجر أسود،
8
كما كانت باقي الكعبات تتسم بذات السمة؛ فهي أطر لأحجار سود. وسميت هذه الكعبات بيوت الله لأن «كل بيت منها فيه حجر من بيت الإله الذي في السماء»؛ تمييزا له عن الأرباب التي لم تكن سوى مجرد تماثيل أو أحجار بركانية توضع في أفنية الكعبات؛ انتفاعا ببركات الأسلاف الصالحين، وتشفعا بهم عند إله السماء.
وواضح لدى أي باحث أن «هذا التفرق العقائدي، وتعدد العبادات والأرباب، قد ساعد بفعالية في زيادة الفرقة القبلية»، بحيث أصبح عائقا دائما ومستمرا في سبيل المحاولات التي قامت من أجل خلق كيانات سياسية في جزيرة العرب. إضافة إلى الطبع القبلي الذي يأنف كبرياؤه وينفر من فكرة سيادة سياسية واحدة - تلك المحاولات التي سبق أن أشرنا إليها - مثل محاولات زهير الكلبي، وعبد الله بن أبي، وكندة، والغساسنة، والمناذرة، وكان الدافع إليها جميعا حلما وأملا أججه الشعور الآتي بإمساك عنان تجارة العالم، ووجود هذا العالم مسترخيا ينزف في حروب طال مداها بين الإمبراطوريات الكبرى.
ولا تفوتنا الإشارة إلى أن مثل هذه المحاولات اتسمت بروح العصبية العربية الخالصة التي تجلت بدءا في اعتناق المناطق العربية الواقعة تحت النفوذ الإمبراطوري؛ أيديولوجيات أو مذهبيات دينية تخالف مذاهب الإمبراطوريات، حتى بلغ الطموح مداه في هجمات عربية متفرقة - لكنها شرسة - كرا وفرا، على حدود الدول العظمى، إلى درجة أن الشعور العربي بلغ أوجه متمثلا في فرح عام بالجزيرة كلها، عندما انكسر الفرس بعظمتهم وجبروتهم أمام حلف عربي صغير لقبائل شيبان وعجل وبكر بن وائل؛ في وقعة ذي قار؛
Unknown page
9
مما دفع بالحلم إلى الخروج من ساحة التمني إلى ساحة التوقع، وربما التحقيق! مرهونا بشرط واحد هو تحالف وتوحد كتوحد العرب في ذي قار؛ ذلك التحالف الذي بدأت تباشيره في شعور عام دفع الوفود القبلية من كل صوب وحدب، إلى أن تحث خطاها بين الفيافي والقفار نحو اليمن؛ لتهنئ معد بن يكرب أو سيف بن ذي يزن بطرده الأحباش، وبعودة الحكم العربي إلى اليمن.
مكة حلم السيادة
وقد لعب جدل السياسة الدولية، وما تبعه من تغيرات هائلة على المستوى الاقتصادي؛ دورا خطيرا لصالح عرب الجزيرة، وخاصة في يثرب ومكة؛ حيث أخذت أوضاع الخط التجاري تضطرب وتتقلب؛ مما أثر على بنية التركيب الاجتماعي في المدينتين، وبخاصة مكة التي تطورت كمحطة مرور على طريق القوافل التجارية، حتى أضحى أهلها في حالة تناقض مع الشكل الاجتماعي البدوي المتفكك وغير المستقر؛ فبدأت تدخل مرحلة تحولات بنيوية واضحة في تركيبها الاجتماعي، وبدأت تضمحل في داخلها التركيبة القبلية، مع إفراز جديد لمواقع سلطة ومؤسسات لم تكن موجودة من قبل، وهو إفراز طبيعي للاستقرار والملكية، وما يتبعه بالضرورة من صراع حول امتلاك وسائل الإنتاج، ثم السلطة السياسية، بعد أن اشتدت الحاجة إلى استقرار أمثل، للقيام على شئون هذا العمل التجاري الهائل، وتقسيم الأدوار حول هذا العمل، ثم الحاجة إلى حراسة وحماية قوافل التجارة التي أصبحت تجارة المكيين أنفسهم، وأموالهم هم، وتوفير جو من الأمن العام، وما يترتب على ذلك من ضرورة إنشاء جيش منظم للقيام بالأمر، كان أهم عناصره وركائزه طبقة العبيد؛ «ومن ثم كان حتميا أن يتطور المجتمع المكي من مجتمع يعيش ديمقراطية ومساواة بدائية، إلى مجتمع متمايز طبقيا».
ويشرح لنا الدكتور «أحمد الشريف» ظروف المجتمع المكي من الداخل؛ فيقول: «غير أن الثروة لم تكن موزعة توزيعا عادلا؛ فقد كانت الهوة بين الأغنياء والفقراء كبيرة من الناحية الاقتصادية ... وكان التفاوت الطبقي موجودا - على الرغم من الإحساس بالقرابة، ووجود علاقات الحلف والولاء، وعلى الرغم من الإحساس النفسي العام بالمساواة - متمثلا في الفروق الواضحة بين طبقة الصرحاء وطبقة الموالي، بالنظر إلى ما كانت تكفله الثروة وشرف البيت لصاحبها، من تأهيل للدخول في مراكز القيادة والزعامة ... وكان العرب يتطلعون إلى مثل جديدة في الأخلاق والاجتماع تساير الطبع العربي.»
1
وعليه فقد تهيأت مكة لإفراز عناصر قيادية عربية، «كما قدرت أحداث الجدل الدائر للكعبة المكية أن تكون الكعبة الأولى والمحج الأقدس دون غيرها من الكعبات»، وساعد على ذلك أسواق مكة المختلفة، ومواسمها المتنوعة التي وضعت لجذب التجار، ثم انتشرت لغة قريش وعاداتها بين القبائل الحالة والمرتحلة، بعد أن حتمت مصالح القرشيين التجارية عليهم اليقظة والاهتمام بما يجري حول جزيرتهم من أحداث، لتأثير هذه الأحداث المباشرة على ما بأيديهم. وكان هذا الوعي دافعا لنزعة قوية من التسامح الديني، ولنضوج ميزهم عمن حولهم من أعراب؛ فاستضافوا في كعبتهم المكية الأرباب المرتحلة برفقة أصحابها التجار، وقاموا بتبني هذه الأرباب تدريجيا، فكان أن تركها أصحابها في كعبة مكة، ليعودوها في مواسمها؛ فكثرت المواسم المكية بالاحتفالات الدينية بالأرباب المختلفة، وكثر أيضا الخير والبركة من التجارة، وكان حتميا أن تهفو قلوب العرب وتجتمع عند كعبة فيها أربابهم ومعاشهم وأمنهم ومرحهم وسمرهم، وأن يضمحل بالتدريج شأن بقية الكعبات التي توارت في الظل، ثم في الزوال حتى طواها النسيان.
وكان موقع مكة الجغرافي بعيدا عن يد البطش الإمبراطوري (فارسية أو رومانية)، إضافة إلى حالة الضعف والانهيار التي أصابت هذه الإمبراطوريات، مع الفشل الذريع الذي منيت به المحاولة اليتيمة من روما لضرب مكة كمركز تجاري قوي بواسطة جيش أبرهة الحبشي في عام الفيل. عوامل مجتمعة ساعدت على صعود النجم المكي واتساع السطوة المكية؛ مما أعطى القرشيين الضوء الأخضر للقيام بالدور التاريخي الذي حتمته الظروف عليهم، خاصة بعد أن تدهورت اليمن مرة أخرى، وأصبحت قاصرة عن القيام بهذا الدور، وانتهت كتابع للدولة الفارسية.
وإن ارتفاع النجم المكي وصعوده بعد حملة الفيل، أمر يحتاج إلى الوقوف معه وقفة سريعة، توضح لنا إلى أي مدى بلغ أمر قريش في نفوس القوم، إلى الحد الذي دفع العرب جميعا إلى رجم قبر أبي رغال؛ دليل الجيش الغازي، وإلى الاعتقاد الواثق برب الكعبة المكية الذي صد عن بيته جيشا ما كان ممكنا أن يصده العرب؛ تلك الثقة التي تجلت في الاعتقاد بأن «جيش أبرهة قد تعرض لهجوم جوي فريد في نوعه»؛ إذ أرسل الله على الجيش طيورا ترميه بالأحجار، وينقل السهيلي عن النقاش: «أن الطير كانت أنيابها كالسباع، وأكفها كأكف الكلاب. وذكر البرقي أن ابن عباس قال : أصغر الحجارة كرأس الإنسان، وكبارها كالإبل.» وهذا الذي ذكره البرقي ذكره ابن إسحق في رواية يونس عنه، وفي تفسير النقاش أن السيل احتمل جثثهم فألقاها في البحر.
2
Unknown page
وبهذا الاعتقاد أرسل «رؤبة بن العجاج» رجزه قائلا:
ومسهم ما مس أصحاب الفيل
ترميهم حجارة من سجيل
ولعب بهم طير أبابيل
فصيروا مثل عصف مأكول
3
ويروي ابن هشام في متن شرح السهيلي للسيرة: ««وكان اسم الفيل محمودا»، فلما وجهوا الفيل إلى مكة أقبل نفيل بن حبيب حتى قام إلى جنب الفيل، ثم أخذ بأذنه فقال: «ابرك يا محمود، أو ارجع راشدا من حيث جئت؛ فإنك في بلد الله الحرام.» ثم أرسل أذنه؛ فبرك الفيل، وخرج نفيل بن حبيب يشتد حتى أصعد الجبل، وضربوا الفيل ليقوم فأبى، فضربوا في رأسه بالطبرزين ليقوم فأبى، فأدخلوا محاجن لهم مراقة فبزغوه بها فأبى، فوجهوه راجعا إلى اليمن فقام يهرول. فأرسل الله عليهم طيرا من البحر أمثال الخطاطيف والبلسان، مع كل طائر منها ثلاثة أحجار يحملها؛ حجر في منقاره، وحجران في رجليه؛ أمثال الحمص والعدس لا تصيب منهم أحدا إلا هلك.»
4
وابن نفيل صاحب هذه الكرامة، تمتد كراماته في التراث لتلحق حفيده «عمر بن زيد بن نفيل» على ما سنرى، وابن نفيل يسجل اعتقاده فيما حدث بقوله:
حمدت الله إذ أبصرت طيرا
Unknown page
وخفت حجارة تلقى علينا
5
وذات الحديث هو أيضا ما دفع «عبد الله بن الزبعرى» ليرسل شعره قائلا:
تنكلوا عن بطن مكة إنها
كانت قديما لا يرام حريمها
لم تخلق الشعرى ليالي حرمت
إذ لا عزيز من الأنام يرومها
سائل أمير الجيش عنها ما رأى
ولسوف ينبي الجاهلين عليمها
ستون ألفا لم يثوبوا أرضهم
Unknown page
ولم يعش بعد الإياب سقيمها
6
أما «عبد المطلب بن هاشم» زعيم قريش آنذاك فقد نصح بعدم التعرض لجيش أبرهة، وبأن يترك مكة أهلها إلى شعاب الجبال، ثم توجه إلى أبرهة مع يعمر بن نفاثة وخويلد بن وائلة، «يعرضون عليه ثلث أموال تهامة» على أن يرجع عنهم فرفض؛
7
فرجع عبد المطلب يناجي ربه:
لاهم إن العبد يم
نع رحله فامنع رحالك
لا يغلبن صليبهم
ومحالهم غدوا محالك
إن كنت تاركهم وقب
Unknown page
لتنا فأمر ما بدا لك
8
أما ابن هشام فيتابع سرد الأحداث قائلا: «وأصيب أبرهة في جسده، وخرجوا به معهم يسقط أنملة أنملة، كلما سقطت أنملة أتبعتها منه مدة تمث قيحا ودما، حتى قدموا به صنعاء، وهو مثل فرخ الطائر، فما مات حتى انصدع صدره عن قلبه فيما يزعمون. قال ابن إسحق: حدثني يعقوب بن عتبة أنه حدث: «إن أول ما رؤيت الحصبة والجدري في أرض العرب ذلك العام.»
9
وهو ما يترك في الجسد مثل الحمص والعدس.» وأما الأستاذ عباس العقاد فكان يبدو على قناعة تامة بدور الجدري في هزيمة جيش الفيل، فيقول مؤكدا جازما قاطعا: «وقد حدث بعد ذلك ما حدث مما لا شك، «وهو فتك الجدري بجنود أبرهة» وانهزامه عن البيت ... إن حديث الجدري الذي فشا سنة 569م مثبت ... في تاريخ بروكوب
الوزير البيزنطي المعروف.»
10
ثم يختم ابن هشام الأمر بإعلان نتيجة حدث الفيل العظيم بقوله: «فلما رد الله الحبشة عن مكة، وأصابهم ما أصابهم من النقمة؛ أعظمت العرب قريشا، وقالوا: «هم أهل الله، قاتل الله عنهم».»
11
أما كيف دخلت مكة هذا الدور، فهو ما سيعود بنا إلى عهد استفاضت في ذكره كتب التراث؛ ذلك العهد الذي استطاعت فيه قريش أن تستولي على مكة قبل زمن الفيل بزمان، تحت قيادة «قصي بن كلاب»؛ ذلك القرشي الذي استطاع بعبقرية من نوع نادر أن يكون في مكة سيدا مطلقا.
Unknown page
قصي بن كلاب
تنبئنا كتب الأخبار أن محاولات السيطرة على مكة مسألة قديمة، تعود في قدمها إلى قبيلة جرهم، وهي من أصل يمني قحطاني؛ وكيف أنه قد اصطرع حول مكة عرب الجنوب القحطاني وعرب الشمال العدناني، فتنتقل من سيادة جرهم إلى سيطرة إياد بن نزار، ليغلبه عليها بعد ذلك مضر، ومن مضر تنتزعها خزاعة اليمنية مرة أخرى، لينتهي بها الأمر إلى الاستقرار في يد قريش؛ في قبضة قصي بن كلاب.
ومن البداية كان واضحا «مدى دهاء قصي ووعيه السياسي»، وإدراكه لما يحدث على المستوى الاجتماعي من جدل وتغير مطرد؛ إبان سعيه العبقري للاستيلاء على السلطة، وانتزاعها لقريش من خزاعة؛ فقام يتودد إلى حليل سيد خزاعة، وأدى الود إلى وداد المصاهرة، فتزوج قصي بنت حليل. وهنا يروي ابن هشام، فيقول: «إنه لما هلك حليل ... رأى قصي أنه أولى بالكعبة وبأمر مكة من خزاعة ... فكلم رجالا من قريش وبني كنانة، ودعاهم إلى إخراج خزاعة من مكة، وبخدعة استطاع أن يشتري من أبي غبشان الخزاعي - وكان عجوزا خرفا - مفاتيح الكعبة، مقابل زق من الخمر وقعود، في ليلة سامرة.» ويقول الحافظ ابن كثير: «فاشترى قصي ولاية البيت منه بزق من الخمر وقعود؛ فكان يقال: أخسر من صفقة أبي غبشان.» ويزيد ابن هشام بقوله: «فكان قصي أول بني كعب بن لؤي أصاب ملكا؛ أطاع له به قومه، فكانت إليه الحجابة والسقاية والرفادة والندوة، فحاز شرف مكة كلها.»
1
ونفهم من كتب التراث أن خزاعة لم تستطع استعادة أمرها على مكة، بعد أن تحالف مع قصي القرشيون والكنانيون وغيرهم، حتى انتهى الأمر بطرد الخزاعيين من مكة، وتولى قصي أمر الكعبة، وبدأ بفرض الضرائب والعشور على القوافل التجارية المارة بمكة مقابل تأمينهم وتأمين السقاية والرفادة لهم. ويقول «المسعودي»: «واستقام أمر قصي، وعشر على من دخل مكة من غير قريش، «وبنى الكعبة»، ورتب قريشا على منازلها في النسب بمكة.»
2
وهو قول يشير إلى تطور في خطط قصي لرفع شأن دولته المكية عن طريق الكعبة واستضافتها أرباب القبائل الأخرى، ثم إن «المسعودي» يربط بين خطط قصي ومعنى التقريش (من قريش) والإيلاف (بمعنى الأمن)؛ وهو أمر يظهر وعيا سياسيا واضحا تمثل بعد استيلائه على السلطة في إيفاد الرسل إلى الممالك على أطراف الجزيرة لإقامة علاقات مع هذه الممالك؛ ليعطي مكة بذلك دور الدولة. وبهدف طمأنة هذه الممالك على تجارتها ليستمر النشاط المار بمكة، فيقول المسعودي: «وأخذت قريش الإيلاف من الملوك، وتفسير ذلك الأمن، وتقرشت، والتقريش الجمع.»
3
في حين يشير ابن كثير إلى منحى ثان في معنى التقريش وقريش ، يظهر بوضوح بداية تكون المجتمع المستقر، مرتبطا بالنشاط الاقتصادي؛ أو التغير في بنية المجتمع المكي مع الاستقرار الملازم لتعاظم دورها لتصبح أهم محطة ترانزيت. ثم كان محتما أن تكون أكثر المحطات أمانا؛ قياسا على ما أفرزه الواقع السياسي العالمي، من انهيار تام لأنظمة حفظ الأمن التجاري على الخطوط الدولية، وما نتج عن ذلك من تراكم الثروة اللازمة لتحولات المجتمع المكي، وذلك بربطه بين معنى القرش، ومعنى الكسب والتقرش؛ فيقول: «وأما اشتقاق قريش؛ فقيل من التقرش وهو التجمع بعد التفرق. وذلك في زمن قصي بن كلاب؛ فإنهم كانوا متفرقين فجمعهم بالحرم، وقد قال حذافة بن غانم العدوي:
أبوكم قصي كان يدعى مجمعا
Unknown page
به جمع الله القبائل من فهر ... وقيل سميت قريش من التقرش، وهو التكسب والتجارة، وحكاه ابن هشام رحمه الله. وقال الجوهري: القرش الكسب والجمع، وقد قرش يقرش ... قال البيهقي: إن معاوية قال لابن عباس: فلم سميت قريش قريشا؟ فقال: لدابة تكون في البحر تكون أعظم دوابه، يقال لها القرش، لا تمر بشيء من الغث والسمين إلا أكلته ... فأنشده شعر الجمحي إذ يقول:
وقريش هي التي تسكن البح
ر بها سميت قريش قريشا
تأكل الغث والسمين ولا تت
رك فيه لذي الجناحين ريشا
هكذا في البلاد هي قريش
يأكلون البلاد أكلا كميشا
ولهم آخر الزمان نبي
يكثر القتل فيهم والخموشا»
4
Unknown page
وكان أبرز مؤسسات قصي السياسية هو دار الندوة التي بناها، والتي ربما كانت ذات الكعبة أو فناءها؛ فكانوا يجتمعون إليه ليقضي بينهم ويدير أمور دولته الصغيرة، ومن بعده كانت قريش تجتمع فيها لتتشاور في حربها وسلمها، ومن هناك تعقد ألويتها؛
5
مما يعني دخول قريش مرحلة متحضرة وشوطا بعيدا، ابتعد بها عن النظام المشيخي القبلي الذي حلت محله دار الندوة، ومثل القبائل فيه كبراؤهم أو «الملأ»، وهو مما سيفرز - بالضرورة - بداية الصراع حول امتلاك وسائل الإنتاج والسلطة السياسية كما سيأتي بيانه؛ فبالندوة ابتعد قصي بقريش وبمكة عن القبلية باتجاه الحضارة، وحل الملأ محل الشيوخ، وحلت الندوة محل الديمقراطية البدوية .
ثم يقول ابن كثير: «فكان قصي أول بني كعب أصاب ملكا، أطاع له به قومه، وكانت إليه الحجابة والسقاية والرفادة والندوة، فحاز شرف مكة كله، وقطع مكة أرباعا بين قومه؛ فأنزل كل قوم من قريش منازلهم من مكة ... فكانت لقصي بن كلاب جميع الرئاسة، من حجابة البيت وسدانته، واللواء، وبنى دارا لإزاحة الظلمات وفصل الخصومات سماها دار الندوة.»
6
ولعله من الواضح أن اللواء أو قيادة الجيش كان الإفراز الأخطر لجدل الأحداث، لبناء جيش قوي يمكنه الوفاء للملوك بالعهود، وتأمين التجارة التي استبدلت ببحر الرمال في الجزيرة، بحار الدنيا بحروبها وويلها.
ولا يغيب عن فطن أن امتلاك قصي السيادة على مكة، قد تم وفق خطة مرسومة ومدروسة ومنظمة؛ قامت على وعي سياسي نافذ هادف نحو غاية، وسائلها هي: الدين؛ ممثلا في الكعبة المكية، حتى قال ابن الأثير: «كان أمر قصي فيهم شرعا متبعا، معرفة منهم لفضله وتيمنا بأمره.»
7
وقال الطبري: «فكان أمره في قومه في حياته وبعد موته كالدين المتبع.»
8
Unknown page
والمال؛ وقد تيسر من عشور التجارة، وتأليف القلوب حوله بالبذل والعطاء كالملوك، من خلال السقاية والرفادة.
وهكذا استطاع أن يجمع بين يديه كل الوظائف الرئيسية والدينية والتشريعية؛ فكان أول سيد مطلق النفوذ في دولته الصغيرة مكة.
الصراع على السلطة بعد قصي
إيمانا منه بفردية الحكم المطلق، وحتى لا تتفرق مكاسبه وتتناثر؛ ترك قصي بن كلاب كل سلطاته ووظائفه وسنته الزكية، لولده البكر عبد الدار، دون أخيه عبد مناف، ورحل إلى عالم الأسلاف، بعد أن أسس لقريش «دولتها الواحدة في مكة». ولكن قصي ما كان يعلم أن الحقد سيتملك قلب عبد مناف على ملك عبد الدار وما حظي به من تشريف؛ فكان أن توارث الأبناء أحقاد الآباء، وقام أبناء العمومة يستعدون القبائل على بعضهم، وتجمع بنو عبد مناف مع مؤيديهم في حلف المطيبين؛ فرد عليهم بنو عبد الدار وحزبهم بحلف الأحلاف، وتجمع الفريقان للقتال من أجل السيادة على مكة. ويشرح ابن كثير الأمر في قوله: «ثم لما كبر قصي؛ فوض أمر هذه الوظائف التي كانت إليه من رئاسات قريش وشرفها؛ من الرفادة والسقاية والحجابة واللواء والندوة، إلى ابنه عبد الدار، وكان أكبر ولده ... فلما انقرضوا تشاجر أبناؤهم في ذلك وقالوا: إنما خصص عبد الدر بذلك ليلحقه بإخوته؛ فنحن نستحق ما كان آباؤنا يستحقونه. وقال بنو عبد الدار: هذا أمر جعله لنا قصي، فنحن أحق به. واختلفوا اختلافا كبيرا، وانقسمت بطون قريش فرقتين؛ فرقة بايعت بني عبد الدار وحالفتهم، وفرقة بايعت بني عبد مناف وحالفوهم على ذلك.»
1
ولعله واضح لمن أصاب خبرة ودربة مع كتب التراث، انحياز هؤلاء الكتاب وأصحاب السير والأخبار الواضح لحزب عبد مناف، فيما وضعوه من تفاسير للأمر والتسميات؛ كما ورد - كمثال - في شرح السيرة الحلبية لما حدث: «فلما مات عبد الدار وأخوه عبد مناف، أراد بنو عبد مناف وهم: هاشم وعبد شمس والمطلب، وهؤلاء إخوة لأب وأم ... ونوفل أخوهم لأبيهم ... أن يأخذوا تلك الوظائف من بني عمهم عبد الدار، وأجمعوا على المحاربة ... وأخرج بنو عبد مناف جفنة مملوءة طيبا فوضعوها لأحلافهم في المسجد عند باب الكعبة، ثم غمس القوم أيديهم فيها، وتعاقدوا هم وحلفاؤهم، ثم مسحوا الكعبة بأيديهم توكيدا على أنفسهم؛ فسموا المطيبين ... فتطيب منها بنو زهرة، وبنو أسد بن عبد العزى، وبنو تميم بن مرة، وبنو الحارث بن فهر، فالمطيبون من قريش خمس قبائل، وتعاقد بنو عبد الدار وأحلافهم، وهم: بنو مخزوم، وبنو سهم، وبنو جمح، وبنو عدي بن كعب، على ألا يتخاذلوا ولا يسلم بعضهم بعضا؛ فسموا الأحلاف لتحالفهم بعد أن أخرجوا جفنة مملوءة دما، من دم جزور نحروها ... وصاروا يضعون أيديهم فيها ويلعقونها؛ فسموا «لعقة الدم».»
2
وكان واضحا أنه برغم هذا الاصطراع، فإن المصلحة الاقتصادية العامة فرضت نفسها على جميع الأطراف؛ فكان الحرص على المصالح التجارية، وما سبق وحققه قصي من هيبة لقريش؛ عاملا جوهريا في حقن الدماء، وانتهى الأمر بالسلام؛ حيث تقاسم أبناء العمومة ألوية الشرف الموروث. حيث نجد «برهان الدين الحلبي» يتابع في سيرته القول: «ثم اصطلحوا على أن تكون السقاية والرفادة والقيادة لبني عبد مناف ، والحجابة واللواء لبني عبد الدار، ودار الندوة بينهم بالاشتراك.»
3
لكن الواضح للمتعامل مع كتبنا الإخبارية أن بني عبد مناف قد علا نجمهم وفشا أمرهم، إلى حد أنهم كانوا هم سفراء الأمان والإيلاف لدول العالم الكبرى حينذاك؛ وهو ما لاحظه الدكتور «أحمد شلبي» وسجله بقوله: «وكان بنو عبد مناف الأربعة يتوجهون إلى الجهات الرئيسية الأربع التي كانت تتجه إليها قريش؛ فكان هاشم يتجه إلى الشام، وعبد شمس إلى الحبشة، والمطلب إلى اليمن، ونوفل (أخوهم غير الشقيق) إلى فارس، وكان تجار قريش يذهبون إلى هذه البلاد في ذمة هؤلاء الإخوة الأربعة، لا يتعرض لهم أحد بسوء.»
Unknown page
4
أما ابن كثير فقد أكد أن بني عبد مناف قد «صارت إليهم الرياسة، وكان يقال لهم المجيرون؛ وذلك لأنهم أخذوا لقومهم قريش الأمان من ملوك الأقاليم، ليدخلوا في التجارات إلى بلادهم.»
5
وقد استقرت ألوية الشرف (القيادة والسقاية والرفادة) المنتزعة من بيت عبد الدار لبيت عبد مناف، في يد هاشم بن عبد مناف بالتحديد دون بقية إخوته؛ لذا فما إن رحل أخوه عبد شمس عن الدنيا حتى ساورت ولده أمية الأطماع في أخذ ما بيد عمه من ألوية الشرف بالقوة، ووقف نوفل مؤقتا على الحياد، وكادت الحرب تقطع صلات الرحم، وتهدر الدم الموصول. ومرة أخرى تفادى القوم الكارثة، فرضوا بالاحتكام إلى كاهن خزاعي؛ فقضى الكاهن بنفي أمية بن عبد شمس عشر سنوات إلى منفى اختياري، ولم يجد أمية بدا من الرضا بحكم ارتضاه؛ فشد رحاله إلى بلاد الشام ليقضي بين أهلها من السنوات عشرا.
6
وهكذا، دارت العداوات حول هاشم؛ عداوة بني عبد الدار، وعداوة بني عبد شمس الذي انضم إلى حزب عبد الدار (ونوفل يقف محايدا)؛ عداوة بني عبد الدار لاعتبار ما بيد هاشم من ألوية شرف هو حق خصهم به جدهم قصي، وعداوة بني عبد شمس لاعتبار أنفسهم شركاء في التشريف الذي ناله هاشم بن عبد مناف.
وكانت السنوات العشر التي قضاها أمية بن عبد شمس في منفاه الشامي رصيدا لبيته الأموي من بعده ؛ فقد ارتبط هناك بأهلها بأواصر السنين والمصاهرة التي كانت لأبنائه ذخرا وعتادا؛ حيث قامت هناك دولة كبرى بعد سنين، يرأسها حفيده معاوية؛ تلك التي عرفتها الدنيا باسم الدولة الأموية. وكان حكم الكاهن الخزاعي مدعاة لفرقة وفجوة بين بيت هاشم وبيت عبد شمس وولده أمية، ورثها الأبناء والحفدة، حتى فيما بعد قيام الدولة الإسلامية؛ حيث استمر الصراع ممثلا في الأمويين (نسبة لأمية بن عبد شمس) والعباسيين (نسبة للعباس بن عبد المطلب بن هاشم، الذي ظلت بيده ألوية الشرف، من سقاية ورفادة بتصريح من النبي
صلى الله عليه وسلم )، أو بين المذهب الشيعي والمذهب السني. ورغم محاولات قريش رأب الصدع مبكرا، بعقد حلف الفضول بين الأطراف المتنازعة، فإن الصدع استمر يغور ويتسع - باستمرار وإصرار - بين أبناء العمومة.
7
بنو هاشم من التكتيك إلى الأيديولوجيا
Unknown page
على الرغم من أن ألوية السيادة المستقرة في بيت عبد الدار قد كفلت له اختصاصات التحكم والقوة، فإن تكتيك هاشم اتجه منحى آخر تمثل في اكتساب القلوب؛ فقام يهشم الثريد لقومه بيديه - لذلك لقب هاشما - ومد بسخائه القاصي والداني، أما اسمه الحقيقي فكان عمرو. يقول ابن كثير: «هاشم واسمه عمرو، سمي هاشما لهشمه الثريد مع اللحم لقومه في سني المحل، كما قال مطرود بن كعب الخزاعي في قصيدته، وقيل للزبعرى والد عبد الله:
عمرو الذي هشم الثريد لقومه
ورجال مكة مسنتون عجاف
سنت إليه الرحلتان كلاهما
سفر الشتاء ورحلة الأصياف
وذلك لأنه أول من سن رحلتي الشتاء والصيف.»
1
وإذا كان هاشم هو أول من سن رحلتي الشتاء والصيف؛ فلا ريب أنه فعل ذلك في الوقت الذي بدأت فيه قريش تتحول من مجرد حارس وقابض للعشور، أو مجرد محطة ترانزيت، إلى بلدة تحتكر التجارة لنفسها، وتتاجر في بضائع الأمم بأموالها. ولنلحظ أن القرآن الكريم يربط بعد ذلك بين هذا العامل الاقتصادي المتمثل في التجارة - وأثر ذلك في التقرش والاستقرار - والعامل الديني؛ في قوله:
لإيلاف قريش * إيلافهم رحلة الشتاء والصيف * فليعبدوا رب هذا البيت * الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف . وحول الفهم نفسه يكتب الدكتور «أحمد شلبي» قوله: «فأصبحت مكة «جمهورية صغيرة تجارية» ... وراجت تجارة مكة، فأخذت قريش توطد مركزها في البلد الحرام؛ فسنت ... رحلتي الشتاء والصيف؛ رحلة الشتاء إلى اليمن، ورحلة الصيف إلى الشام؛ فارتفعت مكانة مكة في الجزيرة، واعتبرت العاصمة المعترف بها، وسمت منزلة سوق عكاظ؛ فأصبح ملتقى الخطباء وقطب الدائرة الفكرية ... وهاشم الجد الثاني للرسول كان سفير قريش لدى الملوك، وقد عقد مع الروم معاهدة تجارية لتذهب تجارة قريش إلى الشام في أمان ومنعة.»
2
Unknown page