لكن جمهور الناس إذ يحيون تلك الأفكار الكبرى حياة عملية، بالفعل أو بالأمل، فهم إنما يحيونها حياة ساكن المدينة الكبيرة لا يعرف منها إلا بيته وقليلا من المنطقة المجاورة؛ ولذلك فقد يكون قليل الحظ مما يعرفه عن تلك الفكرة وما يتخللها من ثنايا وانعطافات، وبالتالي فهو ذو حظ محدود في مدى علمه بحقوقه عند الآخرين، وبواجباته تجاه الآخرين؛ لأن الأفكار الكبرى منطوية - عادة - على حقوق الإنسان وواجبات عليه ، وهكذا يظل إلى أن يظهر رجل «الفكر» في هذا الصدد، فيقوم بما هو شبيه بالكشوف الجغرافية لما كان مجهولا من البر والبحر، أو ما يقوم به رواد الفلك في الكشف عن أجرام السماء.
هذا إذن هو الفكر المجرد وما يستطيع فعله في معالجة المشكلات كما يعانيها الناس في حياتهم العملية الجارية، ونعود بالقارئ إلى النقطة التي كنا مسسناها مسا سريعا قبل أن نستطرد معه في الحديث عن الفكر الفلسفي ودوره في تشكيل الواقع، وكان ذلك عندما ذكرنا له يوم وقعت الواقعة في الخامس من يونيو سنة 1967م، وما أصابنا فيه من ذهول، لكن الشعب الذاهل - بحمد الله - لم يطل الوقوف عند ذهوله، بل سرعان ما نشط بالحركة الواعية لعله يمحو آثار الهزيمة فيسترد كرامته ومكانته، وأخذ كل منا في موقعه يتدبر الأمر ويراجع الحساب، وكان صاحبنا واحدا من هؤلاء، لكنه - كما نعلم عنه - رجل إذا كان الله سبحانه وتعالى قد وهبه شيئا، فذلك هو ميله نحو أن يرتفع بأية مشكلة جزئية تصادفه ويراد لها الحل، إلى درجة من درجات التجريد ليضعها هناك في موضعها من الخريطة العامة، إذ ليس هناك في هذه الحياة بأسرها، بل وفي هذا الكون العظيم بأجمعه، شيء واحد يمكن فهمه مستقلا عن كل ما سواه، وهو إذ يرتفع بمشكلة الهزيمة إلى سماء المجردات، إنما يكون في طريقه إلى البحث عن نقطة البدء الأولى التي ينبغي أن يبدأ منها إصلاح ما فسد من حياتنا كما نراها جارية على أرض الواقع، فمحال أن تصاب الأمة بهزيمة كتلك التي أصابتها، دون أن يكون الخلل قد سرى هنا أو هناك من أجزاء «الآلة الكبرى» التي هي المجتمع الذي نحن أبناؤه وأعضاؤه، فماذا تكون نقطة البدء عند صاحبنا إلا بنية المواطن - كل مواطن على أرضنا - باحثين في تركيبها عن مواضع العلة؟ وكانت الخطوة الأولى على هذا الطريق، هي خطوة تجاوز بها مصرية المصري ليصل إلى عروبة العربي - مصريا وغير مصري على السواء - إذ أقل ما يقال هنا هو أن القضية التي نكبت بالهزيمة قضية عربية في المقام الأول.
وما إن طرح الأمر على هذا النحو، حتى أفرخت المشكلة مشكلات، كل واحدة منها تحيل الباحث على مشكلة سبقتها فأحدثتها، فكم في المصري من «العروبة» وكم في العربي الحاضر من موروث سلفي يسري في تلافيف الدماغ، وكم تلقى من عصره الذي يحيط به؟ واختصارا ما هي حقيقة الصورة التي تنتج لنا من تشريح الشخصية العربية كما هي قائمة اليوم - على الأعم الأغلب - وإلى أي حد تتلاءم هذه الصورة مع ما ينبغي أن يكون، والذي يحدد لنا المثال المتبقي هو صلاحية المشاركة في عصرنا هذا، مشاركة تضمن لنا قدرا معقولا من قوة العلم، وقوة الإنتاج، وقوة السلاح، وقوة المال، إلى آخر هذه القوى التي لا غناء عنها لمن أراد العيش في هذا العصر موفور الكرامة مسموع الكلمة مرهوب الجناب.
إذن فالمطلوب هو البحث عن صورتين: المواطن العربي كما هو الآن بالفعل، ثم المواطن العربي كما نريد له أن يكون، وواضح أنه مطلب يقتضي فيما يقتضيه إلماما كافيا بالتراث العربي لمعرفة ما يجب الإبقاء عليه من مقوماته، وما يجوز الاكتفاء فيه بالدراسة التاريخية على سبيل العناية والرعاية اللتين تلزمان الحاضر بأن يكون على صلة بماضيه، كما يقتضي هذا المطلب أيضا، إلماما كافيا بمقومات عصرنا؛ لنكون على بينة واعية بما يجب علينا إزاءه مشاركة وأخذا وعطاء، وبهذا وضح الهدف الذي في سبيله يسعى صاحبنا خلال المرحلة الأخيرة من حياته الدارسة المتأملة الكاتبة، كما وضحت أمامه بعض شعاب الطريق. لم يكن صاحبنا يريد، في كل مرحلة من مراحل حياته العاملة، أن تكون «الثقافة» حلية يزدان بها المثقف أمام الناس، إذ كان الرأي عنده دائما، هو أن ثقافة المثقف الفرد، كثقافة الأمة مأخوذة في مجموعها، إنما هي أداة يستعان بها على تلوين الحياة العملية بلون يميزها، وعلى تزويد حاملها بحوافز ومعايير، تحفزه إلى القيام بدوره في إقامة الحياة مستخدما معايير ثقافته في التمييز بين ما يجوز وما يجب وما لا يصح، فلقد رسخت في ذاكرته عبارة كان قرأها فيما قرأ للرائد الإسلامي محمد إقبال قالها بمناسبة ما رواه عن أحد كبار الصوفية، من أنه عجب كيف وصل النبي عليه الصلاة والسلام في معراجه إلى سدرة المنتهى، ولم يبق هناك، لينعم بالقرب من النور الإلهي، بدل أن يعود إلى الأرض بوعثائها وظلامها؟ ثم استطرد محمد إقبال ليقول: إن هذا يبين الفرق بين ما آمن بفكرة فآلى على نفسه أن ينشرها في الناس ليعم نعيمها، ومن آمن بفكرة فقصرها على نفسه لينعم بها، ولا عليه بعد ذلك أن يشرك معه الناس في نعيمها، فعلى عواتق الرجال من الصنف الأول يقع عبء تغيير الحياة وتطويرها نحو الأكمل، وأما الصنف الثاني فيحيون حياتهم ويموتون كما يظهر الظل ويختفي.
وهكذا يكون الفرق بين مثقف يتحلى بثقافته فيكفيه ذلك، ومثقف مثالي لا يستقر له بدن على مضجع حتى ينشر بين أبناء المجتمع ما قد رآه صالحا ومصلحا، وأن في هذه التفرقة ما يلقي لنا بعض الضوء على مشكلة فكرية وعملية معا، هي من أهم ما يكابده أبناء هذا العصر بجميع أطرافه، وأعني مشكلة الخيار بين أن نجعل الأولوية للفرد بالنسبة إلى مجتمعه الذي هو مواطن فيه، أو أن نجعل تلك الأولوية للمجتمع، وأما الفرد فوجوده كله مستغرق في كونه جزءا من كل، وقد تبدو هذه المشكلة وكأنها افتراضية ونظرية، لا تترك أثرا على مجرى الحياة العملية، لكنها على عكس ذلك إذ انقسم عصرنا حيالها أقساما تتنازع وتتقاتل من أجلها، فقسم أصر على ألا تبتلع حقوق الفرد في جوف التنين الجبار الذي هو الدولة باعتبارها ممثلة للجميع، وقسم آخر آثر أن يقوي جبروت التنين، حتى لو جاء ذلك على حساب الأفراد المأكولة (تشبيه الدولة الطاغية بوجودها على وجود أفرادها بالتنين - الذي هو وحش خرافي - استخدمه تومس هوبز بل وجعل هذا الاسم عنوانا لكتابه) وبين القسمين تتوسط أقسام صغرى، تتفاوت فيها الظلال بين هذا وذاك، ونحن نقول هنا ، بأن مشكلة الحيرة بين الفردية وشمولية الدولة، قد تجد حلها في «الفردية الاجتماعية» التي تترك الفرد الواحد لضميره، لكنها تميل بهذا الضمير نفسه نحو العمل على ما فيه صالح المجتمع كله، وبهذه المصالحة بين الطرفين أخذ صاحبنا مذهبه، ورؤيته، وأسلوب عمله.
وعلى ضوء هذه المصالحة بين الأطراف المتنازعة، بينما هي في حقيقتها متكاملة لا متناقضة، أخذ ينظر - أول ما ينظر - إلى المذاهب الفلسفية؛ وذلك لأنه بدأ عمله بسؤال طرحه على نفسه: إنه إذا أريد البحث على أكمل مواطن في أمثل مجتمع وجب أن نتبين بادئ ذي بدء ماذا تكون «الفلسفة» التي يبني عليها ما يبني، فقد اختلف رجال الفلسفة في الأساس الذي يقيمون عليه البناء الفكري، برغم اتفاقهم جميعا على أن الغاية من جهدهم المبذول، هي أن يسلطوا مراياهم على الحياة بكل صخبها كما يحياها الناس، ليترجموا صورة الحياة إلى لغة «الفكر المجرد»، على نحو ما يترجمها الموسيقار إلى أنغام، والشاعر إلى كلمات منغومة، والمصور إلى ألوان وخطوط، والمشرع إلى قوانين، وهكذا فهنالك من الفلاسفة من جعل محوره في ترجمته للحياة التي انعكست له صورتها في مرآته، رؤى «العقل»، فمن داخل الدماغ يبدأ الإنسان طريق السفر، خارجا به إلى حيث عالم الأشياء، فهو يعرف ما يعرفه عن العالم في ضوء جهازه العقلي، لكن هنالك من الفلاسفة من يترجمون صورتهم المرآوية ترجمة أخرى، إذ يرون أن نقطة البدء في طريق الرحلة الفكرية من حياة الإنسان هي عالم الأشياء، وعن هذا العالم تنقل العين والأذن وسائر الحواس رسائل إلى الدماغ، وهناك تلقى من أجهزة الإدراك ما يصوغ تلك الرسائل في كيان يوحدها، وهناك من الفلاسفة من يقسم المعرفة التي يكتبها الإنسان قسمين: أحدهما يبدأ من رحلته من الداخل مطلة على العالم والثاني يبدأ رحلته من الأشياء فتنقل إلى الأجهزة الداخلية ما تنقله فتصوغه فكرا، وهكذا، وتأمل صاحبنا هذا كله، فلم يجد فيه ما يغير من وجه الحياة شيئا، وقد لا يكون بين وجهات النظر فرق حقيقي، فوجهة ترى الخارج من نافذة داخلية ، وأخرى ترى الداخل من نافذة خارجية، والواقع يظل هو الواقع، وأجهزة الإدراك تظل هي أجهزة الإدراك.
من هنا اختار صاحبنا لنفسه، وجهة النظر التي تجعل الفكر الفلسفي «منهجا» في تحليل العلم والفكر وما ينتهيان إليه، تحليلا يبين الصحيح من الفاسد، معفية الفيلسوف من التزام موضوع معين، لا تكون الفلسفة فلسفة إلا به؛ لأنه إذا كان الفيلسوف فيما مضى قد اضطلع بالدورين معا، دور العالم ودور الفيلسوف، فقد أصبحت التخصصات العلمية اليوم أرحب أفقا بحيث لم تبق شيئا للفيلسوف، إلا أن يمسك بالميزان النقدي فيميز لمن يهمه الأمر بين الطيب والخبيث، وقد أسلفنا القول في بعض تفصيلات هذه المهمة النقدية، فيما سبق من فصول.
نهاية الطريق «1»
لم يكن قد بقي من أعوام الستينيات إلا عامان، حين اجتمع الرأسان في يوم واحد: رأس السنة الهجرية ورأس السنة الميلادية، وكان اجتماعهما مصدر نشوة متفائلة عند صاحبنا دون أن يقع على سبب واحد يبرر نشوته وتفاؤله، لكن ما أكثر ما يستعصي على الفهم من حالات النفس المتراوحة بين انقباض وانبساط خوف وطمأنينة يأس وأمل وأنه ليسعد الإنسان أن يجد أن أحداث الحياة كما يصادفها قد جاءت لتبين صدق النبوءة التي كانت قدمتها حالة نفسية سابقة، وكأنها جاءته إشارة من الغيب تلوح له بما هو ملاقيه بعد حين: وسر تلك السعادة - فيما يبدو - كان في رغبة الإنسان الشديدة في أن يكون له من شفافية الروح ما يستبق به الواقع قبل وقوعه، حتى ولو تم له ذلك بصورة مبهمة، وليكن ذلك الإنسان من عملية النظر ما يرتفع به إلى الذرى، فهو برغم ذلك يظل ذا فطرة تتطلع أن تكون موهوبة بقبس من نورانية الروح، وأيا ما كان الأمر تفاءل صاحبنا يوم أن التقى رأس السنة الهجرية برأس السنة الميلادية في يوم واحد، لم يكن صاحبنا مطمئن النفس خلال تلك الفترة الزمنية، فلقد اعتاد طوال ما يقرب من أربعين عاما سبقت على أن يبذل من الجهد قدرا يستنفد كل طاقته، فلا يبقى لنفسه من تلك الطاقة مدخرا مرصودا لما قد تفاجئه به الأيام من أعباء، وهو مع ذلك الجهد المبذول يبلغ من نكران الذات حدودا لا يألفها معظم الناس، فمعظم الناس يعطي ليأخذ ولا لوم على أحد في ذلك، بل ربما كان مما يفقد الإنسان شيئا من كرامته عند الناس إذ رأوه يبذل العطاء ولا يتوقع مقابله شيئا يساويه، لكن هكذا خلق، وهكذا جرت عادته أن ينعم بالعمل الذي يجب عمله مستغنيا بذلك النعيم عن أي جزاء آخر، وفي تلك الفترة الزمنية التي نتحدث عنها كان مثقلا بالواجبات: فهو يعد محاضراته الجامعية ويلقيها، وهو يشرف نيابة عن وزارة الثقافة على مجلة الفكر المعاصر مع المشاركة في تحريرها بمقال شهري طويل، يتناول فيه ما يتناوله من الأفكار التي كانت تتناثر في أجوائها خلال الستينيات، فيحللها ليبين لقرائه مدى امتلائها بالمضمون أو خلوها منه، وكان عضوا في لجنتين من لجان المجلس الأعلى لرعاية الفنون والآداب والعلوم الاجتماعية، كما كان يسمى يومئذ (اسمه الآن المجلس الأعلى للثقافة) هما لجنتا الفلسفة والشعر، ولم تكن تلك اللجان في ذلك الحين تجتمع لتسمر، بل كانت تفرض على نفسها أعمالا لا تنتهي، وكان عضوا في لجنة تفرغ الفنانين والأدباء، وعملها هو أن تنتقي من رجال الفن والأدب ما تتوسم فيه ثراء العطاء لو أزيح عن كاهله عبء الوظيفة أو عبء الحاجة، فتوصي بمنحه راتبا مع تفرغه لإبداعه الفني أو الأدبي، وكان عضوا في لجنة المقتنيات الفنية، وعملها زيارة كل ما يقام من معارض الفن لتختار من المعروضات ما توصي الحكومة بشرائه لقيمته الفنية، ولتقوم الدولة بواجبها في مساندة المبدعين، وكان عضوا في لجنة المتاحف، وغير ذلك مما ملأ حياته بالعمل، وهو عمل يراد به المشاركة في خدمة الحياة الثقافية، وبينما هو مغمور بواجباته تلك لا يكاد يفكر لحظة في نفع يأتيه مقابل الاضطلاع بكل جهده بما ينفع العلم والفن والأدب، أثار غضبه أن تتلاحق عليه أحداث «رأى خلالها» كم تخف كفته كلما أقيم للأقدار ميزان.
وعند تلك الغضبة وما صاحبها من صدر يضيق وقلب أثقلته الهموم تلاقى رأس السنة الهجرية مع رأس السنة الميلادية في يوم فاستبشر صاحبنا خيرا، وإذا بذلك اليوم نفسه يحمل إليه برقية من جامعة الكويت تطلب استعارته لفترة، وهداه الله سبحانه إلى المسارعة بالقبول، وهناك في جامعة الكويت وحد الفرصة سانحة لأداء ما كان شديد الرغبة في أدائه، وهو أن يتعقب طريق «العقل» في تراث العرب الأوائل؛ وذلك لأنه كان على يقين من رجحان العقل في كثير جدا مما شغل به السلف من مشكلات تتصل بالحياة الثقافية، وإذا كان ذلك كذلك فلا يبقى علينا إلا أن ندعو المعاصرين من أبناء الأمة العربية إلى مواصلة السير في طريق الآباء، ولا يتحقق ذلك بأن يعيد ابن اليوم ما قاله رجل الأمس، بل يتحقق بأن يأخذ الخلف «وقفة» السلف إزاء ما أشكل عليهم ليقفها الخلف إزاء ما استحدثه له الزمن من مشكلات، ولكن ماذا كانت مشكلات السلف وكيف تناولوها؟ وماذا أصبحت عليه أيامنا نحن من مسائل تتصل بزماننا؟ تتطلب منا النظر والحل؟
Unknown page