ولماذا اشتملت الخطوة العلمية الأولى في مسيرة الفكر الإسلامي، على العناية ب «اللغة» عناية أريد بها أن يقام البحث فيها على أسس علمية دقيقة؟ كان ذلك لأن كتابا كريما قد نزل بدين الإسلام، ولا بد أن تقام على ذلك الكتاب الكريم حضارة إسلامية وثقافة إسلامية، وذلك يستوجب أن يحيط المسلم بلغته إحاطة العلم الدقيق الواضح؛ لكي يتاح له فهم الكتاب الكريم فهما يعول على صحته، ثم لماذا حين أرادت أوروبا أن تنهض من ظلام عصورها الوسطى، قام فيها رجلان يرفعان للناس لواء «اللغة الواضحة» وهما ديكارت في فرنسا، وفرنسيس بيكون في إنجلترا؟ ونسأل للمرة الثالثة «لماذا» كان من أوائل ما صنعه رجال الثورة الفرنسية، في أواخر القرن الثامن عشر، أن أقامت مجمعا للبحوث العلمية، جعلت أحد أقسامه مختصا بما أسموه للمرة الأولى في تاريخ المصطلح الأوروبي «أيديولوجيا» لكنهم قصدوا به معناه الحرفي، وهو «علم الأفكار»؟ وكان علم الأفكار عندهم يهتم أول ما يهتم بدراسة «اللغة» دراسة تهدي إلى طريقة استخدامها على دقة ووضوح، كلما اقتضى الموقف فكرا واضحا ودقيقا.
هذه كلها أمثلة من تاريخ الفكر، تبين لنا كيف كان الانتقال بالفكر من عصر إلى عصر يليه ويتقدم عليه، مشروطا بنظرة جديدة إلى «اللغة» لتجعلها منارة دقة ووضوح، فلم يكن غريبا - إذن - على صاحبنا أن يلتفت هذه اللفتة، بل وأن يسعى إلى لفت الأنظار إليها، ولعل أقوى ما يمهد به إلى هذه اللفتة الجديدة الجادة، هو أن يتبين لنفسه أولا، لكي يبين للناس ثانيا، أن «اللغة» التي يضع فيها المفكر فكره لينقله إلى سواه، هي هي «الفكر» نفسه، وها هنا فلنتمهل قليلا، ولنتأمل قليلا؛ حتى لا تضيع منا هذه الفكرة وأهميتها فيما نحن بصدد الحديث فيه: فالمألوف بين الناس أن ينظروا إلى العبارة اللغوية نظرتهم إلى «وعاء» يملأ بما يملأ به، أو يترك شبه فارغ من مادة تملؤه، أي إن المألوف بيننا هو النظر إلى العبارة اللغوية نظرة تجعلها شيئا آخر غير المعنى الذي جاءت لتؤديه، لكن اللفتة الجديدة التي نلفت الأنظار إليها، تمهيدا للوضوح الفكري الذي نبتغيه، هي أن العبارة اللغوية هي نفسها الفكرة، إذا غابت معها الفكرة، وإذا اضطرب نظمها اضطرب معه معناها، وليس هذا القول جديدا كل الجدة حتى على أبناء اللغة العربية والفكر العربي، فقد كانت النتيجة التي انتهى إليها عبد القاهر الجرجاني من بحثه عن أسرار البلاغة - وتذكر أن هدفه من بحثه كان آخر الأمر كشفه عن بلاغة القرآن الكريم ما سرها؟ - أقول: إن النتيجة النهائية التي انتهى إليها عبد القاهر الجرجاني من كتابيه «أسرار البلاغة، وإعجاز القرآن» هي أن السر كامن في الطريقة التي ترتب بها مفردات الجملة، وهكذا تكون الحال كذلك لو سألنا: ما سر الوضوح في عالم الفكر؟ كان الجواب أنه في الطريقة التي تساق بها الكلمات.
ولقد عاد صاحبنا وقلبه ينبض بالحنين، وعقله متوثب بعزم وتصميم، أن يجعل الدعوة إلى الفكر ووضوحه غاية غاياته ...
مطالع النور «1»
ما أكثر ما تكون الحقيقة الضائعة ماثلة بين يديك ولا تراها، لا عن علة في البصر، ولكن لأنك لم تعرف كيف توجه البصر توجيها سديدا، ومن أوضح الأمثلة على ذلك - فيما يروي صاحبنا نقلا عن خبرته المباشرة - أن ترى جماعة من الناس تفرقت مذاهب وأحزابا على وهم من الأطراف المتحركة بأن ثمة بينها خلافا في الرأي، وإذا بنظرة مفاجئة كاشفة، تبين للمختلفين بأن كل ما اختلفوا به بعض عن بعض، هو الصورة اللغوية التي اختارها كل منهم ليصف بها رؤيته، أو هو أن كلا منهم وقعت عينه على ناحية واحدة من نواحي الموضوع المختلف عليه، وبذلك تصبح حقيقة الأمر هي أن تجمع زوايا النظر بعضها إلى بعض، فإذا بحاصل جمعها هو الحقيقة المنشودة، أي إن الأطراف التي كانت متنازعة على ظن منها بأنها أطراف تتعارض ولا تتلاقى، إنما هي أجزاء متفرقة من كيان واحد، وحكاية جماعة العميان والفيل معروفة، فقد أرادوا معرفة الفيل بلمسات الأيدي، وحدث أن لمسه كل منهم عند موضع واحد من جسمه الكبير، فاختلفت صورة الفيل بينهم بمقدار ما اختلفت مواضع اللمسات، فكان الفيل عند أحدهم قرصا مستديرا، وعند الثاني جسما أسطواني الشكل، وعند الثالث سطحا خشنا مقوسا، وعند الرابع عمودا ضخما غليظا، وهكذا، فمن ذا ينبئهم بأن الفيل على حقيقته هو مجموعة الأجزاء سوى مبصر يرى الحقيقة في تكامل أجزائها.
أمثلة ذلك في حياة الفكر كثيرة، يهمنا منها في سياق حديثنا هذا، ما رواه صاحبنا عن نفسه في لحظة مشرقة، حين أدار الفكر فيما يتقسم عصرنا من مذاهب فلسفية تتصارع، وقد وجد نفسه متحصنا بمذهب منها، وضللته الأوهام حينا من دهره كما ضللت سواه، ولو كان الخلاف بين تلك المذاهب المتصارعة مقصورا على أصحابها هناك في الغرب لجاز أن نلوي شفاهنا ونهز أكتافنا، قائلين إن الشأن ليس شأننا، لكننا هنا على أرض الوطن قد تحولنا بقدرة قادر إلى مرايا، لكل مرآة منها ما تعكسه على سطحها من تلك المذاهب المتنازعة، ولم تقنع مزايانا الفكرية بأن تعكس أضواء سوانا، بل أخذت بدورها تعترك ليهشم بعضها بعضا، وهكذا أخلصت كل مرآة لما عكست.
وفي تلك اللحظة المشرقة التي أشار إليها صاحبنا، سأل نفسه سؤالا تمليه البديهة، قائلا: كيف يمكن للعصر الواحد أن يتجزأ بين رؤى بينها كل هذا الاختلاف المزعوم؟ إن جوهر العصر التاريخي المعين، الذي بفضله يصبح العصر عصرا متميزا مما سبقه وما سوف يعقبه، هو تلك «الرؤية» الخاصة التي توحدها بين فئات الناس وأفرادهم غاية مشتركة تستقطب أوجه النشاط على تفرقها، فكيف إذن نخلع على عصرنا هذا صفة العصر وهو على هذا الذي نظنه فيه من تمزق الرؤى تمزقا لا يجمعها على هدف مشترك؟ وهنا أشرق على صاحبنا السؤال: أحقا تتباين المذاهب الفكرية في عصرنا كل هذا التباين الذي توهمناه؟
تعالوا نراجع معا حقيقة الموقف الفكري كما هو قائم بالفعل في عصرنا، ولكي نتفق جميعا على أساس نقيم عليه هذه المراجعة، سنفرض صحة الأساس الذي أقام عليه صاحبنا وجهة نظره، في هذه المسألة الفكرية التي نحن الآن بصدد الحديث عنها، ألا وهي: أن الحياة الفكرية في أي عصر تظهر على حقيقتها فيما قد أفرزه ذلك العصر من فكر فلسفي على وجه التحديد، لماذا؟ لأن الفلسفة بمعناها الصحيح، وهو المعنى الذي يؤيده تاريخها، إذ هو المعنى الذي نراه متمثلا في أعمال أولئك الذين وصفوا بهذه الصفة، وأبقى عليهم الزمن موصوفين بهذه الصفة، أشارت إليهم المؤلفات على أنهم «فلاسفة» وأشارت إلى أقوالهم على أنها «فلسفة»، فلكي نكشف عن السمات الفكرية التي تميز عصرنا، فما علينا - بناء على الأساس الذي ذكرناه - سوى أن ننظر لنرى أهم المذاهب الفلسفية التي تستوعب عصرنا الحاضر، متمثلا في صانعيه وهم أهل الغرب، ولا يغير من هذه الحقيقة أن تكون هنالك أمم وشعوب، رافضة للعصر وحضارته وثقافته وداعية أبناءها إلى العودة لما كان عليه أسلافهم في ماضيهم المجيد، لكن هؤلاء بكل مالهم من حق في اختيار الجهة التي يوجهون إليها خطواتهم، فهم في الوقت نفسه ليسوا هم هذا «العصر» بحكم رفضهم له، وإدارة ظهورهم لمقوماته؛ كي يتوجهوا بوجوههم نحو الفترة الزمنية التي اختاروها وهي الماضي.
أما عن المذاهب الفلسفية التي تتقسم فيما بينها شعوب الغرب من أهل أوروبا وأمريكا الشمالية، فالأساس منها أربعة، جاء تقسيمها مطابقا على وجه التقريب، للرقعة الجغرافية التي يقع فيها كل من تلك المذاهب الأربعة، ففي الشمال الغربي من أوروبا تسود الرغبة في تحليل العلم إلى أبسط وحداته المنطقية، التي من تركيباتها تتكون العلوم المختلفة، وفي غربي أوروبا تسود الرغبة في أن يتجه الفكر الفلسفي نحو ما ينبغي أن يكون جوهرا للإنسان، وهو أن يكون كائنا مريدا وفعالا لما يريد، مع تبعة أخلاقية يلتزمها الإنسان فيما أراد وفعل، وفي شرقي أوروبا تسود رغبة في أن تكون الحياة الإنسانية مدار التفكير، إلا أنها الحياة الإنسانية في صورتها المجتمعية، وليس في صورتها الفردية كما هي الحال في غربي أوروبا، وفي أمريكا الشمالية تسود الرغبة في أن يتجه الاهتمام نحو المستقبلية، وبذلك يختلف العلم الصحيح عن العلم المغلوط، في أن الأول هو ما يمهد الطريق إلى مستقبل أغنى وأقوى، وأما المغلوط فهو يرد معايير صوابه إلى حقائق مضت وانقضى زمانها، تلك هي المتجهات الأربعة على وجه التعميم والتقريب، وليس على وجه القطع والتحديد، وإلا فلا يخلو قط أن تجد هنا وهناك فروعا لها قيمة كبرى، ولأصحابها منزلة رفيعة، إلا أنها ليست هي ما يعطي العصر ملامحه وقسماته.
وسؤالنا إزاء هذه الأقسام هو: أهي حقا - كما يبدو من ظاهرها - أضداد لا تلتقي؟ بحيث إذا وصفنا مجتمعا ما بأحد هذه الأقسام، فلم يعد يجوز لنا أن نصفه بما يوصف به أي قسم من الأقسام الأخرى؟ أم هي في حقيقة أمرها «زوايا» مختلفة للنظر بمعنى أن كل مذهب منها قد اختار وجها واحدا من وجوه العصر، مؤثرا إياه على سائر الوجوه في أحقية الاهتمام والنظر، وإذا صدق هذا الرأي كان عصرنا هو كل تلك الزوايا جميعا، وكان علينا عندئذ البحث عن الحقيقة الأساسية التي تكمن وراءها، ولم يكن صاحبنا يشك لحظة في أن عصرنا هو مجموع وجهات النظر الأربع معا، وأراد ذات يوم أن يوضح هذا الرأي لمن أنكره عليه، فأشار له إلى «سجادة» فرشت على أرض الغرفة، قائلا له: إننا نستوعب القول عن هذه «السجادة» استيعابا كاملا، إذا نحن استوفينا الإجابة عن أسئلة أربعة عنها فنسأل عمن صنعها وكيف صنعها؟ ثم نسأل ثانيا لأي شيء صنعها صانعها بالطريقة التي صنعها بها؟ ثم نسأل ثالثا عن نوع المادة التي صنعت منها ماذا عسى أن تكون؟ ثم نسأل رابعا عن الصفة الأساسية بين صفاتها التي بررت لنا أن نقرر بأنها «سجادة» لها حق الوجود في عالم الأشياء على هذا الأساس ، فلا هي خرقة من القماش ولا هي قطعة من الخيش.
Unknown page