تلجلج أحمد كثيرا وهو يقول: صباح الخير. - وحدك؟
وتلجلج ثانية كثيرا وهو يقول: وحدي. - أتريد شيئا؟ - لا شكرا. - أي خدمة؟ - شكرا. - أنت خجلان؟ - لا، لا أبدا. - اسمك؟ - أحمد. - أحمد فقط؟ - أحمد شحاتة. - وأنا سميحة. - سميحة؟ - سميحة إبراهيم، جارتك. - في البيت المجاور؟ - لا، في هذا البيت نفسه. - أهلا وسهلا.
وأنسى، أنسى حين حاولت سميحة أن تقيم بيني وبينها صلة، تركت الحجرة والسطوح إلى حجرة أخرى على سطوح آخر.
وأنسى أن أبي باع الفدان ونصف الفدان جميعه، وباع الجاموسة وباع العجلة التي اشتراها بعد الجاموسة، وباع البيت الذي ورثه عن أبيه واستأجر بيتا آخر، أنسى كل هذا ولا أنسى أنني أعيش فقط لأسمع الخبر الذي ينتظرني الآن، الذي أنتظره أنا؛ الخبر الذي قامت من أجله حياتي جميعا، نعم أنا هنا أمام الكلية منذ الرابعة من الصباح، ولولا خجلي من الفراشين والدكاترة لبت ليلتي هذه أمام باب الكلية، أنا هنا منذ الرابعة لا أجد ما أفعله في ليلتي هذه أمام باب الكلية إلا أن ظل رانيا إلى الباب الذي سأعرف منه الخبر، الساعة الآن جاوزت الواحدة من الظهر. - مبروك يا أحمد، مبروك يا دكتور أحمد، مبروك يا أحمد.
ولم يجب أحمد أحدا من زملائه، وإنما خرج من باب الكلية صامتا جامدا، وظل سائرا وكأنه حجر يتحرك، ووجد نفسه على كوبري قصر النيل، وفي هدوء ألقى بنفسه إلى الماء، وكان يعلم أنه نسي في حياته التي كرسها لأمله أن يتعلم العوم.
نوع من الحب
لم تكن تتصور أنه سيصيب هذا النجاح الذي أصابه، وإلا لمنعته أن يتخذ هذه الخطوة؛ فهي لا تتصور أن يعيش معها وهو غير محتاج إليها، ولا يتصور أن يكون غنيا بدونها، ولا تدري ماذا تقول له، إنه كان يعتب عليها كلما أنبأها عن نجاح له فتستقبل النبأ بفتور وعدم اهتمام.
كان يضيق بهذا، ولكنها لم تكن تستطيع أن تتصور أنه قادر على النجاح بدونها، إنها لا تطيق أن يمدحه أحد أمامها، لا تطيق أن ترى له نجاحا إلا في إرضائها، لقد أخطأت الطبيعة تكوين بيتهما، كانت تريده زوجا غنيا خاملا أو فقيرا خاملا يعيش بما تهب له هي من أموال وليس له حياة إلا حياتها، وليس له مورد إلا يديها، وتصنعه هي على يديها، تشكله كما تشاء، ولم يكن في بادئ أمره إلا هكذا، وماذا ينتظر من فتى في الثلاثين من عمره لم يحصل على شهادة وإنما وقف بتعليمه عند المراحل الأولى من التعليم، ثم خرج يحمل إلى الحياة كمنجة يعزف عليها، ويهب لها كل حياته، وظل يعزف ولا يسمعه أحد، وحيد هو وكمنجته بلا معجبين ولا حتى مستمعين، ولكنه واثق بنفسه تلك الثقة التي يستطيع بها أبناء الفن أن يشقوا طريقهم إلى الحياة أو إلى الموت.
وكان يذهب إلى الفرق يعرض نفسه عليها فيلتقي هناك بالهزء والسخرية، كان أضحوكة أبناء الفن، انقطع عن هذه الفرق وذهب إلى رجل قدير من أبناء الصنعة، وانقطع له، وتعلم عنه كل ما يعلمه، وظن أن علمه في هذه المرة سوف يحميه من سخرية الساخرين.
ولكن السخرية استقبلته مرة أخرى، ولعلها كانت أشد مرارة وأعمق إيلاما .
Unknown page