ولكني سعيد
معقول
لا تدري
في الطريق ولن أعود
أختي وأنا
حين يميل الميزان
قصة صيف
مزق هذا الخطاب
قصاصات
حلم العمر
نوع من الحب
لا، لا تعودي
ثمن المشروب
ولكني سعيد
معقول
لا تدري
في الطريق ولن أعود
أختي وأنا
حين يميل الميزان
قصة صيف
مزق هذا الخطاب
قصاصات
حلم العمر
نوع من الحب
لا، لا تعودي
ثمن المشروب
حين يميل الميزان
حين يميل الميزان
تأليف
ثروت أباظة
ولكني سعيد
القطار عنيف الاهتزاز شديد القذارة، لم أجد غيره ليقلني من الزقازيق إلى بنها لآخذ قطارا آخر إلى الإسكندرية، وكنت خليقا أن أضيق بالقذارة الشديدة التي تضفيها المصلحة على القطار، وكنت جديرا أن أزداد ضيقا بالمحطات الكثيرة المتلاحقة التي يقف بها القطار، وكنت خليقا أن أضيق بالمشوار جميعه، فما كان حبيبا إلى نفسي أن أذهب إلى الزقازيق في نفس اليوم الذي لا بد فيه أن أعود إلى الإسكندرية؛ فإني أحب حين أذهب إلى البلد أن ألغي الزمن فلا أنظر في الساعة إلا عند اليقظة أو عند النوم، وأنا في مشواري هذا لم أطعم نوما؛ وبالتالي لم تكن هناك يقظة، ولم تكن الأشياء التي تلقيتها في البلدة سعيدة، ومن أين تأتيها السعادة؛ الدودة تلتهم أشجار القطن، والمحصول لا يبشر بخير، والناس لا تستطيع أن تدفع ما عليها، والحالة المالية تزداد ضيقا؛ ولكني سعيد.
وقبل أن أسافر لقيت صديقا ظل معي حتى ركبت القطار، وقد ظل يحدثني ما يقرب من نصف الساعة، فقص علي ما يشقى به من ضيق العيش وكثرة العيال، فحملني من الأحزان ما أنا عنه في غنى؛ ولكني سعيد.
والعقد الذي كان من المفروض أن أوقعه لأكسب منه مالا، لم يعد في الإمكان توقيعه، وطار ما كنت أتوقع من مبالغ، وأصبحت الأشهر القادمة شهورا يخيم عليها القلق والذعر والمصير المجهول، ولكني سعيد. كيف تملأ نفسي هذه السعادة والقلق يهددني؟ ما هي حقيقة السعادة؟ أليست هي شعوري بها، ولا يهم من بعد إن كانت تقوم على أسباب منطقية أو لا تقوم؛ المهم هو شعوري أنا بالسعادة، وعبث بعد ذلك كل شيء، كل شيء؟
ذلك الرجل لماذا يصر على أن يعرف الغد؛ كان غنيا واسع الغنى، وكان يستطيع أن يصنع بماله الغد الذي يريد، ولكنه لم يكن يريد شيئا في الحياة إلا أن يعرف الغد؛ كلما سمع عن رجل يكشف مغاليق الغيب تعقبه حيثما يكون؛ ويقول المطلع على الغيب، ويسمع المشوق إلى الغيب.
وحين يعود إلى الحياة يمضي أيامه في انتظار ما قاله المنجم، فما أسرع ما تكذبه الأيام، ويعود الشاب إلى البحث وتعود الحياة إلى تكذيب المنجمين.
سمع أن في الهند رجلا لا يخطئ طريقه إلى الغيب، يراه كأنما هو جزء من ماضيه، والرغبة مجنونة، والمال كثير؛ وسافر الشاب إلى الهند؛ بلد الروحانيات والأديان وإذلال الجسد وشموخ الروح، وما أسرع ما عثر على الرجل! - شاب أنت غني! - لا يقصد إليك من آخر الأرض إلا شاب وغني، لا بد أن تسعفه الصحة ويسعفه المال حتى يصل إليك. - بحثت عن الغيب طوال حياتك. - ولا جديد في هذا أيضا. إن قدومي إليك وحده يستطيع أن يوحي إليك بهذا. - لم تعرف الغيب؟ - لو كنت عرفته ما جئت. - أمصر أنت أن تعرفه؟ - أتريد دليلا على إصراري أكبر من وجودي أمامك الآن؟ - إذن فاسمع؛ إنك ستتزوج فور عودتك من هنا فتاة تعرفها من سنوات، وستنجب أربعة أولاد ليس بينهم إناث، وستنمو ثروتك بشكل خيالي، أنت تعمل في أعمال كثيرة ستنجح فيها جميعا، أنا لم أر في حياتي مستقبلا كمستقبلك؛ إن طريقك جميعه مفروش برغباتك، إنما عليك أن تأمر فيطيع الدهر، لست أدري ما حرصك على أن تعرف مستقبلك؟! إنما يبحث عن المستقبل من يسود القلق حياتهم، أي قلق يعتريك؟ - لا قلق. - فلماذا تبحث عن الغيب؟ - أريد أن أعرفه. - أعرفته الآن؟ - لقد قلت ما رأيته. - وماذا تريد بعد؟ - أن يتحقق ما تقول. - سيتحقق. - أرجو. - سيتحقق.
وعاد الشاب إلى بلاده.
عجيب، أي جديد يجده في السكرتيرة؟ إنها هي هي لم تتغير ولكنها مع ذلك تغيرت تغيرا تاما؛ فقد أصبح ينظر إليها نظرات جديدة، إنها تتمثل أمام عينيه امرأة، وكانت تتمثل أمام عينيه سكرتيرة، أيكون ذلك الرجل الهندي قد أوحى إلي أن أتزوج؛ فأنا أتزوج ولا أحاول أن أتعب نفسي في البحث فهي معي، أيكون الأمر كذلك؟ ولكن أهو أول منجم رأى المستقبل له؟ واحدة من اثنتين: إما أن أكون واقعا تحت تأثير المنجم، وإما أن يكون المنجم صادقا فيما قال. - إن فيك شيئا جديدا. - بل لا جديد. - فلا بد أن في شيئا جديدا. - أنا لا أراه. - نظرتي إليك. - هل تغيرت؟ - إني أحبك. - هذا جديد لا شك.
وكان الزواج.
وراحت أعمال الشاب تزدهر بشكل لم يسبق له مثيل، وسارت الأيام تخدم ما يهفو إليه، ونجح في أعماله، وبلغ من المناصب ما لم يحلم به.
وراح يقول في نفسه: كل هذا يمكن أن يتحقق دون أن يكون الرجل صادقا؛ فأنا غني، ويمكن أن تنجح أعمالي، ويمكن أن أصل من المناصب إلى أرفعها شأنا وأعلاها منزلة؛ كل هذا ممكن، ممكن.
وبدأت الزوجة تهب له الأطفال، كان الأول طفلا والثاني طفلا؛ إذن فالرجل صادق، إذن فأنا أعرف مستقبلي جميعه، أي لذة للحياة بعد؟ لا أريد هذه الحياة، لا، لا أريدها، سأرزق بطفلين آخرين، ويستمر نجاحي إلى أن أموت، كم هي سخيفة هذه الحياة! أم تراني أنا السخيف لأني لم أرض الحياة لغزا مستخفيا فرحت أستبق المستقبل قبل أن يجيء، وأشق الغيب عن أسراره حتى أعرفها، ثم ماذا بعد؟ حياة قاتلة راكدة ميتة، ولدان آخران سيأتيان، ويرث الجميع ثروتي.
ولكن.
وماذا؟
وكيف؟
ولماذا؟
حتى أجدد هذه الحياة، حياتي.
حتى أحطم هذا الذي قاله المنجم، أيظن أنه عرف الغيب حقيقة؟ إنه لا يستطيع، لا يستطيع.
إنه لا يعرف هذا الذي انتويت أن أفعله، وسأفعله، لا شيء يردني عما أريد، كلما فكرت، كما ازددت عزما.
لا بد، لا بد.
وفي الصباح وجدوا جثة الشاب الغني الناجح الذي عرف مستقبله هامدة على سرير من حرير، ومن ريش النعام.
ما الذي جعلني أذكر هذا؟ دعني أرجع إلى ما كنت أقوله قبل أن أبدأ هذه القصة؛ كنت أقول إنني سعيد، وكنت لا أعرف لماذا أنا سعيد، يبدو أنني أعرف الآن لماذا أنا سعيد.
معقول
الحر الشديد، الشديد، يذيب الصخر ويطمس مرآة الحياة، أبخرة متصاعدة من الأرض وكأنما هي موضوعة على مراجل من نار جهنم، والناس يسيرون في الطريق وأعباؤهم على وجوههم تقطيب وألم وضيق ويأس، الأرض تذوب تحت أقدامهم، وينتزعونها من الحياة انتزاعا ويقتلعونها من الزمن اقتلاعا بالجهد الشديد، والحر الشديد، شديد.
مسكين هذا السائر، إنه موظف في الوزارة، لا أعرفه، ولكنه دائما يسير معي في الطريق، ودائما يحمل هذا الكيس في يده اليمنى، وقرطاسا صغيرا من البلح أو الجوافة في اليد اليسرى. مسكين، إنه لا يحتمل هذا الذي يحدث له، لقد التصق حذاؤه المتهرئ بالأرض فانخلع ووجد جوربه يغوص في الخطوة التالية في أتون الزفت. إننا الآن لسنا في موسم البلح أو الجوافة فما هذا الذي بيده؟ عجيب أمر هذا المسكين، إنه لم يطق أن يسير في الطريق بدون أن يشغل يده اليسرى. إنها جريدة الصباح يمسك بها كما يمسك بالقرطاس، ولا يحاول حتى أن يجعل منها وقاء لرأسه من هذا الحر الشديد، الشديد، إنه يمسك بالجريدة بصورة رأسية ويحاول دائما أن يجعلها مستقيمة كأنما يخشى على الكلام الذي فيها أن يندلق على الأرض. ماذا يفعل إذن في هذه المشكلة التي انشقت عنها الأرض الذائبة، ها هو ذا يتلفت حوله يبحث عمن يعينه. ليتلفت ما يشاء، لدي ما يكفيني، أين أضع هذه البطيخة والعيش؟ لو أن الأرض مستها وتركت عليها جزءا من زفتها لجعلت زوجتي حياتي كلها زفتا، ما الذي جعلها مسعورة كما هي الآن؟ دائما أسأل هذا السؤال وكأني لا أعرف الجواب، ولكني أحب دائما أن أذكر الأيام الأولى في زواجنا، بعيدة هذه الأيام، بعيدة، مضت عليها سنوات وسنوات وسنوات، لماذا لم أنسها؟ كيف لم تستطع أعمالها في هذه السنوات أن تنسيني ما كنت عليه في أيامنا الأولى؟ هل كنت سعيدا في هذه الأيام حقا، إذن فما لي أذكرها؟
الرجل يتمايل على قدم واحدة، لقد يئس أن يجد من يعينه، لقد لجأ إلى نفسه، وهل يستطيع إلا أن يلجأ إلى نفسه، استدار على قدم واحدة والجريدة في يده ما تزال وإن كانت تتخلج توشك أن تندلق، يحاول أن يدير حذاءه فيتمكن من إدخال قدمه فيه، استدار الحذاء ولكنه ابتعد، الرجل يتلفت مرة أخرى، لا سبيل لك يا أخي، لا سبيل، كل له شأن يغنيه، ليس لك إلا أنت. قفز الرجل كالأطفال الذين يلعبون «الأولى» وأخيرا استطاع أن يضع قدمه في الحذاء ويواجه طريقه ويده اليمنى تحمل كيسا ويده اليسرى تشهر الجريدة يحاذر على الكلام فيها أن يندلق. كلنا نسير، وكلنا نخاف الطريق، وكلنا يحاذر على ما في يده وإن كانت اليد لا تحمل شيئا، وهل أستطيع ألا أحمل شيئا، لو أنني دخلت إلى زوجتي بلا شيء في يدي جعلت يومي أسود من هذا الزفت الذي يجاذبني حذائي، والغريب أنني لو دخلت إليها ومعي شيء قالت في لهجتها المعهودة الملتوية: «يما جاب الغراب لامه!» ولكنها على كل حال تقول أكثر من هذا. كيف أصبحت نبوية على هذا القدر من سلاطة اللسان والجبروت والوقاحة؟ كل يوم أسأل نفسي هذا السؤال وأجيب عليه ثم أعود إلى السؤال والإجابة، وما لي لا أفعل، وماذا يمكن أن أفعل والطريق ما زال أمامي طويلا والحر شديد؟ شديد. إن الست زنوبة منذ جاورتنا وأصبحت صديقة لنبوية انقلبت وحشا ضاريا، كانت زنوبة تعطيها دروسا منتظمة: كيف تسيطر على زوجها، كيف تمحوه من الوجود، كيف تكون هي صاحبة الكلمة دائما، والحق أن نبوية كانت تلميذة موفقة كل التوفيق، وأنا ساعدتها؛ هي تظن أنني مغلوب على أمري وأنني مسكين لا أملك لها دفعا، ولو علمت الحق لروعت؛ لقد قبلت منها ما تفعل حتى أرتاح، وماذا يجري لو أنها قالت كلمتين تريد أن تظهر بهما أنها صاحبة نفوذ؟
الحق أنها تجرح كرامتي، والحق أنني أشعر بالمهانة، لكن يبدو أنني تعودت، لا أظن أن أحدا يستطيع أن يتعود الإهانة أبدا، الحق أنني أصبحت لا أطيقها، لكن أتمنى أن أموت، يا ليتها تموت، إنها إن لم تمت سأموت أنا، ماذا يحدث لو أنني مت، يا ليت؛ لكم أتمنى أن أموت لأغيظها، إنها حينئذ لن تجد أحدا لتمارس عليه سلطاتها الواسعة، لو أن الأرواح تستطيع أن ترى ما في الحياة حقا لظللت مقيما معها في البيت لأرى ماذا ستفعل حين تبحث عن أحد تشتمه فلا تجد، تصبح مسكينة ذليلة لا قيمة لها ولا وجود؛ فإن قيمتها الوحيدة ووجودها يتمثلان في وجودي أنا، وفي أنها تستطيع أن تمارس علي وقاحتها، وفي أن تدمي آدميتي وتمتهن إنسانيتي وتهدر وجودي الذي يحقق وجودها، لا بد أن أموت حتى تجد نفسها ضائعة لا وجود لها ولا كيان، وهي تعلم أنني لو مت لانتهى صرح عظمتها الشامخ، وهدأ فيها هذا العملاق الذي تحس به كلما أهانتني وأذلتني مسكينا ذليلا بلا حقوق ولا رأي ولا حتى كلمة. هي تعلم ذلك، هي تعلم أنها محتاجة إلي أكثر من حاجتها إلى الهواء الذي تتنفسه، لقد قالت لي ذلك، لا لم يكن ذلك في وقت من أوقات الصفاء، فلا صفاء بيننا؛ إنما هي حياة نقطعها، هي في المكان الأعلى وأنا في المكان الأدنى؛ فلا صفاء. إن الصفاء غاية الصفاء عندنا أن تكون الشتيمة أقل إقذاعا من غيرها، وهذا كل ما في الأمر، ثم هي تحب الخطب، ولو تهيأ لها في البيت منبر لظلت واقفة عليه عمرها كله لتقول لي إنني لولاها لكنت مت منذ زمن طويل؛ فإنها تسلمتني من أمي جيفة فجعلتني إنسانا، وأنا اسم بلا كيان فجعلت مني اسما وكيانا.
وغيرت اسمي، نعم اسمي الحقيقي لا تنطقه زوجتي فهو اسم قديم بال لا يعجبها، وهي لا تقول في خطبها أبدا إنها محتاجة إلي أكثر من أي شيء في الوجود، ولا تقول إن في ميزة أبدا أي ميزة، وطبعا أمي تتمتع بأكبر نصيب من الشتيمة؛ فهي وحدها التي جعلت مني هذا الاسم الذي لا كيان له. وطبعا زوجتي لا تفكر مطلقا أنها قضت على الاسم والكيان جميعا إنما هي تفكر أن تقتطب وفي أن تغمرني في المهانة كلما تكلمت، أقصد خطبت، وأعود فأقول إنها تعلم أنني لو مت لقضي عليها نهائيا، وقد قالت لي ذلك يوم مات زوج أستاذتها زنوبة، كان يوما عجيبا، الست زنوبة تزاول حرفتها وهوايتها وحياتها اليومية العادية من إهانة زوجها في صوت مرتفع يكفي لأن يجعل إهانة عبد النبي أفندي علنية، والزوج طبعا طرف موجود بلا وجود؛ فالصوت الذي تسمعه العمارة أو المنطقة واحد هو صوت زنوبة، والزوج غير موجود وكانت زنوبة في ذلك اليوم في أوج قمتها؛ فالكلام منتقى من النوع الذي يجمع إلى الوقاحة البالغة فنية العرض ولماحية الاختيار، وقد كنت أسمع صوتها وأتخيل وجهها الأبيض؛ لا بد أن بعض الحمرة قد صعدت إليه؛ فقد كان واضحا من نغمات الكلام أن الست تعتمد اعتمادا كبيرا على الحنجرة، وكنت أتخيل وقفتها في قوامها الفارع الطول المليء قد ثنت ذراعيها ووضعت يديها على جانبي وسطها، وكنت أتخيل شعرها الأسود يهتز مع توقيع الألفاظ التي تختارها في دربة ومهارة وفن. كنت أتخيل هذا جميعه لا عن ذكاء؛ فقد رأيت عرضا مبسطا له حين كانت تتفاهم - على طريقتها - مع بائع اللبن، وهكذا كان تخيلي قائما على المشاهدة القديمة. كنت أتخيل وأسمع وعيناي على زوجتي، كانت في حالة نشوة لا مثيل لها. لقد رأيت السكارى إذا ما انتشوا من الخمر، ورأيت النشوان الذي يسمع ما يهوى من الغناء، ورأيت المنتشين من ذكر الله وهم يذكرون، ورأيت نشوة نبوية وهي تسمع إلى زنوبة. هيهات أن يصل أحد من شاربي الخمر أو سامعي الغناء أو ذاكري الله إلى ما وصلت إليه نبوية من وصول وهي صامتة في خشوع، على شفتيها ابتسامة عريضة. أسمع وأنا منها على مبعدة صوت قلبها يدق في فرح وتهلل، عضلات وجهها تختلج في فرح طاغ، والست زنوبة تواصل حديثها في فنية وبراعة. لا أدري لماذا توهمت في هذه اللحظة أن زوجتي ستموت من الفرحة، تموت فعلا ، يتوقف قلبها عن الوجيب من كثرة ما دق، توهمت هذا وأنا أسمع الست زنوبة وهي ما تزال تقول وتقول في صوتها المرتفع ونغمات حنجرتها المدربة، وفجأة وبلا أي مقدمات انشق صوت الست زنوبة عن صراخ مروع، في الوهلة الأولى حسبت أن الست زنوبة تجدد في أسلوبها وأنها تضيف هذا اللون الجديد من الإهانة إلى عرضها الفني، ولكن الصراخ تكرر وتكرر حتى لم تعد إلى الحديث، واستمرت في الصراخ، وفي خبرة فنية هائلة أدركت زوجتي أن خللا ما قد وقع، فهي تهب واقفة في سمة المقدم على واجب لا بد من أدائه، وانشقت حنجرتها هي الأخرى عن صراخ هائل فلم أتمالك نفسي من السؤال: ما لك؟
وفي احتقار شديد قالت: اخرس أنت، صاحبتي وأجاملها. - ألا تعرفين أولا لماذا تصرخ؟ - ودون أن أعرف.
وتركتها تصرخ وذهبت إلى شقة عبد النبي أفندي. رحمة الله عليه، لم يستطع أن يظل صامتا فكان احتجاجه هو الموت.
وحين علقت زوجتي بعد ذلك على الحادث قالت: إياك أن تموت. يا حبيبتي يا زنوبة من يوم موت زوجها لم نسمع لها حسا.
وهكذا أنا أعرف أنها تريدني ليسمع الجميع حسها، ولتعلن بوجودي وجودها. الحر شديد، شديد.
الحر شديد، شديد، ولكنني وصلت البيت أخيرا، ما هذا الجمع أمام المنزل؟ خيرا، لقد ماتت نبوية، زوجتي، نبوية، ماتت نبوية، ما هذه البطيخة؟ لقد كنت خائفا أن يمسها شيء من الزفت، أستطيع الآن أن ألقي بها جميعا إلى الزفت ولن يسألني أحد لماذا فعلت هذا، وهذا العيش أستطيع أن أهبه لهؤلاء الواقفين، على روح المرحومة، أمرحومة هي؟ إذا رحمها الله فسوف أطلب منه سبحانه وتعالى أن يرسلني إلى جهنم.
حلوة هي الحياة الحرة الطليقة، سعيد أنا، أعود حين يحلو لي أن أعود، وأذهب إلى المقهى حين أشاء، وأتغدى حيث أشاء، وأتعشى أينما أشاء، حلوة هي هذه الحياة الحرة، قد يعتريني بعض الملل أو قد أحب أن أتغدى في البيت فلا أستطيع، ولكن حلوة الحرية. لقد مرت ستة شهور وأنا أتمتع بحريتي كاملة ، لكم أنا سعيد بحريتي هذه! اليوم سأخرج في موعدي في الصباح لأذهب إلى المكتب، وحين أعود لن أكون حاملا شيئا، وسأهز ذراعي ما حلا لي الهز، لا أدري لماذا أجد ذراعي مثنيا كلما انتبهت إليه وأنا سائر؟ لماذا أحس دائما أنني أحمل شيئا مع أنني لا أحمل شيئا؟ اليوم سأتحرى أن أهز ذراعي لأنني لا أحمل شيئا. - أهلا ست زنوبة، صباح الخير. - أهلا وسهلا، صباح الخير، هل جاء ميعاد المكتب؟ - والله أمامي وقت. - اتفضل اشرب قهوة. - لقد كنت أريد أن أجيء إليك من زمان. - أهلا وسهلا، أحضر لك القهوة. - اقعدي فقد تغيرين رأيك وتحضرين شيئا آخر. - أمرك. - أنا الآن كما تدرين عازب، وأنت أيضا، ما رأيك لو تزوجنا؟ - والله معقول. - على بركة الله.
لا تدري
- لا. - لماذا؟ - لا أدري. - أراك؟ - ماذا تريد من رؤيتي؟ - نتفاهم. - علام نتفاهم؟ - على هذا الموقف. - ليس هناك موقف. - ولا هذا الامتناع؟ - لا أريد. - بدون سبب؟ - بدون سبب. - ماذا فعلت؟ - لم تفعل شيئا؟ - إذن ... - لا أريد. - أليس هذا موقفا؟ - ليكن موقفا. - لنتفاهم إذن. - بدون تفاهم. - هناك غيري؟ - من هذه الجهة تستطيع أن تطمئن. - إذن نلتقي. - لا أرى فائدة من اللقاء. - فهل ترين فيه ضررا؟ - أبدا. - إذن ... - لا فائدة من هذا اللقاء. - ولكن أرى أنه ضروري. - إنك تستطيع أن تقول كل ما تريد في التليفون. - هناك أشياء لا يستطيع التليفون أن يحلها. - هذه الأشياء لن تحل. - مجرد أن أراك هام عندي. - لا داعي لذلك. - أنت خائفة؟ - مم أخاف؟ - ألا تستطيعي مقاومتي؟ - أتظن ذلك؟ - أنا واثق. - حيلة قديمة. - أين الحيلة؟ - لنلتقي. - لتكن حيلة. - لا تنطلي علي. - ما دمت قد فهمت الحيلة فلا مانع من اللقاء. - إذا كنت مصمما. - ألا ترغبين في هذا اللقاء؟ - لا أرى له فائدة. - إذن نلتقي. - إذا شئت.
ما هذا التصميم؟ لماذا؟
إن كل الأسباب التي جدت تدعو إلى اللقاء، ماذا ألم بها؟ ماذا جنيت؟ لماذا تغيرت علي؟ لقد دعتني أول الأمر، لم أفكر فيها يوم سكنت العمارة، حتى ابتسامتها التي كانت تلقيها إلي كل صباح عند خروجي كنت أظنها ابتسامة مبذولة لجار جديد، وكنت أردها بابتسامة أعتقد أنها كانت ابتسامة بلهاء، عرفت أنني حاصل على ليسانس الحقوق، ولم أعجب أنها عرفت؛ فسكان العمارات حديث مشاع لبعضهم البعض، ولكني عجبت يوم دق الجرس فوجدتها تدخل إلى بيتي؛ استشارة قانونية لقريبة لها مات زوجها، وهي حائرة مع أهله، والذين يتعلمون المواريث، يتعلمون كيف ينسونها في اللحظة التي يغادرون فيها كرسي الامتحان، فأصبحت أمامها أكثر حيرة من قريبتها مع أقارب زوجها. - أبحث الموضوع وأرد عليك. - متى؟ - غدا. - وهو كذلك، متى؟ - أجيء إلى حضرتك الساعة الخامسة. - تجيء؟ - نعم. - إلى البيت؟ - إذا لم تري مانعا. - أنا لا مانع عندي، ولكن أعتقد أن زوجي يمانع. - زوجك؟ - ماذا؟ غريبة؟ - إذن ... - أجيء أنا إليك في السادسة، إنه يخرج دائما قبل السادسة.
وجاءت، ولم تسأل عن الفتوى التي مكثت الساعات أبحث عن جوابها، لم تسأل عن الفتوى، ولست غبيا إلى الدرجة التي تتصورها؛ حين دخلت بدأت أجيب فتواها، فإذا هي تغير الموضوع دون أي اهتمام بحيرة قريبتها.
راحت تقص علي ما تلقاه من إهمال زوجها، وهذا الموضوع بطبيعته يؤدي إلى ما انتهى به الأمر بيننا.
واستمر الحال على هذا سنوات ثلاثا وبضعة أشهر لم يكشفنا أحد؛ فقد كان من العسير أن يكشفنا أحد.
في أحد الأيام تيقظت من نومي على صراخ هائل يشق الفجر، وهرولت أسأل، لقد مات الزوج، كيف؟ لا أدري. مات.
أنا لا أدري كيف مات، لقد كان مريضا منذ زمن بعيد، وكان من الطبيعي أن يموت، لم يكن يمتثل لأوامر الطبيب، وكان يحب أن يبدو أمام الناس شابا، أما أمامي فلم يكن يستطيع أن يبدو شابا، ولا أن يبدو رجلا على الإطلاق، لم يكن يستطيع، ولكن ماذا يريد هذا الشاب الذي يقيم بالدور الأعلى، لم أعد أريد صداقته، لم أعد أريد، لا أدري لماذا لم أعد أريد أصعد إليه، ولا تعجبني ملاحقته لي بالتليفون، حاول أن يجيء إلى البيت فنهرته ومنعته؛ فالخادمة معي، ولا يعقل أن يدخل البيت، لماذا يلاحقني وقد قلت له لا أريد؟ يريد أن يعرف لماذا؟ ماذا يهمه أن يعرف؟ المهم أنني لا أريد، ألا يكفي هذا سببا؟ أيظن أنني ما دمت أنا التي قدمت إليه نفسي فمن حقه أن يفرض علي نفسه؟ إن أصر على هذه الملاحقة فسأترك العمارة والحي وأذهب بعيدا إلى حيث لا يعرفني، يريد أن يلقاني، وما يهم؟ سألقاه، ماذا يستطيع لقاؤه أن يفعل؟! سألقاه. - ها أنا ألقاك. - لماذا؟ - لماذا تصر على أن تعرف لماذا؟ - لأعرف. - ماذا تستفيد من المعرفة؟ - مجرد المعرفة. - ليس هذا جوابا. - هل أخطأت في شيء؟ - أتظن أنك أخطأت في شيء؟ - أنا لا أعتقد ذلك. - فلماذا تسأل؟ - لعلي أخطأت في شيء وأنا لا أعرف. - لم تخطئ. - إذن؟ - لا أحب الخيانة. - وما كنا نفعله. - آه، هذا؟ - نعم. - كنت أخون زوجي. - ثم؟ - ومات زوجي. - أعرف هذا. - وأنا لا أحب الخيانة. - ألم تكن خيانة وزوجك حي؟ - نعم كنت أخون زوجي. - أليست هذه خيانة؟ - ليست هذه هي الخيانة التي لا أحبها. - فما الخيانة التي لا تحبينها؟ - لم يعد زوجي موجودا، لا أحب أن أخون نفسي.
في الطريق ولن أعود
موجود بلا وجود أنت. لا يهمني في شيء أن تأكل وتشرب وتعيش وتنام؛ فأنت عندي لا وجود لك ولا كيان ولا حياة. أنا لا أعرفك، لست أنت، أنا لا أريد أن أعرفك، ولا أريد أن أذكرك، وكم أتمنى ألا أراك، علم الله أن هذه الحياة التي تقوم بيننا حرام، لا تستند إلى شرع ولا تعتمد على قانون، فهي ليست قائمة وهي ليست موجودة، وأنت غير موجود، غير حي، أنت عندي وهم، أنت ماض لم يعد له حاضر، أنت ذكرى بددها واقع، أنت حلم قضى عليه ظهور النهار.
نعم إني مخطئة، ولكن ألم أدفع ثمن الخطأ الذي ارتكبت، وهبني أجرمت ألا يدفع المجرم ثمن جريمته بعض وقت يقضيه في السجن، ثم هو بريء؛ فكيف تريد الحياة أن تحكم علي بالإعدام وأنا لم أقتل أحدا إلا لكرامتي، وكيف تريد أن ترغمني على هذه الحياة؟ كنا في مطالع اللقاء الأول بيننا نقول إن الحياة بلا حب هي الموت. بربك ألم تشعر بعد أن حبا بيننا لم يعد له وجود؟! تدعي في أحيان أنك تحبني، إنك كاذب، لا تستطيع أن تشعر بنبضة من حب لإنسانة تكن هذا القدر من الكره الذي أكنه لك وتزعم أنك لا تعمل إلا ما تمليه عليك مشاعرك، أية مشاعر هذه التي تملي عليك هذا الامتهان لإنسانيتي، وهذا التحقير لعواطفي؟! أنت غير موجود، غير موجود.
إن دخولك البيت وخروجك على مشهد مني، وحديثك الجاف المتعالي دائما، وطعامك المتكبر المتأله، ومعاشرتك البعيدة كل البعد عن الإنسانية، كل هذا لا يستطيع أن يجعل من وجودك وجودا. أنت غير موجود.
كنت موجودا دائما قبل أن نتزوج، كنت نبضات قلبي، وكنت فكري، وكنت دمائي، ولم نكن يومذاك في بيت واحد، وكان البيت الذي أعيش فيه يكرهك جميعا، وكان لا يطيق أن يذكر اسمك، فلم يكن اسمك يذكر، وكنت موجودا.
كنت حنانا، وكنت همسة حبيبة توشوش أنفاسي وآمالي وغدي. كنت موجودا.
كان أبي يكرهك، وكانت أمي تكرهك لأنها كانت تحب أبي، لماذا أحببتك في هذه الأيام؟ ما أسخف هذا السؤال دائما! ولكنني أذكر أنني كنت أحبك بقلبي وعقلي، بآمالي وفكري، كنت حين أسير إلى جانبك أحس أنني أسير مع إشراق الحياة، وأحس خطواتي تنتقل في الشاطئ الأمين من العالم، كانت ألفاظك أمنا وثقة، وكان بيتي أمنا وثقة، فأنا أكره الاضطراب ويقتلني القلق.
ازددت ثقة بك وأنت عند أبي تطلب يدي. - ابنتي صغيرة. - أنتظرها. - لا أحب الانتظار. - ولكن يا سيدي إنه أنا الذي أنتظر. - لا أحب ... - لا تحبني أم لا تحب الانتظار؟ - لا أحب شيئا.
رفض أبي بإصراره الحاد العنيف. وحين رأى في عيني ابتدار الدموع. - تريدين الزواج؟
وصمت. - أم تريدين هذا الشخص بالذات؟
وأطرقت. - فأنت تريدينه بالذات؟
وظللت مطرقة. - إنه لا يعجبني.
ورفعت رأسي أريد أن أقول، ولكني صمت ثم أطرقت. - نعم أعرف أنك أنت التي ستتزوجينه وليس أنا.
ورفعت رأسي، ورأى في عيني أن هذا ما كنت أريده، وأحسست أنه عرف ما أريد.
فعدت أصمت من جديد وأطرقت. - ولكن أنا الذي أختار لك.
ورفعت رأسي ورأى السؤال في عيني. - من حقك أن تحبي من تشائين، ومن واجبي أن أوافق أو لا أوافق.
ولم ينتظر حتى يرى الدهشة في وجهي. - نعم، وأعلم أنك طالبة في الجامعة، وأعرف أيضا كل ما كتبه الشعراء والكتاب والقصاصون عن الحب، بل وأعرف الحب نفسه، ولكن هؤلاء الكتاب والفنانين يختارون لموضوعاتهم النواحي العاطفية ولا يتكلمون عن تجربة الأب وفهمه للأمور وطول ممارسته للحياة، وممارسة الحياة له ... فحكمه حين يحكم وراءه كثير من العقل والحكمة والبعد عن العاطفة.
ولم أرفع رأسي. - إنني لم أقل في حياتي كلاما أكثر سخفا من هذا الذي أقوله الآن.
وتولتني دهشة لم يكن محتاجا ليراها. - إنني أنصح وأخطب وأعظ. ليس أسخف من ذلك.
وخالجني خالج من الأمل. - إذن ... - لن تتزوجيه.
ولم ينتظر أن أسأله. - وبدون إبداء أسباب.
إنني أعرفه، إنني أعرفه، لا يتراجع، ولكن عليه أن يبدي الأسباب، لا بد أن يبدي الأسباب. قالت أمي: ألا تكفي إرادة أبيك؟ - إرادة أبي هذه تكفي عندك أنت؛ لأنك عشت في عصر كانت فيه إرادة الرجل هي القانون، ولكننا اليوم في عصر القانون نفسه محل نقاش كبير. - إذن فاعلمي أن هذا الفتى الذي تحبين خطب قبلك أربع بنات وتركهن.
خبر جديد لم أكن سمعت به. - من أين عرف أبي؟ - سأل. - متى سأل؟ - بعد أن رفض. - أليس عجيبا؟! - ما العجب؟! - يرفض ثم يسأل، لماذا رفض إذن ولم يكن يعلم هذا عنه؟ - يقول إنه لم يكن مرتاحا إليه. - لمجرد شكله؟ - هذا فارق السن يا بنتي. - هذا سحر. - بل تجربة. - على كل حال لا يهم. - لا يهم أن يخطب أربع بنات ويتركهن. - لم تعجبه واحدة منهن. - وأعجبته؟ - ولم لا ...
لا فائدة ترجى من هذا النقاش، لقد رفض أبي، ولم يكتف بهذا بل سعى فنقل إلى الإسكندرية لأبتعد عن القاهرة، ومرضت أمي فأصبح الحديث في الزواج غير معقول. وطال المرض بأمي وسألت أبي أن تعود إلى القاهرة لتكون بجانب أهلها، واستطاع أن يعود، وعدت أنت إلي، حنانا ولهفة عدت، تسألني عن أمي ولا تتكلم عن الحب، وإذا تعذر عليك أن تكلمني راحت أمك تكلمني، فهي كل يوم تسألني عن صحة أمي، وعن سير المرض كأنما هي طبيب مخلص في عمله.
وماتت أمي، وأطبقت أمك علي بأنيابها الذكية المتمرسة فإذا أنا أتعلق بها تعلقي بأمي وتعطف علي كأنني ابنتها.
وتمر فترة الحداد القاسية، وأخرج من السواد القاتم لتلقفني ذراعا أمك ولسانك. - بعد موت أمك سيرغمك أبوك على الزواج بمن يريد ولن تجدي أحدا يحميك.
إن السواد الذي يصاحب الموت يشل العقل، إن التجار والنهازين لا يجدون فرصة أحسن من الموت ليعقدوا صفقاتهم؛ إنها فترة يظن فيها أهل الميت أن الجميع يعطف عليهم ولا يريد لهم إلا الخير.
وكان البيت الذي خلا بي وبأبي جحيما، هو يعلم أني أريد ما لا يريد، وأنا لا أدري لماذا لا يريد، وكما تعقدت هذه الكلمات كانت حياتنا معقدة، فيها جهامة الموت، ونفور الرغبة والرفض.
حتى إخوتي حين كانوا يلمون بنا في زيارة كانوا فاشلين في تبديد ما بيني وبين أبي من جليد ونار.
وتزوجتك، وحين أرسلت وثيقة الزواج إلى أبي قال لأختي في برود وصرامة: لا تدخل بيتي. ولم أدخل.
وخلوت بي، وخلت أمك.
كانت بداية عهدك الجديد وعهد أمك جملة قالتها حماتي في جمعية كبيرة من السيدات: يا حسرة علينا تزوج ابني بلا فرح ولا زفة ولا حتى زغرودة.
وانقلبت أنت وحشا كاسرا، فقد علمت أنني أصبحت بلا ملجأ إلا أنت؛ فأنا إذن كالمطاط مهما تقذف بي إلى الحائط فسأعود إليك، وأعود إليك، وأعود إليك.
لا أريد أن أذكر، لا أريد أن أذكر، ولكن شيئا واحدا لا يحتاج أن أذكره، إنني أصبحت مهانة وحقارة وبشرية مدمرة عصفت بها أنت، وحين كنت أقول لنفسي: لا يمتهن الإنسان إلا نفسه، تصيح بي نفسي: أليس أنت من اخترت؟! وينتهي الحوار إلى هذه الصيحة، ولكن يوم ضربتني صحت في نفسي: ألم أدفع الثمن بعد؟! إن المجرم يدفع الثمن بضع سنوات ثم هو بريء، وأنا لم أدفع الثمن بعد؟ أنت غير موجود. لو أنك دمرت حياتي عن كره ما كرهتك بهذا القدر الذي أكرهك به الآن، ولو أنك قسوت عن طبيعة لا تملك أن تغيرها في نفسك ما احتقرتك كما أحتقرك الآن، ولو أنك مزقتني وأنت تعرف أن لي مكانا أستطيع أن ألجأ إليه إذن ما فعلت ما أفعله الآن، أنت لا تعرف أين أنا؛ أنا في الطريق العام لا أعرف لي وجهة ولا مكانا ولا مستقرا، وسأسير وسأظل أسير، وليكن الطريق بيتي وغدي ومستقبلي، ولكن لن أعود؛ وكيف أعود إلى عدم؟ إنك اليوم بالنسبة لي عدم. أنا لن أعود.
أختي وأنا
أنفاسي أين ذهبت؟ لماذا لا أتنفس؟ كيف استطاعت الدنيا جميعا أن تجثم على صدري فلا أتنفس؟ وكيف لا أزال أعيش وأنا لا أتنفس؟ نعم إني أريد أن أعيش، ولكن هل تكفي هذه الإرادة حتى تجعلني أعيش دون أن ألتقط من الهواء أنفاسي؟
كيف وجدت نفسي في هذه الحجرة؟ وكيف أغلق علي بابها، وأغلقت من دوني نوافذها؟ هذه النافذة الشرقية، وهذه النافذة الغربية، وهذه النافذة في الوسط بينهما، لماذا أقفلت النوافذ جميعا فأصبحت لا أرى شيئا، لا أرى شيئا على الإطلاق، وإنما أسمع.
هناك ضجيج في الخارج هادر صخاب، أنا لا أدري شيئا ولا أتنفس، لا، لن يستطيعوا أن يستلبوا عقلي أو تفكيري أو ذاكرتي، فليقفلوا الأبواب والنوافذ ما شاء جبروتهم أن يقفلوا. ولكن سأظل أفكر وسأظل أذكر.
أرى هذا البخور ينساب إلى الحجرة من خصاص النوافذ المغلقة ومن أسفل الباب المغلق، أراه ولكني لا أشمه، فأنا لا أتنفس، وما دمت لا أتنفس فأنا لا أشم، وما دمت لا أشم فالبخور لا يصل إلى عقلي، ولا يؤثر في، ولا يصل بي إلى الخدر الذي يبيتون لي؛ إنني مفيق، وإن كنت لا أتنفس، وسأظل مفيقا؛ فأملي الوحيد في الحياة أن أظل مفيقا، وإني مفيق.
إنها ليست حياتي وحدها التي أعيش لها، إن حياة أختي معلقة بحياتي، إذا أنا مت ماتت، وإذا أنا ضعفت لهذا الخدر الذي يطلقون علي انفردوا بأختي، وويل لأختي إذا هم انفردوا بها، الموت أهون ما تلاقيه.
ليست أختي مجرد أخت؛ وإنما هي ماضي وحاضري ومستقبلي. ليس لي في الحياة إلا هي، وليس لها في الحياة إلا أنا، ويكفي أن تكون مجرد أختي لأبذل في سبيلها حياتي، ولكنها أكثر من ذلك، أكثر بكثير.
إن أختي هي الأنفاس التي تتردد في كياني، هي غذائي وفكري وأملي، وليس هذا بغريب؛ فقد عرفتها وأنا لا أعرف في الوجود شيئا، وظللت أعرفها بجانب كل الأشياء والأشخاص التي عرفتها بعد ذلك.
أعرفها كجزء من كياني، وما زالت كل كياني، لقفتني يداها وأنا أدلف إلى الحياة، وقد مات أبي وأمي تحملني، وماتت أمي وهي تلدني، ولم يبق لي في الحياة إلا أختي، ولم يكن لأختي حينذاك أحد، فتاة في ريق العمر، ليس لها إلا جمالها وذكاؤها المتوقد، وتحمل عبء طفل رضيع وليس له من يرضعه.
عملت، عملت في كل الأعمال، ورفضت أن تتزوج حتى تراني وقد استقام أمري، ولكن هناك شيئا واحدا لم تقبل أن تضحي به من أجلي. - إنني احتفظت بها من أجلك. - كنت تكسبين أكثر لو تنازلت عن حريتك. - كنت أفقد كل شيء. - وهم. - الوهم أن أفقدها. - كان يمكن أن تشقي الحياة في يسر لو لم تتمسكي بها هذا التمسك الأعمى. - أعتقد أنه الحق. - والحياة. - لا حياة بدونها. - كنت تعملين؟ - العمل حرية. - وقيود. - حرية بلا قيود هي الفوضى. - لقد حملت العبء ثقيلا. - شعوري بأني حرة جعلني أحتمله. - وقدمت لي الحرية. - ألم تسعد بها؟ - لست أدري. - إنك تحاول التفلسف. - بل أقول الحق. - إنك تدمرني بهذا الذي تقول. - أعتقد أنه الحق. - إذن فعبث كل الذي بذلته من أجلك. - إنني أعيش. - إن كنت لا تعرف معنى ما قدمت فأنت لا تعيش. - إنني أعيش. - إنك تعيش لأنك تتنفس. - كل إنسان يعيش لأنه يتنفس. - لو تنفست ما وهبته لك ما احتجت إلى الشهيق والزفير. - أنا لا أدري. - كل ما في الأمر أنك لم تجد نفسك محتاجا لتدري. - لا أفهم. - لم تتعرض للموقف الذي تمتحن فيه نفسك. - أرجو ألا أتعرض. - بل أرجو أن تتعرض.
وحين استقام مني الأمر وأصبحت قادرا على مواجهة الحياة تقدم إلى أختي من يخطبها؛ رجل كبير في السن، ذو سطوة وسلطان. - إنه كبير في السن. - وهل يمكن أن يتزوجني إلا كبير في السن. - ألا تخافين؟ - في كل حياة جديدة عناصر من الخوف. - لم تتعودي. - لا بد أن أتعود. - ولماذا؟ - من أجلك. - من أجلي أنا؟ - أريد أن تتجدد أنت أيضا. - ولكنك ستظلين أختي. - وزوجة. - لماذا تقولين هذا؟ - لقد عشت عمرا طويلا فرعا، مجرد فرع، أريدك أن تكون أصلا. - لماذا؟ - لتعيش الحياة لا بد للحياة أن تعيش. - فليعمل غيرنا على أن تعيش الحياة. - ولماذا لا نعمل نحن؟ - لأني ... - قل. - لأني أحبك. - ولأني أحبك أقبل الزواج.
وذهبت إلى بيت زوجها، وبدأت حياة جديدة، وبدأت أنا أيضا حياة جديدة، ولكنني كنت أذهب إليها في كل يوم، الأسى والحزن والألم واللوعة هي وجهها، والسعادة والهناء والبشر والسرور هي ألفاظها. - ما لك؟ - سعيدة. - حقا؟ - ألا ترى؟ - لا، ولكني أسمع. - ما تسمعه هو الحقيقة. - لا بد أن أراه. - يكفيك أن تسمع.
كنت أذهب إلى بيت أختي في مواعيد منتظمة، وكنت كلما شهدت التناقض بين ما تراه عيني وما تسمعه أذني أزداد لهفة عليها وخوفا، وفي يوم ذهبت في غير موعدي فوجدتها في حجرة مغلقة مع زوجها، فمكثت أنتظر خروجها، وخرجت بعد وقت لم يطل. - وبماذا تبررين هذه الدموع؟ - دموع فرح. - دموع الفرح ليست غزيرة كهذه الدموع. - أتعرف لها عددا معينا. - دمعة واحدة أو اثنتين. - ولكن الفرح الكبير له دموع كثيرة. - ليست هذه دموع فرح.
لم أكن قبل ذلك أسأل زوجها عن شيء، ولكنني في ذلك اليوم ... - لماذا؟ - ماذا؟ - لماذا لا تسعدها؟ - هل شكت؟ - دون أن تتكلم. - ليس هناك ما تشكو منه. - لأنك تمنعها من الشكوى. - بل لأنها لا تجد ما تشكو منه. - لعلها لا تريد أن تزعجني. - حين تشكو إليك اسأل. - ولكن لماذا لا تسعدها؛ لقد وهبت لك أغلى ما ادخرته في حياتها. - إنما أصنع كل ما أصنعه لإسعادها.
لن يفيد هذا المخدر الذي يبثونه عبر النوافذ ومن تحت الباب. فإني مفيق.
وإني أذكر، أذكر حين ذهبت إليها مرة أخرى على غير موعد فوجدت زوجها يضربها في البهو بعصا غليظة، وهي صامتة جامدة وهو يضرب ويضرب.
ولم أفكر، ووجدت نفسي أهجم على العصا لأوقفها، وقبل أن أصل كنت هنا في هذه الغرفة.
لا أتنفس، ولكنني أعيش، إن الحياة التي في داخلي تجعلني أعيش.
إنها حياتي وحياة أختي في جسمي أنا، لا يهمني في شيء أن تقفل النوافذ جميعا والأبواب؛ فأنا لا أحتاج لشيء فحياتي في داخلي، وإنني مفيق، إنني مفيق، إن حياتي جميعها تستمد بقاءها من أنني مفيق، وإنني مفيق.
حين يميل الميزان
لا، أنا لا أريد أن أقص عليك، ولا أريد أن أدافع عن نفسي؛ فإني أصبحت وأنا في غير حاجة للدفاع أمام أحد، لا تظن أنك من علماء النفس وتحاول أن تقول إنني أدافع عن نفسي أمام نفسي، فحتى هذا أنا لا أحتاج إليه؛ إنني أقوى من هذا جميعه، الضعفاء وحدهم هم الذين يحاولون أن يدافعوا عن أنفسهم أمام الناس أو أمام أنفسهم، وأنا لست ضعيفا ولن أكون ضعيفا، أنا قوي، قوي. قد تقول أنت في محاولتك المتهافتة للتحليل إنني أصبحت ظالما وإن الظلم غير القوة. هذر هذا الذي تقول؛ إن الظلم هو القوة، العدل الوحيد الذي أعرفه في العالم هو هذا الذي يلقنه الأساتذة لتلاميذهم، أما الناس في الحياة فهم إما ظالمون أو مظلومون، إذا ملكوا ما يجعلهم أقوياء فهم ظالمون، وإذا وقعوا بين أنياب من هو أقوى منهم أصبحوا مظلومين، ولماذا تطلب العدل بين الناس والعالم كله تحكمه القوة، القوة وحدها، ولا يجرؤ أحد أن يقول هذا ظلم؛ دولة تغتال أخرى، وتقول هذا هو العدل، إنما عدلها هو القوة، وهو عدل ظالم، ويعرف العالم أجمع أنه عدل ظالم، ولكن القوة تؤيده فهو عدل عادل.
أنا لا أحاول أن أدافع عن نفسي؛ فأنا قوي ، لا ولا أحاول أن أبرر ما أفعله؛ فلست في حاجة إلى تبرير، لا ولا أريد أن أقص عليك شيئا؛ فأنا لست مأجورا لتسليتك، وإنما أنا أريد أن أتكلم، ومن مظاهر القوة الرائعة أن يتكلم القوي حين يطيب له أن يتكلم، ويسكت حين يحلو له أن يسكت، ومن مظاهر القوة أيضا أن يسمع له الناس إذا تكلم وأن يحترموا صمته إذا صمت، تلك هي القوة، وأنا قوي، أتكلم حين أريد وأسكت حين أشاء، وعلى الناس أن يسمعوا إذا شئت حديثا، وعليهم أيضا ألا يسألوني حديثا إذا لم أرد أن أقول.
حين مات أبي ترك لي ثروة لا بأس بها تستطيع أن تهيئ لي حياة ميسورة إن لم تكن حياة رغدة، لم أكن يومذاك قد بلغت سن الرشد فكان لا بد لعمي أن يصبح وصيا علي، فأصبح، وكان عمي من هؤلاء الأقوياء الذين يطلق عليهم الضعفاء ظالمين، ولكن عمي على قوته لم يكن ذكيا، نعم سأقص عليك لماذا لم يكن ذكيا، طبعا فهمت أنه كان يغتال أموالي، فإن كنت قد فهمت هذا فلا تظن أنك ذكي؛ فما يحتاج الأمر إلى كثير من الذكاء، لقد تسامعت الأجيال أن الغالبية العظمى من الأوصياء يغتالون أموال القصر، كان عمي من هؤلاء الذين تسامعت عنهم الأجيال، كان يأكل أموالي، ولم يكن ذكيا؛ لأنه كان يجعلني دائما في حاجة إلى المال؛ فهو ينفق على تعليمي وينفق على ملبسي الإنفاق الذي لا يجعل الناس يتساءلون أين ذهبت أموالي، ثم هو لا يكاد يعطيني شيئا بعد ذلك، وهنا يبدو غباؤه؛ فقد جعلني أنا أبحث الأمر في خفية منه، وعرفت، عرفت أنه لص، ولم أكن أملك الدليل، كنت أسميه في ذلك الحين لصا، ولكني اليوم أسميه قويا، كان قويا، وكنت أنا ضعيفا، حتى كان يوم عثرت فيه على أوراق في مكتب عمي، كان بين هذه الأوراق إيصالات مني تحمل توقيعي، وكان توقيعي مزورا، ألم أقل لك إنه لم يكن ذكيا؟ أخذت الإيصالات ووضعتها في جيبي وأكملت يومي في بيت عمي كأن شيئا لم يحدث.
كنت أرى زملائي في كلية الحقوق يلبسون أفخر الثياب، وكان بعض منهم يملك سيارة، وكانت السيارة مع هذه الملابس وسيلة رائعة للتعرف بفتيات الكلية، وقد كان التعرف بالفتيات في هذا الزمان مسألة تحتاج إلى إعداد ومعدات. أعرف زملاء لي دخلوا كلية الحقوق وخرجوا منها لم يكلموا فتاة واحدة. وكم كنت أشفق أن أكون مثل هؤلاء الزملاء، كانت أمنيتي أن أصادق فتاة من فتيات الكلية ولم تكن الوسيلة تهمني. لم يكن يهمني أن تحبني هذه الفتاة لشخصيتي أو لسيارتي أو لملبسي، إن شيئا من هذا لا يهم. المهم، المهم الوحيد أن أتعرف بفتاة، وأقرب الفتيات إلي فتاة من الكلية، أنا لا أدافع عن نفسي فأنت لست قاضيا حتى أدافع عن نفسي، ولا أنا أشعر بأنني في حاجة لأبرئ نفسي أمام نفسي، وإنما أنا أحكي لأني أريد أن أتكلم، كنت في ذلك الحين أريد أن أكون شخصا عادلا لا أظلم أحدا ولا يظلمني أحد، كنت أريد أن أكون من هؤلاء الذين يسيرون على الطوار ولا يعبرون الشارع إلا من المكان المخصص لذلك، كنت أريد أن أطيع القانون بشرط واحد هو أن يحميني القانون، كذلك تعلمنا في نظرية العقد الاجتماعي؛ أتنازل عن جزء من حريتي للدولة حتى تحافظ لي الدولة على الجزء الأكبر الباقي من حريتي. كان أملي أن أصبح طرفا في العقد أحافظ على شروطه ويحافظ الطرف الآخر على شروط العقد أيضا، والدولة عندي هي المجتمع، وأنا لا أطلب حقا ليس لي؛ فلست فقيرا وأريد أن أكون غنيا، ولست جاهلا وأريد أن أكون عالما، كل ما أريده أنا أنال حقي الذي لا شك فيه والذي تركه أبي أمانة في عنق عمي، وعمي من المجتمع، والمجتمع هو الدولة. فإذا اغتال عمي حقي كان على الدولة أن ترد هذا الحق لي، وكنت أعرف أنه لا سبيل إلى ذلك؛ فهو يتخذ الوسائل القانونية التي تجعل الدولة والمجتمع في حالة توافق معه.
كيف إذن أستطيع أن أكون شخصا سويا، طرفا في العقد غير الممهور القائم بين الدولة وبيني، وكيف أستطيع أن أسير على الطوار ولا أعبر الشارع إلا من المكان المخصص لذلك؟ لا سبيل لا بد إذن أن أعبر من أي مكان لأنال حقي، وما دام لا سبيل لنيل حقي إلا عن طريق غير شريف فليكن الأمر إذن كما تشاء قوانين الحياة لا قوانين العقد الاجتماعي.
إذا اختل ميزان العدل مرة في نفس إنسان فلا سبيل لهذا الميزان أن يستقيم مرة أخرى، إنه عوج يؤدي إلى الإصابة بعاهة مستديمة لا سبيل إلى الشفاء منها، ولكني لم أر هذا الميزان قائما عند أحد أبدا، الجميع، الجميع، الموازين فوقهم مائلة، هي للقوي مائلة لصالحه، وهي للضعيف مائلة عليه، كم كنت أريد أن يكون الميزان عندي مستويا لا مائلا لي ولا مائلا علي، أنا لا أدافع عن نفسي؛ فما دام القانون الموضوع أصبح مستحيل التطبيق فلا مناص من العودة إلى القانون الطبيعي، والقانون الطبيعي غالب ومغلوب بلغة الغاب وظالم ومظلوم بلغة المظلومين وقوي وضعيف بلغة الصدق.
حين حصلت على هذه الإيصالات تحمل توقيعي المزور أصبح الأمر ميسورا عندي؛ فأنا أريد سيارة وأريد ملابس أنيقة لأنني أريد فتاة تركب إلى جانبي.
أخذت أحسب الإيراد الذي كان من حقي أن أحصل عليه، ولكن ما لي أبحث عن الحق، لم يصبح الحق مهما، لقد كان المهم أن أحصل على ما أريد لا على ما أستحق، فذهبت إلى عمي: أريد ألف جنيه. - ماذا؟! جننت؟ - إن لي عند سعادتك ثلاثة آلاف وخمسمائة وستين جنيها وخمسة وأربعين قرشا، أريد الآن ألف جنيه والباقي سأطلبه حين أريد. - طبعا أنت تمزح أو تدعي الجنون، أو أنت مجنون فعلا. - لا، أبدا. الواقع أنني عثرت على هذا الإيصال عند سعادتك حين كنت عندك في المرة الفائتة، لا يجديك في شيء أن تمزقه؛ فهو ضمن إيصالات كثيرة عندي، وقد تعلمنا في كلية الحقوق أن التزوير جريمة، العقاب عليها يكون بالسجن، ولا أعتقد أنك تفكر في السجن. - أنت تهددني إذن؟! - نعم. - كيف تجرؤ؟! - سعادتك تسرقني وتزور توقيعي . - تهددني؟ - قلت: نعم. - إذن؟ - إذن متى تدفع الألف جنيه؟ - هذا مبلغ لا يوجد في كل وقت. - لعلك على حق، سأمر عليك بعد ساعة. - ساعة؟ - كثير؟ - لا أبدا، سأعطيك الآن المبلغ، ولكن على شرط. - عمي، أنا لا أرى أن سعادتك في موقف يمكنك من إملاء شروط! - سأعطيك الألف جنيه. - ومع هذا لست في موقف يمكنك من إملاء شروط. - ماذا تريد إذن؟ - نعم إني أنا الذي أريد وأنا الذي سأملي الشروط. - ما شروطك؟ - لو قلتها لك الآن فسأعطيك الفرصة لتستريح، وأنا لا أريد أن أعطي سعادتك هذه الفرصة. إن شروطي سأمليها حين يحلو لي أن أمليها، كل ما أريده الآن ألف جنيه. - حاضر. - وأعتقد أنه يحسن بك أن تعد غيرها سريعا؛ لأن هذه الألف ستنفق في فترة وجيزة. - فترة وجيزة؟! - السيارات غالية الثمن في هذه الأيام. - سيارة؟! - هات الألف جنيه.
لم أكتف بأن آخذ من عمي الآلاف الثلاثة، والمئات الخمس والعشرات الست والقروش الخمسة والأربعين، أخذت من عمي كل ما حلا لي أن آخذه؛ فلقد مال الميزان ولم يعد من الممكن أن يستقيم مرة أخرى، ولم يصبح عمي هو الوحيد الذي أتعامل معه. لقد تعاملت مع المجتمع جميعا، ولم يعد من الممكن أن يستقيم الميزان، لقد مال مرة فهيهات هيهات أن يستقيم مرة أخرى. وهكذا أصبحت كما أنا اليوم قويا، قويا، فأنت تعرف طبعا أنني رويت لك هذا الحديث لمجرد أنني قوي، وأريد أن أتكلم، فأنا - كما تعرف - لا أدافع عن نفسي أمامك أو أمام نفسي؛ فالقوي - كما تعرف - لا يحتاج إلى دفاع!
قصة صيف
لم أكن أتصور وأنا أعد للسفر إلى الإسكندرية أنه لا بد لي أن أفكر في كل هذه الأشياء التي أفكر فيها الآن. أولا وقبل كل شيء مشكلة النقود؛ لا بد من نقود كثيرة، والمشاكل المالية هي دائما أهون المشاكل؛ لأنها أكثر المشاكل صعوبة؛ فالمشاكل المالية عامة، ولا يضيرني اليوم أن أعلن للناس أنني مفلس؛ لأن الذين أعلن إليهم جميعهم مفلسون، والتشاكي بين المفلسين قاعدة جرى العرف عليها حتى أصبحت قانونا، وقد ذكرت مشكلة النقود في أول الأمر لأن وجود نقود معك معناه ببساطة وجود كل شيء معك، والعكس صحيح؛ فعدم وجود نقود معك معناه عدم وجود شيء معك. ولعلي أستطيع التغلب على هذه المشكلة ببعض قروض بسيطة وبهذا المبلغ الذي لا يزال يتضاءل من عام إلى عام، وهو يقطع طريقه من بلدتي في الدقهلية حتى يصل إلى يدي في القاهرة. فالموسم موسم قمح ولا بأس على الأرض أن تعطيني في موسم القمح مبلغا مهما يكن رمزيا.
إذن فلننتقل إلى مشكلة أخرى، كيف سأحصل على إجازة، المدة المحددة لي شهر. وزوجتي والأولاد يريدون أن يقضوا شهرين هناك، تلك هي الحقيقة التي أرفعها ذريعة في وجه كل من يتساءل لماذا لا تكتفي بالشهر؟
أما الحقيقة التي أعرفها والتي لا أقولها لأحد إلا لك أنت - لأنه من المفروض أن تعرف أسراري جميعا - فهي أن صديقتي حسنية ستقيم في الإسكندرية شهرين وأنا أحب أن أكون بجانبها ما استطعت إلى ذلك من سبيل، ولعلي أستطيع بعد أن أحصل على شهر الإجازة الاعتيادية أن أحصل على شهر آخر مرضي.
ولا بد أيضا من العثور على شقة في الإسكندرية قريبة من البحر واسعة ورخيصة، وإذا كانت في طابق مرتفع فلا بد من مصعد، وإذا كانت في طابق منخفض فلا بد أن تكون منطلقة الهواء. وأعتقد أن هذه الصفات لا يمكن لها أن تجتمع أبدا؛ فالشقة الواسعة لا تكون رخيصة، والشقة الرخيصة لا تكون في عمارة بها مصعد، والشقة المنخفضة لا تكون منطلقة الهواء.
وهناك أيضا وسيلة المواصلات، كيف سنذهب إلى الإسكندرية؟ لا تقل شيئا عن سيارتي، هي قديمة نعم ولكنها تسير، ولا بد للآلة التي تسير أن تصل إلى ما تريد، ليست المشكلة مشكلة قدم السيارة وإنما المشكلة مشكلة سعة السيارة؛ كيف لسيارة موريس موديل 1946م تولول إذا حملت أكثر من أربعة أشخاص أن تحمل ستة أشخاص؛ أنا وزوجتي وابني وابنتي والخادمة والطباخ؟
على كل حال هذه المشكلة قد يمكن حلها بوسيلة أو بأخرى ، ولكن المشكلة الأساسية تلوح في الأفق حين نصل إلى الإسكندرية؛ كيف أقابل حسنية هناك؟ إنها السنة الأولى التي أعرفها فيها. في القاهرة أستطيع أن أترك مكتبي في الصباح لأذهب إليها، وأستطيع أن أدعي أنني ذاهب إلى المكتب أيضا في بعض أيام من بعد الظهيرة، أما في الإسكندرية فماذا أقول لزوجتي؟ نعم أنت محق، تلك هي المشكلة الحقيقية، ماذا أقول لزوجتي؟ لعلك أيضا محق فيما تذهب إليه، إن مشاكلي جميعها نابعة من هذه المشكلة إنها تقف خلف جميع المشاكل التي ذكرتها، إنها هي مشكلة المشاكل، لا بد أن أجد وسيلة، ولا يهمك، إنه سبحانه يدبر لكل عقدة حلا. وهل هناك مانع أن أجد أصدقاء في الإسكندرية، وما المانع؟! أليس لكل رجل أصدقاء؟ وأين كان الأصدقاء في السنوات السابقة؟ يا أخي ولا يهمك، لكل عقدة عند الكريم حلال.
إنه يظن أنني لا أعرف، ساذج، ساذج وعبيط، لقد عرفت في الأيام الأولى؛ فهو ساذج لا يعرف كيف يداري أموره، ومن أين له أن يعرف وقد طلع في المقدر على كبر، عاش معي عشرين سنة لا يفكر في خيانتي، وظهرت له حسنية، ظهرت له في مكتب الوظيفة فأحبها وظن أنها أحبته، وقد تكون، لا أعرف، المهم أنني وجدته فجأة أصبح يهتم بأمور لم يكن يهتم بها؛ أناقة أكثر من المعتاد وهو ذاهب إلى المكتب، وأسأل عنه في العمل فلا أجده، وأجد ساعي المكتب الذي يخبرني متلعثما أنه ليس على مكتبه، هذه الكلمة التي يحاول بها أن يفهمني أنه لم يغادر العمل وإن كان قد غادر المكتب، ويظن أنني لا أعرف، ساذج، أو الواقع أنه ليس ساذجا وإنما هو معذور؛ فقد حباني الله وجها طيبا يستطيع في كثير من الأحيان أن يكون وجها غبيا، وأنا أستطيع أن أستغل هذا الوجه أحسن استغلال، فخيل إليه أنني لا أعرف شيئا، لم أسأله يوما: ما هذه الأناقة؟! فهو يعتقد أنني لا أعرف الأناقة عند الرجل، معذور هو؛ فتعليمي قاصر وهو يعتقد أنني جاهلة، وحين يجتمع الجهل والوجه الساذج يقع من الناس ضحايا كثيرون لا يقدرون حقيقة ما يتمتع به الوجه الساذج من إدراك، وما يتمتع به الجهل من علم. استطعت أن أضع على وجهي هذين الستارين ورحت أراقب. وحين تأكدت أنه على صلة بأخرى خرجت وراءه دون أن يشعر وعرفت أين يجتمعان. وفي اليوم التالي كانت عندي كل المعلومات التي لا أريد أن أعرفها عن حسنية. هل تهمك هذه المعلومات؟ فيم تهمك؟! هي زوجة لرجل يكبرها بسنوات عديدة، وهو موظف يعمل مع إسماعيل في المكتب، فليس غريبا إذن أن يعرفها إسماعيل، لعلها جاءت إلى زوجها بالمكتب أو لعله أرسلها بشيء من الأوراق، المهم أنهما تعرفا وتعرفا، وظل هو يذهب إليها في الصباح واثقا من وجود زوجها بالمكتب معه، وفي بعض الأحيان يقول لي بسذاجة إنه ذاهب إلى العمل بعد الظهر، وأنا أعرف هذا العمل الذي يذهب إليه بعد الظهر. لم أقل له شيئا، ولن أقول له شيئا، بل إني أريده أن يذهب إلى هذا العمل كثيرا؛ لعله، لعله يجد هناك متعة، لقد أصبح مطحونا في الشهور التي سبقت تعرفه على حسنية. في يوم وليلة أصبح شيخا عجوزا محنيا على نفسه وعلى أيامه تائها في اللاوجود كالهباء، أصبح كالعدم؛ أيامه يأس مرير، يحب الليل ويكره النهار، يحب الصمت وقد كان كثير الكلام، صمت خائف لعين مذبوح لا يجد شيئا يهتم به أو يفكر فيه، بل لا يجد شيئا جديرا بالاهتمام أو التفكير؛ فالمستقبل عنده عدم لأن الماضي عدم، لا أعرف كيف التف إسماعيل حول نفسه فإذا هو كومة من الجزع وعدم المبالاة والانصراف عن الحياة، كل الحياة، حتى سيارته التي يعتني بها دائما كما يعتني صاحب السيارة القديمة بسيارته، حتى السيارة لم تصبح تحظى بشيء من عنايته، إجلال وعصام ابنتنا وابننا لم يعودا بالنسبة له شيئا بعد أن كانت أوقاته جميعا حديثا معهما أو عنهما، وحين أسأله لماذا لا تكلم الأولاد ولا تعنى بهما يغمغم: «لماذا جئنا بأولاد؟» من أجل لحظة متعة نرمي بكيان بشري إلى هذه الدنيا؟! ما ذنبهما ؟
وأقول: ألا ترى أن الحديث في هذا الشأن متأخر بعض الشيء؟ إجلال عندها ثمانية عشر وعصام ستة عشر.
ويغمغم ثانية: لكن لماذا؟
ثم يعود إلى الصمت فكأنما يذهب بصمته إلى بلد غير البلد أو إلى زمان غير الزمان أو كأنه - على الأقل - يتمنى أن يذهب إلى بلد غير البلد أو إلى زمان غير الزمان.
وأعجب ما في أمره أنه لم يكن يعرف أنه يعاني شيئا، وحين أسأله: ما لك؟ - ما لي! - ألا تعرف؟ - لا. - حقيقة لا تعرف؟ - أنا طبيعي جدا. - أنت لم تصبح أنت. - كل إنسان يتغير. - وهل تغير كل الناس؟ - كل الناس تتغير.
ويعود إلى الصمت، ألا تجدني إذن معذورة حين وجدته فجأة يهتم بأناقته، وتقفز من عينيه هذه النظرة المتشوقة تبحث عن المستقبل وتطل على الحياة إطلالة الراغب فيها المقبل عليها. ولتكن حسنية هي؛ فإني أجد شفاءه أهم من كل الأشياء الأخرى، تريدني أن أبذل في سبيله هذه الغيرة، إنني أحبه، ولأني أحبه أسمح له أن يخونني، إنه منذ قررنا السفر إلى الإسكندرية حائر، يدعي أن النقود هي السبب مع أن النقود لم تصبح مشكلة بالنسبة لنا؛ فنحن في أزمة دائمة ونعيش. إنه حائر لأنه لا يدري ماذا سيقول لي حتى يتمكن من لقاء حسنية؛ فقد عرفت من مصادري أنها مسافرة إلى الإسكندرية. لكم أتمنى أن أقول له: اهدأ؛ فلن أسألك عما تفعل، واذهب إلى حسنية حين تشاء. ولكن أخاف أن أقول له فيعتقد أنني أكرهه وأنني لا أغار عليه. لا أدري لماذا يريدنا الرجال أن نغار عليهم ولماذا يضيقون بغيرتنا حين نغار؟
قالت إجلال لعصام: ألا ترى أبي حائرا؟ - لا أرى شيئا. - أنت لا ترى شيئا إلا نفسك. - أفكر في السفر إلى الإسكندرية. - وفيم تفكر؟ - أخاف أن تكون النقود قليلة. - وماذا تريد؟ - أريد أن أذهب إلى سينما سان ستفانو وأريد أن أرقص في الكازينو. - ألست صغيرا على الرقص؟ - كلهم يرقصون. - من الفرح؟ - لا أعرف وإنما كل زملائي يرقصون. - ولكني أراهم في رقصتهم كمجانين يريدون أن يحطموا أنفسهم . - لعلهم يريدون ذلك. - ولماذا يريدون أن يحطموا أنفسهم؟ - ولماذا لا يحطمون أنفسهم؟ - لأنها أنفسهم. - إنها محطمة فعلا. - أنت مجنون. - الجميع مجانين. - أنا لست مجنونة. - إن هدوءك الزائد نوع من الجنون. - أفكر. - تعدلين نظام الكون. - أفكر في أبي. - ولماذا لا تتركين أبي يفكر في أبي؟ - إننا أولاده. - فليفكر هو فينا. - ونحن؟ - نفكر في الإسكندرية. - في السينما؟ - والرقص. - وبعد؟ - ليس هناك بعد. - لكل شيء بعد. - ليس هناك بعد.
مزق هذا الخطاب
أستحلفك بربك، بكل عزيز عندك، احكم بيني وبين المدير العام، أنا أعلم أنك لا تحبني وأعلم أنك طوال الفترة التي عرفتني فيها تعتقد أنني ثقيل الظل لا أحتمل، وأنا أعلم أنك في مجالسك الخاصة كنت تجعل مني مادة لتندرك، ونكتة لا تخطئ في إطلاق الضحك من أفواه أصدقائك بل من قلوبهم، ولا أدري كيف كانت تصلني هذه النكت، لعلها لم تكن تصلني، الواقع أنني كنت أراها تطل من عيون أصدقائك الذين أعرفهم، كنت أرى نفسي في ابتسامة ساخرة على أفواههم، وكنت أعرف أنهم وهم ينظرون إلي إنما يذكرون ما تلقيه عليهم، ومع ذلك لم أكن أعدم من حين لآخر من يهمس في أذني أن أحاول التقرب منك، وعلم الله لقد حاولت بكل ما في من طاقة ولكنك كنت تصدني في غير صلف، وتردني في غير عنف؛ فأنت عادل، وأنت تعلم أن لا ذنب لي في أنني لست خفيف الظل، ولست قريبا إلى قلبك، أو لعلك كنت تحتقر شأني، ولا يعنيك من أمري أن أكون قريبا منك، أو غير قريب، وإنما أنا بالنسبة إليك همل لا يضر ولا ينفع. لا أخفي عليك فإنه من العسير أن يخفى عليك شيء، لقد عشت عمري وأنا حريص أن أكون حقير الشأن لا أضر ولا أنفع. فأنا على الرغم مما تظنه بي من غباء أحسن تقدير الأمور، وخاصة ما كان منها متعلقا بمصلحتي الشخصية. فحين أدركت الشباب عرفت أنه لا سبيل لي أن أكون محبوبا بين زملائي. فأنا لا أستطيع أن أكون بينهم خفيف الظل حاضر البديهة سريع النكتة. ولا أستطيع أيضا أن أجاريهم فيما يتناقلون من شهي الحديث وممتع الحكايات، فحزمت أمري أن أكون مستمعا، وقد أتقنت الاستماع حتى أصبحت بينهم مستمعا، لكل حديث.
والمتحدث منهم لا يتوقع أن أجيب حديثه بحديث بل هو يكتفي بأن يقول وأنا أكتفي بأن أستمع. وهكذا أصبحت من بين الأصدقاء عنصرا نادرا لا يأنفون من الجلوس إلي؛ فإن العنصر المستمع بين الأصدقاء الأنداد عنصر قل أن تجده، والمتحدث منهم إلي لا يطلب مني رأيا ولا هو يستشيرني. إنما هو يقص علي لأنه يريد أن يقص علي، كل ما يريده الصديق منهم أن يقول وحتى لا يبدو مجنونا يتحدث إلى نفسه يبحث عني ليقول لي، أنا عنده إذن بديل عن الهواء الذي كان سيلقى إليه بحديثه على كل حال، وإن أذنا تسمع بلا فم يعلق خير من الهواء وخير أيضا من هؤلاء الذين يختزنون في داخلهم قصصا أخرى مثل قصة المتحدث تبحث عن منطلق لها وأذن.
وهكذا يا سيدي استطعت أن أتغلب على مشكلة عجزي عن الكلام، واتخذت من هذا العجز رأسمال لي بين الأصدقاء. وقد انتفعت بهذا العجز أي انتفاع؛ فأصبح الأصدقاء يتهافتون عل الحديث إلي. ألم أقل لك إن المادة المستمعة بين الأصدقاء مادة نادرة.
ومنذ أدركت الشباب عرفت أيضا أنني أستطيع أن أكون مثل كثير من أصدقائي خفيف الحركة ألعب بالبيضة والحجر؛ فأنا بطبيعة تكويني بطيء التفكير، لا أستطيع أن أكون حيث يجب أن أكون ولا أستطيع أن أفعل ما يجب أن أفعل في الوقت الذي يجب أن يتم فيه هذا الفعل. إنها مقدرة خاصة عرفت بذكائي المحدود أنني لا أتمتع بها. وأدركت أيضا أن فقداني لهذه الخاصية سيجعلني دائما متأخرا عن الرفاق في مضمار العمل؛ فإن لهؤلاء الرفاق موهبة عجيبة طالما حسدتهم عليها، إنهم يستطيعون دائما أن يقولوا لرؤسائهم ما يجب أن يقال ويستطيعون أن يؤدوا إليهم ما يجب أن يؤدى في طبيعة مواتية بغير تصنع ولا تكلف ولا افتعال، ولكن من مأمنه يؤتى الحذر ؛ فهم بهذه الموهبة التي يتمتعون بها يقدرون ذكاءهم أكثر مما يستحق من تقدير، فهم لهذا يسارعون إلى الخطأ، فإن كثرة الحركة تؤدي بطبيعتها إلى الخطأ. لهذا كان من الطبيعي أن يقعوا في أخطاء مع رؤسائهم تجعلهم يتعرضون - بطبيعة الحال - إلى غضب الرؤساء غضبا قد يصل إلى الرفت.
أما أنا فقد أدركت طبيعة تكويني، فحزمت أمري أن أكون مطيعا لرئيسي، لا أناقشه فيما يفعل ولا فيما يقول، فلا أسأله إلا الإيضاح ليكون التنفيذ دقيقا كل الدقة لا مجال فيه للخطأ.
هل أبوح لك بسر؟ لا بأس، فأنا أعلم أن شيئا لا يخفى عليك: لقد أصبحت في بيتي مع زوجتي - ولا تذع هذا عني - مع أولادي أصبحت أطيع ما يقولون، دون مناقشة أيضا. هكذا علمت أن الحياة بالنسبة إلي لن تصلح إلا بالطاعة. إن مناقشة أولادي من اختصاص زوجتي وحدها، فأنا لا أصلح للمناقشة. قصارى ما أفعله إذا طلبوا شيئا أن أسأل زوجتي إن كان يجب علي أن أنفذه أم لا.
أظنك الآن أصبحت تدرك تمام الإدراك كيف أعيش حياتي، ولكنك لا تعرف أي منصب أصبحت أشغله في الشركة، لقد أصبحت الشخص الثاني مباشرة للمدير العام. قد يدهشك هذا، فإن لم يكن أدهشك أنت فقد أدهشني أنا. لقد وجدت نفسي فجأة في مكان لا بد لي فيه أن أصدر الأوامر. أنا لست غبيا، وهل غبي من يعرف حقيقة نفسه. كم بين الناس من يستطيع أن يدرك حقيقة نفسه؟! أنا أعرفها تماما، وأقدر مواهبي، ولا أضع نفسي إلا حيث تستطيع مواهبي أن تضعني. ولذلك أثار قرار تعييني في هذا المنصب الهام في الشركة كثيرا من القلق في نفسي، وما زلت أفكر حتى انتهي بي التفكير أن أجد بين الموظفين الذين يعملون تحت رئاستي فتى من هؤلاء الذين يستطيعون أن يلعبوا بالبيضة والحجر، واتخذت منه صديقا، وجعلته هو الذي يقترح علي ما أفعل، ثم أنا آخذ ما فكر فيه وأقدمه إلى المدير العام، فإن وافق عليه أصدرت به القرار حريصا دائما أن تكون عبارة : حسب أوامر السيد المدير العام، في أول القرار أو في آخره، وهكذا استطعت أن أكون أداة منفذة إما لاقتراح مرءوس أو لأوامر رئيس.
فليس عجيبا إذن أن أظل في أمان من غضب رئيسي أو مرءوسي على السواء، ولا يهمني من بعد ما يرميني به رئيس ومرءوس على السواء. إني أكاد أسمع الهمس الذي يدور في نفوسهم والذي يلقون به إلى خاصة أصدقائهم، وأظنك في غنى أن أنقل إليك هذا الهمس، فلا شك أنك تعرفه، ولكن ما يهم، ما يهم ما دمت من اقتراحات مرءوس أو من أوامر رئيس في حصن حصين.
أنا أدري أنك تعرف هذا جميعه؛ فهذا الحديث الذي أسوقه إليك لا يضيف جديدا إلى علمك. ولكنني ألجأ إليك اليوم لتكون حكما بيني وبين رئيسي؛ أنا أدري أنك لا تستطيع أن تؤثر عليه؛ فهو لا يتأثر برأي أحد، ولكنك الوحيد الذي أستطيع أن ألجأ إليه، على الرغم مما أعلمه عنك من أنك لا تحبني، بل إنني أعلم أكثر من ذلك أن قولي إنك لا تحبني فيه تجاوز كبير؛ فأنت لا تفكر في أمري حتى تكرهني؛ فأنا أهون عندك من تكوين شعور معين نحوي. ولكنك الوحيد الذي ألجأ إليه رغم ذلك جميعه؛ فمكانتي عند الجميع هي مكانتي عندك؛ فإن أحدا لا يفكر في أمري حتى يكون شعورا معينا نحوي، وزوجتي وأولادي يعتبرونني بكل بساطة اليد التي تقبض لهم المرتب في أول الشهر، فهم في دخيلة أنفسهم يعجبون لماذا أقبض هذا المرتب، فهم أعلم بحقيقة مؤهلاتي من غيرهم؛ وهم بالتالي أكثر احتقارا لشأني من الآخرين، وإن كانوا لا يبدون لي هذا الاحتقار. وهذه الأفكار التي أسوقها إليك لا أستطيع أن أسوقها إليهم. فأنا إنما أرويها لك لأنك تعرفها وتستطيع أن تواجهني بها وقتما تشاء، أما هم فيعرفونها ولا يجرءون على إبدائها، وأنا أعلم أنهم يطالعونني بآرائهم، فأنا أستغل هذا النفاق منهم وأحافظ عليه ولا أريد أن يزول.
أنت إذن الشخص الوحيد الذي أسوق إليه هذا الحديث في هذا الخطاب الذي أرجو أن تتصرف فيه بعد قراءته بحيث يختفي تماما من الوجود.
إنها المرة الأولى التي وجدت نفسي فيها في حاجة إلى الحديث؛ فإن لم أتحدث فقد أموت، وأنا لا أريد أن أموت؛ خاصة وأنا أشغل هذا المنصب الهام في الشركة، والذي أرجو أن أظل محتفظا به بغير زيادة ولا نقصان إلى أن أنتقل إلى الدار الآخرة. نعم؛ فإن من مميزاتي التي أعلم بها في نفسي أنني بلا طموح؛ أرضى بما يعطى لي راضيا به شاكرا له. ومن أعجب ما سمعت يوما من أحد زملائي الذين يشغلون منصبا كبيرا أنه أصبح لا يستطيع أن يطمع في وظيفة أكبر لأنه بلغ القمة في الفرع الذي يعمل به. فهو غاضب لأنه لا يجد لنفسه أملا جديدا يسعى إليه. وكان جوابي البسيط له أن الأمل الأكبر الذي يجب أن يسعى إليه هو أن يظل في هذا المنصب، والآن هذا هو الأمل الذي أسعى إليه، ولكن يبدو أن أملي هذا لا يريد أن يتحقق.
تصور، تصور أن شخصا له كل هذه المؤهلات التي ذكرتها لك يهدده رئيس مجلس الإدارة بالرفت.
لم يهددني مباشرة؛ فأنا أهون من أن يهددني مباشرة، ولكن حديثا شاع في مكتبه أنه يفكر هذا التفكير. لماذا بربك؟! أي نفع يعود عليه من هذا التفكير؟! إنني لا أمانع أن يضع معي من الوكلاء ما يشاء، بل إنني لا أمانع إذا رقى مرءوسي جميعا فجعلهم رؤساء لي؛ ففكرة الرفت في ذاتها عجيبة كل العجب بالنسبة لشخص مثلي أقل مميزاته أنه لا يضر، لا يضر مطلقا، ولا يهمه إن كان لا ينفع أيضا؛ فبحسبه أن يكون بوقا جيدا لرئيسه.
إنني أتمزق، يكاد القلق يقتلني، لم أجد شيئا أفعله إلا أن أكتب لك هذا الخطاب، وأنا واثق أنه لا جدوى من كتابته إلا أنني أردت أن أكتبه.
ولا تسألني عن السبب الذي يمكن أن يكون دافعا لفكرة رفتي هذه؛ فهيهات هيهات أن يكون هناك سبب، وهذا ما يفزعني؛ فإنه من المستحيل أن أصنع شيئا يمكن أن يكون سببا أو شبه سبب لرفتي، وهذا ما يحزنني؛ فأنا والوضع هكذا لا أستطيع أن أناقش فكرة رفتي؛ لأنها فكرة نشأت دون أن يكون لها دافع يمكن أن يناقش.
مزق هذا الخطاب أو احرقه؛ فإنني فقط أردت أن أقول لك وقد قلت، ولا أعتقد أنني شعرت بالراحة بعد أن قلت؛ فإن ما سمعته ينغص عيشي ويمزقني تمزيقا، مزق هذا الخطاب أرجوك، مزقه والله هو المستعان.
قصاصات
قصد إلى مكتبه في هدوء كأنما تجذبه قوة غير منظورة لا يدري كنهها، وجلس على الكرسي الذي تعود أن يجلس عليه منذ سنوات وسنوات، ومد يده اليسرى ففتح هذا الدرج الذي ظل سنوات طويلة يريد أن يخلو ما يحويه، درج عميق عميق، كان يفتحه بين الحين والحين ليلقي إليه شيئا وكان دائما يقول في نفسه: أريد أن أخلو إلى هذا الدرج لأستعيد كل ما يحويه، وتمر الخاطرة بذهنه سريعة عابرة مع ذلك النوع من التصميم الذي لا يصل إلى التنفيذ، لقد مرت به أوقات فراغ كبيرة، ولكنه لا يذكر الدرج إلا حينما يجد شيئا منشورا عنه في إحدى الجرائد، وحين يقص هذا الذي كتب عنه ويلقي به إلى الدرج تعاوده هذه الهمسة المصممة: متى أجلس إلى هذا الدرج لأستعيد ما فيه؟! ثم يقفل الدرج ويعود إلى مألوف حياته، حتى يجد شيئا مكتوبا عنه. كثيرا ما جلس إلى المكتب وكتب، ولكن فكرة أن يفتح الدرج لم تخطر له على بال، ولكنه اليوم يجلس على الكرسي ويفتح هذا الدرج الأيسر العميق العميق.
وقبض قبضة عفوية، وحمل الذكريات وألقى بها على المكتب، وألقى بنظرة على ما حملته يده، وكانت ذكرياته القريبة، لم يمر عليها من الزمن ما يكفي أن يجعل منها ذكريات، لم يشم منها رائحة الزمن ولا عبق الماضي، لم يتول قلبه هذا النوع من الوجيب الذي أراد أن ينعم به.
ألقى بيده مرة أخرى وقبض قبضة من ذكرياته وألقى بها على سطح المكتب، إنها ذكريات وأكثر قدما من القبضة الأولى ولكن لا، ليست هذه ما يريد ، وظل ينقل إلى سطح المكتب وفي كل مرة تغوص ذراعه أكثر من المرة السابقة إلى قاع الدرج.
لم يعد ينظر إلى ما تخرجه يده، وإنما كان ينقل الذكريات جميعا في شوق كبير إلى مجهول يدريه، انتابه شعور طاغ بأنه يريد أن يلتقي بهذا الماضي، إنه لا يعرف عنه شيئا كأنه ليس ماضيه كأنه مقبل على مشاهدة فيلم لا يعرف عنه شيئا، لقد مر بذهنه للحظات أنه يعد آلة العرض ويعد الفيلم الذي سيعرض؛ فيلم جديد لم يشاهده قبل اليوم قط. لقد صنع كل هذه الأشياء التي يحفل بها الدرج، ولكن هناك فرقا كبيرا بين صنع الشيء وقراءته، ولقد قرأ كل ما كتب عنه، ولكن هناك فرقا كبيرا بين قراءة شيء منذ عشرات السنين وقراءته الآن في هذه اللحظة. إن الفيلم جديد، الفيلم جديد، لست أنا هذا الفتى الذي كان منذ أربعين سنة، أربعون سنة مرت، ولكم تغير السنون حين تمر، فكيف بأربعين سنة! كنت حينذاك شابا لم تخلق الحياة التي حوله إلا من أجله هو، هو سيدها، وهو مدارها، كم كنت أحب أن أكتب، كنت قد قرأت، قرأت كثيرا وأحببت أن أكتب، وهفت نفسي أن أرى اسمي يحمل فوقه كلاما في جريدة، وكتبت، كتبت كثيرا، وظللت لفترة طويلة أغذي سلة المهملات، في مكاتب رؤساء تحرير الجرائد الكبرى والصغرى على السواء، ما الذي ذكرني بهذه الفترة؟! هذه الورقة؟! هذه القصاصة الضئيلة، وهذا العنوان الذي كتب بحروف لا تزيد في حجمها كثيرا على حروف المقال نفسه؟! لكم كنت شابا! وإلا فهل أستطيع أن أكتب اليوم هذا العنوان: «الفن والحياة»؟ كنت أكتب عنه وأنا في هذه السن واثقا من نفسي مطمئنا أنني أستطيع أن أعالج هذا الموضوع الضخم وكأنه مسألة ضئيلة هينة. ترى هل أجرؤ اليوم وبعد أربعين سنة أن أكتب هذا العنوان (الفن والحياة)؟ إنه عنوان لا يستطيع أن يكتبه إلا الشاب الذي كنت يومذاك، أو أستاذ كبير في الجامعة يجعل منه عنوان كتاب ضخم يعتبره كتاب عمره. كم فرحت يوم نشر هذا المقال! كم فرحت! ما الحياة إذا لم تتخللها من حين إلى حين هذه الومضات المشرقة من الفرح؟! لماذا تحرمنا الحياة هذه الفرحة؟! هذا المقال الذي نشرته في المجلة بعد ذلك، فرحت به هو أيضا، ثم ظللت أكتب مقالاتي، ومع كل مقال تتناقص الفرحة حتى انعدمت. أعتبر طلب مقال عني اليوم عبئا ثقيلا لا أستطيع أن أتخلف عنه؛ لأن صناعتي أن أكتب، وأتمنى في الوقت نفسه لو كان لم يطلب مني حتى أستريح ولا أكتب.
كم كنت أتمنى في هذه الأيام أن أكتب، لم يكن يطلب إلي أن أكتب، ولكني مع ذلك كنت أكتب وأكتب وأكتب، هذه أول قصة نشرت لي في مجلة الصباح، لكم فرحت بها هي أيضا ثم ما لبثت الفرحة أن راحت تذوب مع القصص، لماذا؟ لماذا فرحت أيضا بأول كتاب صدر لي؛ رواية «حياة وأوهام»؟ التفت له النقاد، نعم هذا أول مقال نشر عنها بقلم الناقد الكبير سامي أحمد، اعتبرت نفسي قصاصا يوم نشر هذا المقال، نعم قلت للناس ذلك ولكن ما هي الحقيقة؟ ألم أكن أنا في دخيلة نفسي مقتنعا بفني؟ ولكن هل المهم أن أقتنع أنا بفني أم المهم أن يقتنع به الآخرون؟ عجيب عمل الأديب؛ إنه مزاج عجيب من الإرسال والاستقبال. مهما أكن مقتنعا بفني فلا قيمة لهذا الاقتناع حتى يعترف بي الناس، ومن ناحية أخرى مهما يعترف بي الناس فلا قيمة لاعترافهم إن لم أكن أنا واثقا من أصالة فني، مسكين هذا الفنان! تتعلق حياته بالآخرين والآخرون لا يرحمون، إن لم يروا فنا فلن يعترفوا به. ليس في هذا المجال رحمة أبدا. ومع ذلك يقول الناس؛ الناس أنفسهم الذين يقسون على الفنان: إن الفن رحمة وإنسانية وشفافية. إنهم يطلبون من فنانيهم الرحمة والشفقة والشفافية، وهم أنفسهم لا يتمتعون بشيء من هذا المبدأ أبدا، وهم أيضا معذورون؛ فلو اعترفوا بكل من يحاول أن يكون فنانا لأصبح الفنانون أكثر عددا من مستقبلي أعمالهم. أتراني أصبحت فنانا؟ هذا الدرج يقول: نعم. ولكن أنا نفسي تساورني الشكوك كثيرا، ما زالت الشكوك تساورني، لم أبلغ ما أردت لنفسي، إنني أقرأ من القصص ما يجعلني أشك كثيرا أنني صنعت شيئا.
هذه صورتي في المجلة، إنها صورتي يوم تزوجت، كنت يومذاك على جانب من الشهرة ونشرت مجلة «الفنون» صورتي مع خبر زواجي، أيهم هذا قراء مجلة الفنون في شيء؟! ماذا يهمهم إن كنت قد تزوجت أم لا؟! العجيب أن أغلب القراء يهمهم ما يقرءونه عني أكثر مما يهتمون بما أكتبه، عجيب أمر هؤلاء الناس، إن شهرة الأديب عندنا تتكون مما يكتب عنه لا مما يكتبه، ماذا يهم الناس من أمر زواجي؟! لقد كان الزواج مهما لي أنا. نعم كنت أحب إلهام، كنت أحبها بكل حماسة الشباب وكل نبض الأديب، والتقى حبي لها بحبها لي، ولم يكن الأمر عسيرا؛ فقد كان كل ما يهم أبويها متوافرا في؛ أحمل شهادة الآداب، وأعمل موظفا في الجامعة، ومستقبلي من الناحية الوظيفية مضمون. أما أنني أكتب القصص والمقالات فلا بأس ما دام هذا لا يعدو على وظيفتي، وإن كان أسعد بك حمادة مفتش الحساب بالمدارس الابتدائية يتمنى أن أشغل نفسي بشيء أكثر فائدة من القصص والروايات. كانت مجرد أمنية، ولم تكن عائقا في زواجي من إلهام ابنته. ما أطيب الأيام التي قضيتها مع إلهام؛ حب وخصام وتفاهم ومغاضبة وفرح وضيق! كانت تمر علي لحظات ونحن في أول الزواج أحسب فيها أن العالم كله لا يعرف من هو أسعد مني، وكانت تمر علي لحظات ونحن في أول الزواج أحسب فيها أن ليس في العالم أجمع من هو أتعس مني، واليوم وأنا أستشرف هذه السنوات البعيدة، أراها في مجموعها، في جملتها، في هنائها وتعاستها، في فرحي بها وشقائي، في إقبالي عليها ونفوري، هي هكذا جميعا سنوات حلوة، لماذا تحكي الحواديت دائما إنهما عاشا في تبات ونبات وخلفوا صبيان وبنات؟! ما التبات والنبات؟ أتراهم يريدون أن يقولوا إن الزواج كان ثابتا ومثمرا؟ وإلا فما معنى النبات؟ ولماذا تحكي الحواديت عن الزوجين السعيدين حياتهما ضحك وعيشهما هناء؟! أي نوع من الزواج هذا؟ إنه زواج راكد كالبركة، إن لم تضطرم فيه العواطف من غضب وهدوء، ومن إقبال ونفور، فهو ليس حياة. بحياتي أفديها إلهام؛ لقد ملأت حياتي حياة، كانت تحب عملي كأديب، وتغار في نفس الوقت من عملي كأديب. كانت تحب أن يمدحني النقاد، وتغار في نفس الوقت أنني حديث الصحف وهي لا يكتب عنها أحد. وكانت تحب أن أكون بين الناس وفي المجتمعات، وتغار في نفس الوقت من أنني أتحدث إلى سيدة. وقضيت حياتي وحياتها بين هذا الحب وهذه الغيرة. مزاج عذب وفيه حلاوة، ومن تفاعلهما معا تصبح حياة لها طعم خاص، فيها نكهة ذات معنى، وذات لون لا تتسم به حياة زوجين آخرين. ما أبأس الحياة التي تشبه حياة الآخرين! لا بد من وجود لون خاص لكل بيت، لون خاص لا يراه الزائرون ولا الأقارب ولا الأبناء ولكن يحسه الزوج وتحسه الزوجة، يعرفانه وحدهما، يعرفان هذا اللون الخاص بهما ويميزانه من بين كل الألوان الأخرى ولا يخطئانه أبدا.
هذه صورة محمد نشرها صديقي الصحفي الكبير علي ممدوح في الاحتفال بالعيد الأول لميلاد محمد، جاء بعد زواجي بسنة وبضعة أشهر، هذا هو محمد، لو رأى أولاده صورته ما عرفوه، أما أنا فأعرفه، هذا هو ابني يكبر ولكنه عندي أنا سيظل هذه الصورة، أم تراه يظل ذلك الطفل الشقي الذي تأبى ملابسه الداخلية إلا أن تظل خارجية، ويأبى شعره أن يستجيب لمشط، ويأبى وجهه أن يكون نظيفا، وتأبى أصابعه أن تخلو من الحبر؟ أم تراه ذلك الفتى المعجب بنفسه، يكثر من التأنق، ويكثر من تمشيط شعره، ويهتم بحلاقة لحيته التي كانت تعانده فلا تنمو، ويهتم بنظافة يديه، ويهتم أكثر من هذا جميعا بالنظر من النافذة معتقدا أنني لا أعلم شيئا، جاهلا أنني تزوجت أمه من نفس الطريق الذي يريده هو أن يتزوج به؟ أم تراه محمد ذلك الشاب النابغة في كلية الهندسة، إن لم يكن أول فصله فهو الثاني، وإن لم يكن التقدير ممتازا فهو جيد جدا؟ أم تراه محمد المعيد بكلية الهندسة؟ أم تراه محمد الزوج الطيب والأب المتفاني في حب ابنه وابنته؟ أي محمد في هؤلاء جميعا هو ابني محمد؟ إنه محمد جميعا، محمد منذ هو فكرة ومنذ هو يركل أمه حين هو جنين، ومنذ هو وليد، ومنذ هو هذه الصورة التي نشرها صديقي علي ممدوح، وحتى اليوم، وهو معيد وزوج ووالد. حلوة هي الأبوة، تضم في حناياها حياة إنسان بأكملها، وتظل الحياة حية نابضة يصحبها الأب معه إلى الحياة الأخرى دفئا يؤنس غربته في العالم الثاني، وقد تبقيه في الحياة الأولى ذكرى وامتدادا. هينة هي الصعاب التي يلقاها الأب أمام شعوره بأن له ابنا وأن ابنه يشعر أن له أبا. إن ما يلتقي به الأب من مخاوف على ولده أهون مما يلقاه الإنسان الذي إذا علت به السن لم يجد حوله من يشعره بأنه أب، وبأن هناك من يتمنون له طول الحياة. وهذه صورة هند يوم زواجها، نشرتها أنا في المجلة التي أعمل رئيسا لتحريرها، مشاعر عجيبة انتابتني يوم تزوجت هند، لقد تعودت أن تكون بجانبي دائما، وكنت أحب أن أراها هي وإلهام جالستين تنتظران عودتي. هذه الفتاة الحلوة التي أحبها زميل أخيها المهندس علاء حمدي، لم يرها في الأيام الأولى من ولادتها وعيناها لا يبين لهما لون من القاذورات التي تغشاهما، فلم يتضح أنهما زرقاوان إلا بعد أسابيع وأسابيع، ولم يرها والحصبة تملأ وجهها هزيلة لا تطيق أن تنطق حرفا، وقد كانت لا تسكت أبدا، ولم يرها وهي في المدرسة تتعثر في العلوم تعثرا وتقف حائرة أمامي إذا وبختها لإهمالها. لم ير علاء من هذا جميعا إلا هذه الفتاة الجميلة التي تجيد الحديث إذا تحدثت، وتجيد تصفيف شعرها، وتجيد نقل خطواتها في صنعة كأنها الطبيعة، أو في طبيعة كأنها مصنوعة. وهو أيضا لا يعرف عنها كم هي صادقة واقعية من نفسها، لا تغش نفسها ولا تحب أن تغش أحدا، تقول رأيها في صراحة وبساطة وهدوء. يعرف عنها هذا، لعله يعرفه، ولكن أهذا ما جعله يتزوجها أم العيون الزرق والشعر الأصفر والقوام الأهيف؟! من يدري.
وهذه صورة ابنتها، جميل أن يكون لأبنائي أبناء، ما أسفت على شيء قدر أسفي أنني لم أرزق أطفالا إلا بعد أن مات أبي، كنت أريده أن يعيش لأني لم أعرف كم كان يحبني إلا حين أحببت أنا أبنائي.
عميق هذا الدرج عميق، وكثيرة هذه الأوراق كثيرة، إنها كل ما كتب عني، أحق هذا، أم الحق في أمري لم يظهر حتى اليوم؟ سنوات طويلة وأنا أتمنى أن أجلس هذه الجلسة لأقلب هذه الأوراق، ما الذي أجلسني اليوم؟
كنت هنا يومذاك، وكنت أكتب السطور الأخيرة من روايتي، وكنت سعيدا أنني انتهيت منها، هذه فرحة لم أفقدها أبدا، فرحتي بأنني أكتب، لم أفقد هذه الفرحة أبدا، فقدت فرحتي بأن ينشر لي كتاب بعد صدور الكتاب الثاني لي، ولكن فرحتي بأنني أكتب وبأنني أريد أن أقول وأنني أقول ما أريد لم أفقدها أبدا، بل هي تزيد، دائما تزيد. أربعون عاما أكتب وهذه الفرحة تزيد. جميل أن أكون في الستين وأجد شيئا يفرحني هذا الفرح الطاغي. كنت فرحا وأنا أضع علامة النهاية في روايتي، وقبل أن أوقع رفعت يدي عن الورقة ووضعتها على المكتب، ورحت أقرأ النهاية مرة أخرى قبل أن أحمل اسمي عبء هذه الرواية الكبيرة. فرحت. لقد كانت النهاية كما أردتها أن تكون. فرحت، فرحت وأردت أن أوقع ولكن يدي لم تستجب، لقد ظلت مشلولة على المكتب وأبت أن تضع اسمي على نهاية الرواية. أتراني جلست إلى هذا الدرج لأنني أصبت بالشلل؟ ولكن الأطباء يقولون إنني سأشفى. لا، ليس هذا هو السبب. فلماذا جلست إلى درج الذكريات؟ لماذا؟ لماذا؟
حلم العمر
أنسى كل شيء؛ أنسى وجودي وكياني، وأنسى الأمس القريب واللحظة الماضية ووعد اللقاء والصلاة، أنسى حتى المكان الذي أريد أن أذهب إليه، أنسى لحظات الخوف، ولحظات الأمل، أنسى لحظات السعادة ولحظات اليأس، أنسى كل ما تعرضت له في حياتي الطويلة هذه. طويلة هي طويلة، قضيت على سطح هذه الأرض ثلاثة وعشرين عاما لم أشعر فيها جميعا بهذا الذي يسمونه الملل، ومن أين يأتي الملل؟! أما وأنا طفل رضيع فلم أكن أشعر بشيء على الإطلاق، ولم أكن أعلن أنني لم أشعر بشيء على الإطلاق، ووعيت ووعيت، وما زلت أذكر ما وعته مني الذاكرة وأنا طفل، كانت جدتي سيدة عجوز، وكانت تعطيني نقودا، ولا أذكر ما المصير الذي كانت تنتهي إليه هذه النقود، فما كنت أريد شيئا؛ فقد كنت آكل وألعب وأنام، كنت أعيش في قرية تقع في أعماق الريف، لا تصل إليها إلا الركائب الحية من حمير وجمال وخيل، ولقد قدمت الحمير في الحديث لأنها كانت تمثل الغالبية العظمي من وسائل المواصلات في القرية، أما الجمال فقد كانت في أغلب أمرها وسيلة نقل البضائع، أما الخيل فإن قصتي كلها مع الخيل؛ إنه حصان واحد رأيته أول ما رأيته أمام منزلنا، نسيت أن أخبرك أن بيتنا يقع هو الآخر في أعماق القرية التي تقع في أعماق الريف، وهكذا كان من العجيب أن رأيت هذا الحصان واقفا أمام باب بيتنا. حصانا فارها طويلا عليه رجل عظيم مكتمل، رأيت رأسه في السماء، ما هذه الهالة التي كانت تحيط به، كيف استطاع هذا الرجل أن يكون جليلا إلى هذا الحد، عظيما إلى هذا المدى؟ جرى إليه كل المحيطين بي. - تفضل يا دكتور، تفضل يا دكتور.
كانت جدته مريضة وقد استدعى لها الدكتور من البندر، لم يتمالك أحمد نفسه أن يسارع إلى داخل الدار يبحث عن أبيه، كان أبوه مشغولا بالطبيب الذي يعود أمه، ولم يستطع أحمد أن يصبر فسارع إلى أمه. - أمه يا أمه. - مالك يا ولد؟ - أريد أن أكون مثل هذا الدكتور. - ومن أين لنا المال يا أحمد؟ - ولماذا المال؟ - لتصبح مثل هذا الدكتور. - لا بد أن أصبح مثل هذا الدكتور. - احفظ أنت اللوح، وربنا يقدرنا.
اللوح، أليس بيني وبينه أن أصبح شاهقا أركب الحصان ويسعى الناس إلي، يوسعون الخطى ويخلون الطريق، ويقدمون الاحترام والتبجيل، ليس بيني وبين هذا جميعه إلا أن أحفظ اللوح؟ حفظت اللوح، واللوح الذي يليه، وكل الألواح التي أعطيت لي. - ربنا يحفظك يا أحمد، خسارة يا ابني ألا تكمل تعليمك؟ وقصد الشيخ عبد العظيم إلى شحاتة الحجار. - جئتك من أجل أحمد يا سي شحاتة. - ماله يا عم الشيخ، هل قصر في شيء؟
أحمد يقصر؟! أحمد في غاية الذكاء يا شحاتة، ولا بد أن نجعله يكمل تعليمه. - العين بصيرة واليد قصيرة يا عم الشيخ عبد العظيم. - إنه ثروة عمرك يا شحاتة، مهما تترك فلن تترك له خيرا من الشهادة. - وكيف أستطيع أن أعلمه؟ - دبر حالك. - كله على الله يا عم الشيخ عبد العظيم.
كنت أستمع إلى هذا الحديث، وما زلت أذكر كيف سارعت إلى الجامع ورحت أبتهل إلى الله أن يجعل أبي يوافق على تعليمي، حتى تأكدت أن الله استجاب دعائي فسارعت إلى أمي. - أمه، سأصبح دكتورا. - كيف عرفت؟ - أبي قال: كله على الله، وذهبت إلى الجامع فتأكدت أن الله قبل رجائي. - لهذه الدرجة تريد أن تكون دكتورا؟ - أموت يا أمه وأكون دكتورا. - بعد الشر يا ابني، إنما قل لي، ما السر في رغبتك الشديدة هذه؟ - لا أعرف، كل الذي أعرفه أنني أريد أن أكون دكتورا. - هذا كل ما تعرف؟ - دكتور يا أمه دكتور، أريد أن أكون دكتورا. - إن شاء الله يا أحمد ستكون دكتورا.
كانت لبيبة تملك سوارين من الذهب وقرطا وحلية برقع، ذهبت إلى البندر فباعتها جميعا وعادت لتقول لزوجها: اسمع يا شحاتة، أحمد لا بد أن يذهب إلى المدرسة. - أجننت؟! أنت تعرفين البير وغطاه، من أين لنا بالفلوس؟ - لا شأن لك. - ماذا تقصدين؟ - لا شأن لك. - هل بعت الذهب؟ - ماذا يفيد الذهب؟ - كنا نجعله أمانا لنا من الخوف؛ من يضمن نفسه؟! قد نمرض أو نحتاج لشيء. - شهادة الولد أهم. - يا لبيبة الطريق طويل وصعب. - الذي خلقنا لن ينسانا. - توكلنا على الله.
قالت لي أمي: أحمد، كيف ستذهب إلى المدرسة؟ - ماشيا. - الطريق طويل. - أمشيه. - لا يا بني، حرام، سأشتري لك حمارا. - الله يطول عمرك يا أمه. - ولكن يا ابني المسافة طويلة بيننا وبين البندر. - أقطعها في غمضة عين. - قد تحتاج إلى ساعتين حتى تصل. - وما له؟! - والمدرسة تفتح الساعة الثامنة. - وإن كانت تفتح في الساعة الخامسة. - على بركة الله.
أنسى الأيام الطويلة التي قضيتها على ظهر الحمار، حين كنت أصحو والليل أسود داكن، من يراه يكاد يوقن أن لا صباح بعده، أسود كان الليل حين كنت أستيقظ لأجد أمي قد وضعت لي رغيفا وقطعة من الجبن القريش، أضعها في حقيبتي، ثم ألبس ملابسي، ثم أغسل وجهي، ثم أركب الحمار، والشيخ عبد العظيم يؤذن لصلاة الفجر، وما هي إلا دقائق قليلة حتي تشرق الشمس وأستطيع أن أقرأ، أظل أذاكر حتى أصل إلى المدرسة، وحين ينتهي اليوم الدراسي أركب الحمار وأظل أذاكر حتى أصل إلى البيت، ما هي إلا لقيمات ألقي بها في جوفي ثم أنام ... أنسى الأيام الكالحة، بلا لعب مع الأطفال حين أنا طفل، ولا سمر مع الرفاق حين أنا صبي يشارف مطالع الشباب، ولا لهو من الشباب حين أنا فتى في زهوة العمر وربق السن ... أنسى الجليد، أحس به يسري في دمائي نافذا من وجهي ويدي، من كل مكان في جسمي سواء كان هذا المكان كاسيا أو عاريا؛ فما كان الكساء يختلف كثيرا عن العري ... أنسى اللحظات الموحشة أقطعها وحيدا في الطريق، لا صوت ولا حياة، كأنما أنا نبتة وحيدة ظهرت في قفر موحش في أقطار الأرض ... أنسى الإنهاك ينساب إلي عند عودتي بعد أن أكون قد ركبت الحمار أكثر من أربع ساعات ... أنسى الشباب الذي بلغته وأحلامه وأمانيه؛ فقد كانت لي أمنية واحدة ... أنسى أيام الإجازة التي كنت أقضيها مذاكرا للسنة التي تليها ... أنسى ارتمائي على زملاء المدرسة الذين أعرف أن لهم إخوة في كلية الطب أستجدي منهم الكتب، وأثمرت سنوات الاستجداء مكتبة في الطب وأنا بعد في المرحلة الثانوية ... أنسى الإجازة التي كنت أنتظر فيها نتيجة الثانوية والتي قطعتها لأقرأ كتب الطب وأنا مبهور الأنفاس ألهث، وأنا لا أكاد أصدق أنني سأقرأ هذا الكلام بصفة رسمية ... أنسى اليوم السابق لظهور النتيجة ... ركبت الحمار من العصر وذهبت إلى محطة السكة الحديد في البندر أنتظر وصول النتيجة إلى المدرسة.
قال شحاتة: مبروك يا أحمد. - الله يبارك فيك يابا. - ألا يكفيك ما نلته؟ - أريد أن أكون دكتورا يابا. - يا ابني تعبنا. - أكون دكتورا وأموت يابا. - يا ابني لا قدر الله.
وقال شحاتة: يا عم إسماعيل. - نعم يا سي شحاتة. - القراريط الأربعة التي بجوار أرضك. - ما لها؟ - ألا تريد أن تشتريها؟ - أنت تريد الثمن دفعة واحدة. - لا يا سيدي. - ماذا تريد إذن؟ - تعطي أحمد ابني ما يحتاج حتى يكمل تعليمه. - تعليمه، أين؟ - في الطب. - تريد أن تعلم ابنك الطب بأربعة قراريط؟ - حتى تسدد ثمنها يعين الذي لا ينسى عبده. - إنك لا تملك غير فدان ونصف فدان. - الله هو المعين. - أنسى أيام الجوع في القاهرة، وأنسى ... نعم وأنسى حين تبدت على السطوح الذي أسكن فيه جميلة كالأمل مشرقة كالرجاء، ابتسمت. - صباح الخير.
تلجلج أحمد كثيرا وهو يقول: صباح الخير. - وحدك؟
وتلجلج ثانية كثيرا وهو يقول: وحدي. - أتريد شيئا؟ - لا شكرا. - أي خدمة؟ - شكرا. - أنت خجلان؟ - لا، لا أبدا. - اسمك؟ - أحمد. - أحمد فقط؟ - أحمد شحاتة. - وأنا سميحة. - سميحة؟ - سميحة إبراهيم، جارتك. - في البيت المجاور؟ - لا، في هذا البيت نفسه. - أهلا وسهلا.
وأنسى، أنسى حين حاولت سميحة أن تقيم بيني وبينها صلة، تركت الحجرة والسطوح إلى حجرة أخرى على سطوح آخر.
وأنسى أن أبي باع الفدان ونصف الفدان جميعه، وباع الجاموسة وباع العجلة التي اشتراها بعد الجاموسة، وباع البيت الذي ورثه عن أبيه واستأجر بيتا آخر، أنسى كل هذا ولا أنسى أنني أعيش فقط لأسمع الخبر الذي ينتظرني الآن، الذي أنتظره أنا؛ الخبر الذي قامت من أجله حياتي جميعا، نعم أنا هنا أمام الكلية منذ الرابعة من الصباح، ولولا خجلي من الفراشين والدكاترة لبت ليلتي هذه أمام باب الكلية، أنا هنا منذ الرابعة لا أجد ما أفعله في ليلتي هذه أمام باب الكلية إلا أن ظل رانيا إلى الباب الذي سأعرف منه الخبر، الساعة الآن جاوزت الواحدة من الظهر. - مبروك يا أحمد، مبروك يا دكتور أحمد، مبروك يا أحمد.
ولم يجب أحمد أحدا من زملائه، وإنما خرج من باب الكلية صامتا جامدا، وظل سائرا وكأنه حجر يتحرك، ووجد نفسه على كوبري قصر النيل، وفي هدوء ألقى بنفسه إلى الماء، وكان يعلم أنه نسي في حياته التي كرسها لأمله أن يتعلم العوم.
نوع من الحب
لم تكن تتصور أنه سيصيب هذا النجاح الذي أصابه، وإلا لمنعته أن يتخذ هذه الخطوة؛ فهي لا تتصور أن يعيش معها وهو غير محتاج إليها، ولا يتصور أن يكون غنيا بدونها، ولا تدري ماذا تقول له، إنه كان يعتب عليها كلما أنبأها عن نجاح له فتستقبل النبأ بفتور وعدم اهتمام.
كان يضيق بهذا، ولكنها لم تكن تستطيع أن تتصور أنه قادر على النجاح بدونها، إنها لا تطيق أن يمدحه أحد أمامها، لا تطيق أن ترى له نجاحا إلا في إرضائها، لقد أخطأت الطبيعة تكوين بيتهما، كانت تريده زوجا غنيا خاملا أو فقيرا خاملا يعيش بما تهب له هي من أموال وليس له حياة إلا حياتها، وليس له مورد إلا يديها، وتصنعه هي على يديها، تشكله كما تشاء، ولم يكن في بادئ أمره إلا هكذا، وماذا ينتظر من فتى في الثلاثين من عمره لم يحصل على شهادة وإنما وقف بتعليمه عند المراحل الأولى من التعليم، ثم خرج يحمل إلى الحياة كمنجة يعزف عليها، ويهب لها كل حياته، وظل يعزف ولا يسمعه أحد، وحيد هو وكمنجته بلا معجبين ولا حتى مستمعين، ولكنه واثق بنفسه تلك الثقة التي يستطيع بها أبناء الفن أن يشقوا طريقهم إلى الحياة أو إلى الموت.
وكان يذهب إلى الفرق يعرض نفسه عليها فيلتقي هناك بالهزء والسخرية، كان أضحوكة أبناء الفن، انقطع عن هذه الفرق وذهب إلى رجل قدير من أبناء الصنعة، وانقطع له، وتعلم عنه كل ما يعلمه، وظن أن علمه في هذه المرة سوف يحميه من سخرية الساخرين.
ولكن السخرية استقبلته مرة أخرى، ولعلها كانت أشد مرارة وأعمق إيلاما .
عاد إلى حجرته وحيدا بكمنجته وظل يعزف معتمدا على هذا المبلغ الذي يرسله له ابن عمه من ريع أرضه، مستور الحال، لا يحتاج إلى المال فيعيش، ولكنه محتاج أن يعيش، إنه لا يعيش، لقد كانت الموسيقي هي حياته، وقد كانت حياته تلك تصد عنه في صلف وتتعالى عليه في كبرياء.
وهو يعزف.
كان يعزف الألم.
وكان يعزف الأمل.
ولم يكن لعزفه من مستمع.
شيء واحد استطاع أن يحافظ عليه، لقد استطاع دائما أن يصد اليأس بهذه الكبرياء التي تقود الفنان إلى الحياة أو إلى الموت.
كان المصير أمامه واضحا لا غموض فيه؛ إنه الحياة أو إنه الموت ولا وسط، لم يكن محتاجا للموسيقى ليقتات منها؛ فقد كان ريع أرضه يقوته. ولكنه كان محتاجا للموسيقى لتكون حياته أو تكون موته.
فهو يعزف.
في البيت الذي يقيم به أختان تقيمان في الدور العلوي. - يعجبك عزفه؟ - لو انقطع عن العزف تهون عندي الحياة. - إلى هذا الحد. - أنت لا تدركين ما يقول في عزفه. - وماذا يقول؟ - أحس ما يقول ولا أستطيع أن أقوله. - ماذا تحسين؟ - الحياة! - الحياة؟! - الحياة كلها، وأنا أستمع إليه تطيب لي الحياة.
أحس أنها جميلة وحلوة وأريد أن أعيشها وأحس أنها جديرة أن تعاش. - هل ترينه؟ - أعرف شكله. - هل تلتقين به؟ - أحب عزفه. - إذن فلا لقاء. - لو تكلم فلن يقول أكثر مما أسمعه منه. - هل تحبينه؟ - أتمنى أن أحبه. - فلماذا لا تحبينه؟ - يهيأ لي أنه ليس من أبناء الأرض الذين يحبون ويحبون. - إنه من أبناء الأرض. - اسمعي موسيقاه أولا ثم احكمي. - مهما أسمع موسيقاه إنه من أبناء الأرض.
ومرض يوما، مرضا لم يكن ذا شأن ولكنه مرض، وانتظرت الفتاة فلم تسمع وطال بها الانتظار. - من؟ - أنا. - أنت من؟ - افتح. - أهلا وسهلا. - إنها بسيمة. - أهلا. - أنت لا تعرفني. - أهلا. - هل أتفضل؟ - تفضلي. - لماذا لم تعزف اليوم؟ - أنت ... - في الدور العلوي. - و... - أستمع لك كل يوم. - هل ... - لم أستطيع أن أتصور انقطاعك عن العزف. - إذن ف... - أظن أنت لا تحتاج إلى رأيي. - بل أنا في أشد الحاجة إليه. - أليس لك معجبون؟ - أنت الأولى. - لن أكون الأخيرة. - كنت مريضا قبل أن تأتي. - إذن فقد شفيت. - لقد ظللت سنوات طويلة أنتظر هذه الجملة. - سوف تمل من سماعها. - لن أمل، عمري جميعه ذهب في سبيل أن أسمعها، لن أمل.
وكثر مجيء بسيمة إلى حجرتي، وبدأت بيننا هذه العلاقة من الألفة التي قد تؤدي إلى الحب، لم أكن أتصور أنها ستحبني، ولكن أختها - زوجتي - كانت أكثر مني علما بأختها وبالحياة، وجدت نفسي مدعوا إلى بيتهما، دعاني أبوهما.
بسيمة هي الصغرى وأختها زوجتي هي الكبرى طبعا.
لماذا نقول كلاما لا لزوم له؟ ما دمت قلت إن بسيمة هي الصغرى فما الداعي أن أقول إن بثينة أختها زوجتي هي الكبرى؟ كلام كثير لا معنى له ونقوله، ولكن بثينة لا تقول شيئا إلا وتريد من ورائه شيئا آخر، بثينة زوجتي، إني أدرك كل شيء، أعرف كل ما في نفسها، أنت يا بثينة لم تحبيني في يوم من الأيام، لقد وجدت في ضالتك المنشودة التي تعرفين أنك تريدينها؛ شاب من الأرياف أختك تحبه، وقد كان هذا هو الدافع الأول الذي جعل بثينة تنظر إلي، ما دامت بسيمة تحبه فلا بد أن تحرم بسيمة منه، ثم هو موسيقي فاشل، وسيظل فاشلا، فما دام قد بلغ هذا العمر ولم ينجح فلا نجاح له من بعد، أستطيع أن أشكله كما أشاء، أجعل منه زوجا ولا زوج، رجلا ولا رجل، وهو مستور الحال، لست أدري كيف كانت بسيمة تخجل، فقد كانت تحبني وتخشى أن تكثر من النزول إلي حتى لا أكشف حبها، ولم تكن بثينة تخجل ولا كانت تحبني، فهي تكثر من النزول إلي، اهتمام كبير بشأني، بجميع شأني، نعم أعرف، أعرف يا زوجتي العزيزة، كنت تسألين عن تقدمي في فني، اليوم أعرف سبب أسئلتك؛ كان الواضح من السؤال أنك كنت تريدين الاطمئنان على نجاحي، اليوم أعلم أنك كنت تريدين الاطمئنان على فشلي، ولم تكن أنباء نجاحي موجودة، وكانت أنباء فشلي هذه الحاضرة في ذلك الحين ، وكنت في هذه الأيام تستطيعين أن تصبغي صوتك بهذه الرنة الآسية الحزينة، كانت بارعة، أو لعلني كنت مغفلا، خطبتك وتزوجنا، وعرفتك، شيء واحد استطعت أن أرغمك عليه، هو أن أعزف، وقد عزفت وظللت أعزف، وفجأة وجدت نفسي أريد أن أؤلف موسيقى، وألفت، ألفت قطعتي الأولى، ولم أسمعها لزوجتي فهي لا تريد أن تسمع شيئا إلا نفسها، خرجت في بهيم الليل وهممت أن أذهب إلى بسيمة وأطرق الباب عليها ولكن تذكرت أن أباها في البيت، عدت إلى حجرتي القديمة وفتحت نوافذها وعزفت، وحين انتهيت سمعت تصفيقا، ولم أقل شيئا، رحت أعيد ما عزفت وأعيده حتى بدأ الصباح واتجهت من فوري إلى الإذاعة.
لم أكن أتصور أن هذا «السنكوح» سيصبح في يوم من الأيام هذا الموسيقار الذي يملأ الدنيا بنجاحه، لو كنت أعلم ما تزوجته؛ إنني أريد زوجي، زوجي فقط، ولا أريده شيئا آخر، لم تعد بسيمة تهمني؛ فقد تزوجته وقضي الأمر، ولكن كيف نجح، ماذا يجد الناس في موسيقاه؟ ماذا يجد الناس؟ لماذا لا يتركونه لي؟ إنه لم يصبح زوجي، لقد أصبح الموسيقار الشهير، ولكنه أبدا ليس زوجي!
لا، لا تعودي
أحبك، أنت لا تدرين ماذا تعني هذه الكلمة بالنسبة لي، وأنت أيضا تجهلين ماذا تعنيه بالنسبة لك.
أحبك، كلمة هينة ما أسهل ما يقولها الناس للناس، وما أسرع ما ينخدع بها الناس من الناس! قالها أغلب الأمر أبونا آدم لأمنا حواء، وقالها لا شك كل الذين اشتركوا في تكوين هذه البشرية، وقالها بصوت عال مرتفع، ظل يدوي عبر الأجيال روميو لجولييت، وقيس لليلى وقيس آخر للبنى، وجميل لبثينة، وكثير لعزة، ولعل هؤلاء كانوا صادقين، ولكن آخرين كاذبين قالوها بطريقة فيها شيء من خفة الظل، أو فيها شيء من الفن، فانتقلت إلينا أنباؤهم هم أيضا؛ فقد قالها كازانوفا لكثيرات وكثيرات، وقالها دون جوان لكثيرات وكثيرات، وقالها أيضا عمر بن أبي ربيعة لكثيرات وكثيرات.
قالوا هذه الكلمة البسيطة الثمينة بطرق شتى، وبأساليب مختلفة، بأبيات وقصائد وخطابات، قالوها شفاها، وقالوها خلجة في عين أو هزة من رأس، أو لمسة من يد. لا شأن لي بهؤلاء جميعا، لا شأن لي، فإني أحبك، وأنا الآن في الثلاثين من عمري، يبدو أنك لم تفهمي بعد ما أريد.
أنا من هواة الأدب والقراءة، عشت عمري كله بين الصفحات ولم أقل لواحدة في العالم أحبك، هذه الكلمة التي قلتها لك أنت، وقلتها بعد تردد شديد وخجل أشد، لم أقلها لفتاة قبلك أبدا، احتفظت بها عمري كله لأقولها لك أنت، هي كلمة عذراء عندي، لم يتحرك بها لساني إلا لك، ولم تصافح مني أذن فتاة قبل أذنك، فهي كلمة لم تسمعها من قبلك أبدا، هي بكر ناضرة جديدة كقطرة من ماء المطر تكونت ونزلت إلى النهر ثم لم تتكرر، كلمة لم تخلق في حياتي إلا لك أنت، خبأها القدر في حنايا أيامي، لم يفض عنها ختمها إلا لتسمعها أذنك، ثم هي من بعد لن تقال لفتاة أخرى، لا لن تقال مني إلا لك أنت، أرأيت إذن كم هي جديدة كلمة أحبك التي أقولها أنا لك، هي جديدة وفريدة لا شبيه لها فيما مضى من تاريخها، ولا أحسب أن سيكون لها شبيه في مستقبلها الطويل الطويل الذي لا شك أنه سيمتد حتى قيام الساعة، بل إنني أعتقد أن قيام الساعة لن يميت هذه الكلمة التي ستظل تتردد في أنحاء الجنة من أولئك الذين رضي عنهم ربهم إلى الحور العين هناك على ضفاف الكوثر، وفي رحاب الخمر والعسل، وفوق السندس والإستبرق، كلمة تتأبى على الموت، هذه الكلمة، ولكن كلمتي أنا التي قلتها لك لا مثيل لها، إنها تحمل في عروقها نبض الصبا الباكر والشباب الريان والأعوام الثلاثين التي خضتها في الحياة.
أنت لا شك تذكرين ذلك اليوم الذي قلتها فيه، تذكرين، كارثة لو كنت حتى لا تذكرين متى سمعتها وأين وكيف، كل التفصيلات التي أحاطت بها وهى تنطلق من أعماق شبابي وحياتي، من ذكرياتي وآمالي لتمر بأذنيك آملة أن يكون مصيرها إلى قلبك.
لكم تمنيت ألا أكون رئيسا لتحرير المجلة التي تعملين بها، لكم كنت أتمنى أن تكون كلمتي إليك بريئة من هيبة الرئيس وإعجاب المرءوس، ولكن ماذا بيدي أن أفعل، وأي عجيبة في أن يحب رئيس تحرير فتاة لها هذا الوجه المستدير الأبيض الجميل، وهذا القوام الفارع الهفهاف الذي يسير وكأنه نغمة فرحانة؟ وأي عجيبة في أن يحب رئيس التحرير هاتين العينين فيهما دائما كلمة تريد أن تقال، ولكنها تتخفى وراء رموش كستار الغيب، رقيقة كثيفة تنبئ ولا تفصح، وتومئ ولا تبين، وهذا الأنف في وجهك على محياه عبير الحياة، كأنه لم يوضع مكانه إلا ليستنشق من الدنيا عطرها، وهذا الشعر تلمينه فهو تاج، أو ترسلينه فهو عربدة ومرح وحياة، رأيتك أول ما رأيتك حين انضممت إلى أسرة تحرير المجلة كرئيس لتحرير القسم الأدبي بها، وكنت تحبين أن تكتبي، لم تكن قصصك رائعة، ولكني كنت أنشرها، لم أكن أنا الذي تبينت أنها غير رائعة، وإنما القراء وخطاباتهم، أما أنا فلم أكن أرى فيك أو منك إلا كل رائع وجميل وفنان، لا لست من هؤلاء الناس الذين يفصلون في أحكامهم بين الحب والعمل الفني، أو أنا على الأقل أمام حبك أنت لا أستطيع أن أكون عادلا، لقد أحببت قصتك قبل أن أقرأها، وما كان لي من بعد أن أحكم عليها، ولقد قرأتها لأنه لا بد أن أقرأها، وقد أعجبت بها، نعم أعجبت بها فنيا، وكنت واثقا حينذاك أنني عادل في حكمي، ولكن القراء لم يروك، وأرسلوا خطابات يبدون فيها عدم إعجابهم، إنهم لم يروك، لم تعرفي أنت من أمر هذه الخطابات شيئا، بل إنك عرفت عنها غير ما تقوله، لقد قلت لك مرة في خبث: تصل إلينا خطابات كثيرة عن قصصك.
وطبعا فهمت أنها خطابات مديح، فاعلمي اليوم إذن أنها لم تكن كذلك، اليوم أريد أن تعلمي أنها لم تكن كذلك، على الأقل يجب أن تعلمي أن قصصك لم تعجب القراء، لم تعجبهم.
لقد فرحت يوم أخبرتك عن الخطابات، فرحت كطفلة صغيرة أهديت عروسا كبيرة.
ورأيت مع الكلمة التي في عينيك دمعتين طفرتا لم تستطيعي أن تمنعيهما من الظهور، ولا أدري أي شجاعة واتتني حينذاك لأطلب إليك شيئا لم أطلبه من أحد قبلك، تلعثمت وتلجلجت وأنا أقول: ما قولك في أن نتعشى معا الليلة؟
وغاضت الدمعتان في عينيك، أو لا أدرى لعلهما تحدرتا لتختفيا، ونظرت إلي نظرة فيها آثار سعادة واضحة، وقلت وابتسامة فيها شيء من التحدي على شفتيك: نعم، لم لا.
وحاولت في هذا العشاء أن أقول ما أردت أن أقوله منذ لقائي الأول بك، ولكن لم أستطع، وكانت كلمة أحبك هي أعز ما أقتنيه لأقدمه لحبيبتي، خشيت أن أقولها لك فلا تجد ما تستحق من تكريم عندك، وانتظرت، ولكنني مع ذلك عقدت معك اتفاقا ما زلت - رغم ما حدث - أرى نفسي فيه ذكيا حاد الذكاء، اتفقنا على أن نتناول عشاءنا معا كلما نشرت لك قصة وجاءت للمجلة عنها خطابات، وهكذا كنا نلتقي وحدنا بعيدا عن المجلة مرة كل أسبوعين أو كل ثلاثة أسابيع على الأقل؛ فقد كانت الخطابات تأتي للمجلة بانتظام غداة ظهور العدد الذي يحمل قصتك، وأنت الآن تعرفين طبعا أي نوع من الخطابات هذا الذي كان يأتي للمجلة.
وفي يوم انتهينا من عشائنا وقلت في حزم: أريد أن نسير قليلا بالسيارة.
ولم تجيبي، وسرنا، ذهبنا إلى الهرم ثم عدنا منه لنسير في طريق الإسكندرية، ثم وقفنا قليلا عند النصب المقام هناك، ولم أقل شيئا، وقطعت حديثنا المتناثر. - الدنيا برد.
فعدنا إلى السيارة، ومشت بنا، ولم نتكلم، ولا أدري لماذا اتجهت إلى شارع الجبلاية، نعم إني أحب هذا الشارع، وخاصة في الليل، ولكنه لم يكن في طريقنا، ولم تسألي أنت لماذا اتجهت إليه، وعند شجرة تسدل فروعها إلى النيل نزلت من السيارة صامتا، ونزلت ورائي، وجلست أنت على الحجر هنا، والتفت بوجهك إلى الأفق، وظللت أنا واقفا وعيناي إلى النيل، وطال بي الصمت أو خيل لي أنه طال، ودون أن ألتفت إليك، قلت في هدوء وطمأنينة وثقة: إلهام، أحبك.
ولم تقولي شيئا، ولكنك قبل أن تغادري السيارة إلى البيت قلت هامسة: وأنا أحبك.
ونزلت، وظللت أنا ذاهلا عن نفسي غير مصدق ما سمعت.
لم تذهب كلمتي التي حفظتها لك طوال السنين سدى، هي إذن قد صادفت ما كنت أرجو أن تصادف من صدق، هو الحب الكامل إذن. سرت بالسيارة ذاهلا لا أدري إلى أين، فكل الطرق التي كانت أمامي أضيق من أن تسع فرحتي، وسمعت ضجيجا في الشارع لم ألتفت له، وفي إشارة مرور دخل وجه إلى سيارتي وصاح بي: اقفل الباب.
وتنبهت حينئذ أن باب سيارتي ظل مفتوحا كما تركته، وتمنيت لو أستطيع أن أتركه مفتوحا كما تركته، تمنيت أن تتجمد اللحظة التي قلت فيها وأنا أحبك، تمنيت لو وقف الدهر عندها لا يتحرك، ملت بسيارتي إلى جانب الطريق ووقفت، أريد أن أقف لعل الزمن يقف، وأريد أن أسير، أن أغمر هذا العالم جميعه بهذه الفرحة التي تعربد في كياني كله، أريد أن أصمت وأسمع همستك وأن أحبك مرة أخرى، وألف ألف مرة أخرى، وأريد أن أنادي جميع من يمر بي لأقول له لقد قالت: وأنا أحبك. أريد أن أفعل هذا جميعه في وقت واحد. كيف يمكن أن أقف وأسير، وأن أسكت وأتكلم؟ كم هو عاجز هذا الإنسان، عاجز أمام فرحته، كما هو عاجز أمام قدره!
ظللت واقفا ولم أشعر بالكون حولي يهدأ حتى خلا بي العالم والنشوة في صدري كما هي، وأفقت على خيوط الفجر الأولى تنساب في الظلام في هدوء ودعة، وأقفلت باب السيارة ووجدت نفسي في سريري ولم أنم.
ومرت بعد ذلك فترة من حياتي، هي حياتي الحلوة جميعا، تجمعت في هذه الأيام، لم تقولي لي بعدها أحبك، ولم أقلها لك، ولكنني كنت أحس الحب من نغمة صوتك، من نظرة في عينيك، من همسة لا معنى لها، أو لمسة تبدو كأنها غير مقصودة.
وكنت كلما أردت أن أقول لك نتزوج تراجعت، فما كنت أريد حبنا الضخم الكبير يصبح زواجا فقط، ولم يكن هناك أكبر من الزواج، كنت أريد حبي من نوع جديد، وطالت الأيام بي ولم أقل نتزوج، كأنما أردت أن أستمتع بكل قطرة من نداء حبنا، ولم أدر لماذا توقفت عن الخروج معي، مرة واحدة رفضت أن تخرجي معي رفضا باتا قاطعا، ثم تركت مواظبتك على الكتابة، ثم انقطعت عن الجريدة يوما، وسألت: أين؟ وطالعني النبأ الهائل، اليوم خطبتها، ماذا؟! أمن أجل هذا انقطعت؟ لماذا لم تقولي؟ لقد كنت أرى حبنا أكبر من كل شيء، كان الزواج بالنسبة إليه أمرا ضئيلا هينا، كنت أعتقد أننا نستطيع أن نتمم الزواج في أي لحظة، كنت أريد أن أتمتع به حبا حرا واسعا كبيرا غير مقيد بحجم معين هو الزواج.
لماذا لم تقولي، لماذا؟ ولماذا لم تقبلي أن أتصل بك بعد هذا؟ لماذا رددتني بهذه القسوة حين اقتربت منك أحادثك، عند باب منزلك؟ لويت عني وجهك ومضيت في طريقك وكأن الذي كان بيننا كره كبير، صادق هذا الذي قال: إن أقرب العواطف إلى الحب هو الكره. لقد كرهتك يومذاك، كرها قدر الحب الذي أحببتك به، لقد حطمت ذلك الحب الكبير الذي ادخرته لك طوال حياتي جميعا، أحسست كرهي يشتعل في نفسي كسعار من جحيم، وتبعتك بعيني، ورأيتك وأنت تنظرين خلفك إلى سيارتي لتري إن كنت قد مشيت أم ما أزال واقفا، ورأيتك وأنت تنعطفين إلى الشارع الأيمن، وأحسست كرهي يملأ نفسي، وسمعت بوق سيارة من الشارع الذي انعطفت إليه، تمنيت لو أنها قتلتك، ولماذا لا؟ لقد تمنى هذه الأمنية شاعر قديم، تمني لو أنها ماتت حتى يستريح من حبها، أما أنا فقد تمنيت لو أنك مت لأستريح من كرهي، ولماذا أتمنى؟ لماذا لا أقتلك أنا؟ لقد كانت كلمة أحبك التي قلتها لك هي كل ما أدخره من حياتي، وقد بددتها، بددت حياتي جميعا، لماذا لا أقتلك.
سرت بالسيارة وأوقفتها بعيدا عنك وتركتها ونزلت، أريد أن أقتلك، أدفعك أمام ترام فأقتلك، أو أخنقك إذا لزم الأمر، سرت خلفك وأنت لا ترينني، وسرت، وسرت، وفكرة قتلك تزداد وضوحا في نفسي، وفي شارع قليل المرور، عبرت الشارع دون أن تنظري، وكنت وراءك، ونبتت من الطريق سيارة تغول الطريق ووجدت نفسي دون أن أحس ألقي بنفسي عليك لأنتزعك من براثنها ولتصدمني أنا السيارة بدلا منك.
لا، لا تعودي في غد لزيارتي في المستشفى، لقد كان ما بيننا حبا لا مثيل له في الحياة، ولا أريد أن يصبح شكرا أو عطفا، لقد أضعت أكبر شيء أحببته في حياتي، وهو حبي، ولم يبق لي شيء لتنقذيه، فحتى لو أحببتني اليوم فليس هذا هو الحب الذي أردت، لقد كنت أريده حبا خالصا طلقا واسعا سعة الأرض والسماء، سعة الأمل والحياة، ولست أنت التي تستطيعين أن تقدمي هذا الحب، فلا تعودي، لا، لا تعودي.
ثمن المشروب
مهيب هو الشيخ حمدان؛ طويل فارع الطول، في وجهه صلاح، وفي سمته تقوى، وفي مشيته جلال، وفي لحيته خشية، وفي جبهته علامة الصلاة. أنت لا تعرف مدى التوقير الذي يحظى به الشيخ حمدان في قريته ميت ريحان من أعمال مركز الدلجمون التابع لمحافظة الدقهلية. والأطفال في القرية يعظمون الشيخ حمدان، فإذا مر بهم وكانوا يلعبون الحكشة توقفوا عن اللعب مخافة أن تضرب الكرة في رأس الشيخ حمدان أو عمامته، وإذا مر بهم وكانوا يتصايحون تخافتت أصواتهم. وإذا مر بهم وكانوا جلوسا وقفوا، فهكذا يرون كبارهم يفعلون. والنساء في القرية يحطن الشيخ حمدان بآيات لا حصر لها من الإجلال؛ فهو عندهم رجل القرية الأول، إليه يلجئون في الملمات الكبرى من حياتهم؛ فإذا أغضب زوج زوجته لا تجد قدما الزوجة طريقا تسير فيه إلا الطريق الذي يقود إلى بيت الشيخ حمدان، وإذا قست حماة على زوجة ابنها لجأت الزوجة المجني عليها إلى الشيخ الجليل. وإذا استطالت زوجة على حماتها فالحماة لا تشكو الزوجة إلى ابنها وإنما هي تشكوها إلى الشيخ حمدان.
ورجال القرية جميعا لا يعرفون ملاذا لهم إلا الشيخ حمدان؛ فإن نضب الماء فالشيخ حمدان، وإن عدا جار على جار فالشيخ حمدان، وإن عتا موظف فظلم فالشيخ حمدان، بل العمدة نفسه يلجأ إلى الشيخ حمدان كلما استعظم عليه أمر أو تعقدت أمامه مشكلة. الشيخ حمدان على صلة وثيقة بأهل الحل والربط؛ فهو يعرف مأمور المركز، وبلغ به الشأن أنه عرف في يوم ما الحكمدار، وهو يعرف أطباء المستشفى، ووكلاء النيابة، ومفتش الصحة، ومعاوني الزراعة.
نعم أعرفهم جميعا ولكن ماذا يعود علي من معرفتهم؟! بل ماذا يعود علي من هذا الاحترام وهذا التوقير؟! سجن فظيع من الاحترام هذا الذي يحيطونني به، لا أريده، لا، لا أريده، ولكن هل أستطيع أن أرفضه؟ كيف أقول للناس لا تحترموني؟ لا أستطيع، إنني أمثل عندهم أملا دائما. إنهم إذا ألم بهم ضيق ذكروني فينفرج الضيق، ماذا أقول لهم؟ أنا لا أحب هذا التوقير الذي يحرمونني به، ولا أطيق منه فكاكا في الوقت ذاته. أنا في القرية أسير احترامهم، سجين تكريمهم، حبيس آمالهم، ولكني أيضا إنسان لي آمالي وأحلامي ولي صبواتي ومزاجي، لم يكن لي بد إذن من هذا الذي أفعله. لا يهمني شي ما دمت بعيدا عن عيونهم وعن علمهم، نعم في المدينة، في المنصورة ألتقي هناك بصديقي عمران السيد يهيئ لي الليلة الحمراء، الكأس الحلوة، تحيطه كل ما تهفو إليه نفسي من جلسة ممتعة وحديث. ثم هو يهيئ أن ألعب الورق، أنت تعرف طبعا أنني ألعب الورق منذ كنت أتلقى علومي بالقاهرة، ظريف صديقي عمران، وهو كتوم للسر لا يذيعه، فما يعرف من أمري أحد في القرية، رغم أن عمران كثيرا ما يأتي لزيارتي في القرية، وهو أمام البلدة من ذوي النفوذ الذين ألجأ إليهم إذا حزب أمر أو استعصت مشكلة، وهو في اختياره لزملاء الورق حريص كل الحرص؛ فهم قلة لا تزيد على اثنين هو ثالثهم، أو ثلاثة هو رابعهم. ونشرب ونلعب حتى يشق الفجر أسداف الظلام فأعود إلى القرية فما يشك أهلها لحظة في أنني ركبت السيارة عقب صلاة الفجر مباشرة.
لا أستطيع أن أظل سجين آمال أهل القرية، ثم إنني بما أتيحه لنفسي من متعة أستطيع أن أحل لهم مشاكلهم، فلولا هذه المتعة ما صفا ذهني ولا أصبحت نفسي سمحة كريمة تسمع لهم فتطيل الاستماع، وتصغي فتحسن الإصغاء في غير ضيق ولا ضجر، إن الكئوس التي أشربها من أجلهم هم، وما أنا؟ ألست أملهم، حلمهم، وفرجهم عند الضيق، وبشراهم عند الشدة، ولكن ما هذا الحديث الذي تسوقه، ماذا تريد أن تقص؟
الشيخ لا يعرف ما أريد أن أقص عليك، ولكن سيعرف عما قريب فلا تعجل عليه، لنترك الشيخ قليلا ونلق نظرة على عمران، فهو شريك الشيخ في قصتنا. عمران السيد موظف بمصلحة الطب الشرعي بالدقهلية، وهو من أسرة أغلب أفرادها على ثراء، وإن كان هو بريئا من هذا الثراء، كان يملك فدانين وثمانية قراريط باعها جميعا واكتفى من الحياة بمرتبه وما يكسبه من القمار، وعمران رجل وجيه يحب أن يصادق الأثرياء ذوي الوجاهة ويحب أن يقترن اسمه بالأعيان وأصحاب الشأن. والغريب أنه استطاع أن يصل إلى هدفه هذا مع الفقر المدقع الذي يعيش فيه.
فعمران حريص دائما على أن يرتدي حلة نظيفة وقميصا ورباط عنق أنيقا ما وسعته الأناقة. ولم يكن وسعه في الأناقة كبيرا. وعمران متزوج وذو أولاد، ولكن الأسرة لم تكن تكلفه من أمره شيئا؛ فمرتبه جميعا لمزاجه، والأولاد ترعاهم أمهم بالمرتب الذي تتقاضاه من وظيفتها ولكن إذا مرض طفل لهما لم يكن عمران في هذه الحالة يستطيع أن يمنع قلبه من هذا النبض العنيف، ولا كان يستطيع أن يرد عن نفسه هذه الغصة التي تعتصر المشاعر جميعها. حينئذ كان يبذل ما يستطيع من مال، ربك هو الذي يستر. آخر جنيه معي دفعته ثمنا للدواء وقعدت في القهوة لا أملك مليما، وكنت أعرف أن زوجتي قد أنفقت ما معها جميعا على مرض ابننا محمود. فالبيت - والحمد لله - ليس فيه مليم، وجيبي أكثر فقرا من بيتي، وأنا في المقهى على الحميد المجيد لا أملك شيئا، نعم أستطيع أن أطلب فنجان القهوة، فهو على الحساب. بل أستطيع - إن شئت - أن أطلب كأس كونياك فهو على الحساب أيضا. ولكني لا أستطيع أن أشتري سيجارة؛ فالسجائر ليست على الحساب، وفجأة أقبل الشيخ حمدان فذعرت؛ فأنا لا أقبل أبدا أن يطلب لي أحد شيئا ولا أرده له. وأنا أعرف أن الشيخ حمدان يحب أن يشرب في هذا المقهى كأسين أو ثلاثة من الكونياك في هذه الحجرة البعيدة عن الأنظار. ومعنى هذا أنني سأضطر أن أشتري له من الكونياك قدر ما يشتري لي، هكذا خلقت، مهما يكن الفقر الذي أعانيه لا أقبل أبدا بحال من الأحوال أن يأتي لي أحد بمشروب - مهما يكن ثمنه غاليا - ولا أرده له.
جاء الشيخ حمدان وحيا. - لماذا تجلس هنا؟ - وأين تريدني أن أجلس؟ - ألا تعرف؟ - آه تقصد الحجرة؟ - فهمتني. - الدنيا حر، اقعد هنا قليلا في الهواء. - أي هواء يا شيخ؟! قم إلى الغرفة الداخلية، الهواء فيها أحسن. - الهواء أم الكونياك؟ - اسكت لا تفضحني. - يا عم الشيخ حمدان اقعد وصل على النبي. - اللهم صل عليك يا نبي، وهل تظن أنني جئت من ميت ريحان لأجلس في الهواء؟! إن كان عن الهواء فهواء ميت ريحان أحسن من هنا ألف مرة. - ولماذا لا تشرب هذا المدعوق في ميت ريحان وتخلصنا؟ - هل جننت؟! ألا تعرف ماذا أنا هناك؟ - أعرف، أعرف. - قم يا أخي إذن ولا تطل.
وقمت ودخلنا إلى الغرفة وأنا أدعو الله ألا يطلب الشيخ ريحان أكثر من كأس أو كأسين، ولكن المصيبة أن نهمه للخمر في هذا اليوم كان لا نهاية له، ولذلك توقفت أنا عن الكأس الثالثة وتركته هو يكمل وحده، وشرب وشرب، وراح يتكلم وأنا أفكر في جيبي الخاوي، يا أخي فعلا ربك هو الذي يستر. - هل جئت خصيصا من أجل الشرب؟ - لا، كان عندي شغلة، إنما قل لي، هل سنلعب الليلة؟ - نلعب؟ - نعم، نلعب.
هي فرصة فعلا أستطيع أن أستلف من الشيخ حمدان جنيها أو اثنين ألعب بهما وأداري الفقر الذي أعانيه. - نعم، نلعب ولماذا لا؟ - هيا بنا. - إلى أين؟ - نلعب. - الآن؟ - وما عيب الآن؟ - لم يحن الوقت. - ننتظر إذن؟ - طبعا ننتظر. هل معك نقود؟ - كثيرة. - كثيرة؟ - لا أعرف عددها. - لا تعرف عددها؟ - وشرفك لا أعرف عددها . - كيف؟
بعت ذرة وبعت أرزا وكان معي مبلغ كبير لا أذكر كم. ووضعت الفلوس على بعضها البعض ولم أعد، الله يسترك يا عمران عد الفلوس لأنني أصبحت لا أستطيع العد.
ألم أقل لك ربك هو الذي يستر، أخرج من جيوبه ما فيها من جنيهات ورحت أعد، الرجل سكران وهو لا يعرف ماذا في جيبه، وهو سيلعب الورق. أين أجد فرصة مثل هذه في العمر كله؟! كان المبلغ أربعمائة وأربعة وسبعين جنيها، صححت المبلغ، جعلته أربعمائة وأرجعته له، وناديت خادم المقهى ودفعت له ثمن الكونياك الذي طلبته؛ فأنت تعرف طبعا أنني لا أقبل مطلقا أن يشتري لي أحد مشروبا ولا أرده له.
أهذه هي الحكاية التي تريد أن تحكيها؟ لقد عرفت جزءا منها ولم تعرف البقية، ألها بقية يا عم الشيخ؟ لا بد أن تعرف البقية.
ذهبنا في هذه الليلة ولعبنا حتى أوشك الصبح أن يطلع، فقمت إلى السيارة وأخذتها إلى ميت ريحان، ونمت ليلتي، وفي الصباح عن لي أن أعد فلوسي؛ فأنا أعرف أن المبلغ الذي كان في جيبي حوالي خمسين جنيها تنقص جنيها أو اثنين، وقبضت عربون الذرة مائتين وخمسة وعشرين جنيها وقبضت عربون الأرز مائتي جنيه، وخسرت في اللعب ثلاثين جنيها، فكان يجب أن يكون معي أربعمائة وخمسة وأربعين جنيها قد تنقص جنيها أو اثنين، ولكني وجدت المبلغ ثلاثمائة وسبعين جنيها. طبعا عرفت أن عمران طمع في الفرق وأخذه، أتصدق بالله، لم أسأله. إنه رجل حساس إذا سألته سيغضب، وإذا غضب لن أجد من يشاربني الكأس ولا من يهيئ لي اللعب، كتمت الأمر لم أقله إلا لك الآن، ولكن قل لي من أخبرك أنت؟ لعله عمران، نعم فهو دائما يحب أن يفخر بأنه لا يمكن أن يسمح لأحد أن يقدم له مشروبا ولا يرده، إنه فعلا لا بد أن يرد المشروب، رجل طيب عمران وكريم وحساس، الله يجازيه.
Unknown page