ولكن هذا المؤلف الأديب برز في أقرانه، وتفوق عليهم بسهولة أسلوبه ورقته، وقد بلغ من امتلاك ناصية الحكمة والأدب بفضل الحكومة الالتزامية التي استتب لها الأمر في اليابان، فنشرت أعلام السلام، وعضدت الفنون والصنائع، وبينها صنعة القلم، فأينعت دولة الأدب وأزهرت وأثمرت، وقد انقطع في عهد تلك الدولة كبار العلماء والأدباء للتبحر في العلوم وفنون الأدب والحكمة اليابانية والصينية، وعنوا بوضع مؤلفاتهم باللغة الصينية، أو بأرقى أساليب اللغة اليابانية؛ صونا لها، واحتفاظا بها من الضياع على كر الدهور ومر الأعوام إذا هم أودعوها لغتهم المحكية.
أما «كايبارايكن» - واضع هذا الكتاب - فقد انقطع لوضع كتب الحكمة والفلسفة، وإفراغها في قالب سهل ممتنع، يقرب من فهم السوقة، ولا ينكره الخاصة والمتأدبون؛ فلم يذهب عمل كايبارا هباء، إنما أقبل القراء عليه إقبالا عظيما، وتناولوا مؤلفاته بشغف شديد، فكان التاجر يقرؤها في حانوته، والطالب في مكتبه، والفتاة في خدرها. وقد نال كتابه «التعليم الراقي للإناث» أعظم إقبال، وورثه الأبناء عن الآباء، والبنات عن الأمهات، حتى اعتادت الأمة عليه، وحتى أصبح من لا يراه في خزانة كتب صديقه ينكر عليه ذلك، وهو اليوم؛ أي بعد مرور مائتي عام، لا يزال واسطة عقد المؤلفات اليابانية ودرة تاجها.
ولا يمتاز كتاب كايبارا بمذهب جديد أو سنة حديثة؛ فقد سبقه إلى بعض ما جاء به فيه غيره من كتاب الرسائل والمصنفين، ولكن الذي فرق بين «التعليم الراقي للإناث» وبين غيره كون صاحبه وصف فيه ما كان يطلب من المرأة أن تكون عليه في عهده، وكونه جمع في صفحاته ما قاله الأقدمون، ووفق بين التعاليم الدينية والآداب الدنيوية؛ فتمكن بذلك من إرشاد العامة الذين لا مقدرة لهم على فهم روح الفضيلة إلى طريق قويمة، إذا سار عليها فتياتهم ونساؤهم قربن من الغاية المقصودة.
واستطاع بحذقه وبراعته أن يقنع القراء بصحة مبدئه واستقامة رأيه، وقد ساعده على ذلك حاجة عامة القراء في عهده - لا سيما الإناث منهم - إلى كتب ذات قيمة نافعة، وقد يصعب على الغربيين أن يعرفوا مقدار تأثير هذا الكتاب في الرأي العام الياباني؛ لأنهم لم يعتادوا من أغلب الكتب الأخلاقية نفعا كبيرا في بلادهم، أما في بلاد اليابان فقد كان تأثير «التعليم الراقي للإناث» كتأثير الكتب المنزلة؛ لأنه أحدث ثورة فكرية، وصار بعد قليل من الزمان كعبة آمال المهذبين والمهذبات، ومرجع الآباء والأبناء والأمهات.
إن الناظر في عادات الشعوب الشرقية والغربية يدهش لما بين الشرق والغرب من التباين في معاملة المرأة؛ فللمرأة الغربية قوة مهولة ونفوذ سائد على الرجل الغربي؛ فهي سيدة وهو عبدها، وهي معلمة وهو تلميذها، وهي آمرة وهو منفذ رغائبها. أما في الشرق، فللرجل على المرأة ما للمرأة على الرجل في الغرب؛ فهو القوي القادر وهي الضعيفة العاجزة، وهو الأستاذ المرشد وهي الطفلة المسترشدة.
ويغلب على الظن أن منشأ ذلك الخلاف في العادات نبه حكماء الشرق الأقدمين إلى خطورة شأن المرأة وقوتها، وخوفهم من عاقبة تحريرها وإعطائها سائر ما تود من الحقوق؛ فأذاعوا ما أذاعوا من التعاليم التي تقضي بخنوع الأنثى للذكر، وخضوعها لأوامره واستسلامها له. ومنشأ هذا الرأي عريق في القدم؛ فقد وضع الحكيم كونفوشيوس قاعدة الحجاب منذ أربعة وعشرين قرنا؛ إذ قال: «لا ينبغي للمرأة أن تجالس الرجل بعد دخولهما سن السابعة.» وكانت هذه السنة جرثومة ما نراه الآن في الشرق من ترك المرأة مهملة بلا تعليم ولا ترقية؛ لأن الشرقيين يعتقدون أنها كلما ارتقت وتقدمت زاد شرها، وضعف الرجل حيالها.
وقد جاء في الديانة البوذية أن المرأة تظهر جمال الملائكة، وتبطن خبث الشياطين، وأنها مملوءة شرا، وليس في المخلوقات ما يخشى ضره ولا يرجى خيره مثلها، ولم يكن الشرقيون وحدهم المتشبعين بتلك الآراء، بل كان فلاسفة الغرب أنفسهم لا يقلون عنهم في سوء الظن ببنات حواء؛ فقد قال سقراط في تعاليمه: إن المرأة منبع الشر، وإن عداوة الرجال وبغضهم آمن عاقبة من صداقتها وحبها، وإن مثل الشاب يطلب زوجة كمثل باحث عن حتفه بظلفه، أو كمثل من يلقي بنفسه في حبائل الصياد.
فكأن الشرق والغرب اتحدا في زمن واحد ضد المرأة، فرماها الواحد بالخبث والشر، ونفر الآخر منها الرجل وأمره بأن لا يجالسها ولا يخالطها؛ لما في ذلك من عقوق الشرائع الدينية، فسرت تلك الأحكام إلى اليابان سريان الكهرباء في الأجسام؛ فأهمل تهذيب المرأة، فضاق نطاق عقلها، وأصبحت محكومة تعيش عيشة الأنعام، وبقيت معارفها مقصورة على ما حولها من لوازم تدبير المنزل، وطهي الطعام، حتى أصبحت صغيرة الشأن، صغيرة القدر في عين الرجل، مع أن هذه كانت جناية عليها في بداية الأمر، وقد جرت الإساءة وراءها ألف إساءة.
وقد انحط مركز المرأة في الهيئة الاجتماعية اليابانية انحطاطا فظيعا، لا سيما في العهد الذي كانت فيه البلاد كلها ميدانا للحرب التي اشتعلت نيرانها بين أنصار الالتزام وبين أتباع المذهب الجديد، مذهب الحرية الفكرية والسياسية، وكانت نار تلك الحروب تزداد كلما كرت السنون ومرت الأعوام، وكأن أهل اليابان راق في أعينهم منظر الدماء المسفوكة، والأعراض المهتوكة، فأبوا أن يحقنوا هذه أو يصونوا تلك. واستمرت الحال على ذلك المنوال بضع مئات من السنين. هذا ما أصاب اليابان مع أنها تلك الأمة التي كانت منذ سبعة عشر قرنا تفاخر بكواتبها وشواعرها مفاخرتها بأبطالها وعساكرها.
وكان ذلك في إبان حكم الملوك الأول، فلما تحولت السلطة من أيدي الملوك وظفر بها الشيجون - وهم جماعة الوزراء والوكلاء الذين استولوا على النفوذ الفعلي في بلاد اليابان منذ قرون طويلة، وما زالوا كذلك حتى عزلتهم الأمة وردت الملك لصاحبه - انحطت المرأة؛ لأنها لم تلق من يناصرها، ولم تجد مجالا لإظهار قواها الأدبية وفضائلها النفسية في العهد الذي ساد فيه الظلم والفساد.
Unknown page