Hasad Falsafi
الحصاد الفلسفي للقرن العشرين : وبحوث فلسفية أخرى
Genres
وفي استشعار سابق بمثل هذه السعادة،
فإني أستمتع الآن بأسمى اللحظات.
26
ولا يكون هذا الموقف على مستوى الأفراد (لا سيما المبدعين) فحسب، بل نجده أيضا في الحضارات التي يغلب عليها العيش في أزمنة محددة، وربما كان عصر النهضة مثالا على العيش في اللحظة، وإن كان الوعي التاريخي بهذا العصر على وجه التحديد جعله نموذجا لكل أبعاد الزمان كما سنرى في ختام هذا البحث.
وهناك أيضا نماذج من البشر تجعل من حاضرها نقطة انطلاق للعيش في المستقبل، وذلك بتنظيم الحياة الحاضرة تنظيما صارما قد يتضمن بعض التضحيات بلحظات الحاضر من أجل التخطيط لمشروعات المستقبل. ويبدو في هذا النموذج أنه من الأشياء العادية والطبيعية للإنسان أن يعيش من أجل المستقبل. فالإنسان بطبيعته كائن مستقبلي، ودائما ما يضع أمامه هدفا محددا يسعى ويخطط للوصول إليه، فالصبي - على سبيل المثال - يعيش حاضره في حالة استعداد نفسي وعلمي ليستقبل مرحلة الشباب، والشباب أيضا يخطط مستقبله ليكون رجلا ناضجا، وهكذا في مراحل العمر المختلفة يرسم الفرد دائما صورة للمستقبل، وينظم حياته الحاضرة وفقا لها. ومن ثم تصبح الحياة وفقا للنموذج السابق - أي العيش في اللحظة فحسب - علامة على التراخي والتقاعس وقصر النظر. كما أنها تعد دليلا على أن صاحبها يعيش على المستوى الحيواني الذي لا يتجاوز الاستمتاع باللحظة الحاضرة دون أن يفكر فيما يسبقها أو يلحقها، ومعنى هذا أنه يعيش لحظة حيوانية بدون العلو فوق الوجود في الزمن الحاضر. إننا نميل بحكم ماهيتنا البشرية إلى عدم الاستغراق في الزمن الحاضر، بل نحاول أن نتجاوزه إلى ما هو باق ودائم. بل إن الأمر لا يقف عند الفرد وحده، فهناك عصور تاريخية بأكملها وجهت حركة التاريخ ناحية المستقبل، ويمثل عصر التنوير هذا التوجه خصوصا مع انتشار فكرة التقدم، والإيمان غير المحدود بقدرة الجنس البشري على تحقيق التقدم في المستقبل.
والنموذج الثالث لتجربة الزمن الحاضر يتجلى في محاولة العلو على الزمن للوصول إلى الأبدية، ويمكن أن يتحقق هذا بطريقتين: فإما أن يتخذ شكل البقاء بالمعنى الديني والميتافيزيقي، وإما أن يتخذ شكلا إنسانيا وتاريخيا في التسليم ببقاء الجنس البشري. وهذه الأشكال الإنسانية من الدوام هي التي تتجاوز تيار الأحداث المتغيرة. ومن هذه الوجهة لا يكون التاريخ مجرد تاريخ للأحداث الماضية، وإنما يكون تاريخا للحقائق الإنسانية والقيم الإنسانية الباقية، أو التي لها صفة الدوام. والنظام الذي نفرضه على أنفسنا في هذا النموذج الثالث هو قبول ما تمليه علينا القيم الأخلاقية والدينية الثابتة التي لا تتغير. والحياة في هذه الحالة تنظمها قيم أبدية أو لا زمانية، وقد قدمها أخلاقيون وفلاسفة مع تسليمهم بطابع الإحكام الشديد الذي تحمله القيم الأخلاقية. وفي هذا الموقف الذي تتسع فيه المسافة بين الإنسان والقيم الأبدية المتعالية عليه، يسود الاعتقاد بأننا لا ننتمي واقعيا إلى هذا العالم الأبدي للقيم، وإنما يشارك فيه بالتطلع إليه والكفاح لأجل تحقيق قيمه الأخلاقية أو الدينية أو السياسية أو الاجتماعية. ومع ذلك تظل هناك فجوة لا يستهان بها بيننا وبينه، قد يكون فوقنا أو وراءنا، ولكننا نحاول الوصول إليه وهذا يتطلب منا نوعا من الزهد.
27
هناك أيضا نموذج رابع لتجربة الإنسان مع الزمن الحاضر يتعارض مع النموذج السابق، وتختفي فيه المسافة أو الفجوة المميزة له، وهو موقف يصبح فيه الإنسان مشاركا في عالم القيم كما يصبح أساس مشاركته في هذا العالم هو مقولة الحب التي تتغلب على الزمن، وتشارك في العالم الأبدي، وتحل محل الأخلاق الصارمة المنظمة بإحكام كما في النموذج السابق. ويمثل جويو (1854-1888م) هذا المفهوم الأخلاقي في كتابه «الأخلاق بلا إلزام ولا جزاء» الذي يقرر فيه أن الأخلاق هي فعل مباشر للإنسان، ولا يصح أن يرتبط بما ينبغي ولا بأي نوع من الرهبة والخوف والتهديد (كما في أخلاق الواجب الصورية عند كانط)، بل تصبح - أي الأخلاق - مفهوما أسمى للتعاون والحب. وهذا الموقف يمكن تشبيهه بالموقف الديونيسي
28
من الحياة الذي يتعارض مع موقف النموذج السابق الذي هو أقرب إلى الموقف الأبوللي القائم على العقل والاتزان والحكمة. وتظهر نفس الفكرة أيضا في ثقافات أخرى، وهي فكرة أن الحب يرتفع بنا فوق الزمن، ويخلق واقعا لا تقيده المعايير والجزاءات والقوانين المحكمة، ولا حتى الزهد في الحياة. وفكرة الحب هذه عبر عنها الحكيم الصيني لاوتزو: «عندما يذهب الحب يأتي العدل، وعندما لا يكون هناك عدل يظهر القانون. القانون هو إعلان بالافتقار إلى الإرادة الخيرة وبداية الفوضى
Unknown page