Hasad Falsafi
الحصاد الفلسفي للقرن العشرين : وبحوث فلسفية أخرى
Genres
21
يقع المؤرخ لهذا النوع من التاريخ أسيرا لكل ما ينحدر إليه من الماضي، وهنا تكمن خطورة استخدام هذا التاريخ في رأي نيتشه؛ لأن «كل شيء ماضي وقديم ... يستحق في النهاية التبجيل، بينما كل شيء جديد يرفض ويستبعد.»
22
ويفقد المؤرخ لهذا النوع من التاريخ التوتر المبدع بين الماضي والحاضر برفضه الانفتاح على الحاضر والجديد، وبهذا يميل إلى تحنيط الحياة، بل وإلى إفنائها أيضا، ظنا منه أنه يحافظ عليها «عندما تخدم حياة الماضي ... عندما لا يعود الحس التاريخي يحافظ على الحياة، بل يحنطها، تموت الشجرة إذن بالتدريج من قمتها إلى جذورها، وفي النهاية تفنى الجذور نفسها. إن التاريخ العتيق نفسه يفسد منذ اللحظة التي لم يعد فيها ينشط ويوحي بحياة الحاضر.»
23
وفي هذا النوع من التاريخ تستمد الشعوب مقومات وجودها من اجترار الماضي والعيش فيه، بل وتتخذ منه بديلا عن الحياة في الحاضر. ونجد نموذجا على هذا النوع من التاريخ في واقعنا العربي لدى أصحاب الدعوة للعودة إلى جذور وأصول الحضارة العربية في زمانها الماضي بدون نقد أو تمحيص لاستخلاص أفضل عناصرها وتوظيفها وفق متطلبات زمننا الحاضر، واستبعاد ما لم يعد يصلح لمتغيرات الواقع الجديد. وبذلك يفرغون الحاضر من القيمة، ويكتفون بالوقوف أمام إنجازات الماضي، وكأن التقدم في نظرهم هو في طريق العودة إلى الوراء، بحيث يصبح الأسلاف هم الذين يتحكمون في التاريخ.
من هذا الموقف الذي انتهى إليه كل من النوعين الأول والثاني من التاريخ وموقفهما من الماضي تظهر ضرورة النوع الثالث، أي النوع النقدي: «إذا أراد الإنسان أن يحقق شيئا ما عظيما، فإنه يحتاج أن يسيطر على الماضي من خلال التاريخ التذكاري ، ومن يصر في الجانب الآخر على ما هو تقليدي ومبجل، فإنه يهتم بالماضي كنوع من التاريخ العتيق، أما من هو مهموم ومحزون ببؤس الحاضر، ويريد أن يلقي بالعبء بعيدا بأي ثمن، فهو وحده بحاجة إلى التاريخ النقدي، ذلك الذي يحاكم التاريخ ويدينه»،
24
ويشكل التاريخ النقدي الوجه السلبي من التاريخ التذكاري. فإذا كان هذا الأخير يمتلك الماضي ويستحوذ عليه؛ فعلى التاريخ النقدي أن يمتلك القوة لتحطيم هذا الماضي وتدميره. ولكي يعيش الإنسان عليه أن يستخدم القوة من حين لآخر ليحطم جزءا من الماضي، ويفعل هذا «بأن يحضره - أي الماضي - أمام محكمة تفحصه بنوع من الشك وأخيرا تدينه: كل ماض يستحق أن يدان؛ لأن تلك هي طبيعة الكائنات البشرية، فالعنف والضعف الإنساني قد لعبا دورا عظيما في حياة البشر.»
25
Unknown page