Haqiqa
الحقيقة: وهي رسالة تتضمن ردودا لإثبات مذهب دارون في النشوء والارتقاء
Genres
وأقوى دليل للحيويين على القوة الحيوية هو أن الحي لا يأتي إلا من الحي، ولا يمكن أن يتولد من المادة غير الحية بواسطة القوى الطبيعية، فعلينا إذن أن نبين أولا: أن القوة الحيوية المزعوم بها لا وجود لها، وأن الفاعل في الحياة هو القوى الطبيعية والكيماوية، وثانيا: أن التولد الذاتي ممكن. فإذا ثبت ذلك سقط على ظني الحاجز الحصين الذي يقيمه الحيويون بين الأجسام الحية والمادة، فتكون الاختلافات العارضة على المادة في الكيفية والكمية، أي في الصورة فقط لا في الماهية؛ إذ إن جميع الأجسام العضوية وغير العضوية مؤلفة من عناصر المادة، وخاضعة لنواميسها التي لا تتزعزع.
القوة الحيوية لا وجود لها: إننا لا نعلم الحياة إلا بالأجسام الحية المؤلفة من عناصر المادة، ولا يوجد في الجسم الحي عنصر غير موجود في العالم المادي، ونعلم أن ما يسمى قوة لا ينفك عن ملازمة ما يسمى مادة، فكل ما يحصل في الجسم الحي حاصل في عناصر المادة المؤلف منها ذلك الجسم بقوى المادة نفسها التي تعمل على نسق واحد في العالم العضوي والعالم غير العضوي، كما نعلم من علمي الكيميا والطبيعيات اللذين لا يمكن الاستغناء عنهما في درس الفسيولوجيا؛ فجميع الأعمال الحيوية مرجعها إلى القوى الطبيعية والكيماوية، كما هو ظاهر في التنفس والإفراز والتمثيل والهضم والامتصاص والدورة إلخ.
فإذا كانت أهم أعمال الحياة تتم بقوى كيماوية، وعلى مقتضى النواميس الطبيعية، فأية حجة تبقى للحيويين لإثبات القوة الحيوية، أو بالحري أي لزوم لها؟ وهنا أسأل الحيويين ومن تابعهم: من أين أتوا بالقوة الحيوية: أمن عالم المادة أم من غيره؟ فإن كان من الأول فكيف أمكنهم أن يجردوها عن المادة، وإن كان من غيره فكيف أمكنهم أن يدخلوها على المادة التي لا تنفصل عن قواها ولا تقبل سواها، فما هي أدلتهم العلمية على ذلك؟ وغاية علمي أن ليس لهم أدلة موجبة، بل كل أدلتهم سالبة ينقضون بها حجة الماديين، ويطلبون منهم أن يخلقوا لهم جسما حيا من جسم غير حي، فلننظر إذا كان ذلك ممكنا.
التولد الذاتي: أعظم حجة كان يحتج بها الحيويون على الماديين في التولد الذاتي هي عدم استطاعة القوى الطبيعية والكيماوية على تكوين مواد عضوية من مواد غير عضوية، مما كان يجعل حجتهم في القوة الحيوية قوية بحسب الظاهر؛ لأن عجز الوسائط التي للكيماويين عن تركيب مادة لا يؤخذ منه عدم إمكان تركيب هذه المادة طبيعيا، فإن الألماس مع كونه من المركبات التي لا خلاف في كونها طبيعية، فالكيمياء لا تزال عاجزة عن تكوينه، ولو توفرت لها كل الوسائط، ولم ينقصها سوى ذلك العامل العظيم؛ أي الزمان، الذي ألف سنة منه في عين الطبيعة نظير أمس الذي عبر لنقصها كل شيء.
ومع ذلك، فاحتجاجهم هذا لم يعد له قيمة من بعد ما بين دهلر سنة 1828 إمكان اصطناع الأوريا العضوية كيماويا من السيانوجين والنشادر غير العضويين، ومن ذلك العهد إلى الآن قد تقدمت الكيمياء جدا، وصار في إمكانها استحضار أكثر المواد العضوية من المواد غير العضوية بطريقة صناعية لا دخل للحياة فيها؛ كاستحضار الكحول والحامض الفورميك وسكر العنب والحامض الأكساليك والمواد الدهنية حتى الألبيومن والفيبرين والخوندرين من مواد غير عضوية.
فإذا كان مثل ذلك مستطاعا في المعامل الكيماوية، فما المانع من أن يستطاع أعظم منه في المعمل الذي فيه تعمل أعظم قوى الطبيعة، فيتولد الحي من عناصر المادة تولدا ذاتيا، والأجسام الحية المتولدة ذاتيا، حسب هكل، والتي يمكن مراقبتها هي الأجسام التي أطلق عليها اسم
Moneres ؛ أي الحية وحدها؛ فهي غاية في البساطة، والمعروف منها للآن سبعة أنواع بعضها يعيش في المياه العذبة، وبعضها في المياه المالحة ، وهي أم الأنواع، وكل منها مؤلف من بذرة صغيرة من مادة كربونية البيومينية من دون نسيج.
وبما أنه لا أعضاء لها ولا تقسيم عمل، بل جميع ظواهر الحياة فيها تتم بواسطة مادة واحدة من طبيعة واحدة لا شكل لها، فلا يمكن أن تكون أتت من جرثومة حية، فلا بد أن تكون نتيجة التولد الذاتي آتية من المركبات الكربونية الأشد بساطة، وما المانع من أن تكون كذلك، مع علمنا أن الكيمياء في إمكانها أن تكون مركبات كربونية من هذا القبيل؟ أليس ذلك أولى بالتصديق من الزعم بجرثومة طمسن المحمولة على نيزك من النيازك، أو غيرها من الجراثيم المزعوم بها؟ وما هي تلك الجرثومة، أو ما هي هذه الجراثيم الغريبة المصدر؟ ومن أي العناصر هي مؤلفة؟ وكيف تكونت؟ فإذا كانت مؤلفة من عناصر المادة؛ فهي تحت حكم النواميس الخاضعة لها المادة، فما الداعي - والحالة هذه - إلى الخروج عن المادة لتفسير أعمال المادة التي فيها سر كل الكائنات؟
فهذه خلاصة من براهين كثيرة تتأيد بها حجة الماديين، وتسقط بها دعوى الحيويين، ولكن لما كان المقام لا يسمح لنا باستيفاء كل البيانات التي جاءت من هذا القبيل؛ اجتزينا الآن بهذه العجالة، وفينا شديد أمل بالعود إلى هذا الموضوع كلما مكنتنا الظروف. ا.ه.
طنطا 9 أيلول 1881
Unknown page