Haqiqa
الحقيقة: وهي رسالة تتضمن ردودا لإثبات مذهب دارون في النشوء والارتقاء
Genres
ولما بين باستور أن الاختمار إنما هو تفاعل كيماوي بين المادة المختمرة والخمير، وأن الخمير ليس سوى أحياء صغيرة جدا شبيهة بالخليات المذكورة، فحياة نبات أو حيوان مرتق لا تفرق كيماويا عن ظواهر الاختمار إلا بكثرة اختلاف هذه الظواهر الناشئة عن اختلاف خصائص الكريات المختلفة الداخلة في بنائها، قالوا: ولكن القوى الطبيعية لا تستطيع أن تركب الهيدروجين مع الكربون كما تفعل قوى الحياة.
ولما بين برثلو إمكان تركيب الأستيلين رأسا من الجماد، وتركيب سائر المركبات الكربورية بواسطته؛ كأنواع السكر والكحول والأرواح والزيوت والحوامض الآلية، وبين كذلك إمكان تركيب كل المواد المتكونة في الأحياء من عناصرها رأسا؛ أي من الكربون والأكسجين والهيدروجين والأزوت ، بواسطة الكيمياء الآلية المؤسسة على النموذجات، قالوا: ولكن قد بين باستور - في مقالة نشرتها جريدة العلم الفرنسوية بتاريخ 5 ك2 من سنة 1844، ولخصها المقتطف - فرقا مهما بين المواد الآلية الطبيعية والمصطنعة.
فالأولى لها في حالتها الأمورفية العديمة الشكل قوة على تحويل سطح النور المستقطب، والثانية ليس لها ذلك، أو هي تفعل عكس فعلها خلافا للبلورات، فذلك متوقف فيها على شكلها البلوري، وعلى انتظام تغير نظامها المسمى بالهيدريا، أي تغير زواياها المتماثلة، وذلك ما تمتاز به قوى الحياة أو كما يقال أيضا: القوى غير المنتظمة عن القوى الكيماوية المنتظمة. قالوا: وهنا «العقدة». أما كون الحياة تفعل أفعالا تختلف عن أفعال القوى الطبيعية التي يستخدمها الكيماوي، فمما لا ريب فيه، كما أنه لا ريب في أن أفعال الكهربائية مختلفة عن أفعال النور والحرارة مثلا، وإلا لزم أن يكون العالم واحدا؛ جمادا واحدا، أو نباتا واحدا، أو حيوانا واحدا، وما نراه هو بخلاف ذلك.
وأما كون هذا الامتياز يلزم منه فصل الحياة عن قوى الطبيعة في المصدر، فمن أغرب ما يذهب إليه، وإلا وجب أيضا فصل القوى الطبيعية بعضها عن بعض كذلك، ولا سيما أن الفرق العظيم - الذي اتخذه الحيويون حجة قوية لإثبات مذهبهم في الحياة - قد زال معظمه.
وفي النظر إلى هذه المسألة يجب اعتبار النسبة بين ما كان يزعم سابقا وما يعلم اليوم، فأي فرق بين الأمرين؟ أو لعل هذا الفرق النسبي اليوم والجزئي بالنسبة لما كان يزعم قبلا كاف لتأييد هذا الفصل، بل لجعل الحياة جوهرا مجردا عن المادة، وما الدليل على ذلك سوى عدم تمكن الكيماويين من خلق الحياة رأسا من الجماد، وعدم تمكنهم من مجاراتها مجاراة تامة، وهل ذلك دليل يثبت به الضد؟! فإن كانت قوة تحويل سطح النور المستقطب - كما يظن - ناشئة عن عدم انتظام في تركيب جواهر الأجسام الفردة أو دقائقها ، فربما كان ذلك خاصا بالحياة وغير ممكن الحصول عليه بدونها، إلا أن امتناع ذلك على الكيماويين لا يوجب جعل الحياة من مصدر غير مصدر سائر القوى، كما أن ظواهر الحياة في الحيوان العالي، وإن كانت تختلف عنها كثيرا في النبات، لا توجب جعل الحياة فيهما من مصدرين مختلفين، أي إنه لا يعزز مذهب الحيويين، ولا ينقض ركنا من أركان الماديين؛ لأنه إن صح - كما قال باستور - أن سبب ذلك كيفية وقوع النور على النبات، المصدر الأول لكل المركبات الآلية، فيكون أصل هذه القوة طبيعيا.
على أن باستور قد تمكن من مجاراة الطبيعة على نوع ما، وأدخل عدم الانتظام في المركبات الكيماوية؛ إذ جمع بين السنكونين «مادة غير منتظمة» والحامض البراطرطريك، أي العنبيك، فرسب طرطرات السنكونين اليساري، وبقي الطرطرات اليميني ذائبا في السائل؛ أي إنه حل الحامض العنبيك الذي لا يحول النور إلى حامضين يحولانه: أحدهما إلى اليمين، والآخر إلى اليسار، نعم قال مع ذلك أنه لم يتمكن من إزالة الحاجز بين هذه المركبات، لكنه لم يعن به سوى أن الكيمياء لم تستطع حتى الآن أن تستخدم في صناعتها سوى القوى المنتظمة.
وهذا لا يستفاد منه أنه يوجد حاجز مطلق بين هذين النوعين من القوى، وقد صرح هو نفسه بذلك؛ إذ أشار بإزالة هذا الحاجز، قال: «فإذا أردنا أن نماثل الطبيعة وجب أن نتخطى الطرق التي جرينا عليها حتى الآن، ونستخدم الكهربائية اللولبية والمغناطيسية والنور ونحو ذلك من القوى غير المنتظمة.» وقد قال أيضا في غير هذا المكان: «إن مركبات الحياة إذا كانت غير منتظمة فلأنه تفعل فيها قوى عالمية غير منتظمة. وهذا - فيما أرى - الرابط الذي يربط الحياة على سطح الأرض بالعالم؛ أي مجموع القوى المنتشرة فيه.» فيرى مما تقدم أن لا شيء من كلام باستور يحمل على الظن بأنه يعتقد علميا بأن قوى الحياة من مصدر غير مصدر قوى الطبيعة، ولا بأنها جوهر مجرد، بل هو أول من بين ظواهر الاختمار وقال: إنها لا تفرق بشيء عن التفاعلات الكيماوية .
ذكر «كرل فوجت» في خطاب ألقاه، في مجمع جنيفا العلمي، من نحو خمس عشرة سنة، ما نؤثره عنه قال: «خذ عضلة من ضفدع حي واجعلها في أحوال مناسبة تمنع جفافها وفسادها، وقدم لها من وقت إلى وقت الدم اللازم ليقوم مقام المواد المحترقة منها بأكسجين الهواء، كما تقدم الفحم وقودا للآلة البخارية، فترى العضلة تتحرك كلما هيجتها بالكهربائية كما يتحرك لولب الساعة إذا كانت دائرة، قال: ولنفصل كذلك رأس حيوان عن جسده حتى يموت، ثم لنحقن فيه بعد هذا الموت دما صالحا من حيوان آخر من نوعه؛ نر الرأس يفتح عينيه، وكل حركاته تدل على أن الحياة قد عادت إليه، وعاد دماغه يشتغل كما كان يشتغل قبل القطع.»
وذكر المقتطف - نقلا عن الجريدة العلمية الفرنسوية في العدد الثالث من سنته التاسعة - ما وقع للدكتور «بتيكان» مع ذلك الرأس المقطوع الذي وقع على مقطع العنق واستقر على الرمل؛ حيث وقع فخف نزف دمه، فأخذ يتفرس في الدكتور المذكور، ويجيل عينيه محدقا فيه حتى دار الدكتور حوله ربع دورة وعيناه تتبعانه وترسلان إليه نظرا يدل على شدة الألم، وإدراك الحالة التي هو فيها، وكل ذلك يدل على أن الحياة ليست جوهرا مجردا عن المادة، وأن تفاعلاتها أشبه شيء بالتفاعلات الكيماوية من حيث التعيين والضبط.
ونحن نعلم أن كل عمل حيوي إنما هو نتيجة لازمة لتهيج في الجهاز العصبي، وأن المنصرف في هذا العمل ليس قوة حيوية، بل كمية معينة ومقيسة من الحرارة ناتجة عن احتراق كمية معينة، كذلك من مواد محترقة يتناولها الحي على صورة طعام أو غذاء، والطبيعيون يردون الحرارة إلى الحركة، فلماذا لا تكون الحياة التي تتحول إلى حرارة، والتي لا تختلف تفاعلاتها عن التفاعلات الكيماوية نوعا كذلك من الحركة المعتبرة أصل القوى الطبيعية، فتكون نسبة الحياة إلى القوى الطبيعية كنسبة الإنسان إلى الحيوان؛ بمعنى أن أصل الحياة كأصل سائر قوى الطبيعة.
Unknown page