بلى وأكثر من ذلك، فإن الشاعر ليكتب عمن يحبها فيرى كأنه ينفخ في كل كلمة معنى من الحياة؛ لأنه لا يكتب كلاما بل يخط صورة قلبه؛ والعواطف الحية تبقى حية ولو كانت مرسومة؛ لأنها لا تجتمع في شكلها الذي تنتهي إليه إلا بعد أن تمر في أدوار الحياة فتألفها الأرواح وتصير كاللفظ المأنوس: ما هو إلا أن يذكر حتى ترى معناه للذهن ماثلا.
بلى ولقد يخيل إلي أيها القمر الجميل حين أكتب عمن أهواها أنك لفظ في ألفاظي تطلع من المداد، فإذا قلت: «وجهها» فهل تظن هذا اللفظ الذي هو جملة الجمال إلا قمرا في الكلام؟ وإذا قلت: «ابتسامها» فهل ترى هذه الحروف التي تتنفس على القلب إلا أشعة الفجر الندي؟ وإذا قلت: «هي» فهل ترى إلا «ضمير» الطبيعة التي تأخذ عليها الإنسانية دينها؟
آه لو تعلم أيها القمر من «هي»!؟
الفصل الثاني
وآه إن في «ضمير الطبيعة» وفي المعنى المستتر في الهاء والياء لسرا من الحب تتجدد في الناس معانيه المعضلة كأن فيه حياة غريبة تغذوه بتلك المعاني، فهو في علم الروح كالروح نفسها في علم الإنسان.
وإذا تناولته نفس المحب وطفقت تعالجه رأيت المحب ذاهلا كأنه حي بلا نفس، وآنست من نظره عمقا بعيد الغور كأنه الطريق الذي مرت منه نفسه؛ فهل يمكن أن يكون في يقظة هذا الإنسان نوع من الحلم؟
لقد غفلت الآن عن نفسي هنيهة أو هي غفلت عني؛ فما نبهني إلا اضطراب ينتفض له قلبي كأن حواسي كلها نهضت تستقبل روحي وقد انقلبت من سفر طويل تحف بها الحاشية العريضة من الأفكار والآمال.
فتلقتهن وجعلت تطرف كل حاسة بتحفة نفيسة من هداياها وهن يتناهبنها، وأنا في ذلك كأنني مقسم إلى حزب أو مجتمع من حزب؛ وما لبث أن ردني إلى وحدتي النفسية حفيف كنجوى النسيم للزهر وليس بها، وكصوت القبلة المختلسة على حياء وليس بها: وكأنه آهة رقيقة انبعثت من شفتي حورية سماوية فأرسلتها الملائكة إلى الأرض؛ لأنها دار الفتنة فما زالت على وجهها تتصفح كل وردة وكل خد كأنه من الوردة وكل شفة كأنها من الخد، حتى رأت «ليلى» وهي تبتسم فاختبأت في شفتيها وما تشك من طيبهما أنها رجعت إلى صاحبتها في الجنة.
سرى هذا الحفيف قليلا قليلا فلا والله ما منه نشوة الخمر ولا نفثة السحر ولا رجفة الطرب، ثم سرى قليلا قليلا فما هو إلا أن أصاب قلبي حتى انتفضت كأن قبلة حارة انطبعت عليه ومسته بشفتيها الرقيقتين؛ فكانت هذه الطرفة هدية الروح إلى القلب.
وما أسرع ما اجتمعت أشتات الحياة التي توزعتها الآمال لتنغمس في بقايا تلك القبلة العذبة التي صبها الهوى على القلب صبا كما تتناول السعادة قلب طفل حزين فتغسله بابتسامة من أمه، وسرعان ما انتبهت بعد ذلك فإذا أنا مستيقظ أو كالمستيقظ!
Unknown page