لا أدري أيها القمر كم هي تلك الفترة من حساب الزمن؟ فإني لم أنظر في ساعتي، أو بالحري لم أنظر وجه التاريخ، فقد أبغض الساعة لأنها ميزان تبين مقدار السم البطيء الذي ينفثه في الحياة ذنب (عقربها) بتلك الحمة المسددة إلى الساعات والدقائق.
ودع الناس يزنون بها الحياة لا الموت، فإن كل شيء في يد الإنسان أصبح لا يخرج منها إلا بثمن ومقدار، ولو عد الله عليهم حب الغمام أو حب الأرض كما يعد بعضهم على بعض لهلكوا جميعا كما يهلك اليوم بعضهم بعضا، ولو تدبرت اختلاف أثمان الوقت في هذه الأجسام التي تشبه الحوانيت لتجارة الحياة لقضيت عجبا من الإنسان، فرب دقيقة واحدة من حياة رجل تبذل في ثمنها حياة بتمامها من رجل أو رجال.
ورب يوم يبيعه رجل
1
فلا يساوم عليه بأكثر من نظرة ازدراء، ويوم آخر تبذل فيه كل أزمنة التاريخ المجهولة وكثير من أيامه المعدودة ليملأ بعظمته ذاكرة الزمن الخالية.
ولي صديق فيلسوف يضحك عاليا ملء فمه حتى ليخيل إلي أنه ولد في يوم رعد قاصف. وذلك كلما حدث عن صاحب له واعده يوما أن يوافيه في ساعة معينة، ثم وافاه الفيلسوف وقد مرت الساعة ولحقت بها أختها، فقال صاحبه متململا: أوليس ...؟ فقطع عليه صاحبنا ما وراء السين وقال. دعني من اسم هذا الفعل الناقص وخبره، حينما يحرص الزمن على أن لا يخطئ في حسابنا نحرص على أن لا نخطئ في حسابه!
وأنا لا أقول بإغفال الوقت وإرساله كأنفاس المختنق: لا تذهب من الحياة ولكن تذهب بها، فإن هذا قد كان في عهد آبائنا وآباء التاريخ حين كان الليل ساعة فلكية للطبيعة وكانت النجوم أرقامها ثم كانت دقاتها صياح ديك عند جماعة ونهيق حمار عند آخرين.
وإنما أريد أن لا يحاسب أحدنا ربه بالدقيقة؛ فإذا سبب له من وقته طربا أو ساق إليه فرصة حظ من السعادة فليطرب ولينتهز من فوره ولساعته وليأخذ ما آتاه بقوة؛ فإن الدقيقة الواحدة التي يتفلسف فيها وقتئذ ربما كانت هي الطريق الذي تمر منه الفرصة إلى ما وراء الزمان فتلحق البعيد بالبعيد من الأبد حيث لا يتعلق بها شيء من أوهام ذلك الفيلسوف المفكر ولو خرجت روحه تشتد وراءها عدوا ...
فإذا اتفقت لي هنيهة كالتي انتهت الآن بهدية الروح إلى القلب فقلما يعنيني مقدارها، بل أنا أحسبها كما أشاء ولا أذكرها إلا ذكرة الهرم يوم ميلاده بعد أن أسند في حدود المائة، فاعتبر مقدارها بسنة وبمائة سنة، ما شئت من قليل وما شئت من كثير؛ لأنها أصبحت لي لا للتاريخ ولا للساعة. وقد تكون لي ذكرى الحياة كلها فلا أسلمها في يد الغيب إلا مع آخر نفس من أنفاسي. ومع ذلك فإني أحرص على أن أجعلها كأنها نفس من حياة الآخرة خرج في الحياة الدنيا فتظل روحي واقفة على الجسم لحظة وهي قد فارقته حتى يبرد أثر القبلة التي انطبعت على القلب ويبرد الموت على جنبي، وحينئذ لا يبقى لها في الجسم شيء من الحب ولا أثر زفرة من زفراته فتصعد متباطئة ...
لست أشك أن لليقظة أحلاما. وإلا فما شأن الذاكرة إذن، وهل هي إلا بيت الأحلام؟
Unknown page