119

Hadit ʿIsa b. Hisam

حديث عيسى بن هشام

Genres

قد رفع الله رماح الجن

وأذهب التعذيب والتجني

الباشا :

كيف تدعي ذلك وتزعمه، وما عهدت منك إخفاء للحقائق ولا تمويها للوقائع، وللطاعون في مصر أفاعيل تذوب لها المآقي والأحداق وتتفطر منها القلوب والأكباد، وهو عندنا من أمراض مصر الموضعية التي تحدث عند اختلاف الفصول، والمصريون يتوقعونه لكل ربيع حتى أطلقوا عليه كلمة «الفصل»، فيقولون: جاء «الفصل» عند ظهور الطاعون، فترتاع النفوس وتنخلع القلوب وتخور القوى وتذهل العقول، ثم يصول صولته ويفتك فتكته فلا يقف سيله عند حاجز، ولا يمنع اندفاعه مانع، ولا تغيض قرارته حتى يخرب القصور، ويعمر القبور، فتصبح الأطفال يتامى، والنساء أيامى، ويمسي الخلق بين ثاكل ومثكول، وحامل ومحمول: هذا يبكي أباه، وذاك يندب أخاه، وهذه تولول على أهلها، وتلك تنوح على بعلها، وقد سمعت عنه في زماني عن أحد المعمرين يقول في وصفه عند وقوعه في سنة 1205:

ابتدأ الطاعون في شهر رجب سنة 1205 وداخل الناس منه وهم عظيم، واشتد بطشه وقوي بأسه في رجب وشعبان، ومات به من لا يحصى من الأطفال والشبان والجواري والعبيد والمماليك والأجناد والكشاف والأمراء، ومات من الصناجق أمراء الألوف اثنا عشر صنجقا منهم إسماعيل بك الكبير، وقد أفنى عسكر القليونجية والأرنؤوط المقيمين بمصر القديمة وبولاق والجيزة، وكانوا لكثرة الموتى يحفرون حفرا بالجيزة بالقرب من مسجد أبي هريرة ويلقونهم فيها، وكان يخرج من بيت الأمير في الجنازة الواحدة الخمسة والستة والعشرة، وازدحم الناس على الحوانيت يلتمسون ما يجهزون به موتاهم ويطلبون من يحملون النعوش فلا يجدونهم، ويقف الناس يتشاحنون ويتضاربون على ذلك، ولم يبق للناس شغل إلا الموت وأسبابه، فلا تجد إلا مريضا أو ميتا أو عائدا أو معزيا أو مشيعا أو راجعا من صلاة جنازة أو دفن أو مشغولا بتجهيز ميت أو باكيا على نفسه موهوما، ولا تنقطع صلاة الجنازة من المساجد والمصليات، ولا تقام الصلاة إلا على أربعة أو خمسة، وندر من يصاب ولا يموت، وقل ظهور الطعن على الجسم فيكون الإنسان جالسا فيرتعش من البرد فيتدثر، فلا يفيق إلا مخلطا أو يموت في غده إن لم يمت في نهاره، واستمر فتكه إلى أوائل رمضان، فمات الأغا والوالي في أثناء ذلك فولوا خلافهما فماتا بعد ثلاثة أيام فولوا خلافهما أيضا. واتفق أن الميراث انتقل ثلاث مرات في سبعة أيام، وأغلق بالمفتاح بيت أمير كان فيه مائة وعشرون نفسا فماتوا جميعا.

عيسى بن هشام :

إني لأظنك تصف لي موقفا شاهدته من مواقف الآخرة وأهوال القيامة.

الباشا :

وما كان الأمر ليقتصر في الطاعون بعد ذلك على فتكه، بل كان يزيد عليه من البلاء ما دسه الإفرنج للولاة من وجوب إزعاج الناس بأمور تشق على نفوسهم يزعمون أنها تدفع الطاعون، فيفصلون بين الناس بعضهم عن بعض، ويفرقون بين الأب وابنه والأخ وأخيه والمرء وزوجه، ثم يهدمون الدور ويحرقون الثياب وينشرون البخور كأنهم لجهلهم يظنون أن هذه الأعمال التي تؤذي النفوس وتعطل مصالح العباد تشتت شمل الجن، وتكسر أسنة رماحهم، فيزداد الناس ويلا على ويل وحزنا على حزن وخرابا فوق خراب، وقد شاهدت بعيني ما تشيب له النواصي في سنة 1260، وقص علي أخي ما رآه منه في سنة 1228 وهو في خدمة المرحوم محمد علي باشا الكبير، قال:

أمر جنتمكان محمد علي بعمل «كور نتيله» بالجيزة في اليوم العاشر من ربيع الثاني وعزم على الإقامة بها؛ إذ اشتد عليه الوهم من الطاعون لوقوع القليل من الإصابات بمصر، ومات به الطبيب الفرنسي وبعض من نصارى الأروام، وهم يعتقدون صحة الكور نتيله وأنها تمنع الطاعون، وقاضي الشريعة الذي هو قاضي العسكر يحقق قولهم ويسير على مذهبهم، واتفق أن مات بالطاعون شخص بالمحكمة من أتباع القاضي، فأمر بحرق ثيابه وغسل المكان الذي فيه وتبخيره بالأبخرة المتنوعة، وكذلك الأواني التي كان يمسها وأمروا أصحاب الشرطة أنهم يأمرون الناس وأصحاب الأسواق بالكنس والرش والتنظيف ونشر الثياب في كل وقت، وإذا وردت عليهم مكاتبات خرقوها بالسكاكين ودخنوها بالبخور قبل تسليمها إليهم، ولما عزم الباشا على كور نتيله الجيزة أمر في ذلك اليوم أن ينادوا بها على سكانها بأن من كان يملك قوته وقوت عياله ستين يوما، واختار الإقامة فليمكث بالبلدة، وإلا فليخرج منها ويذهب فيسكن حيث أراد، وأعطوا مهلة أربع ساعات، فانزعج سكان الجيزة وخرج من خرج، وأقام منهم من أقام، وكان ذلك في وقت الحصاد وللناس مزارع ومرافق مع مجاوريهم من أهل القرى، ولا يخفى احتياج الإنسان لبيته وأهله وعياله وأسباب رزقه، فيحرمونه من ذلك كله حتى لقد سدوا خروق السور والأبواب، ومنعوا مراكب المعادي من السير، وأقام الباشا في بيت الأزبكية لا يجتمع بأحد من الناس إلا يوم الجمعة، ثم قصد الجيزة وقت الفجر من ذلك اليوم وصعد إلى قصره، ووقف مركبين الأولى ببر الجيزة والأخرى في مقابلتها ببر مصر القديمة، فإذا أرسل الكتخدا أو المعلم غالي مراسلة ناولها المرسل للمقيد بذلك في طرف مزراق بعد تبخير الورقة بالشيح واللبان والكبريت، فيتناولها منه الآخر بمزراق آخر على بعد منهما ويعود راجعا، فإذا قرب من البر تناولها المنتظر له أيضا بمزراق وغمسها في الخل وبخرها بالبخور المذكور، ثم يوصلها إلى حضرة المشار إليه بكيفية أخرى، وأقام الباشا على ذلك أياما، وسافر إلى الفيوم ثم عاد وأرسل مماليكه ومن يخاف عليه الموت إلى أسيوط.

Unknown page