199

Hadarat Carab

حضارة العرب

Genres

إن مما يستوقف النظر ما نراه من التضاد بين ثبات نظم الشرقيين، وتسليمهم بالأمر الواقع الذي ليس له دافع، والإخاء السائد لمختلف طبقاتهم من جهة وثورات الأوربيين الدائمة وهرجهم وتنازعهم الاجتماعي من جهة أخرى.

وأظهر ما يتصف به الشرقيون: هو أدبهم الجم، وحلمهم الكبير، وتسامحهم العظيم نحو الناس والأموال، ودعتهم ووقارهم في جميع الأحوال، واعتدالهم الكثير في الاحتياج، وقد منحهم إذعانهم الهادئ لمقتضيات الحياة طمأنينة روحية قريبة من السعادة المنشودة على حين تورثنا أمانينا واحتياجاتنا المصنوعة قلقا دائما بعيدا من تلك السعادة.

ومن السهل ذم ذلك التسليم الفلسفي وبيان محاذيره، ولا ينكر، مع ذلك، أن المفكرين الذين درسوا تقلبات الأمور لم يوفقوا بعد لاكتشاف ما هو أكثر ملاءمة لحكمة الحياة، فلا يجوز، والحالة هذه، ازدراء مزاج نفسي يمنح المرء سعادة وطمأنينة وإن لم يساعد على تقدم الحضارة في كل وقت.

وليس من الصعب أن نتمثل الحال التي كان عليها المجتمع العربي أيام ازدهار حضارة أتباع النبي بطريق البحث في حالة المجتمع العربي الحاضرة وفي حوادث الماضي، فقد دل وصفنا لحاضر العرب في مختلف الأقطار التي كانوا سادة لها على أن ما يشاهد من أنسهم وتسامحهم كان يشاهد أيام حضارتهم أيضا، وقد وصفنا طبائعهم النبيلة وفروسيتهم، ورأينا أن أوربة المتبربرة اقتبستهما منهم.

وإن ما نراه خاصا بالطبقات الأوربية العليا من الأدب والوقار، هو من الأمور الشائعة بين مختلف طبقات الشرق كما أجمع عليه السياح، وإليك ما قاله الڨيكولت ڨوغيه عندما تكلم عن تزاور أفقر طبقات العرب: «لا يسعني سوى الإعجاب بما يسود اجتماعات أولئك القرويين الفقراء من الوقار والأدب، وما أعظم الفرق بين اتزان أقوالهم ونبل أوضاعهم ولغط بني قومنا ووقاحتهم!»

وأتيح لي، غير مرة، أن أتصل بكثير من العرب في مختلف أنحاء العالم الإسلامي، فقضيت العجب في كل مرة من الوقار والترحاب اللذين كان يستقبلني بهما أناس لا تعلو طبقتهم الاجتماعية طبقة فلاحي أوربة، لا فرق في ذلك بين أن يكون رب البيت فقيرا أو غنيا، وذلك أن الواحد منهم يتقدم نحوك ليحييك على الطريقة الشرقية، أي بوضع يده على صدره وجبينه، وليدعوك إلى الجلوس على متكأ في صدر البيت المقابل للباب، ثم يعرض عليك سيغارة أو نارجيلة للتدخين وقهوة للشرب، وينتظر منك بأدب أن توضح له سبب زيارتك. (2) المدن العربية، البيوت، الأسواق ... إلخ (2-1) المدن العربية

يكفي كثير من المدن العربية الحاضرة، كدمشق وبعض الأحياء في القاهرة؛ لتصور ما كانت عليه المدن العربية في سالف الأزمان، وقد تكلمت عن منظر شوارعها الملتوية المشوشة غير مرة، ولا فائدة في الرجوع إلى ذلك الآن، وإذا ما أغضيت عن المدن الشرقية التي تلمس فيها نفوذ الأوربيين، كالمدن الساحلية السورية مثلا، رأيت شبها عظيما بين مدن الشرق قاطبة، فالسائح الذي ينتقل إليها فجأة بقوة ساحر يعلم من فوره حقيقة الجزء الذي هو فيه من الكرة الأرضية.

وتنقطع الحركة في شوارع جميع المدن العربية مع غروب الشمس، وتغلق الحوانيت في ذلك الوقت، ويدخل الناس بيوتهم، ولا يخرج الإنسان من بيته ليلا إلا حاملا فانوسا لعدم الإنارة المصنوعة.

ولا عهد للشرقيين بما في مدن أوربة من الحركة الليلية ومن الحوانيت والقهوات المضاءة بأبهى الأنوار، ومع ذلك يجد الشرقيون في حياتهم المنزلية من الروعة ما يستغنون به عن ملاهي الليل، فإذا قيض لأناس منهم أن يزوروا أوربة بهرتهم حركة مدنها الليلية، وقالوا: إن ملال الغربيين في بيوتهم يدفعهم إلى الخروج منها وملازمتهم الأندية أو القهوات، وقد قال لي تاجر بغدادي وقور زار عواصم أوربة كثيرا: «إن ذلك من النتائج السيئة للاقتصار على زوجة واحدة لا ريب.»

شكل 2-1: شارع قديم في القاهرة (من صورة فوتوغرافية).

Unknown page