أما فيما يتعلق بضعف المرأة فأصارحكن القول بارتيابي منه في المعنى الذي يقصدون. أرسل البحث في شئون العمران، فأجد تأثير المرأة وراء كل عمل مسببا من الحوادث ما لا تفسير له بغير كلمة نابليون: «فتش عن المرأة!» وأقلب صفحات التاريخ فأراها في تعاقب العصور ملكة صالحة، وسياسية دقيقة، ومفكرة كاتبة عالمة مصلحة لا يستهان بها، وذات بسالة كبسالة أعاظم الأبطال، ذلك على رغم الجور والاستبداد، فلو أبدلناها بالرجل وعاملناه بمثل ما عاملها، فحرمناه النور والحرية دهورا فأي صورة هزلية يا ترى يبقى لنا من ذياك الصنديد المغوار؟
على المرأة أن تكون جميلة أنيقة دمثة لينة متعلمة قوية الجسم والنفس ماضية العزيمة. عليها أن تصون ذاتيتها الفردية، بينا هي تصطبغ بصبغة محيطها وتراعي ميوله لتحفظ توازن السرور والانشراح في البيت الذي يحبها وتحبه، عليها أن تأتي بالأولاد وتتعهدهم جسما وعقلا وروحا. عليها أن تكون عارفة بأساليب الاقتصاد والتدبير، عليها أن تحافظ على وفاق الأسرة وسلامها وأن تنشئ علاقات تآلف بين أسرتها وأسر الأصحاب والمعارف وغيرهم ممن تدنيها منهم المصلحة أو أي شأن من الشئون، فكأنها بذلك وزيرة داخلية ووزيرة خارجية ووزيرة معارف ووزيرة مواصلات ووزيرة مستعمرات ... إلخ. هذه الأعمال التي توزع على نخبة من أفضل رجال الأمة وأقواهم تلقى جميعا على عاتق امرأة واحدة تقوم بإتقانها على قدر المستطاع، ثم يعودون فيقولون: إنها «ضعيفة».
صدقوا، هي ضعيفة ولكن إزاء نفسها الفائضة بالعواطف الرجراجة الصاخبة المستعمرة، ضعيفة بأعصابها الدقيقة السريعة التأثر وباستعدادها لتشرب الألم واستيعابه إلى درجة لا يتصورها من لم يكن امرأة، وإنما هو هذا الضعف الذي يجعلها أحيانا أكثر عدوا من الرجل إذ تتناوبها هبات ووثبات تندفع بها كمن يريد التكفير عن قعود مضى أو كمن يخشى عجزا آتيا، في حين أن الرجل يظل منظم السير، واسع الخطى، كأنه واثق من توفر القدرة والنشاط لديه على الدوام. وإن التمست غاية استعملت للحصول عليها فنا وحذقا ليس هو حذق الرجل ولا هو فنه. وكل ذلك ناتج عن تراكم آلامها الوراثية وعن توحد الغاية في الأجيال النسائية الخالية التي لم تكن تبغي غير الحب والزواج والعائلة، فإن كانت هذه غايتها اليوم انطلقت إليها بقوة ساقت ملايين ملايين النساء منذ أن وجد النوع البشري، لا تبالي أصادفت وعرا أم اصطدمت بصخر، وإن تغايرت الغاية سيقت بذات القوة يزكيها التوق إلى المجهول ولذة الاختلاف والرغبة في النجاح، فتتفوق في عملها، إن شرا فهي السفاحة ماري تيودور أو هي ريا وسكينة بطلتا فظائع الإسكندرية، وإن رأفة فهي الأم المفادية والشفيقة العاكفة على فراش المريض تصد عنه الموت وتجلب إليه العافية، وإن حماسة وفخارا فهي جان دارك ومدموازل بوستافويتوف البولونية، أو هي المرأة المصرية تجوب الأحياء مرصعة هواء بلادها بالأعلام الخافقات، وتهتف بما يستفز الدموع ويستنهض الهمم ويفهم الرجال شبانا وشيوخا قيمة الأوطان وعز الأوطان وحرمة الأوطان.
ليست الصعوبة في المجاهدة لنيل غاية عزيزة، وإنما الصعوبة الموجعة على الرجل والمرأة معا في عدم وجود الغاية، أوجع شيء للمرأة أن تكون مبهمة المطالب، والمستقبل أمامها صفحة خاوية خالية ليس فيها بارقة أمل ولا كلمة عزاء. كثيرات هن التعبات اللاتي وقعن فريسة ذلك الشلل المعنوي، مولد المجازفة والانحطاط الذي يدعى: السآمة، فيجرين هنا وهناك هربا منه مخاطرات بما وجب صونه، ناسيات ما عليهن أن يذكرنه، ومنهن من لا تطيق البقاء يوما واحدا بلا زيارات واستقبالات وأحاديث جارات وخالات وعمات، كأنها تخاف الاختلاء ومقابلة نفسها وجها لوجه فتفقد بذلك أعظم تعزية وأعظم أمثولة في الحياة، وإن أحسنت القراءة دفنت سآمتها في الروايات دون أن تفقه ما فيها من مغزى اجتماعي أو أخلاقي، مكتفية بتتبع الصلة الغرامية والاستسلام إلى ما يبديه أبطال الرواية من انفعال اصطناعي مضخم، جاهلة أنها بتطلب ذلك التحريض القهري تطفئ نور ذهنها وتضعف من نفسها جميع القوى حتى قوة الحب الذي ينتقم من مهينيه ومزيفيه انتقاما صارما.
ما أعظم الحب وأشرفه - أيتها السيدات - في القلب المتبصر الحكيم! هو أقدر عامل ينهض بالإنسانية مسهلا طريقها، مخففا أثقالها، خالقا من أبنائها الأبطال والجبابرة، وأجمل الأرواح وأكبر القلوب وأنبل النفوس إنما هي تلك التي يظل فيها نهر الحب دائم الفيضان، وتظل تبعث شعاع شمسها الداخلية إلى ما وراء الفرد والبيت والوطن، فتمتد على كل شيء وتضيء كل شيء. الذي يحب كثيرا يفهم كثيرا؛ لأن الحب أستاذ ساحر، نتعلم منه بسرعة، ويفتح لنا رحب الآفاق، يهمم فيها صوته المحيي الذي لا تسكته أصوات الأفراح والأحزان.
ولكن كم نصغره ونحقره عندما نحصره في الموضوع الواحد الذي تدور حوله الروايات والأشعار الغزلية، وننسى أنه الرابطة الكبرى - كدت أقول: الرابطة الوحيدة - بين أجزاء الكون وبين الإنسان والموجودات، وأنه هو وحده دواء السآمة الناجع وبلسم التعزية الفعال. •••
وكيف نتناول ذلك الدواء ونتغذى بذلك القوت الإلهي؟ السبيل واحد لا ثاني له، وهو: العمل، العمل الذي ينير العقل، ويفتح القلب، ويملأ الوقت، ويحبو الحياة طعما لذيذا، ويروح النفس الواجمة، ويرضي الطباع الساخطة، ويصرف العواطف المتلازبة في منافذ ومخارج حسنة العائدة على المرأة الواحدة وعلى من يلوذ بها. فلتعمل المرأة أي عمل ينتظر يدا تقوم به، وكل عمل تشعر من نفسها بميل جدي إليه، وسواء كانت مشتغلة لتعيش أو لتلهو، لا فرق بين نوع العمل من علم وفن وخياطة وتطريز وتدبير منزل أو بيع في المخازن، فالأمر الجوهري هو الاجتهاد، ووضع قلبها وفكرها في ما تعمله لتتقنه وتكبر به مهما كان صغيرا حقيرا، ولكن لفظة الحقارة لا تصلح لمعنى العمل؛ لأن كل عمل شريف في ذاته، وليس منظف الشوارع بين الغبار والأقذار بأقل أهمية من الرجل العظيم في قصره بين التهليل والإكبار، ولا هو أقل نفعا لأمته وللإنسانية.
إذا أحبت المرأة ذاتها حبا رشيدا كانت لنفسها أبا وأما وأختا وصديقة ومرشدة، وأنمت ملكاتها بالعمل، وضمنت استقلالها بكفالة عيشتها؛ لأن الأهل الذين تتكل عليهم قد يموتون، وللإخوة والأخوات عائلاتهم وسبلهم في الحياة، والأصدقاء يتغيرون وينسون، والثروة الطائلة قد تنقلب هباء، أما هي فلا تخون ذاتها ولا تنسى ذاتها ولا تفقد ذاتها، والثروة كل الثروة في الإباء والاستقلال الفردي وتعاطي عمل ما بجد واهتمام وبراعة، والأعجوبة أن هذا العمل الذي نباشره؛ هربا من الملل، ورغبة في قتل الوقت، لا يلبث أن يصبح ذا شأن كبير ويعين لنا غاية عظيمة مشيرا إلى وسيلة الحصول عليها، بل لا أعجوبة في ذلك ما دام العمل الكبير مجموع تفاصيل صغيرة دقيقة، أليس أن الجوامع الأثرية البديعة، والمآذن الهيفاء الباذخة إنما برزت وثبتت بتناسق الحجر قرب الحجر؟ أو ليس أن العلم الذي تتفيأ بظله أماني الأمة ورغباتها إنما نسج من خيوط واهية، يكاد يكون كل منها بلا أهمية في ذاته؟
كذلك فلتكن مجموعة أعمالنا غاية جليلة نقوم بها عاليات الجباه تحت أكاليل العزم والجهاد، وقد اختفت من عيوننا خيالات الخضوع والمسكنة، وحلت محلها نظرة من هي لم تعد عبدة المجتمع، ولا عبدة الحاجة، ولا عبدة الرجل، ولا عبدة قلبها وهو أعظم جائر مستبد، بل نظرة من أصبحت سيدة نفسها تطيع مختارة، وتعمل مختارة بهدوء من فاز أو قدر له أن يفوز في الحياة، فتكتشف عند كل خطوة جمالا جديدا وتفرح كل يوم كأنها خلقت خلقا جديدا. •••
بقي علي أن أشكر لجمعية «فتاة مصر الفتاة» دعوتها الكريمة التي مكنتني من الاجتماع بكن أيتها السيدات، وأجازت لي التعبير عن أفكاركن. في الظاهر كنت أنا المتكلمة، ولكنكن تعلمن أن ما يفوه به الفرد فنحسبه نتاج قريحته وابن سوانحه، إنما هو في الحقيقة خلاصة شعور الجماعة تتجمهر في نفسه ويرغم على الإفصاح عنها. وإني لأغتبط بهذه المحادثة الصغيرة، وأهنئ مصر ببناتها العاملات المدركات معاني الحياة، وكلكن هنا ذوات أثر في بيئتكن وصاحبات فضل على قومكن، إننا نجتاز أياما عظيمة تهز النفوس إلى أعماقها وتلفتها إلى ما لديها من المواهب والممكنات. ألا فلنكن أهلا لهذه الأيام بدروس نكتسبها من مرورها! ولنكثر من التمني؛ لأن ما نتمناه واقع لا محالة، وأنا من المعتقدين أن مجرد الشوق إلى أمر والرغبة فيه كثيرا ما يكونان إنذارا بوقوعه المحتم، والآن أعلم أنكن تنقمن علي جميعا إن لم أضف كلمة أخرى هي بلا ريب حائمة في قلوبكن.
Unknown page