ورفعت رأسها إلى فوق ، وراحت عيناها تفتشان في السماء كأنما تبحث عن شيء، نعم كانت تبحث عن شيء، فقد تذكرت صوت أمها وهي تقول: «ربنا يفتح عليك يا فؤادة يا بنتي وتخترعين اختراعا عظيما في الكيمياء.»
ورأت الزرقة لها مسام مسدودة، والسحب البيضاء تزحف فوقها بحركتها نفسها اللامبالية، وأطرقت رأسها إلى الأرض وهمست لنفسها بصوت لم يسمعه أحد: ظنونك خابت يا أمي وارتطمت دعواتك بسماء مصمتة.
ومصمصت شفتيها: اختراع عظيم في الكيمياء! ماذا كانت تعرف أمها عن الكيمياء؟ ماذا كانت تعرف عن الاختراع؟ كانت فؤادة ابنتها الوحيدة، وكانت ترضي طموحها الناقص فيها، وعلى عكس الأمهات في تلك الأيام لم تكن تفكر في زواجها، فلم يكن طموحها من ذلك النوع النسوي العادي، كانت قبل أن تتزوج قد ذهبت إلى المدرسة، وربما قرأت بعض القصص، ربما قرأت رواية عن فتاة تعلمت وأصبحت شيئا عظيما، ربما هي قصة مدام كوري أو واحدة أخرى من النساء الخالدات، لكنها فتحت عينيها ذات صباح فلم تجد مريلة المدرسة كما تركتها في الليلة السابقة فوق الشماعة، وسمعت صوت أبيها الخشن يقول: لن تذهبي إلى المدرسة. وجرت إلى أمها تبكي وتسأل عن السبب، ولم يكن السبب سوى الزوج، وكان هذا كافيا لأن تكرهه من أول نظرة، وظلت تكرهه حتى مات، وبعد أن مات وكانت فؤادة لا تزال في المدرسة الثانوية قالت لها أمها وهي تسوي شعرها الأسود الناعم أمام المرآة وتتأمل قوامها الممشوق:
مستقبلك في المذاكرة يا بنتي، الرجل ليس له فائدة.
كانت أمنية أمها أن تدخل فؤادة كلية الطب، ولكنها لم تحصل على مجموع عال في نهاية المرحلة الثانوية، ربما لأنها لم تستذكر كثيرا، أو ربما كانت تجلس في حصة التاريخ بجوار النافذة، وتشرد عيناها بعيدا إلى تلك الشجرة الكبيرة تنتشر فوقها زهور حمراء كثيرة متلاصقة فكأنها عمامة نثر فوقها مسحوق النحاس الأحمر، واكتشفت وهي جالسة في حصة التاريخ أنها تحب لون مسحوق النحاس الأحمر، وأنها تحب حصة الكيمياء، وأنها تكره التاريخ، لم تكن ذاكرتها تعي أسماء الملوك والحكام الذين حكموا مصر قبل أن يموتوا، لم تكن تفهم لماذا يضيع الأحياء وقتهم في اجترار ما فعله الأموات، لقد مات أبوها، ولعلها فرحت قليلا حين مات، لم تكن فرحتها بسبب شيء معين؛ فلم يكن أبوها شيئا معينا في حياتها، كان مجرد أب، ولكنها فرحت لأنها أحست أن أمها فرحت، وسمعتها بعد أيام تقول: لم يكن له فائدة كبيرة، واقتنعت بكلامها كل الاقتناع، فماذا كانت فائدة أبيها؟
لم تكن ترى أباها إلا يوم الجمعة، فقد كان يجيء إلى البيت بعد أن تنام ويخرج قبل أن تصحو، وكان البيت هادئا نظيفا في كل الأيام ما عدا يوم الجمعة، كان أبوها يبلل الحمام حين يستحم، ويخرج من الحمام ليبلل الصالة، ويقذف بملابسه المتسخة في كل مكان، ويرفع صوته الخشن بين لحظة وأخرى، ويسعل كثيرا ويبصق كثيرا ويتمخط بصوت عال حاد، وكانت مناديله كثيرة جدا وقذرة دائما، تضعها أمها في الماء المغلي وتقول لها: لأطهرها من الجراثيم، ولم تعرف فؤادة يومها ما معنى الجراثيم، لكنها سمعت مدرسة الصحة والأشياء تقول في إحدى الحصص إن الجراثيم أشياء صغيرة ضارة بالإنسان، وسألت مدرسة الفصل في ذلك اليوم: أين توجد الجراثيم يا بنات؟ لكن الفصل ظل ساكنا، ولم ترفع واحدة من البنات أصبعها، وأحست فؤادة أنها تعرف الجواب فرفعت أصبعها إلى أعلى في ثقة وكبرياء، وابتسمت المدرسة لتشجعها وقالت في رقة: هل تعرفين أين توجد الجراثيم يا فؤادة؟ ونهضت فؤادة واقفة رافعة رأسها فوق البنات وقالت بصوت عال مليء بالثقة: نعم يا أبلة، الجراثيم توجد في مناديل أبي. •••
وجدت فؤادة نفسها في البيت، في حجرة نومها، جالسة على طرف السرير تحملق في التليفون الراقد فوق الرف، لم تعرف كيف حملتها قدماها كل تلك المسافة الطويلة وكيف صعدتا في الأتوبيس، وكيف هبطتا منه في المحطة الصحيحة، وكيف سارتا من المحطة إلى البيت، كيف فعلتا ذلك كله وحدهما دون أن تدري هي، ولم تفكر في هذا الأمر التافه طويلا، فهي لا تتصور أن هذه صفة تفرد أو تميز تحظى بها قدماها ، فأقدام الحمار تفعل الشيء نفسه في صمت وهدوء.
ومدت يدها إلى التليفون، ووضعت أصبعها في القرص وأدارته الخمس الدورات المعهودة، وجاءها الجرس، فأسندت ظهرها إلى مسند السرير استعدادا لعتاب طويل، وظل الجرس يرن، ونظرت إلى الساعة، كانت الثانية عشرة، فريد لا يخرج من البيت قبل الواحدة أو الثانية، ربما يكون في حجرة النوم يقرأ في السرير، وبين حجرة النوم وحجرة المكتب حيث التليفون، ممر طويل، ربما يكون في الحمام والجرس لا يسمع من وراء باب الحمام المغلق، ورفعت عينيها إلى النافذة، ورأت فروع شجرة الكافور تتلاعب من وراء الزجاج، الشجر أيضا له قدرة على التلاعب، وكانت السماعة لا تزال ملتصقة بأذنها، والجرس الحاد يرن فيها رنينا عاليا، وخطرت لها فكرة؛ فوضعت السماعة لحظة ثم رفعتها وعادت تطلب الرقم من جديد وتأكدت أنها تضع أصبعها في الثقب الصحيح، وما إن توقف القرص بعد الدورة الخامسة حتى انطلق الجرس في أذنها كالقذيفة، وظلت ممسكة بالسماعة إلى جوار أذنها فترة طويلة، تكفي لخروج أي شخص من حمام، أو لاستيقاظه من النوم، وخطرت لها فكرة أخرى فوضعت السماعة لحظة ثم رفعتها وطلبت الدليل، وسألت عما إذا كان هناك عطل ما في التليفون ورد عليها الصوت الناعم الممطوط بعد لحظة يقول:
التليفون سليم، معك الجرس.
ودوى الجرس في أذنها مرة أخرى حادا عاليا لا ينقطع، فوضعت السماعة في مكانها فوق التليفون وأسندت رأسها إلى حافة المسند وراحت تحملق في النافذة.
Unknown page