كانت هذه أشياء عادية لا تلفت نظرها، كل واحد له أسرار يحب أن يخفيها، خطابات غرامية قديمة، كمبيالات لم تسدد، عقود إيجار ثلاثة قراريط في البلد، صورة أمه بالجلباب والقبقاب، صور طفولته بطربوش زره ضائع. نعم هناك دائما أشياء يجب الواحد أن يخفيها في درج، إنه لا يستغنى عنها من حين إلى حين، وليس هناك ضرر في أن يضعها في درج مغلق في أسفل المكتب، ولكن أحاديث التليفون الطويلة من وراء الباب المغلق، ما تفسيرها؟
وضغطت بكعب حذائها فوق الأرض، فدخل في ثقب حفرة فأر أو صرصار في الخشب، وشدت قدمها لتخرج كعبها من الثقب فانخلع حذاؤها، وانثنت فوق الأرض وأخرجت الكعب وهي تنظر حولها، كانت الرءوس الثلاثة المحنطة لا تزال في وضعها إلا من تغيير طفيف، ونظرت في الساعة، كانت العاشرة والنصف، أمامها ثلاث ساعات ونصف لتخرج من هذا القبر، وجلست إلى المكتب لحظة، ثم نظرت إلى الساعة، كان العقربان الرفيعان قد تجمدا فوق الساعة العاشرة، ودست حقيبتها تحت إبطها، ونهضت ثم خرجت مسرعة.
وقفت لحظة في نهاية الممر قبل أن تهبط السلم، وفكرت أن تصعد إلى الدور الخامس وتعتذر لمدير القسم عن خروجها المبكر، ووضعت قدمها فوق السلم، لكنها بدلا من أن تصعد هبطت بسرعة وهي ترفع كتفيها، وتخفض رأسها إلى ما تحت ياقة المعطف العريضة.
ابتعدت بسرعة عن السور الحديدي، فأصبحت في الشارع الواسع المزدحم، وتركت كتفيها ورأسها تعود إلى وضعها الطبيعي، وسقطت أشعة الشمس فوق ظهرها فأحست بشيء قليل من اللذة، كان يمكن أن يكون أكثر من ذلك لولا تلك الهموم التي تثقل قلبها، ورأت المرأة الجالسة فوق الرصيف، ويدها الفارغة ممدودة للناس، وفي حجرها الطفل الصغير، وأشعة الشمس تغرق جسمها كله، وهي جالسة هادئة ساكنة، لا تجري هاربة من الوزارة، ولا يثقل قلبها كل تلك الهموم.
وتركت قدميها تسيران ببطء، لكن حركة الشارع السريعة انتقلت إليها كأنما بالعدوى، فوجدت قدميها تسرعان الخطى كأنها ذاهبة لتلحق بموعد هام، ولم يكن هناك موعد هام أو غير هام، لم يكن هناك أي شيء، ولم تكن تعرف إلى أين هي تسرع.
والتقطت عيناها من وسط الناس المسرعين فتاة طويلة نحيلة، خيل إليها أنها تشبهها؛ فقد كانت تمشي بسرعة، وتقذف بنصفها الأعلى إلى الأمام وكأنها على وشك أن تجري ولكن الخجل يمنعها، وفي يدها حقيبة تهتز، حقيبة جلدية سوداء كتلك الحقائب التي يحملها الأطباء أو المحامون أو كبار الموظفين، كانت الحقيبة منتفخة، ولا بد أن بداخلها أوراقا كثيرة وهامة، وأشارت الفتاة إلى تاكسي ثم قفزت فيه بنشاط ومرح واختفت. إنها تعرف إلى أين هي ذاهبة، وقدماها تقفزان في نشاط ومرح، لا شك أنها مشغولة جدا، ومنهمكة جدا ومستغرقة جدا، إنها تؤدي عملا هاما، وهي سعيدة بهذا العمل، راضية عن نفسها، تحس أنها شيء هام، نعم إنها شيء هام.
وأطبقت شفتيها وزمتهما لتزدرد ريقها، إنها شيء هام وليست مثلها متعطلة تتسكع في الشارع بغير هدف. وأحست أنها تحسدها، نعم؛ إن الحسد هي الكلمة التي يمكن أن تصف شعورها في تلك اللحظة، وهي لا تعرف معنى كلمة الحسد، ورثتها كما ورثت أنفها وذراعيها وعينيها، وهي تعرف أن الحسد عمل خارجي؛ أي إنها لا يمكن أن تحسد نفسها، ولا بد من وجود شخص آخر لتحسده، ولا بد لهذا الشخص من صفات يستحق بها الحسد، كأن يكون شيئا هاما، ليس شيئا هاما مجردا، ولكنه شيء هام بالنسبة لنفسها.
ووضعت يدها في جيب المعطف وراحت تلعب بأصابعها في ثقوب البطانية الحريرية كأنها تبحث عن شيء ما هام داخل نفسها، واكتشفت فجأة أن ليس لنفسها شيء هام، لم يكن اكتشافا، ولم يكن فجأة، ولكنه شعور مبهم متدرج بطيء بدأ منذ مدة لا تعرف مداها، ربما بعد أن تخرجت في كلية العلوم، ربما بعد أن اشتغلت في الوزارة، ربما أمس فقط حين ذهبت إلى المطعم ووجدت المائدة خالية، أو ربما في هذا الصباح حين اندس بين ردفيها ذلك الشيء المدبب وهي تقفز من الأتوبيس.
وابتلعت لعابا مرا وحركت لسانها الجاف وهي تقول لنفسها بصوت يكاد يكون مسموعا: نعم؛ أنا لست شيئا.
كان يمكن أن تردد مرة أخرى وتقول: أنا لست شيئا، لكن عضلات شفتيها تقلصت، فماتت الحروف في بطن فمها حيث زادت المرارة وأصبحت تلسع كالحامض.
Unknown page