في قصيدته التي يستهلها بقوله:
لما سلكت طريقي إلى السوق أول مرة.
كيف استفاد في أداء معناه من هذه الحقيقة الرياضية التي توفي المعنى كاملا، ولا تعتمد على عواطف الإنسان ومشاعره في قليل ولا كثير؛ إذ يتخيل الشاعر نفسه غلاما صغيرا وقف في السوق يتطلع في شوق شديد إلى أشياء لا يستطيع شراءها، فلما أن شب رجلا وامتلأ كيسه بالنقود والأشياء ما زالت في السوق معروضة كما كانت أيام طفولته، فقد الشهية التي كانت له وهو غلام. ويختم القصيدة بهذه الرباعية التي يقابل فيها نقص الإنسان وانعدام الرضا في نفسه بما يشاهد في الطبيعة الخارجية من ثبات في الحقائق لا يتغير:
رأى الناس اثنتين واثنتين أربعا،
لا هي في عدهم ثلاث ولا خمس.
فآلم هذا الحق القلوب وأوجعا،
وسوف يؤلم حتى يضمهم رمس.
فما رأيك في هذه الحقيقة العارية الباردة وقد وضعت هذا الموضع؟ أليست تحرك فيك الإشفاق على هذا الإنسان الذي يتقلب ويتغير وسط عالم ثابت؟
القصيدة الجيدة من الشعر - إذن - هي ما يستخدم فيها الشاعر الألفاظ بحيث تؤدي معانيها كاملة، والشاعر الحق هو من تميز عن سائر الناس بإدراكه لما للألفاظ من قوة؛ أي بإدراكه لما في ثناياها من معان تجمعت فيها خلال العصور؛ فالكلمة عند الشاعر لا تفسر بالعقل وحده، لكنها تفسر كذلك بالقلب والخيال؛ فإذا ما ترددت لفظة في ذهنه كان لها أصداء مدوية في دخيلة نفسه؛ لأنها تسكب مكنونها كله فيسري في كيانه، ويكشف لخياله في سريانه هذا مناظر الماضي وذكرياته، فيستعيد المشاعر التي كانت هذه الألفاظ قد أثارتها في أنفس الناس في شتى تجارب الحياة؛ فاللفظة الواحدة على هذا النحو قد تسكب في نفس الشاعر من الصور المتلاحقة ما يملأ قصيدة كاملة. خذ هذه القصيدة التي أنشأها أمير الشعراء في إنجلترا اليوم (مستر ميسفيلد) وعنوانها «حمولة السفن»، وما أظن هاتين اللفظتين تثيران في نفسك أو في نفسي إلا أتفه الصور وأبرد المعاني؛ فهما قد تستدعيان إلى ذهنك وذهني صورة السفينة وقد حملت الأثقال فوق ظهرها، وقد نمعن في التقصي فنشم خلال الكلمتين رائحة البحر، ونتعقب البضائع المحملة إلى قواعدها عبر البحار، لكن انظر كم سكبت اللفظة في نفس الشاعر من صور ومعان! لقد أخرج من «الحمولة» قصيدة بأسرها من أجود الشعر، لا يعتمد أن يسوق فيها فكرة أو يضمنها رأيا، بل يكتفي بالنظر إلى السفينة المحملة ثم يترك لشعوره العنان. هو في هذه القصيدة لا يفعل شيئا سوى أن يترك لفظ «الحمولة» يفرغ شحنته في رأسه، وما عليه بعد ذلك إلا أن يخرج الصور التي كانت كامنة في اللفظ وانسكبت في نفسه، وتستطيع وأنت تقرأ القصيدة أن ترى الصور تتداعى واحدة في إثر واحدة، كأن اللفظة شريط ملفوف ينحل وينبسط أمام عينيك شيئا فشيئا؛ حمولة، سفينة، أنواع السفن واحدة بعد أخرى، السفينة الثقيلة القديمة ذات المجاديف الخمسة، السفينة الخفيفة التي استعملت في معارك البحر، السفينة التي تحمل اليوم تجارة العالم وصناعته وهكذا. وفي كل مرحلة من هذه الحلقات المتتابعة تنشأ في ذهن الشاعر صور فيعمل فيها فنه؛ هذه يثبتها وتلك يمحوها. فلما وردت على ذهنه السفينة القديمة ذات المجاديف الخمسة، تلاحقت الصور كما يلي: نينوى، أوفير، ميناء، فلسطين، عاج ... إلخ. حتى إذا ما أتم القصيدة كانت «الحمولة» قد أفرغت ثلاثة عصور متباينة من عصور التاريخ، فأعادت له عصر سليمان بكل مجده وجلاله، وعصر اليصابات بما فيه من مغامرات وحروب في البحر، والعصر الحديث بسفنه التي تجوب البحار بتجارتها وصناعتها، كل هذه الصور وغيرها كانت مندسة في لفائف اللفظة الواحدة «حمولة»، وما إن أدارها الشاعر في ذهنه حتى تفجرت مكنوناتها وازدحمت صورها في نفسه، فأحس ما أحسه العالم في عهوده الماضية. وإذن فهو مؤرخ بمعنى الكلمة الصحيح؛ لأنه يستثير كوامن الماضي في نفسه، أو إن شئت فقل إن الماضي يبعث إلى الحياة من جديد في نفس الشاعر، بعثا على سبيل الحقيقة لا المجاز؛ لأنه سيعود حيا في وعيه وقلبه وشعوره، ولا يظل معروضا - كما يعرض في كتب التاريخ - في جمود القواقع الجافة التي تشير إلى ما كان فيها من حياة، دون أن تكون هي الحياة نفسها. على هذا النحو تفرغ الألفاظ ما أودعه الماضي في جوفها، كأنها تفعل ذلك بفعل السحر. ولعلك قد رأيت في المثال السابق كيف أتم الشاعر قصيدته على غير وعي منه؛ فهو وإن يكن متيقظا يوجه عملية «التفريغ» - تفريغ الصور من اللفظة - إلى حيث يريد، فيقرر أي الأضابير يحل ويفرغ، وأيها ينحى ولا يؤذن له بموضع في السياق، إلا أنه يقف من اللفظة موقفا قابلا لا فاعلا، فيدعها تتمخض عما شاءت من المعاني والذكريات حتى تكمل القصيدة كلها. وهو إذ يستعرض في القصيدة أنواع السفن الثلاثة، ويدع كل نوع منها يستدعي إلى ذهنه سلسلة من الخواطر والذكريات، وينتهي به الأمر إلى تصوير ثلاثة عصور من التاريخ؛ لا يوازن بين الحياة في هذه العصور المختلفة، ولا يزن كلا منها بما يراه له من قيمة وقدر، بل يكتفي بأن يبسط تجربة حية من كل عصر، وللقارئ أن يتخذ من هذه التجربة التي يبسطها له الشاعر تجربة كسائر ما تمده به الحياة من تجارب، ثم له أن يجعلها موضعا لتفكيره وتأمله، فتكون له مادة يكون منها في النهاية فلسفته الخاصة به . أما الشاعر فلا يقدم له رأيا ولا فلسفة، ويكتفي باسترجاع العناصر الحيوية التي طبعت «حمولة السفن» في الأعصر السوالف بطابعها. فأول ما يطلب من الشاعر أن يحيا في تجارب الماضي حياة جديدة، باستخراج ما تكنه الألفاظ من تلك التجارب.
لكن القصيدة ليست كلمة واحدة تفرغ ما فيها وكفى، إنما هي كلمات متجاورة متعاقبة، تقذف كل منها بما هي مفعمة به من تراث الماضي في نفس الشاعر ووعيه، وما تزال به تؤثر فيه حتى تدفعه دفعا أمام تيارها، فيجاوز الحاضر وينحدر إلى المستقبل يتسلفه ويسبق وقوعه. ومن ثم سمي الشعراء بالأنبياء؛ فهم يستجيبون لما ورثه الحاضر من الماضي خلال الألفاظ وما بث فيها، بحيث يتبين لهم أكثر مما يتبين لسواهم مجرى الحوادث في المستقبل كما تدل عليه تجارب الماضي. هم يتنبئون بالمستقبل؛ لأنهم يرون طريق التطور والرقي الذي تسير فيه الحياة، وتعينهم على ذلك قدرتهم العظيمة على استكناه ما تبطنه الألفاظ في جوفها من تراث فكري وشعوري خلفه فيها الأقدمون. خذ مثلا لذلك قصيدة «وردزورث» «الحاصدة المنفردة»،
Unknown page