وفي هذه الأبيات ترى صورة الزوجة منكبة تتم أعمالها قبل عودة زوجها، أصدق وأكثر تحديدا من صورة الزوجة عند «تومسن» تعد «الدثار دفيئا»، وكذلك صورة الأطفال يسرعون نحو أبيهم وهم يلثغون في الترحيب به، أقرب إلى الوضوح من الأطفال عند «تومسن»، ولكن «جراي» يضخم اللفظ في غير موضع للتضخيم حين يسمي الأب مولى، فيخطئ هنا كما أخطأ تومسن.
ويصور «كولنز» صورة شبيهة بهذه أيضا في قصيدة له عنوانها «نشيد في الخرافات الشائعة»، إذ يرسم لنا حالة الأسرة وقد أغرق في اليم عائلها:
عبثا سترقبه في قلق زوجته،
وتجوب الطريق لعلها تلاقيه في عودته.
عبثا إذا ما أطبق المساء على ضوء النهار
يطيل الصغار وقوفهم عند الباب لأب يفتحه.
فهنا تحس كأنما امتزج الشاعر بهذه الأسرة الحزينة وأشرب شعورها؛ فهو لا يصور مأساتها وهو واقف على مبعدة منها يرقب ويصف، بل يحيا في هذه المأساة نفسها مع أفراد الأسرة المنكوبة. انظر كيف أقلقه قلق الزوجة، وراح يصور من المنظر ما يعين على أداء غرضه الذي يهدف إليه، ولا ينحرف إلى سواه، فكل سطر يضيف إلى صورة المأساة خطوة حتى تتكامل، ويضيع الرجاء حين يقبل المساء، ويجتمع الأطفال خلف باب الدار ينتظرون أبا لن يعود؛ فالباب الذي لن ينفتح لأبيهم الغائب أبعث على الحزن من القبلة التي يرجونها من أبيهم في وصف «جراي». كل سطر في هذه القصة دال على خيبة الرجاء، وباعث على مشاركة الزوجة وبنيها وجدانهم وأحزانهم.
أفحش الخطأ أن يظن الشاعر أن هذه لفظة تصلح للنثر ولا تصلح للشعر، لأنها درجت على ألسنة الناس في الحديث؛ إذ العبرة بما تحتويه اللفظة من مكنون شعوري، وبما توحيه في موضعها الذي يختاره لها الشاعر من خواطر ومشاعر. نعم إن لبعض الألفاظ في المسامع نغما أشجى من بعضها الآخر، وبعض الألفاظ أسلس في يد الشاعر من بعضها، وأكثر اتساقا وانسياقا في الكلام الموزون، لكن هذه العوامل كلها متصلة بجمال الألفاظ الظاهري الخارجي، وهو جمال تافه ضئيل إذا قيس بالجمال الباطني الحقيقي، جمال المعنى والشعور الذي توحي به اللفظة عند كاتبها وسامعها. جمال اللفظ أن يؤدي ما أريد له أن يؤديه أداء كاملا مليئا بالقوة والحياة، ولا عبرة
شعرا كان أو نثرا - هو قوة التعبير؛ كلما فاضت العبارة بمعانيها ومشاعرها وعواطفها التي قصد الكاتب أن يسوقها فيها، كانت أدنى إلى الأدب الحي الصحيح، على شريطة ألا يقصد من العبارة أن تؤدي معنى عقليا خالصا يمكن للرموز الجافة أن تؤديه، بل لا بد أن تحمل الألفاظ إلى جانب معانيها العقلية محصولا من العواطف الإنسانية والصور الذهنية والمشاعر الحية، التي تجمعت حول تلك المعاني العقلية على مر الدهور، بفعل ما مرت به الإنسانية من تجارب؛ «فاثنان واثنان تساوي أربعة» عبارة تؤدي معناها على أتم وأوفى ما يراد لها، لكنك لا تسلكها في الأدب الرفيع بسبب أدائها المعنى أداء تاما وافيا؛ لأن معناها عقلي خالص، يخلو من العواطف والمشاعر الإنسانية، ومن الممكن أن نستغني في أداء هذا المعنى عن الألفاظ جملة ونستبدل بها رموزا دون أن ينقص من المعنى شيء، كأن نسوقه في أرقام كهذه 2 + 2 = 4، وهذا ما أردناه منذ قليل حين اشترطنا للعبارة الأدبية الجيدة أن تعبر عن معناها أوفى ما يكون التعبير، على شرط ألا يكون معناها عقليا خالصا، بل يضاف إليه شعور إنساني بثته في الألفاظ تجارب الإنسان على مر العصور. ولست أحب لك أن تتعجل الأحكام، فلا يسبقن إلى وهمك أن «اثنين واثنين أربعة» كتب عليها ألا تجري في سياق الشعر لأنها تخلو من الصور الذهنية والمشاعر الإنسانية، وتقول الحق العقلي مجردا عاريا؛ فقد تجد في الشعر موضعا يكون فيه نقصها الشعوري نفسه سببا في جمال المقطوعة الشعرية في مجموعها، فانظر مثلا إلى الشاعر الإنجليزي «هاوسمان»
Housman
Unknown page