ثار عليه بالحجة فوثب إلى سواه، وما زال به صدرا من الليل ينشره ويطويه، وينقله من رأي إلى رأي، ويحوله من قول إلى قول، حتى داخ الرجل ووهن، ولم يبق فيه فضل لحوار ولا جدل!
ولا أدري أكان ذاك من سعد مجرد تهد للرأي، وتعقب لموطن الصواب، أم أنه إنما كان يتلعب بالرجل تلعبا لينزله على معرفة قدره، ففي نفس ذلك المستشار غرور وفي أنفه ورم! أم هي المخيلة
3
تبعثها في النفس شدة التمكن من النفس، وإنه ليلذ لها أحيانا ألا تمتعك بذلك الواقع الذي اطمأننت به، والحق الذي استرحت إليه. فما هو إلا أن تصول بالحجة عليك حتى ترى أنك إنما كنت تقبض على الهواء، وأن صرحك الذي أقمته تفرق عنك تفرق الهباء، فتتولى منخذلا عن يقينك وقد ضربك الشك: أكنت مخدوعا عن الواقع؟ أم أن هذا الواقع دون قوة سعد فهو يصرفه بحجته كيف يشاء؟ لا أدري يومها ماذا كانت إربة الجبار. والله أعلم!
وسعد قد علت به السن وشاب رأسه، على أنه، بسط الله في عمره، ما زال يمرح من فطنته القوية في أفتى الفتوة وأمرع الشباب. ولو كتب لك الظفر ساعة بمجلس هذا الذي دوت الدنيا كلها بمجده؛ لنعمت بما لا يلحقه الوصف من عذوبة طبع في عذوبة مجلس، وحديث كأنه قطع الروض رف
4
آسه ونسرينه، وتضوع ورده وياسمينه، وبديهة كأنه يقرأ منها في كتاب، وكأنها تستوحي الغيب فليس بينها وبين الغيب حجاب، ونادرة تشيع فيك الطرب، وتهزك من أعجاب ومن عجب، إذ هو فيما يرسل من القول، في جده ومزاحه، لا يعدو ما ينبغي له من تحشم ووقار.
وإنه ليقبل عليك بكل لطفه حتى يفرخ روعك، ويفسح لك في جوانب القول لتقول، وإنه ليباريك في منزعك، ويدارجك في حديثك، إلى أن يرسلك على سجيتك ويسترسل معك، حتى إذا اطمأننت إليه، وظننت أنك في مساجلة رجل مثلك ، خانته عبقريته، فوثب به ذهنه إلى ما لا يتعلق به ذهنك، فإذا أنت قد طرت كل مطير، وإذا الطبيعة تأبى برغمك ورغمه إلا أن تشعرك أنك في حضرة سعد زغلول!
يا لله من هذا الرجل! وإنه ليعرض في الأمر فيقول فيه مقالا، وإنك لتقدر له بادئ الرأي غاية ما تعاهد الناس من حجة، وأقصى ما تعارفوا من دليل، فإذا هو قد وقع في تدليله على ما لم تقع عليه ظنون الناس، وارتفع إلى ما لم تتعلق به أذهانهم، ففتح في المنطق فتحا جديدا وأتى بما يبهر ويروع، وكيف لسعد ألا يرتفع على مذهب حجة الناس، وقد رفعه الله على الناس؟
وسعد وافر الشعور بعظمته، مزدحم الشعور بأنه إنما يتحدث على آمال أمة، فهو مهما بارى المجلس في فنون أحاديثه، ومهما تدلى به السمر إلى تلك الأسباب الدائرة بين الناس، يرفه بذاك عن نفسه وعن صحبه، يطفر الفينة بعد الفينة إلى حديث الوطن، فيشك فيه معنى جليلا، ثم يعود فيصيب ما شاء الله من حديث القوم. أعلمت أن سعدا لا يصلح إلا للوطن، وأن الوطن لا يصلح إلا بسعد؟
Unknown page