ولا يذهب عنك أن شأن الكاتب في هذا الباب كشأن المصور «الكاريكاتوري»؛ فهو إنما يعمد إلى الموضع الناتئ في خلال المرء، فيزيد في وصفه، ويبالغ في تصويره بما يتهيأ له من فنون النكات. وأنت خبير بأن مرد النكتة إلى خلل في القياس المنطقي بإهدار إحدى مقدماته أو بتزييفها أو بوصلها، بحكم التورية ونحوها، بما لا تتصل به في حكم المنطق المستقيم، فتخرج النتيجة على غير ما يؤدي إليه العقل لو استقامت مقدمات القياس. وهذا الذي يبعث العجب، ويثير الضحك والطرب. فالنكتة بهذا ضرب من أحلى ضروب البديع. ولا يعزب عنك كذلك أن «النكتة» إذا لم تكن محكمة التلفيق، متقنة التزييف، بحيث يحتاج في إدراكها إلى فطنة ودقة فهم، خرجت باردة مليخة لا طعم لها في مساغ الكلام.
ولعلك آخذي بأنني أسف أحيانا إلى العامية الشائهة فأوردها في درج الكلام. وعذري في ذاك ما تعرف من أننا نكتب بلغة، ونتناول أسبابنا الدائرة بلغة أخرى، وهيهات لك أن تجلي على القارئ صورة كاملة من حديث قوم في مناقلاتهم ومنادراتهم، وما تطارحوا من فنون النكات، إلا بأن تورده كما نطقوا به، وبخاصة إذا كان يجري في التعبيرات التي تشيع على ألسن الناس، وتذهب عندهم مذهب الأمثال، فإذا حاولت أن تؤدي هذا بفصيح اللغة؛ فسد الغرض، واختل نظم الكلام. وللإمام الجاحظ في هذا المعنى قول جليل، فراجعه إن شئت في كتابه «البخلاء». •••
وبعد، فالرأي ألا تتناول الأقلام بمثل هذا النوع من الحديث إلا أمرا يقوم على شأن عام ، على ألا تتره حقا، ولا تضيف إليه ما ليس له، وعلى ألا تتدسس إلى مكارهه، ولا تطلب من مستور هناته ما لا يتصل بالشأن العام. فإذا هي اعترته بعد هذا بألوان التندر؛ كان حقيقا بها ألا تصرف وجه القول إلى الرغبة في تهاونه والتهزؤ به والكيد له. وهذا ما تحريته فيما عالجت من هذه «المرايا»، فإن يكن قد ند القول بعض الحين، فإنني امرؤ ينبو على القلم، وتزل بي القدم، وإني أستغفر الله وأسأله العافية.
في حضرة الرئيس1
ملء السمع، ملء القلب، ملء البصر. لو حاول بكل جهده ألا يكون رجلا عظيما؛ ما استطاع، وهيهات لامرئ أن يملك عن نفسه ما شاء لها الله! وقد سوى الله له هذه العظمة من يوم مدرجه، فكان طالبا عظيما، وكان مدرها عظيما، وكان قاضيا عظيما، ثم تناهت إليه زعامة أمة، فهو فيها ملء السهل والجبل.
بحسبك أن تراه لتعرف أنه سعد، ولو لم يومئ إليك أحد بأنه سعد: وكيف يختلط عليك أمره وهذه يد القدرة قد دلت عليه بدلائل تنبئك بأنه، وإن كان من الناس، إلا أنه أعظم الناس.
بسطة في العلم والجسم، بسطة في العقل والحلم، وعزم تتزايل الجبال دون أن يتزلزل، ويقين تتحول الأرض عن مدارها ولا يتحول، ومنطق يصول في الجلى حتى لتحسبها الجحافل قد تداكت بسيوفها وعواليها، ويلطف في السمر حتى لتتمثل أسراب الكواعب، وسوست حليها، وتضوعت منها غواليها.
وما إن رأيت ولا سمعت برجل فسح الله تعالى له في البيان، وأمكنه من نواصي الحجة، كما فسح لسعد ومكن لسعد. ولقد تتقدم لمباراته في الأمر تظن أنك قد بلغت منه الغاية، ووقعت على الصميم، وتمنعت منه بالحصن القوي، فما هو إلا أن يرسل عليك الحجة حتى ترى أنه ملك الرأي عليك من جميع أقطارك، وإنك سرعان ما وقعت أسيرا في يديه تتقلب فيهما تقلبا، وهيهات لك الخلاص إلا بأن تنزل في أمرك على الإذعان والتسليم!
وإن أنس، لا أنس ليلة مضت من عشر سنين حاور فيها مستشارا كان في محكمة الاستئناف، معروفا بشدة الجدل، في مسألة فقهية، وكلما انحط الرجل فيها على رأي أزعجه سعد فطار إلى غيره، حتى إذا ظن أنه تمكن في أفحوصه
2
Unknown page