على رصيف ميناء سميرنا
الفصل الأول
الفصل الثاني
الفصل الثالث
الفصل الرابع
الفصل الخامس
الفصل السادس
الفصل السابع
الفصل الثامن
الفصل التاسع
الفصل العاشر
الفصل الحادي عشر
الفصل الثاني عشر
الفصل الثالث عشر
الفصل الرابع عشر
الفصل الخامس عشر
المبعوث
على رصيف ميناء سميرنا
الفصل الأول
الفصل الثاني
الفصل الثالث
الفصل الرابع
الفصل الخامس
الفصل السادس
الفصل السابع
الفصل الثامن
الفصل التاسع
الفصل العاشر
الفصل الحادي عشر
الفصل الثاني عشر
الفصل الثالث عشر
الفصل الرابع عشر
الفصل الخامس عشر
المبعوث
في زمننا
في زمننا
تأليف
إرنست همينجواي
ترجمة
الزهراء سامي
مراجعة
مصطفى محمد فؤاد
على رصيف ميناء سميرنا
قال: إن الغريب في الأمر صراخهم كل ليلة في منتصف الليل. لست أدري السبب في صراخهم في ذلك الوقت. كنا في الميناء وكانوا جميعا على الرصيف، وعند منتصف الليل بدءوا في الصراخ. اعتدنا على توجيه ضوء الكشاف عليهم لكي نهدئ من روعهم. كان ذلك يفي بالغرض دوما. كنا نوجه الضوء باتجاههم صعودا وهبوطا مرتين أو ثلاث مرات وكانوا يتوقفون عن الصراخ. في إحدى المرات، كنت أنا الضابط المسئول على رصيف الميناء وجاءني ضابط تركي وقد بلغ به الغضب مبلغه؛ لأن أحد الملاحين قد أهانه إهانة كبيرة. قلت له بأن الرجل سيرسل على سفينة وسيعاقب عقابا شديدا. طلبت منه أن يشير إلى الرجل؛ فأشار إلى ضابط صغير مسئول عن صيانة السفينة وأسلحتها، وهو شاب مسالم للغاية. قال وهو يتحدث إلي من خلال مترجم: إن الشاب قد أساء إليه بشدة ولمرات عديدة. لم أستطع أن أتخيل كيف تمكن هذا الضابط الصغير من معرفة اللغة التركية بالقدر الذي يكفي لإهانة شخص ما. استدعيته وقلت له: «هل تحدثت إلى أي من الضباط الأتراك؟» «لم أتحدث إلى أي منهم، يا سيدي.»
قلت: «أنا متأكد من هذا، لكن الأفضل أن تظل على متن السفينة ولا تعود إلى الشاطئ ثانية بقية اليوم.»
بعد ذلك أخبرت الضابط التركي أن الرجل قد أرسل على متن السفينة وسوف يحاسب حسابا عسيرا. كلا ، بل أخبرته أنه سيحاسب بصرامة شديدة. سعد بشدة لذلك. لقد كنا صديقين رائعين.
قال إن الأمر الأسوأ على الإطلاق هو النساء وأطفالهن الموتى. لم تكن لتستطيع أن تحمل النساء على التخلي عن أطفالهن الموتى. كان من الممكن أن يبقين على الأطفال الموتى لستة أيام؛ فهن لن يتخلين عنهم. ولم يكن هناك ما يمكن أن تفعله حيال ذلك. كان عليك أن تأخذهم منهن في النهاية. ثم كانت هناك تلك المرأة العجوز، التي كانت حالة استثنائية للغاية. لقد أخبرت طبيبا بأمرها وقال إنني أكذب. كنا نخليهن عن رصيف الميناء، وكان علينا أن نتخلص من الموتى، وكانت تلك المرأة العجوز ترقد على ما يشبه النقالة. قالوا: «هلا ألقيت نظرة عليها يا سيدي؟» ألقيت نظرة عليها وعندها فقط ماتت وتصلبت تماما؛ توقفت ساقاها وتوقف جسمها بداية من الخصر، وأصبحت متصلبة تماما. بدا الأمر كما لو أنها قد ماتت أثناء الليل؛ لقد كانت ميتة ومتصلبة تماما. لقد أخبرت طبيبا بهذا وقال إن ذلك أمر مستحيل.
كانوا جميعا هناك على رصيف الميناء، ولم يكن هناك من شيء كزلزال أو أي شيء من هذا القبيل؛ إذ إنهم لم يعرفوا قط بشأن الأتراك. لم يعرفوا ما كان سيفعله التركي العجوز. أتتذكر حين أمرونا بألا نأتي لإخلاء المزيد؟ أصابتني حالة من التوتر الشديد حين أتينا في ذلك الصباح. لقد كان لديه الكثير جدا من الأسلحة، وكان يمكن أن يفجرنا تماما في المياه. كنا سندخل ونقترب من رصيف الميناء، ونحل المراسي الأمامية والخلفية، ثم نقصف الجزء التركي من المدينة. كانوا سيفجروننا في المياه، لكننا كنا ببساطة سنفجر المدينة ونحولها إلى جحيم. كانوا قد أطلقوا علينا للتو بضع قذائف فارغة في أثناء دخولنا الميناء، ثم جاء كمال وطرد القائد التركي؛ لأنه قد تجاوز سلطاته أو شيئا من هذا القبيل. لقد أعطى لنفسه بعض الشيء حجما أكبر من حجمه الحقيقي. لولا ذلك لتحول الأمر إلى فوضى عارمة.
أنت تتذكر الميناء. كان هناك الكثير من الأشياء الجميلة تطفو حوله. كانت تلك هي المرة الوحيدة في حياتي التي أبلغ فيها هذه المرحلة حتى إنني حلمت ببعض الأمور. أنت لم تكن مهتما بشأن النسوة اللائي كن يلدن أطفالهن مثلما كنت منزعجا بشأن النسوة اللائي كن يحملن أطفالهن الموتى. وقد ولد الأطفال بخير. من المدهش أنه لم يمت سوى القليل منهم. إنك لم تفعل شيئا سوى أنك غطيتهن بشيء وتركتهن وشأنهن. كانت النسوة يخترن البقعة الأكثر عتمة في عنبر التخزين في السفينة كي يلدن. لم تمانع أي منهن في أي شيء فور خروجهن من رصيف الميناء.
كان اليونانيون لطفاء أيضا؛ حين قاموا بالإخلاء أخذوا جميع الحيوانات التي كانت تحمل أمتعتهم لكنهم عجزوا عن أخذها معهم، فكسروا ساقيها الأماميتين، ورموها في المياه الضحلة. كل تلك البغال قد دفعت إلى المياه الضحلة بعد أن كسروا ساقيها الأماميتين. لقد كان ذلك كله أمرا مبهجا. أجل لعمري كان أمرا مبهجا للغاية.
الفصل الأول
كان الجميع سكارى؛ السرية بأكملها كانت سكرى وهي تسير على الطريق في الظلام. كنا في طريقنا إلى إقليم شامبين. ظل الملازم يقود حصانه في الحقول ويقول له: «إنني ثمل يا صديقي، أؤكد لك. آه، إنني غارق في السكر.» ظللنا نسير على الطريق طوال الليل في الظلام، وظل الضابط المساعد يقود حصانه بجوار مطبخي وهو يقول: «لا بد أن تطفئ ناره. إن ذلك خطير للغاية. سوف يرى.» كنا على بعد خمسين كيلومترا من الجبهة، لكن الضابط المساعد كان قلقا بشأن نار مطبخي. لقد كان السير على هذا الطريق أمرا ممتعا. كان ذلك حين كنت عريف مطبخ.
المخيم الهندي
كان هناك زورق تجديف آخر يقف على شاطئ البحيرة، ووقف اثنان من الهنود ينتظران.
ركب نك ووالده في مؤخرة الزورق، ودفعه الهنديان ثم ركبه أحدهما كي يجدف. جلس العم جورج في مؤخرة زورق المخيم، ودفع الهندي الشاب الزورق، ثم ركب كي يجدف بالعم جورج.
بدأ الزورقان إبحارهما في الظلام. سمع نك صوت مسندي مجدافي الزورق الآخر يأتي من مكان بعيد يسبقهم في الضباب. كان الهنديان يجدفان بحركات سريعة متقطعة، وأراح نك ظهره للخلف تحوطه ذراع أبيه. كان الجو باردا في المياه. وبالرغم من أن الهندي الذي كان يجدف بهما كان يعمل بكد، فقد كان الزورق الآخر يتقدم زورقهما في الضباب على الدوام.
سأل نك: «إلى أين نذهب يا أبي؟» «إلى المخيم الهندي، ثمة سيدة هندية مريضة للغاية.»
فقال نك: «يا إلهي.»
على الجهة المقابلة من الخليج، وجدوا أن الزورق الآخر قد رسا على الشاطئ. كان العم جورج يدخن سيجارا في الظلام، وسحب الهندي الشاب الزورق إلى مكان بعيد على الشاطئ. وأعطى العم جورج كلا الهنديين سيجارا.
ساروا من الشاطئ عبر مرج ينضح بالندى، متبعين الهندي الشاب الذي كان يحمل قنديلا، ثم ساروا في الأحراج وتبعوا ممرا كان يؤدي إلى طريق احتطاب كان منتهاه التلال من جديد. كان طريق الاحتطاب أفضل إضاءة بكثير؛ إذ كانت الأشجار قد قطعت فيه على الجانبين. توقف الهندي الشاب وأطفأ قنديله، وساروا جميعا على الطريق.
مروا بمنعطف وخرج كلب ينبح. في الأمام، ظهرت أضواء الأكواخ التي كان يعيش فيها الهنود الذين يعملون في تقشير اللحاء. اندفع نحوهم المزيد من الكلاب، وأعادها الهنديان إلى الأكواخ. وفي الكوخ الأقرب إلى الطريق، بدا ضوء في النافذة. وعلى المدخل، وقفت سيدة عجوز تحمل مصباحا.
في الداخل، على سرير خشبي يتكون من طابقين، كانت ترقد سيدة هندية شابة، كانت تحاول أن تلد طفلها منذ يومين، وكانت جميع النسوة العجائز في المخيم يحاولن مساعدتها. أما الرجال فقد خرجوا إلى الطريق كي يجلسوا في الظلام ويدخنوا بعيدا عما كانت تصدره من ضوضاء. صرخت فور أن دخل نك ووالده والهنديان اللذان كانا يقودانهما والعم جورج إلى الكوخ. كانت ترقد بضخامتها في الطابق السفلي من السرير تحت لحاف، بينما يتجه رأسها إلى أحد الجانبين. في الطابق العلوي من السرير، كان يجلس زوجها. كان قد جرح قدمه جرحا خطيرا بالفأس قبل ثلاثة أيام. وكان يدخن غليونا، وكانت رائحة الغرفة سيئة للغاية.
أمر والد نك بوضع بعض المياه على الموقد، وبينما كانت تسخن، راح يتحدث إلى نك قائلا: «هذه السيدة سوف تلد طفلا يا نك.»
أجاب نك: «أعرف.»
تابع والده الحديث قائلا: «إنك لا تعرف. استمع إلي! إن ما تمر به الآن يسمى المخاض. إن الطفل يرغب في أن يولد، وهي ترغب في ولادته. جميع عضلات جسمها تحاول أن تنجز عملية ولادة الطفل. هذا ما يحدث عندما تصرخ.»
قال نك: «فهمت.»
وحينها على الفور، صرخت المرأة.
سأل نك والده: «أوه، يا أبي، ألا تستطيع أن تعطيها شيئا يجعلها تكف عن الصراخ؟»
أجاب أبوه: «لا، ليس لدي أي مخدر، لكن صرخاتها لا تهم. إنني لا أسمعها لأنها لا تهم.»
تقلب الزوج الذي كان يرقد في الطابق العلوي من السرير، ليواجه الحائط.
المرأة الموجودة في المطبخ أشارت بحركة إلى الطبيب تفيد بأن المياه قد أصبحت ساخنة. دخل والد نك إلى المطبخ وصب ما يقرب من نصف المياه من القدر الكبيرة في أحد الأحواض، ووضع في المياه التي تبقت في القدر عدة أشياء كان قد أخرجها من منديل.
تحدث قائلا: «هذه يجب أن تغلي.» ثم بدأ في دعك يديه في حوض المياه الساخنة بقالب من الصابون كان قد أحضره من المخيم. شاهد نك والده وهو يدعك بالصابون يديه إحداهما بالأخرى. وبينما كان والده يغسل يديه جيدا وكليا، راح يتحدث. «أنت تعلم يا نك أن الأطفال يولدون برءوسهم أولا، لكن ذلك لا يحدث في بعض الأحيان. وحين لا يحدث هذا، تكون مشكلة للجميع. قد أضطر إلى إجراء عملية جراحية لهذه السيدة. سوف نعرف بعد قليل.»
وحين أصبح راضيا عن نظافة يديه، سار للداخل وتوجه إلى العمل.
قال: «هلا رفعت هذا اللحاف يا جورج؟ يجب ألا ألمسه.»
حين بدأ في إجراء العملية الجراحية بعد ذلك، أمسك العم جورج وثلاثة هنود آخرون بالمرأة كي تبقى ساكنة. عضت المرأة ذراع العم جورج؛ فقال: «تبا أيتها المرأة الخبيثة!» وراح الهندي الشاب الذي جدف بزورق العم جورج يضحك منه. أمسك نك بالحوض لأبيه. استغرق الأمر بأكمله وقتا طويلا. أخرج أبوه الطفل وصفعه على ظهره كي يتنفس ثم ناوله المرأة العجوز.
تحدث إلى نك قائلا: «انظر يا نك! إنه غلام. ما رأيك في مهمة الطبيب المتدرب التي تؤديها؟»
أجاب نك: «لا بأس بها.» كان ينظر بعيدا كي لا يرى ما كان يفعله أبوه.
تحدث والد نك بينما كان يضع شيئا في الحوض وقال: «حسنا! هذا يكفي.» لم ينظر نك إلى ما وضعه.
وتابع أبوه قائلا: «سوف أخيط الآن بعض الغرز. يمكنك أن تشاهد ذلك يا نك أو لا، افعل ما تريد. سوف أخيط الجرح الذي فتحته.»
لم يرغب نك في مشاهدة ما كان يفعله والده؛ كان فضوله قد تلاشى منذ فترة طويلة.
انتهى أبوه ونهض واقفا. وقف العم جورج والهنود الثلاثة، وذهب نك بالحوض ووضعه في المطبخ.
نظر العم جورج إلى ذراعه، وابتسم الهندي الشاب وهو يتذكر الأمر.
تحدث إليه الطبيب قائلا: «سوف أضع على هذا بعض البروكسيد يا جورج.» وانحنى ناظرا إلى السيدة الهندية. كانت قد أصبحت الآن هادئة، وأغمضت عينيها. بدت شاحبة للغاية، ولم تكن تعرف ما حل بالطفل أو أي شيء آخر.
تحدث الطبيب وهو ينهض: «سأعود في الصباح، وسوف تحضر الممرضة من سانت إيجناس بحلول الظهيرة، وستجلب كل ما نحتاج إليه.»
كان يشعر بالانتشاء والرغبة في الحديث مثلما يغدو لاعبو كرة القدم في غرفة تغيير الملابس بعد المباريات.
قال: «إن ذلك جدير بالنشر في الدورية الطبية يا جورج. إجراء عملية توليد قيصرية باستخدام سكين الجيب وخياطة الجرح بتسع أقدام من خيوط الصيد المستدقة.»
كان العم جورج يقف مستندا إلى الجدار وهو ينظر إلى ذراعه.
ثم قال: «أوه، إنك رجل عظيم بالطبع.»
قال الطبيب: «يجب أن ألقي نظرة على الأب الفخور. إن هؤلاء الآباء عادة أكثر من يعانون في مثل هذه الشئون الصغيرة، لكنني يجب أن أعترف أنه تحمل الأمر بهدوء.»
أزاح الغطاء عن رأس الهندي، وخرجت يده مبتلة. صعد على حافة السرير السفلي بمصباح في يده ونظر. كان الهندي مستلقيا ووجهه في اتجاه الجدار، وكان حلقه مقطوعا من الأذن إلى الأذن. تدفق الدم إلى أن أصبح بركة تحت وطأة جسده المتثاقل في السرير. استند رأسه على ذراعه اليسرى، وقبعت الموسى المفتوحة وحافتها متجهة إلى الأعلى بين الأغطية.
قال الطبيب: «اصطحب نك إلى خارج الكوخ، يا جورج.»
لم يكن ثمة حاجة إلى ذلك؛ إذ كان نك الواقف على باب المطبخ يرى السرير العلوي بوضوح حين أمال أبوه رأس الهندي إلى الخلف والمصباح في يده.
كان الفجر قد بدأ يطلع للتو حين ساروا على طريق الاحتطاب باتجاه العودة إلى البحيرة.
تحدث والد نك إليه وقد زالت عنه النشوة التي كان يشعر بها بعد العملية الجراحية؛ فقال: «إنني في غاية الأسف لأنني أحضرتك يا نيكي. لقد كانت تجربة مريعة تلك التي مررت بها.»
سأل نك: «هل تعاني النساء دوما بهذا القدر في ولادة أطفالهن؟» «كلا، لقد كان ذلك استثنائيا للغاية.» «لماذا قتل نفسه يا أبي؟» «لا أدري يا نك. أعتقد أنه لم يستطع أن يتحمل الأمور.» «هل يقتل الكثير من الرجال أنفسهم يا أبي؟» «ليس الكثير من الرجال يا نك.» «هل يفعلها الكثير من النساء؟» «نادرا.» «ألا يفعلنها أبدا؟» «أوه، بلى، يفعلنها في بعض الأحيان.» «أبي؟» «أجل.» «أين ذهب العم جورج؟» «سيعود قريبا.» «هل الموت صعب يا أبي؟» «كلا، أعتقد أنه سهل للغاية يا نك. إن الأمر كله يتوقف على الظروف.»
كانا يجلسان في الزورق، نك في المؤخرة، ووالده يجدف. كانت الشمس تشرق فوق التلال. قفزت سمكة قاروص فصنعت دائرة في المياه. مرر نك يده في المياه فوجدها دافئة رغم برودة الصباح الشديدة.
في الصباح الباكر وهو جالس في مؤخرة الزورق مع والده الذي يجدف به في البحيرة، كان متأكدا من أنه لن يموت أبدا.
الفصل الثاني
كانت المآذن تبرز شامخة في المطر عبر البيوت الطينية بمدينة آدريانوبل. واصطفت العربات على مسافة ثلاثين ميلا على طريق كاراجاتش. كانت الماشية وجاموس المياه تجر العربات في الطين. ما من بداية ولا نهاية لصف العربات؛ فقط عربات محملة بكل ما كانوا يملكونه. كان العجائز رجالا ونساء يسيرون وهم مبتلون تماما كي يحثوا الماشية على الاستمرار في الحركة. كان يتدفق نهر ماريتسا أصفر اللون وكاد يبلغ الجسر. اكتظ الجسر عن آخره بالعربات التي راحت الجمال تشق طريقها فيما بينها. سار الخيالة اليونانيون بين الركب يحافظون على نظامه وسيره. جثمت النساء والأطفال في العربات مع المفارش والمرايا وآلات الخياطة والحزم. كانت هناك امرأة تلد طفلا وفتاة صغيرة تمسك بغطاء تضعه عليها وتبكي. كان النظر إلى هذا المشهد مخيفا للغاية. وقد ظل المطر يهطل طوال عملية الإجلاء.
الطبيب وزوجته
أتى دك بولتون من المخيم الهندي كي يقطع بعض جذوع الأشجار لوالد نك، وأحضر معه ابنه إدي وهنديا آخر يدعى بيلي تابشو. جاءوا من الأحراج عبر البوابة الخلفية. كان إدي يحمل منشار قطع عمودي طويلا يتأرجح على كتفه ويصدر صوتا موسيقيا في أثناء سيره. أما بيلي تابشو، فكان يحمل خطافي إمالة كبيرين. وحمل دك ثلاث فئوس تحت ذراعه.
استدار دك وأغلق البوابة، بينما سبقه الاثنان الآخران وتوجها إلى شاطئ البحيرة حيث كانت جذوع الأشجار مدفونة في الرمال.
كانت الجذوع قد شردت عن حواجز الأخشاب الكبيرة التي كانت الباخرة «ماجيك» قد ربطتها من البحيرة إلى المنشرة. كانت قد انجرفت إلى الشاطئ، وإذا لم يفعل شيء بشأنها، كان طاقم الباخرة «ماجيك» سيأتي عاجلا أو آجلا في زورق تجديف إلى الشاطئ، ويعثر عليها، ويدق فيها مسمارا حديديا ذا حلقة في طرف كل منها، ويثبتها في البحيرة لبناء حاجز جديد. غير أن قطاع أخشاب الأشجار قد لا يأتون على الإطلاق لقطع هذه الجذوع؛ إذ إن عددا صغيرا من الجذوع لم يكن يستحق ثمن جمع الطاقم لها. وإذا لم يأت أحد لأخذها، فسوف تترك لتتشرب المياه عن آخرها وتتعفن على الشاطئ.
افترض دوما والد نك أن هذا هو ما سيحدث، وطلب من الهنود أن يأتوا من المخيم ويقطعوا الجذوع باستخدام منشار القطع العمودي ثم يقسموها بخابور ليصنعوا منها شرائط وقطعا خشبية للمدفأة المفتوحة. دار دك بولتون بالمكان ومر بالكوخ وصولا إلى البحيرة. كانت هناك أربعة جذوع كبيرة من أشجار الزان تقبع مدفونة بأكملها تقريبا في الرمال. علق إدي المنشار من أحد مقبضيه في جزء متشعب من إحدى الأشجار. ووضع دك الفئوس الثلاث على الرصيف الصغير. كان دك هجينا، وكان العديد من المزارعين الذين يقطنون حول البحيرة يعتقدون أنه رجل أبيض في حقيقة الأمر. كان كسولا للغاية، لكنه كان يؤدي العمل ببراعة حين يبدأ فيه. أخرج قالبا من التبغ من جيبه وقضم منه قطعة راح يمضغها، وتحدث إلى إدي وبيلي تابشو بلغة أوجيبواي.
غرزوا طرفي خطافي الإمالة في أحد الجذوع وراحوا يحركونه لكي يتخلخل في الرمال. وألقوا بثقلهم على ذراعي الخطافين. تحرك الجذع في الرمال، واستدار دك إلى والد نك، وقال: «حسنا يا دوك، إنها كمية جيدة من الخشب تلك التي سرقت.»
قال الطبيب: «لا تتكلم بهذه الطريقة يا دك. إنه خشب منجرف.»
كان إدي وبيلي تابشو قد أخرجا الجذع من الرمال المبتلة ودحرجاه باتجاه الماء.
صاح دك بولتون قائلا: «ضعاه بأكمله في المياه.»
سأل الطبيب: «لم تفعل هذا؟»
أجاب دك: «من أجل غسله وتنظيفه من الرمال التي علقت به حتى ننشره. أريد أن أعرف صاحبه.»
كان الجذع تغمره مياه البحيرة في تلك اللحظة. انحنى إدي وبيلي تابشو على خطافيهما وهما يتصببان عرقا في الشمس. وهبط دك على ركبتيه في الرمال ونظر إلى علامة مطرقة قشر الخشب الموجودة في نهاية الجذع.
قال: «إنه يعود إلى وايت وماكنالي.» ثم نهض وأخذ ينظف ركبتي سرواله.
كان الطبيب منزعجا بشدة.
وتحدث بعد برهة قائلا: «من الأفضل إذن ألا تقطعه يا دك.»
قال دك: «لا تنزعج يا دوك، لا تنزعج. إنني لا آبه ممن تسرق. إن هذا ليس من شأني.»
قال الطبيب بوجه تعتليه الحمرة: «إذا كنت تظن أن الجذوع مسروقة، فاتركها وخذ أدواتك وعد إلى المخيم.»
قال دك: «لا تتسرع يا دوك.» بصق عصير التبغ على الجذع، الذي خف قوامه بعد أن انزلق في الماء. ثم تابع: «إنك تعلم أنها مسروقة مثلما أعلم ذلك تماما، لكن ذلك لا يشكل أي فارق لدي .» «حسنا، إذا كنت تظن أن الجذوع مسروقة، فخذ أدواتك واذهب من هنا.» «الآن، يا دوك ...» «خذ أدواتك واذهب.» «استمع إلي يا دوك.» «إذا دعوتني بدوك ثانية، فسوف أجعلك تبتلع أسنانك بضربة واحدة.» «أوه، كلا، إنك لن تفعل هذا بالطبع، يا دوك.»
راح دك بولتون ينظر إلى الطبيب. كان دك رجلا ضخما، وكان يدرك مدى ضخامته. كان يحب الشجار؛ لذا فقد كان سعيدا بذلك. انحنى إدي وبيلي تابشو على خطافيهما ونظرا إلى الطبيب. قضم الطبيب شعر لحيته الموجود على شفته السفلى ونظر إلى دك بولتون، ثم استدار بعيدا وصعد التل متجها إلى الكوخ. كانوا يستطيعون أن يروا من ظهره كم كان غاضبا. شاهدوه جميعا وهو يصعد التل ويدخل الكوخ.
قال دك شيئا بلغة أوجيبواي. ضحك إدي، لكن بيلي تابشو بدا جادا للغاية. لم يكن يفهم الإنجليزية لكنه ظل قلقا طوال الفترة التي دام فيها الشجار. كان سمينا وليس له من شارب سوى شعرات قليلة كرجل صيني. التقط خطافي الإمالة، وحمل دك الفئوس، وأخذ إدي المنشار من الشجرة. انطلقوا وصعدوا إلى الأعلى حيث الكوخ ثم خرجوا من البوابة الخلفية إلى الأحراج. ترك دك البوابة مفتوحة، لكن بيلي تابشو عاد وأغلقها. وتواروا في الأحراج.
في الكوخ، كان الطبيب جالسا على السرير في غرفته ورأى كومة من الدوريات الطبية على الأرض بجوار المكتب. كانت ما تزال مغلقة في أغلفتها. أزعجه الأمر.
سألت زوجة الطبيب من الغرفة التي كانت تستلقي فيها والتي كانت ستائرها منسدلة: «ألن تعود إلى العمل يا عزيزي؟» «نعم!» «أكان هناك من خطب؟» «لقد تشاجرت مع دك بولتون.»
قالت الزوجة: «أوه، أرجو أنك لم تفقد أعصابك يا هنري.»
قال الطبيب: «كلا.»
قالت الزوجة: «تذكر أن «مالك روحه خير ممن يأخذ مدينة».» كانت من أتباع كنيسة العلم المسيحي. وكانت تقبع على منضدتها الموجودة بجوار السرير في الغرفة المعتمة نسخة من الإنجيل، ونسختها من كتاب «العلم والصحة» ونسختها من مجلة «كوارترلي».
لم يرد عليها زوجها. صار الآن جالسا على السرير ينظف بندقية. دفع مخزن البندقية الممتلئ بالقذائف الثقيلة الصفراء وأخرجها بسرعة مرة أخرى؛ فتناثرت على السرير.
نادت زوجته قائلة: «هنري.» توقفت لحظة ثم قالت ثانية: «هنري!»
قال الطبيب: «نعم.» «لم تتحدث إلى بولتون بشيء يغضبه، أليس كذلك؟»
قال الطبيب: «نعم.» «ما المشكلة التي تشاجرتما بشأنها يا عزيزي؟» «أمر بسيط.» «أخبرني يا هنري. أرجوك لا تحاول أن تخفي أي شيء عني. ما المشكلة التي تشاجرتما بشأنها؟» «حسنا، دك يدين لي بمبلغ كبير من المال لعلاج زوجته من الالتهاب الرئوي وأعتقد أنه قد أراد الشجار كي يتخذ ذلك ذريعة لئلا يرد لي هذا المبلغ بالعمل.»
صمتت زوجته. وراح هو يمسح بندقيته بحرص بقطعة من القماش. ودفع القذائف في مكانها قبالة نابض المخزن. جلس والبندقية على ركبتيه. كان شغوفا بها للغاية. سمع بعد ذلك صوت زوجته من الغرفة المعتمة. «عزيزي، أنا لا أعتقد، لا أعتقد حقا أن أحدا قد يفعل شيئا كهذا.»
قال الطبيب: «حقا؟» «كلا، أنا لا أصدق أن أي شخص قد يفعل شيئا مثل ذلك عمدا.»
وقف الطبيب ووضع البندقية في الركن خلف منضدة الزينة.
قالت زوجته: «هل ستخرج يا عزيزي؟»
أجاب الطبيب: «أعتقد أنني سأخرج للتمشية.»
قالت زوجته: «عزيزي، إذا رأيت نك، فهلا أخبرته أن أمه تريد رؤيته؟»
خرج الطبيب إلى الرواق، وصفع الباب الشبكي خلفه. سمع زوجته تلتقط أنفاسها حين صفع الباب.
قال وهو يقف خارج نافذتها والستائر منسدلة: «آسف.»
ردت: «لا بأس يا عزيزي.»
سار في الجو الحار خارج البوابة، وتابع في الطريق المؤدي إلى أحراج الشوكران. كان الجو منعشا في الأحراج حتى في مثل ذلك اليوم الحار. وجد نك جالسا مستندا بظهره على شجرة يقرأ.
تحدث الطبيب إليه قائلا: «إن أمك ترغب في أن تذهب لرؤيتها.»
قال نك: «أريد أن أذهب معك.»
نظر إليه أبوه.
وقال: «حسنا، لنذهب إذن. أعطني الكتاب لأضعه في جيبي.»
قال نك: «إنني أعرف مكان السناجب السوداء يا أبي.»
قال والده: «حسنا، لنذهب إلى هناك.»
الفصل الثالث
كنا في حديقة في مدينة مونس. أتى باكلي الشاب مع دوريته من الجهة المقابلة للنهر. كان أول ألماني أشاهده يتسلق جدار الحديقة. انتظرنا إلى أن وضع ساقا على الجدار ثم أطلقنا عليه النار. كان يحمل الكثير من المعدات وقد بدا مندهشا للغاية وسقط في الحديقة. ثم أتى ثلاثة آخرون وتسلقوا الجدار على مسافة أبعد. أطلقنا عليهم النار. لقد جاءوا جميعا بهذه الطريقة تماما.
نهاية شيء
في الأيام الخوالي كانت هورتونز باي مدينة مشهورة بنشر الأخشاب. لم يكن أحد من سكانها بمنأى عن صوت المناشير الضخمة الموجودة في المنشرة التي تقع بجوار البحيرة. وفي سنة من السنوات، لم يتبق المزيد من الأخشاب التي يمكن نشرها. كانت المراكب الشراعية تصل إلى الخليج وتحمل بجميع الأخشاب المقطعة المكدسة في ساحة المنشرة. حملت جميع أكوام الأخشاب بعيدا، وأخلي مبنى المنشرة الكبير من جميع المعدات التي يمكن نقلها، وحملها الرجال الذين كانوا يعملون في المنشرة على متن أحد المراكب الشراعية. تحرك المركب الشراعي من الخليج باتجاه البحيرة المفتوحة حاملا المنشارين الكبيرين، والعربة المتحركة التي كانت تدفع بجذوع الأشجار إلى المناشير الدائرية الدوارة، وكذلك جميع البكرات والعجلات والسيور والحديد التي تكومت على حمولة الأخشاب التي كان ارتفاعها يعدل ارتفاع هيكل المركب. وبعد تغطية عنبر المركب المفتوح بقماش القنب وتثبيته جيدا، وبعد أن انتفخت أشرعة المركب بفعل الرياح، تحرك المركب إلى البحيرة المفتوحة وهو يحمل على متنه كل ما جعل من المنشرة منشرة، ومن هورتونز باي مدينة.
إن مساكن العمال البسيطة ذات الطابق الواحد، والمطعم، ومخزن الشركة، ومكاتب المنشرة، والمنشرة الكبيرة نفسها قد وقفت مهجورة وسط مساحات من نشارة الخشب التي كانت تغطي المرج المستنقعي المجاور لشاطئ الخليج.
حين جدف نك ومارجوري بقاربهما بطول الشاطئ بعد عشر سنوات، وجدا أنه لم يتبق من المنشرة سوى الحجارة الجيرية البيضاء المتكسرة لأساساتها، التي كانت تبدو من بين الأشجار المستنقعية التي عادت لتنمو هناك من جديد. كانا يصطادان على حافة ضفة القناة حيث ينخفض القاع فجأة من مياه رملية ضحلة إلى مياه مظلمة بعمق اثنتي عشرة قدما. كانا يصطادان بالطعم وهما في طريقهما إلى اللسان لنصب صنارتين لاصطياد أسماك السلمون المرقطة القزحية ليلا.
قالت مارجوري: «ها هي أطلالنا القديمة يا نك.»
رمى نك ببصره إلى الحجارة البيضاء التي تبدو بين الأشجار الخضراء بينما كان يجدف.
ثم قال: «ها هي أطلالنا.»
سألته مارجوري: «أتتذكر حين كانت منشرة؟»
أجاب نك: «لا أتذكر إلا قليلا.»
قالت مارجوري: «تبدو أشبه بقلعة.»
لم يقل نك شيئا. استمرا في التجديف مبتعدين عن المنشرة، وراحا يتبعان الساحل، ثم عبر نك الخليج.
تحدث قائلا: «إنها لا تصيب الطعم.»
قالت مارجوري: «نعم.» كانت تركز بكل كيانها على الصنارة طوال سيرهما، وحتى حين كانت تتحدث. لقد كانت تحب صيد الأسماك. كانت تحب صيد الأسماك مع نك.
في مكان قريب بجوار القارب، ظهرت سمكة سلمون مرقطة كبيرة على سطح المياه. ركز نك تجديفه على أحد المجدافين كي يستدير القارب ويتجه الطعم الذي كان يدور بعيدا بالخلف إلى حيث كانت سمكة السلمون تأكل. وحين بدا ظهر سمكة السلمون في المياه، راحت أسماك المنوة تتقافز بجنون. تناثرت على السطح كأنها حفنة من المقذوفات الصغيرة قد ألقي بها في المياه. ظهرت سمكة سلمون مرقطة أخرى على سطح المياه وراحت تأكل على الجانب الآخر من القارب.
قالت مارجوري: «إنهما تأكلان.»
قال نك: «أجل، لكنهما لن تصيبا الطعم.»
استدار نك بالقارب لكي يبتعد عن كلتا السمكتين الآكلتين، ثم وجهه إلى اللسان. ولم تسحب مارجوري الخيط إلى أن لامس القارب الشاطئ.
سحبا القارب إلى الشاطئ، ورفع نك دلوا من أسماك الفرخ الحية. كانت أسماك الفرخ تسبح في مياه الدلو. انتشل نك ثلاثا منها بيديه وقطع رءوسها وسلخها، بينما راحت مارجوري تطارد الأسماك بيدها في مياه الدلو حتى تمكنت أخيرا من الإمساك بواحدة وقطعت رأسها وسلختها. ألقى نك نظرة على سمكتها.
قال: «يجب ألا تنزعي الزعنفة البطنية. صحيح أن السمكة ستظل تصلح لأن تكون طعما إن نزعتها، لكنها ستشكل طعما أفضل والزعنفة بها.»
شبك كلا من سمكتي الفرخ المسلوختين من الذيل. كانت كل صنارة تحتوي على خطافين متصلين بوتر طعم. بعد ذلك، جدفت مارجوري بالقارب إلى ضفة القناة، وهي تمسك بالخيط بين أسنانها وتتجه بنظرها إلى نك الذي كان يقف على الشاطئ وهو يمسك بقصبة الصيد، بينما ترك الخيط ينفلت من البكرة.
نادى عليها قائلا: «هذا مناسب تماما.»
أجابت مارجوري نداءه متسائلة وهي تمسك الخيط في يدها: «هل علي أن أفلته؟» «بالتأكيد. أفلتيه.» تركت مارجوري الخيط يتدلى من فوق ظهر القارب وراحت تشاهد الطعم وهو ينزل في الماء.
دخلت مارجوري بالقارب، ورمت الخيط الثاني بالطريقة نفسها. وفي كل مرة كان نك يضع قطعة ثقيلة من الخشب المنجرف على مؤخرة القصبة لكي يثبتها، ويدعمها أيضا من الأسفل بقطعة خشب صغيرة لكي يبقيها على زاوية محددة. سحب الخيط المتراخي بالبكرة حتى تدلى الخيط مشدودا إلى حيث استقرت قطعة الطعم على قاع القناة الرملي، ثم وضع المزلاج على البكرة. حين تبتلع سمكة سلمون مرقطة الطعم وهي في القاع سوف تهرب به، مما سيؤدي إلى شد الخيط من البكرة بقوة؛ فتصدر البكرة صوتا بسبب وضع المزلاج عليها.
جدفت مارجوري باتجاه اللسان قليلا كي لا تحرك الخيط من مكانه. شدت المجدافين بقوة، وحطت بالقارب على الشاطئ، الذي أتت معه أمواج صغيرة. خرجت مارجوري من القارب، وسحبه نك فوق الشاطئ.
سألته مارجوري: «ما الخطب يا نك؟»
أجاب نك وهو يحضر الخشب لإشعال النار: «لا أعرف.»
أشعلا نارا بالخشب المنجرف، وذهبت مارجوري إلى القارب وأحضرت بطانية. حمل نسيم المساء الدخان باتجاه اللسان؛ ففرشت مارجوري البطانية بين النار والبحيرة.
جلست مارجوري على البطانية مولية ظهرها إلى النار وانتظرت نك. أتى وجلس بجوارها على البطانية. كانت الأشجار الجديدة التي نمت على اللسان بعد أن قطعت أسلافها تنتصب من خلفهما، وأمامهما يصب جدول هورتونز في الخليج. لم يكن الظلام قد انسدل بالكامل بعد، وامتد ضوء النار بعيدا إلى المياه. كان كلاهما يستطيعان رؤية القصبتين المصنوعتين من الصلب تميلان بزاوية على المياه المعتمة. وألقت النار بوهجها على البكرتين.
فتحت مارجوري سلة الغداء.
قال نك: «أنا لا أشعر برغبة في الأكل.» «هيا، كل يا نك.» «حسنا.»
تناولا الطعام دون أن يتحدثا، وراحا يشاهدان القصبتين وضوء النار المنعكس على صفحة المياه.
قال نك: «ستكون تلك الليلة ليلة مقمرة.» ألقى ببصره على الجهة المقابلة من الخليج حيث التلال التي كانت ملامحها قد بدأت تزداد وضوحا على صفحة السماء. كان يعرف أن القمر سيطلع من وراء التلال.
قالت مارجوري بسرور: «أعرف هذا.»
قال نك: «إنك تعرفين كل شيء.» «أوه! أرجوك يا نك أن تكف عن هذا. أرجوك ألا تتصرف بهذه الطريقة من فضلك!»
قال نك: «لا أستطيع! إنك تعرفين كل شيء بالفعل. تلك هي المشكلة. وأنت تعلمين أنك تعرفين كل شيء.»
لم تقل مارجوري شيئا. «لقد علمتك كل شيء. أنت تعرفين أن ما أقوله صحيح. ما الذي لا تعرفينه على أية حال؟»
قالت مارجوري: «حسنا، اصمت الآن! ها هو قد طلع القمر.»
جلسا على البطانية دون أن يتلامسا، وراحا يشاهدان القمر وهو يبزغ.
قالت مارجوري: «لا تكن سخيفا. ما الأمر حقا؟» «لا أعرف.» «أنت تعرف بالطبع.» «كلا، لا أعرف.» «هيا، هات ما عندك.»
راح نك ينظر إلى القمر وهو يبزغ فوق التلال. «لم يعد في الأمر متعة.»
كان خائفا من أن ينظر إلى مارجوري، ثم نظر إليها. كانت تجلس وظهرها إليه. نظر إلى ظهرها وقال: «لم يعد في الأمر متعة، لم يعد فيه أي متعة على الإطلاق.»
لم تقل شيئا، وتابع هو الحديث قائلا: «إنني أشعر كما لو أن كل شيء قد تداعى بداخلي وصار جحيما. لا أدري يا مارج. لا أدري ما عساي أن أقول.»
ظل ينظر إلى ظهرها.
سألت مارجوري: «أليس في الحب أي متعة؟»
قال نك: «نعم.» وقفت مارجوري، وظل نك جالسا ورأسه بين يديه.
قالت مارجوري: «سآخذ القارب. يمكنك أن تعود بالسير حول اللسان.»
قال نك: «حسنا. سأدفع لك القارب في الماء.»
قالت: «لا داعي لذلك.» كانت تسير بالقارب في المياه وقد انعكس عليه ضوء القمر. عاد نك إلى مكانه واستلقى بجوار النار ووجهه في البطانية. كان يستطيع سماع صوت مارجوري وهي تجدف بالقارب في المياه.
ظل مستلقيا هناك لفترة طويلة. وقد كان مستلقيا حين سمع بل يشق طريقه عبر الأحراج ويدخل إلى الأرض الخالية من الأشجار. شعر ببل وهو يقترب من النار، غير أن بل لم يلمسه أيضا.
سأله بل: «أذهبت وهي على ما يرام؟»
أجاب نك كاذبا ووجهه في البطانية: «أجل.» «هل تشاجرتما؟» «كلا، لم نتشاجر على الإطلاق.» «كيف تشعر؟» «أوه، ابتعد عني يا بل. ابتعد لبعض الوقت.»
انتقى بل شطيرة من سلة الغداء، وسار ليلقي نظرة على الصنارتين.
الفصل الرابع
كان يوما شديد القيظ. كنا قد أقمنا حاجزا مثاليا جدا على الجسر. كان لا يقدر بثمن. حاجز شبكي كبير وقديم من الحديد المطاوع كنا قد أخذناه من واجهة أحد المنازل. كان ثقيلا للغاية بحيث ما كان لهم أن يرفعوه، وكنا نستطيع نحن أن نطلق النار من خلاله، وكان عليهم تسلقه. لقد كان ممتازا للغاية. حاولوا تسلقه؛ فأطلقنا عليهم النار من على بعد 40 ياردة. هاجموه بقوة وأتى بعض الضباط وعالجوا أمره. لقد كان حاجزا مثاليا للغاية، وكان ضباطهم بارعين للغاية. انزعجنا بشدة حين سمعنا بأن جناح جيشنا قد هزم، وأن علينا أن نتراجع.
عاصفة الأيام الثلاثة
توقف المطر حين انعطف نك إلى الطريق الذي كان يمتد عبر بستان الفاكهة. كانت الثمار قد قطفت، وراحت رياح الخريف تهب بين الأشجار العارية. توقف نك وتناول تفاحة من نوع واجنر من على جانب الطريق كانت تلمع في العشب البني من أثر المطر. وضع التفاحة في جيب معطفه الماكينو.
بعد الخروج من البستان، كان الطريق يمتد إلى أعلى التل. وهناك كان الكوخ، والشرفة الخالية، والدخان المتصاعد من المدخنة. وفي الخلف، كان هناك المرأب وحظيرة الدجاج والجيل الثاني من الأشجار التي نمت كسياج على خلفية الأحراج التي تقبع خلفها. راحت الأشجار الكبيرة تتمايل بعيدا في الرياح بينما وقف يشاهد. كانت تلك أولى عواصف الخريف.
حين عبر نك الحقل المفتوح الذي يعلو البستان، فتح باب الكوخ وظهر منه بل الذي وقف يتطلع إلى الخارج من الشرفة.
تحدث قائلا: «حسنا، ها أنت يا ويمدج.»
قال نك وهو يصعد الدرج: «مرحبا يا بل.»
وقفا معا يتطلعان إلى الريف الممتد أمامهما؛ إلى البستان بالأسفل، وإلى ما يقع خلف الطريق، وإلى الحقول السفلية، وإلى أحراج اللسان وحتى البحيرة. كانت الرياح تهب بقوة على البحيرة. كانا يستطيعان رؤية الأمواج المتكسرة على امتداد لسان تن مايل.
قال نك: «إنها تهب.»
قال بل: «وستظل تهب هكذا على مدار ثلاثة أيام.»
سأل نك: «هل أبوك بالداخل؟» «كلا، لقد خرج وأخذ البندقية معه. تفضل بالدخول.»
دخل نك الكوخ. كانت هناك نار كبيرة موقدة في المدفأة، وقد جعلتها الرياح تزأر؛ فأوصد بل الباب.
تحدث قائلا: «أتتناول مشروبا؟»
ذهب إلى المطبخ وعاد بكأسين وإبريق مياه. تناول نك زجاجة الويسكي من فوق الرف الموجود أعلى المدفأة.
وقال: «ما رأيك؟»
أجاب نك: «رائع.»
جلسا أمام المدفأة وراحا يشربان الويسكي الأيرلندي والمياه.
قال نك: «إن له طعما مدخنا رائعا.» وراح ينظر إلى النار عبر الكأس.
قال بل: «ذلك بسبب الخث.»
قال نك: «إن الخث لا يوجد في المشروبات الكحولية.»
قال بل: «إن ذلك لا يشكل فرقا.»
سأل نك: «هل رأيت الخث قبل ذلك؟»
أجاب بل: «كلا.»
قال نك: «ولا أنا رأيته.»
كان حذاء نك يرتكز على إفريز المدفأة؛ فبدأ البخار يتصاعد منه.
قال بل: «من الأفضل أن تخلع حذاءك.» «لم أرتد جوربا.»
قال بل: «اخلعه وجففه وسآتيك بأحد الجوارب.» ثم صعد الدرج إلى الطابق العلوي، وكان نك يسمع وقع خطواته فوق رأسه. كان الطابق العلوي مفتوحا تحت السقف، وفيه كان ينام بل وأبوه ونك أيضا في بعض الأحيان. في الخلف، توجد غرفة للملابس. نقلوا الأسرة الخفيفة النقالة بعيدا عن المطر وغطوها بأغطية مطاطية.
نزل بل ومعه جوربان صوفيان ثقيلان.
تحدث قائلا: «لقد تأخر الوقت كثيرا وينبغي ارتداء جوربين.»
قال نك: «أكره أن أرتديهما ثانية.» ارتدى الجوربين وجلس متراخيا على المقعد، مستندا بقدميه على الشبكة الموجودة أمام المدفأة.
قال بل: «سوف تتسبب في انبعاج الشبكة.» أزاح نك قدميه إلى جانب المدفأة.
ثم سأل: «ألديك أي شيء أقرؤه؟» «الجريدة وحسب.» «ما أخبار فريق كاردز للبيسبول؟» «لقد خسر مباراتين متتاليتين لصالح فريق جاينتس.» «إن ذلك سيسهل عليهم الأمر.»
قال بل: «إنها هدية. ما دام ماكجرو قادرا على شراء جميع لاعبي الكرة الجيدين في الدوري، فسيكون الفوز حليفهم دائما.»
قال نك: «إنه لا يستطيع شراءهم جميعا.»
قال بل: «إنه يشتري جميع اللاعبين الذين يرغب في شرائهم، وإلا فإنه يجعلهم يتذمرون إلى أن تضطر إدارات الفرق إلى بيعهم له.»
صدق نك على كلامه قائلا: «مثلما فعل مع هايني زم.» «سيحقق له هذا الأحمق الكثير من المكاسب.»
نهض بل واقفا.
قال نك: «إنه لاعب رائع.» كانت حرارة نار المدفأة تشوي ساقيه.
قال بل: «وهو يتلقى الضربات ببراعة أيضا، لكنه يخسر ألعاب الكرة.»
قال نك بنبرة اقتراح: «ربما هذا هو ما يريده ماكجرو من أجله.»
قال بل مؤيدا كلامه: «ربما.»
قال نك: «إن الأمر دائما ما ينطوي على الكثير جدا من الأشياء التي لا نعرفها.» «بالتأكيد، غير أننا نعرف قدرا لا بأس به رغم كوننا بعيدين للغاية عن المجال.» «إن الأمر يشبه قدرة المرء على اختيار الحصان الفائز على نحو أفضل بشرط عدم رؤية الأحصنة.» «بالضبط.»
مد بل يده إلى زجاجة الويسكي. أمسكت يده الكبيرة بها من جميع الجهات، وصب الويسكي في الكأس التي أمسك بها نك. «ما كمية الماء التي تريدها؟» «الكمية نفسها.»
جلس على الأرض بجوار مقعد نك.
قال نك: «أليس وقت هبوب عواصف الخريف بالوقت الجيد؟» «إنه وقت رائع.»
قال نك: «إنه أفضل أوقات العام.»
قال بل: «ألم نكن سنشعر بالتعاسة لو كنا في المدينة في هذا الوقت؟»
قال نك: «أود مشاهدة بطولة العالم.»
قال بل: «حسنا، إنها دائما ما تعقد الآن إما في نيويورك وإما في فيلادلفيا. وهذا لا يناسبنا على الإطلاق.» «ترى هل سيفوز فريق كاردز بأية بطولة رياضية؟»
قال بل: «لن نشهد ذلك ما حيينا.»
قال نك: «يا إلهي! لا بد أنهم سيجنون إن حدث ذلك.» «أتتذكر حين أبلوا بلاء حسنا في تلك المرة التي سبقت حادثة تحطم القطار التي تعرضوا لها؟»
قال نك: «وكيف لا أذكر ذلك؟!»
مد بل يده إلى الطاولة الموجودة تحت النافذة لكي يصل إلى الكتاب الموضوع منكفئا والذي قد وضعه هناك حين ذهب إلى الباب. أمسك بالكأس في يد، وبالكتاب في اليد الأخرى، ومال بظهره على مقعد نك. «ماذا تقرأ؟» «ريتشارد فيفريل.» «لم يعجبني، فلم أستطع أن أقرأه.»
قال بل: «إنه كتاب لا بأس به. إنه ليس بالكتاب السيئ يا ويمدج.»
سأل نك: «ماذا لديك غيره من كتب لم أقرأها؟» «هل قرأت «عشاق الغابة»؟» «أجل. إنه يحكي عن شخصين ينامان كل ليلة في سرير واحد ويضعان سيفا مجردا من غمده بينهما.» «إنه كتاب جيد يا ويمدج.» «كتاب رائع، لكن الشيء الذي لم أستطع فهمه على الإطلاق هو جدوى السيف؛ إذ يجب أن تظل حافته إلى الأعلى دائما لأنه إذا نام على أحد جانبيه، فيمكنك أن تتدحرج عليه دون أن يصيبك بأي أذى.»
قال بل: «إنه رمز.»
قال نك: «بالتأكيد، لكنه غير عملي.» «هل قرأت «الجلد»؟»
قال نك: «ذلك كتاب جيد. إنه كتاب أصيل يحكي عن أب يلاحق ابنه طوال الوقت. ألديك المزيد من كتب وولبول؟»
قال بل: «لدي «الغابة المظلمة». إنه يحكي عن روسيا.»
سأل نك: «وماذا يعرف هو عن روسيا؟» «لا أعرف. لا يعرف المرء كثيرا عن هؤلاء الرجال. ربما عاش بها في صباه؛ فهو يذكر في هذا الكتاب الكثير من المعلومات عنها.»
قال نك: «أود أن ألتقي به.»
قال بل: «أود أن ألتقي بتشسترتون.»
قال نك: «أتمنى لو أنه كان هنا الآن. كنا سنأخذه لصيد الأسماك غدا في شارلفوي.»
قال بل: «لا أدري هل كان سيرغب في الذهاب لصيد الأسماك أم لا.»
قال نك: «بالتأكيد. لا بد أنه أفضل الرجال على الإطلاق. هل تتذكر «النزل الطائر»؟» «إن نزل إليك ملاك من السماء
وأعطاك شيئا آخر لتشربه؛
فاشكره على نواياه الطيبة
ولتأخذه وتسكبه في الحوض.»
قال نك: «أجل، أعتقد أنه أفضل من وولبول.»
قال بل: «حسنا، إنه أفضل من وولبول بالتأكيد.» «لكن وولبول ككاتب أفضل منه.»
قال نك: «لا أدري. إن تشسترتون كاتب من الطراز الأول.»
قال بل بإصرار: «وولبول أيضا كاتب من الطراز الأول.»
قال نك: «أتمنى لو أن كليهما كانا هنا الآن، ولكنا إذن قد اصطحبناهما غدا لصيد الأسماك في شارلفوي.»
قال بل: «فلنشرب حتى السكر.»
قال نك موافقا: «حسنا.»
قال بل: «إن أبي لن يمانع.»
سأله نك: «هل أنت متأكد؟»
قال بل: «أجل، متأكد.»
قال نك: «إنني ثمل الآن قليلا.»
قال بل: «إنك لست ثملا.»
نهض من الأرض وأمسك بزجاجة الويسكي. أمسك نك بالكأس. وظلت عيناه مثبتتين عليها، بينما راح بل يصب الويسكي.
ملأ بل الكأس بالويسكي حتى منتصفها.
ثم قال: «أضف ما تشاء من الماء. لم يتبق سوى جرعة واحدة.»
سأله نك: «ألديك المزيد؟» «لدينا الكثير، لكن أبي يريدني ألا أشرب إلا مما هو مفتوح.»
قال نك: «بالتأكيد.»
فسر بل كلامه قائلا: «إنه يقول إن فتح الزجاجات هو ما يصنع السكيرين.»
قال نك وقد أعجبه القول: «هذا صحيح.» إن ذلك لم يخطر بباله من قبل. لقد كان يظن دوما أن شرب المرء بمفرده هو ما يصنع منه سكيرا.
سأل نك باحترام: «كيف حال والدك؟»
أجابه بل: «إنه بخير، غير أنه يخرج عن المألوف قليلا في بعض الأحيان.»
قال نك: «إنه رجل رائع.» صب مياها من الإبريق في كأسه؛ فراحت تختلط مع الويسكي ببطء. وكان الويسكي أكثر من المياه.
قال بل: «إنه كذلك بكل تأكيد.»
قال نك: «والدي لا بأس به أيضا.»
قال بل: «هذا صحيح بالطبع.»
تحدث نك كما لو كان يعلن حقيقة علمية: «إنه يزعم أنه لم يتناول الخمر في حياته قط.» «حسنا، إنه طبيب. أما أبي فهو رسام، شتان ما بين هذا وذاك.»
تحدث نك بنبرة من الحزن قائلا: «لقد فاته الكثير.»
قال بل: «وما يدريك؟ لكل مهنة ما يميزها عن غيرها.»
اعترف نك: «هو نفسه يقول إنه قد فاته الكثير.»
قال بل: «أبي أيضا قد مر بأوقات عصيبة.»
قال نك: «الأمور تتعادل إذن.»
جلسا ينظران إلى النار ويفكران في هذه الحقيقة العميقة.
قال نك: «سآتي بقطعة من الخشب من الشرفة الخلفية.» كان قد لاحظ بينما كان ينظر إلى النار أنها قد بدأت تخبو. وقد كان يرغب أيضا في أن يوضح أنه يستطيع أن يشرب الخمر ويظل مفيدا في الوقت ذاته. حتى لو لم يكن أبوه قد شرب قطرة من الخمر في حياته، فلم يكن بل سيسكره قبل أن يسكر هو.
قال بل: «أحضر قطعة من خشب الزان الكبير.» هو أيضا كان يتحرى أن يكون مفيدا.
دخل نك بقطعة الخشب مارا بالمطبخ وقد أوقع في أثناء مروره مقلاة من فوق طاولة المطبخ. وضع قطعة الخشب على الأرض، ورفع المقلاة التي كانت تحتوي على مشمش مجفف منقوع في الماء. التقط جميع حبات المشمش من الأرض بعناية، والتي كان بعضها قد دخل تحت الموقد، ووضعها مرة أخرى في المقلاة. صب عليها مزيدا من الماء من الدلو الموجود بجوار الطاولة. كان فخورا جدا بنفسه. فقد كان مفيدا للغاية.
دخل حاملا قطعة الخشب ونهض بل من المقعد وساعده على وضعها في نار المدفأة.
قال نك: «إنها قطعة خشب رائعة.»
قال بل: «لقد كنت أدخرها للطقس السيئ. إن مثل هذه القطعة ستظل تحترق طوال الليل.»
قال نك: «وسيتبقى منها بعض الفحم لإشعال النار في الصباح.»
صدق بل على كلامه قائلا: «هذا صحيح.» كان حديثهما يتخذ مستوى أعمق.
قال نك: «لنتناول مشروبا آخر.»
قال بل: «أعتقد أن هناك زجاجة أخرى مفتوحة في الخزانة.»
جثا في الزاوية التي تقع أمام الخزانة، وأخرج زجاجة واجهتها مربعة.
تحدث قائلا: «إنه ويسكي اسكتلندي.»
قال نك: «سأحضر المزيد من الماء.» خرج متجها إلى المطبخ مرة أخرى، وملأ الإبريق بمغرفة من ماء النبع البارد الموجود في الدلو. وفي طريق عودته إلى غرفة المعيشة، مر بمرآة في غرفة المائدة ونظر فيها. بدا وجهه غريبا. ابتسم إلى الوجه الظاهر في المرآة؛ فإذا به يرد بالعبوس. غمز له بعينه وتابع طريقه . لم يكن وجهه، لكن ذلك لم يشكل أي فارق.
كان بل قد صب المشروب في الكأسين.
قال نك: «يا لها من جرعة كبيرة من الخمر!»
قال بل: «ليس لأمثالنا، يا ويمدج.»
سأل نك وهو يمسك بالكأس: «نخب من سنشرب؟»
قال بل: «لنشرب نخب صيد الأسماك.»
قال نك: «حسنا! أيها السادة، نخب صيد الأسماك.»
قال بل: «صيد الأسماك بجميع أنواعه، وفي كل مكان.»
قال نك: «صيد الأسماك، هذا هو ما نشرب نخبه.»
قال بل: «هذا أفضل من أن نشرب نخب البيسبول.»
قال نك: «ما من وجه للمقارنة. كيف انتقلنا أصلا إلى الحديث عن البيسبول؟»
قال بل: «لقد كان خطأ؛ فالبيسبول هي لعبة الحمقى.»
شربا كل ما كان في كأسيهما. «لنشرب الآن نخب تشسترتون.»
تدخل نك قائلا: «وأيضا وولبول.»
صب نك الخمر، وصب بل الماء. ثم تبادلا النظر وشعرا بأنهما في أفضل حال.
قال بل: «أيها السادة، نخب تشسترتون ووولبول.»
قال نك: «تماما أيها السادة.»
شربا، ثم ملأ بل الكأسين، وجلسا في المقعدين الكبيرين أمام المدفأة.
قال بل: «لقد كنت حكيما للغاية يا ويمدج.»
سأله نك: «ماذا تقصد؟»
قال بل: «أعني إنهاء علاقتك مع مارج.»
قال نك: «أعتقد هذا.» «لم يكن هناك من بديل آخر. إذا لم تكن قد فعلت ذلك، لكنت الآن في بيتك تحاول جاهدا توفير نفقات الزواج.»
لم يقل نك شيئا.
تابع بل حديثه قائلا: «متى تزوج الرجل، فقد انتهى للأبد. ولا يتبقى لديه أي شيء، لا شيء. لا شيء على الإطلاق. ينتهي أمره تماما. لقد رأيت الرجال الذين يتزوجون.»
لم يقل نك شيئا.
قال بل: «يمكنك أن تميزهم. يمكنك أن ترى فيهم سمات الترهل التي يكتسبها المتزوجون. إن أمرهم ينتهي تماما.»
قال نك: «هذا صحيح.»
قال بل: «لا بد أن إنهاء العلاقة كان أمرا صعبا، لكن سيكون هناك دوما امرأة أخرى تحبها، وسيكون الأمر على ما يرام. يمكنك أن تحب، لكن لا تدع هذا الحب يدمرك.»
تحدث نك قائلا: «أجل.» «إن تزوجتها، فقد كنت ستضطر إلى الزواج من العائلة بأكملها. تذكر أمها وذلك الرجل الذي تزوجته.»
أومأ نك برأسه. «تخيل كيف أنهم كانوا سيزورون منزلك دوما، وكيف أنك كنت ستتناول العشاء في منزلهم في عطلات الآحاد، وتدعوهم إلى العشاء بمنزلك أيضا، وكيف أن حماتك كانت ستظل تملي على مارج طوال الوقت ما يجب أن تفعله وكيف يجب أن تتصرف.»
جلس نك صامتا.
قال بل: «لقد خرجت من هذه العلاقة على أفضل نحو ممكن. يمكنها الآن أن تتزوج شخصا يوافق طبيعتها وتستقر معه وتسعد. لا يمكنك أن تمزج الزيت مع الماء، والأمر نفسه ينطبق على علاقتي مع آيدا التي تعمل في ستراتونز. هي أيضا ستحب ذلك على الأرجح.»
لم يقل نك شيئا. كان تأثير الخمر قد زال عنه تماما، وتركه وحيدا. لم يكن بل هناك. لم يكن هو من يجلس أمام نار المدفأة أو من سيذهب إلى الصيد غدا مع بل ووالده أو أي شيء آخر. لم يكن ثملا. كل ذلك قد ذهب. كل ما كان يعرفه هو أن مارجوري كانت له ذات يوم، وأنه قد فقدها. لقد رحلت، وكان هو السبب في رحيلها عنه. ذلك هو كل ما كان يشغل تفكيره. قد لا يراها مرة أخرى بعد الآن، وذلك هو ما سيحدث على الأرجح. كل شيء قد تلاشى وانتهى.
قال نك: «لنتناول مشروبا آخر.»
صب بل الخمر وخففه نك بالقليل من الماء.
قال بل: «لو كنت قد سلكت هذا الطريق، لما كنا هنا الآن.»
كان ذلك صحيحا؛ إذ كانت خطته الأصلية أن يعود إلى مدينته ويحصل على وظيفة، ثم خطط لأن يقيم في شارلفوي طوال الشتاء حتى يتسنى له أن يكون قريبا من مارج. والآن، لم يعد يدري ماذا سيفعل.
قال بل: «لم نكن حتى لنستطيع الذهاب إلى الصيد غدا على الأرجح. حسنا، لقد اتخذت الحل المناسب.»
قال نك: «لم يكن باليد حيلة.»
قال بل: «أعلم. هذه هي الحال التي تئول إليها الأمور.»
قال نك: «فجأة انتهى كل شيء، ولست أعرف السبب في هذا. لم يكن باليد حيلة . إن الأمر أشبه بعاصفة الأيام الثلاثة التي تحل الآن وتنتزع جميع الأوراق من على الشجر.»
قال بل: «حسنا، لقد انتهى الأمر. هذا هو المهم.»
قال نك: «لقد كان خطئي.»
قال بل: «لا يهم إن كان خطأك أم لا.»
قال نك: «أعتقد أنك على حق.»
المهم أن مارجوري قد مضت في سبيلها، وأنه لن يراها على الأرجح مرة أخرى. لقد كان يحدثها عن ذهابهما معا إلى إيطاليا، وعما سيجدانه من متعة، وعن الأماكن التي كانا سيزورانها معا. وقد انتهى كل ذلك الآن.
قال بل: «ما دام الأمر قد انتهى، فهذا هو كل ما يهم. أؤكد لك يا ويمدج أنني كنت قلقا حين كانت العلاقة قائمة، لكنك فعلت الصواب. يقال إن أمها حانقة للغاية. لقد أخبرت الكثير من الناس أنكما كنتما مخطوبين.»
قال نك: «لم نكن مخطوبين.» «لقد كان يشاع عنكما في كل مكان أنكما مخطوبان.»
قال نك: «لا دخل لي بهذا. لم نكن مخطوبين.»
قال بل: «ألم تكونا عازمين على الزواج؟»
قال نك: «بلى. لكننا لم نكن مخطوبين.»
سأله بل بنبرة انتقاد: «وما الفرق؟» «لا أعرف. هناك فرق.»
قال بل: «أنا لا أراه.»
قال نك: «حسنا، لنسكر.»
قال بل: «حسنا، لنسكر حتى الثمالة.»
قال نك: «لنسكر ثم نذهب للسباحة.»
تجرع كأسه في شربة واحدة.
ثم قال: «إنني أشعر بالأسف الشديد نحوها، لكن ماذا كان عساي أن أفعل؟ أنت تعرف كيف كانت طبيعة أمها!»
قال بل: «كانت مريعة.»
قال بل: «لقد انتهى الأمر على حين غرة. وما ينبغي لي أن أتحدث عنه.»
قال بل: «إنك لا تتحدث عنه. أنا من تحدث عنه، وقد انتهيت الآن. ولن نتحدث عن هذا الأمر أبدا بعد الآن. يجب ألا تفكر فيه؛ فقد تعود إليه مرة أخرى.»
لم يخطر ذلك ببال نك. لقد بدا الأمر أكيدا للغاية بالنسبة إليه، لكنها فكرة حقا. وقد جعلته يشعر بالتحسن.
تحدث قائلا: «بالتأكيد. إن هذا الخطر موجود دائما.»
شعر الآن بالسعادة. لم يكن هناك من شيء لا يمكن تغييره. ربما يذهب إلى المدينة يوم السبت ليلا. كان اليوم هو الخميس.
تحدث قائلا: «هذا الاحتمال وارد على الدوام.»
قال بل: «سيكون عليك أن تحترس.»
رد قائلا: «سأحترس.»
شعر بالسعادة. لا شيء قد انتهى. لا شيء قد ضاع إلى الأبد. كان سيذهب إلى المدينة يوم السبت. شعر بأنه قد تخفف من أعبائه مثلما كان قبل أن يبدأ بل بالحديث عن الأمر. ثمة مخرج دائما من أي مأزق.
تحدث نك قائلا: «لنأخذ البندقيتين ونذهب إلى اللسان لنبحث عن والدك.» «حسنا.»
أنزل بل البندقيتين من المسند الموجود على الجدار، وفتح أحد صناديق القذائف. ارتدى نك معطفه الماكيناو وحذاءه الذي كان ما يزال متصلبا من أثر التجفيف. كان ما يزال ثملا، لكن ذهنه كان صافيا.
سأل نك: «كيف تشعر؟» «بأفضل حال. لقد أفقت من السكر لتوي.» وراح يزرر أزرار سترته. «لا فائدة من السكر.» «أجل. يجدر بنا الخروج.»
خرجا من الباب، وكانت الريح تعصف بشدة.
قال نك: «إن هذه الرياح ستجعل الطيور تختبئ بين العشب.»
انطلقا متجهين إلى البستان.
تحدث بل قائلا: «لقد رأيت ديك غاب هذا الصباح.»
قال نك: «ربما سنداهمه.»
قال بل: «لا يمكنك أن تطلق النار في هذه الرياح.»
الآن بالخارج، لم يعد أمر مارج مأساويا للغاية، بل لم يعد حتى مهما للغاية. لقد عصفت الرياح بكل شيء وحملته في أدراجها.
قال نك: «إنها تهب من جهة البحيرة الكبيرة.»
سمعا صوت إطلاق نار من بندقية وسط صفير الريح.
قال بل: «هذا أبي. إنه عند المستنقع.»
قال نك: «لنذهب من هنا.»
قال بل: «بل لنعبر المرج السفلي ونرى لعلنا نصادف صيدا.»
قال نك: «حسنا.»
لم يعد الأمر مهما الآن. لقد عصفت به الريح وأخرجته من رأسه. بالرغم من ذلك، كان ما يزال بوسعه أن يذهب إلى المدينة يوم السبت ليلا. وقد كان ذلك خيارا جيدا متاحا بالنسبة إليه.
الفصل الخامس
أطلقوا النار على الوزراء الستة في السادسة والنصف صباحا أمام جدار أحد المستشفيات. كان بالساحة برك من الماء، وأوراق شجر ميتة ومبتلة على رصيفها . كان المطر يهطل بشدة. أغلقت جميع مصاريع نوافذ المستشفى بالمسامير. كان أحد الوزراء مصابا بالتيفود. حمله اثنان من الجنود إلى الأسفل، ثم إلى الخارج في المطر. حاولا أن يسنداه إلى الجدار لكنه جلس في بركة من الماء. وقف الخمسة الآخرون بهدوء شديد أمام الجدار. وأخيرا، أخبر الضابط الجنديين بأنه ما من جدوى في حمله على الوقوف. حين أطلقوا الوابل الأول من الرصاص، كان يجلس في المياه واضعا رأسه على ركبتيه.
المصارع
نهض نك واقفا، وكان على ما يرام. راح ينظر إلى السكة الحديدية على أضواء العربة الأخيرة من القطار وهي تتوارى عن الأنظار وتختفي في المنعطف. كانت المياه تحف السكة الحديدية من كلا الجانبين، ثم كان هناك مستنقع تاماراك.
تحسس ركبته. كان سرواله قد تمزق وكشط جلده، وكذلك خدشت يداه، ودخلت الرمال والرماد تحت أظفاره. اتجه إلى حافة السكة الحديدية حيث المنحدر الصغير المؤدي إلى المياه وغسل يديه؛ غسلهما بحرص في المياه الباردة وأزال الوسخ من تحت أظفاره، ثم قرفص وغسل ركبته.
يا لعامل المكابح، ذلك الرجل الحقير الكريه! إنه سينال منه ذات يوم. سيراه ثانية ويتعرف عليه. كان ذلك هو التصرف المناسب.
لقد ناداه قائلا: «تعال إلى هنا يا بني. لدي شيء لك.»
وقد وقع في الشرك. لكم كان تصرفه صبيانيا سخيفا! لن يسمح لهم بأن يخدعوه هكذا ثانية. «تعال إلى هنا يا بني، لدي شيء لك.» وبعد دوي صدر فجأة، وجد نفسه واقعا على يديه وركبتيه بجوار السكة الحديدية.
فرك نك عينه، ووجد بها تورما كبيرا. ستصير عينه سوداء، لا محالة. إنها تؤلمه بالفعل. يا له من رجل حقير عامل المكابح هذا!
تحسس الورم الموجود فوق عينه بأصابعه. أوه، حسنا، إنها مجرد عين سوداء واحدة. هذا هو كل ما ناله. ثمن بخس! تمنى لو أنه يستطيع أن يراها. نظر في المياه لعله يراها؛ فلم يفلح. كان الظلام قد خيم، وكان هو في رقعة منعزلة بعيدة عن أي مكان يعرفه. مسح يديه في سرواله ونهض واقفا، ثم تسلق الحافة متجها نحو السكة الحديدية.
راح يسير على خط السكة الحديدية. وقد وجد السير عليه يسيرا؛ إذ كان قد رصف رصفا جيدا، وقد تكدس الرمل والحصى بين العوارض؛ مما جعله ممشى متينا. كانت الأرضية الملساء تمتد للأمام عبر المستنقع كأنها طريق معبد، وسار نك عليها؛ إذ كان عليه أن يبلغ مكانا ما.
تعلق نك بقطار الشحن حين أبطأ من سرعته قبل دخوله إلى ساحات القطارات خارج والتون جانكشن. مر القطار بكالكاسكا وكان نك ما يزال على متنه حين بدأ يحل الظلام. لا بد أنه قد أصبح الآن بالقرب من مانسيلونا. لا يزال أمامه ثلاثة أميال أو أربعة من أراضي المستنقع. راح يسير على السكة الحديدية وحافظ على السير بين عوارض القضبان حيث المناطق المستوية المرصوفة، وبدا المستنقع كالشبح في الضباب المتصاعد. كانت عينه تؤلمه وكان يشعر بالجوع. استمر في السير مخلفا وراءه أميالا من السكة الحديدية. وظل المستنقع كما هو يحف بالسكة الحديدية من كلا الجانبين.
رأى أمامه جسرا. عبره نك، وراح حديد الأرضية يصدر صوتا أجوف تحت وقع خطواته. كانت المياه من تحته تبدو سوداء من بين شقوق العوارض. ارتطمت قدم نك بمسمار ضخم مفكوك، فسقط في الماء. كانت هناك تلال بعد الجسر. على جانبي السكة الحديدية، كان المكان مظلما ومرتفعا. وفي الأمام بجانب السكة، أبصر نك نارا.
تقدم على القضبان متوجها بحرص إلى النار. كانت النار تميل إلى أحد جانبي القضبان، أسفل حافة السكة الحديدية. لم ير منها سوى نورها. هناك كان ينقطع امتداد القضبان، وإذ بريف يمتد بداية من موضع النيران المشتعلة ويتناهى بعيدا إلى الأحراج. هبط نك بحذر من على حافة السكة الحديدية، واتجه إلى الأحراج كي يتقدم إلى النار من بين الأشجار. كانت غابة من أشجار الزان، وراحت قدماه تخطوان بين الأشجار على الحواف الخشنة لثمار الزان المتساقطة. أصبحت النار الآن أكثر توهجا عند حافة الأشجار بالضبط. كان هناك رجل يجلس بجانبها. انتظر نك خلف الشجرة وراح يراقب الموقف. بدا أن الرجل كان بمفرده. كان يجلس هناك ورأسه بين يديه بينما ينظر إلى النار. تحرك نك من مكانه واتجه صوب ضوء النار.
كان الرجل جالسا هناك ينظر إلى النار. ولم يتحرك حتى حين وقف نك على مقربة منه.
تحدث نك إليه قائلا: «مرحبا!»
رفع الرجل نظره إليه.
وقال: «من أين لك بهذه الكدمة في عينك؟» «لكمني عامل مكابح.» «وأنزلك من قطار الشحن؟» «أجل.»
تحدث الرجل قائلا: «لقد رأيت هذا النذل. مر من هنا قبل ما يقرب من ساعة ونصف الساعة. لقد كان يسير فوق العربات وهو يصفق بذراعيه ويغني.» «يا له من نذل!»
قال الرجل بجدية: «لا بد أنه قد ابتهج بعد أن لكمك.» «سوف أضربه.»
نصحه الرجل قائلا: «اقذفه بالحجارة حين يمر بك يوما.» «سأنال منه.» «إنك شرس، أليس كذلك؟»
أجابه نك: «بلى.» «الفتيان جميعهم شرسون.»
قال نك: «لا بد للمرء أن يكون شرسا.» «هذا ما قلته.»
نظر الرجل إلى نك وابتسم. في ضوء النار، رأى نك أن وجهه كان مشوها. كان أنفه غائرا، وكانت عيناه كشقين، وشفتاه غريبتي الشكل. لم يلاحظ نك كل هذا على الفور؛ لقد لاحظ فقط أن وجه الرجل كان غريب الشكل ومشوها. كان لونه يشبه المعجون. وبدا كالأموات في ضوء النار.
سأله الرجل: «ألا يعجبك وجهي؟»
شعر نك بالحرج.
وأجابه: «طبعا.»
قال الرجل وهو يخلع قبعته: «انظر هنا!»
لم يكن لديه سوى أذن واحدة. وقد كانت غليظة ومشدودة على جانب رأسه. وأما في الجانب الآخر حيث كان من المفترض أن توجد أذنه الأخرى، فلم يكن هناك سوى جدعة. «أرأيت مثل هذا من قبل؟»
أجابه نك وقد شعر بالغثيان قليلا مما رآه: «كلا.»
قال الرجل: «لقد احتملت هذا. ألا تظن أنني أستطيع أن أحتمل ذلك يا فتى؟» «ليس عندي شك في ذلك!»
تحدث الرجل الضئيل قائلا: «لقد اجتمعت أيديهم جميعا علي؛ فما استطاعوا أن يؤذوني.»
نظر إلى نك. وقال: «اجلس. أتريد أن تأكل؟»
قال نك: «لا تزعج نفسك، فأنا ماض في طريقي إلى المدينة.»
قال الرجل: «اسمع! نادني بآد.» «حسنا!»
تحدث الرجل قائلا: «استمع إلي، أنا لست على ما يرام.» «ما بك؟» «إنني مجنون.»
ارتدى الرجل قبعته. شعر نك بأنه يرغب في الضحك.
وتحدث إليه قائلا: «إنك بخير.» «كلا، لست كذلك. أنا مجنون. أصغ إلي، هل أصبت بالجنون من قبل؟»
قال نك: «كلا. كيف أصابك الجنون؟»
قال آد: «لا أدري. إنك لا تدري بالأمر حين يصيبك. إنك تعرفني أليس كذلك؟» «كلا.» «أنا آد فرانسيس.» «حقا؟» «ألا تصدق؟» «بلى.»
عرف نك أن ذلك صحيح لا محالة. «أتعرف كيف هزمتهم؟»
قال نك: «كلا.» «قلبي بطيء. إنه لا ينبض سوى أربعين مرة في الدقيقة. جسه.» كان نك مترددا.
أمسك الرجل بيده وقال: «هيا! أمسك برسغي. ضع أصابعك هنا.»
كان رسغ الرجل الضئيل غليظا، وانتفخت عضلاته فوق العظام. أحس نك بالنبض البطيء تحت أصابعه. «ألديك ساعة؟» «لا.»
قال آد: «ولا أنا. ما من فائدة إذا لم يكن لديك ساعة.» ترك نك رسغ الرجل.
تحدث آد فرانسيس قائلا: «اسمع، أمسك برسغي ثانية. ستحسب أنت النبض وأعد أنا حتى ستين.»
بدأ نك في العد؛ إذ شعر بالخفقان القوي البطيء تحت أصابعه. سمع الرجل الضئيل وهو يعد ببطء وبصوت عال: واحد، اثنان، ثلاثة، أربعة، خمسة، إلى آخره.
انتهى آد من العد، وقال: «ستون. هذه دقيقة. إلى كم وصلت؟»
قال نك: «أربعين.»
قال آد مسرورا: «هذا صحيح. إنه لا يسرع أبدا.»
هبط رجل من على حافة السكة الحديدية وأتى من الأرض الخالية من الأشجار متجها إلى النار.
قال آد: «مرحبا يا باجز!»
رد باجز على تحيته قائلا: «مرحبا!» كان صوت زنجي. لقد عرف نك من مشيته أنه زنجي. وقف موليا ظهره إليهما، ونهض منتصبا بعد انحنائه على النار.
قال آد: «هذا صديقي باجز. إنه مجنون أيضا.»
قال باجز: «يسرني لقاؤك. هلا أخبرتني من أي مكان أنت؟»
قال نك: «شيكاجو.»
قال الزنجي: «إنها مدينة جميلة. لم أعرف اسمك.» «آدمز. نك آدمز.»
قال آد: «إنه يقول إنه لم يصب من قبل بالجنون يا باجز.»
قال الزنجي: «ما يزال القدر يخبئ له الكثير.» كان يفتح علبة بجوار النار.
سأل الملاكم المحترف: «متى سنأكل يا باجز؟» «حالا.» «هل أنت جائع يا نك؟» «إنني أتضور جوعا.» «أسمعت يا باجز؟» «إنني أسمع معظم ما يحدث.» «ليس هذا ما سألتك عنه.» «أجل، سمعت ما قاله الفتى.»
كان يضع شرائح لحم الخنزير في مقلاة. وحين ازدادت سخونة المقلاة، تناثر الدهن؛ فقلب باجز الذي كان يجثو على ساقيه الزنجيتين الطويلتين بجوار النار شرائح اللحم وكسر البيض في المقلاة التي راح يميلها من هذا الجانب أو ذاك كي يغطي البيض بالدهن الساخن.
استدار باجز عن النار وتحدث إلى نك قائلا: «هلا قطعت بعضا من الخبز الموجود في هذه الحقيبة يا سيد آدمز؟» «بالتأكيد.»
مد نك يده داخل الحقيبة وأخرج منها رغيفا من الخبز. وقطع ست شرائح. راح آد يشاهده وانحنى للأمام.
قال: «اسمح لي بأن آخذ سكينك يا نك.»
قال الزنجي: «كلا، لا تعطها إليه. احتفظ بسكينك يا سيد آدمز.» اعتدل الملاكم المحترف في جلسته ثانية.
سأل باجز: «هلا أحضرت إلي الخبز يا سيد آدمز؟» أحضره نك إليه.
سأله الزنجي: «هل تحب أن تغمس خبزك في دهن اللحم؟» «بالتأكيد!» «ربما يجدر بنا أن ننتظر إلى ما بعد ذلك. من الأفضل أن نفعل ذلك في نهاية الأكل. تفضل.»
أخذ الزنجي شريحة لحم ووضعها على إحدى شرائح الخبز، ثم أنزل بيضة فوقها. «أغلق تلك الشطيرة من فضلك، وأعطها إلى السيد فرانسيس.»
أخذ آد الشطيرة وبدأ يأكل.
تحدث الزنجي إليه محذرا: «احترس من سيولة البيضة.» ثم وجه حديثه إلى نك: «هذا لك يا سيد آدمز، والباقي لي.»
راح نك يقضم من الشطيرة. كان الزنجي يجلس قبالته بجوار آد. وكان مذاق شرائح اللحم المقلية الساخنة مع البيض رائعا.
قال الزنجي: «إن السيد آدمز جائع للغاية.» الرجل الضئيل الذي عرف نك من اسمه أنه كان بطلا سابقا في الملاكمة كان صامتا. ولم يتفوه بأي شيء منذ أن تحدث الزنجي عن السكين.
قال باجز: «هل لي أن أقدم لك شريحة من الخبز المغموس في دهن شرائح اللحم الساخن؟» «شكرا جزيلا.»
نظر الرجل الأبيض الضئيل إلى نك. «ألا ترغب في البعض يا سيد آدولف فرانسيس؟» هكذا تحدث إليه باجز وهو يقدم له المقلاة.
لم يجب آد. كان ينظر إلى نك.
ناداه الزنجي بصوته الرقيق: «سيد فرانسيس؟»
لم يجب آد. كان ينظر إلى نك.
قال الزنجي برقة: «لقد تحدثت إليك يا سيد فرانسيس.»
ظل آد ينظر إلى نك. كان قد أنزل قبعته على عينيه. شعر نك بالتوتر.
تحدث إلى نك من تحت قبعته بحدة: «كيف تجرؤ على هذا بحق الجحيم؟»
وأضاف: «من تظن نفسك يا هذا؟ لست سوى نغل وقح. تأتي دونما دعوة وتأكل طعامي وحين أطلب منك أن تعيرني سكينا، تعاملني بوقاحة.»
كان ينظر إلى نك وهو يتقد غضبا. كان وجهه شاحبا وعيناه مخفيتين بأكملهما تقريبا تحت القبعة. «يا لك من شخص غريب! من ذا الذي دعاك يا هذا لتقحم نفسك بيننا هنا؟» «لا أحد.» «لا أحد قد دعاك بالتأكيد. ولم يدعك أحد للبقاء أيضا، لكنك تأتي وتسخر من وجهي، وتدخن سيجاري وتشرب خمري، ثم تتحدث إلي بوقاحة. كيف تظن بحق الجحيم أنك ستفلت بهذا؟» لم يقل نك شيئا، ووقف آد. «سأخبرك أنا يا نغل شيكاجو الجبان. سوف أبرحك ضربا. أتفهم هذا؟»
تراجع نك إلى الخلف، وتقدم الرجل الضئيل نحوه ببطء متثاقل الخطوات. كانت قدمه اليسرى تتقدم إلى الأمام، وتزحف القدم اليمنى لتلحق بها.
حرك رأسه وقال: «اضربني. هيا حاول أن تضربني.» «أنا لا أريد أن أضربك.» «كلا، لن تفلت بهذه الطريقة. سوف أضربك، أتفهم؟ والآن، تعال واضربني.»
قال نك: «كف عن هذا.» «حسنا إذن أيها النغل.»
نظر الرجل الضئيل إلى الأسفل حيث قدما نك. وبينما كان ينظر إلى الأسفل، هيأ الزنجي نفسه وقد كان يسير خلفه حين ابتعد عن النار، ثم ضربه بالهراوة أسفل الجمجمة. سقط الرجل إلى الأمام، ورمى باجز الهراوة الملفوفة بالقماش على العشب. كان الرجل الضئيل ملقى هناك ووجهه إلى العشب. رفعه الزنجي وحمله إلى جوار النار ورأسه كانت متدلية. بدا شكل وجهه مخيفا وكانت عيناه مفتوحتين. وضعه باجز على الأرض برفق.
تحدث إلى نك قائلا: «هلا أحضرت لي المياه الموجودة في الدلو يا سيد آدمز؟ يؤسفني أنني قد قسوت عليه قليلا في الضربة.»
رش الزنجي الماء بيده على وجه الرجل، وراح يشد أذنيه برفق. أغلقت العينان.
وقف الزنجي ثم تحدث قائلا: «إنه بخير. لا داعي للقلق. أنا آسف يا سيد آدمز.»
قال نك وهو ينظر إلى الرجل الضئيل: «لا بأس.» رأى الهراوة على العشب وتناولها بيده. كان لها مقبض مرن، وشعر بها لينة في يده. كانت مصنوعة من الجلد الأسود المهترئ، ويلتف على طرفها الثقيل منديل.
ابتسم الزنجي وقال: «إنه مقبض مصنوع من عظم الحوت. ما عادوا يصنعون هذا النوع الآن. لم أكن أعرف قدرتك على الدفاع عن نفسك، وعلى أي حال، لم أكن أريدك أن تؤذيه أو تشوهه أكثر من ذلك.»
ابتسم الزنجي ثانية. «لقد آذيته بنفسك.» «أنا أعرف كيف أفعلها. لن يتذكر شيئا من هذا. إنني أضطر إلى فعل هذا لكي أعيده إلى نفسه حين يتصرف بتلك الطريقة.»
كان نك ما يزال ينظر إلى الرجل الضئيل المستلقي بجوار النار المغمض العينين. وضع باجز بعض الخشب في النار. «لا تقلق بشأنه على الإطلاق يا سيد آدمز. لقد رأيته على هذه الحال قبل ذلك مرارا وتكرارا.»
سأله نك: «ما الذي أصابه بالجنون؟»
أجاب الزنجي من مكانه عند النار: «أوه، الكثير من الأشياء. ألا ترغب في فنجان من هذه القهوة يا سيد آدمز؟»
قدم الفنجان لنك، وراح يسوي المعطف الذي كان قد وضعه تحت رأس الرجل الفاقد الوعي. «أحد هذه الأشياء أنه تعرض للضرب مرات كثيرة.» رشف الزنجي بعضا من القهوة ثم أكمل: «غير أن ذلك قد جعله ضعيف العقل بعض الشيء فحسب. وبعد ذلك، كانت أخته هي مديرته، وقد كانت الجرائد تكتب عنهما دوما كأخ وأخت، وكيف أنها كانت تحب أخاها، وكيف أنه كان يحب أخته، ثم تزوجا في نيويورك، وقد خلق ذلك الكثير من المشكلات.» «أتذكر هذا.» «هذا مؤكد. لم يكونا أخا وأختا بالطبع، غير أن الكثير من الناس لم يرق لهم الأمر على أي حال، ثم بدأت الخلافات تنشب بينهما، وقد رحلت ذات يوم ولم تعد قط.»
ارتشف القهوة ومسح شفتيه براحة يده الوردية اللون. «لقد جن تماما. أترغب في المزيد من القهوة يا سيد آدمز؟» «شكرا.»
واصل الزنجي حديثه: «لقد رأيتها بضع مرات. كانت امرأة جميلة للغاية. وقد كان الشبه بينهما كبيرا حتى إنها لتبدو كتوءمه. ما كان ليصبح وجهه قبيحا لولا ما نال وجهه من لكمات.»
توقف عن الحديث. وبدا أن القصة قد انتهت.
قال الزنجي: «لقد التقيت به في السجن. راح يضرب الجميع طوال الوقت بعد أن رحلت؛ فأودعوه السجن. أما أنا، فكنت في السجن لطعن رجل بسكين.»
ابتسم ثم تابع بصوته الرقيق قائلا: «لقد أحببته على الفور، وبحثت عنه حين خرجت. يعجبه أن يظن بي أنني مجنون وأنا لا أمانع. إنني أحب أن أكون معه، وأحب رؤية الريف، ولست في حاجة إلى ارتكاب أي جريمة سرقة لفعل هذا. إنني أحب أن أحيا كرجل فاضل.»
سأله نك: «وماذا تفعلان لكسب العيش؟» «أوه، لا شيء. نتنقل فحسب. إن معه بعض المال.» «لا بد أنه قد جمع الكثير من المال.» «بالتأكيد، لكنه قد أنفق جميع ماله. أو هم قد أخذوه منه. إنها ترسل له مالا.»
راح يحرك النار بعصا كي يزيدها اشتعالا.
قال: «إنها سيدة رائعة للغاية، وهي تشبهه كثيرا حتى إنها لتبدو كتوءمه.»
تطلع الزنجي ببصره إلى الرجل الضئيل المستلقي الذي كان يتنفس بصعوبة. تدلى شعره الأشقر على جبينه، وبدا وجهه المشوه طفوليا وهو ساكن. «يمكنني أن أوقظه الآن في أي وقت يا سيد آدمز. أرجو أن ترحل، إذا لم يكن هذا سيضايقك. لا أريد أن أبدو غير مضياف، لكن حالته قد تسوء مرة أخرى عند رؤيتك. أكره أن أضطر إلى ضربه ثانية، وهو الشيء الوحيد الذي يمكنني فعله حين تتلبسه هذه الحالة. إنني أضطر إلى إبعاده عن الناس بعض الشيء. إنك لا تمانع يا سيد آدمز ، أليس كذلك؟ كلا، لا تشكرني يا سيد آدمز. كنت سأحذرك بشأنه، لكنه قد بدا مستمتعا بوجودك، وقد ظننت أن الأمور ستكون على ما يرام. سوف تصل إلى مدينة على ميلين تقريبا من السكة الحديدية. إنهم يسمونها مانسيلونا. إلى اللقاء. أتمنى لو كنا نستطيع دعوتك إلى قضاء الليلة، غير أن هذا أمر محال. أترغب في أخذ بعض من هذا اللحم والخبز معك؟ كلا؟ من الأفضل أن تأخذ معك شطيرة.» قال كل ذلك بصوته الزنجي المهذب الرقيق الخفيض. «حسنا، إلى اللقاء يا سيد آدمز. إلى اللقاء وحظ طيب!»
سار نك مبتعدا عن النار عبر الأرض الخالية من الأشجار، واتجه إلى خط السكة الحديدية. بعد أن ابتعد عن حيز النار، سمع صوت الزنجي الرقيق الخفيض وهو يتحدث. لم يستطع نك أن يسمع الكلمات، لكنه قد سمع صوت الرجل الضئيل بعد ذلك وهو يقول: «أشعر بصداع فظيع يا باجز.»
سمع صوت الزنجي يهدئه قائلا: «ستشعر بتحسن يا سيد فرانسيس. ما عليك إلا أن تحتسي فنجانا من هذه القهوة الساخنة.»
تسلق نك حافة السكة الحديدة وراح يسير على خط السكة الحديدية. وجد أنه يمسك بشطيرة من شرائح اللحم في يده؛ فوضعها في جيبه. وحين نظر إلى الخلف من المنحدر الصاعد قبل أن تنعطف السكة الحديدية إلى التلال، كان يستطيع أن يرى ضوء النار في المنطقة الخالية من الأشجار.
الفصل السادس
جلس نك مستندا إلى حائط الكنيسة حيث كانوا قد جروه كي يبتعد عن الطلقات النارية التي تندفع من المدفع الرشاش في الشارع. كانت كلتا ساقيه تتجهان إلى الخارج بطريقة بشعة. كان قد أصيب في العمود الفقري. كان وجهه متعرقا ومتسخا. وقد سطعت الشمس عليه. كان يوما شديد الحرارة. استلقى رينالدي، العريض المنكبين، والذي كانت معداته تتمدد هي أيضا، مستندا على الجدار ووجهه ناظر إلى الأسفل. نظر نك إلى الأمام مبتهجا. كان الجدار الوردي للمنزل المقابل قد سقط منفصلا عن السطح، وتدلى هيكل سرير حديدي ملتويا باتجاه الشارع. كان هناك نمساويان ميتان بين الأنقاض في ظل المنزل. وعلى امتداد الشارع، كان هناك موتى آخرون. كانت الأمور تتقدم في المدينة. كانت تسير على ما يرام. كان سيأتي حاملو النقالات في أي وقت الآن. أدار نك رأسه بحرص ونظر إلى رينالدي. «اسمع يا رينالدي. اسمع. لقد عقدنا أنا وأنت معاهدة سلام منفصلة.» استلقى رينالدي ساكنا في الشمس وهو يتنفس بصعوبة. «لسنا وطنيين.» أدار نك رأسه بعيدا بحرص، وهو يبتسم متعرقا. لقد كان رينالدي جمهورا مخيبا للآمال.
قصة قصيرة جدا
في أمسية حارة في بادوفا، حملوه إلى الأعلى على السطح؛ فتمكن من مشاهدة المدينة من أعلى. كانت طيور سمامة المداخن تحلق في السماء. وبعد برهة، حل الظلام وأضيئت الكشافات. نزل الآخرون وأخذوا الزجاجات معهم. كان يستطيع هو ولوز أن يسمعاهم وهم بالأسفل في الشرفة. جلست لوز على السرير. كانت ندية ونضرة في الليل الحار.
ظلت لوز تعمل في دورية الليل على مدار ثلاثة أشهر. وقد سرهم أن يسمحوا لها بالعمل ليلا. حين أجروا له العملية الجراحية، أعدته هي لطاولة الجراحة، بينما أخذوا هم يقولون مزحة عن الأصدقاء والحقن الشرجية (حيث إن كلمة حقنة شرجية بالإنجليزية قريبة في هجائها من كلمة عدو بالإنجليزية). وقع تحت تأثير المخدر وحاول أن يكبح جماح نفسه لئلا يثرثر بأي شيء خلال ذلك الوقت السخيف الذي يكثر فيه الكلام. وبعد أن صار يسير على عكازين، اعتاد أن يقيس درجات الحرارة كي لا تضطر لوز إلى النهوض من السرير. لم يكن هناك سوى عدد قليل من المرضى، وقد كانوا جميعا على علم بعلاقتهما. وكانوا جميعا يحبون لوز. وبينما كان يسير عائدا بين القاعات، كان يتخيل لوز في سريره.
قبل أن يعود ثانية إلى الجبهة، زارا كاتدرائية ميلانو وصليا هناك. كانت الأجواء هادئة والضوء خافتا، وكان هناك أشخاص آخرون يصلون. أرادا أن يتزوجا، لكن الوقت لم يكن كافيا لإعلان الزواج، ولم يكن لدى أي منهما شهادة ميلاد. كانا يشعران كما لو أنهما متزوجان، لكنهما أرادا أن يعرف الجميع بالأمر، وأن يوثقاه كي لا يخسراه.
كتبت له لوز الكثير من الخطابات التي لم تصله إلا بعد الهدنة. وصل خمسة عشر منها دفعة واحدة إلى الجبهة، وقد رتبها وفقا للتاريخ وقرأها جميعا على الفور بالترتيب. كانت جميعها تحكي عن المستشفى وعن حبها الكبير له وعن استحالة الحياة بدونه وعن قسوة الاشتياق له في الليل.
بعد الهدنة، اتفقا على أنه يجب أن يعود إلى الوطن ويحصل على وظيفة حتى يتسنى لهما الزواج. لم تكن لوز لتعود إلى الوطن إلى أن يحصل على وظيفة ويمكنه الذهاب إلى نيويورك للقائها. كان من الواضح أنه لن يشرب الخمر، ولن يرغب في أن يرى أصدقاءه أو أي شخص في أمريكا. لم يكن يريد سوى أن يحصل على وظيفة ويتزوج. وفي رحلة القطار من بادوفا إلى ميلانو، تشاجرا بشأن عدم رغبتها في أن تعود إلى الوطن على الفور. وحين أتى وقت الوداع في محطة قطار ميلانو، تبادلا قبلة الوداع لكن شجارهما لم يكن قد انتهى. وقد كان مغتما لوداعهما بهذه الطريقة.
واصل طريقه إلى أمريكا على متن سفينة من جنوا. وعادت لوز إلى بوردينوني كي تفتح مستشفى. كان الجو موحشا ومطيرا هناك، وكانت هناك كتيبة من قوات المغاوير التابعة للجيش الإيطالي تعسكر في المدينة. إن رائد الكتيبة الذي كان يعيش في تلك المدينة المطيرة الموحلة في الشتاء، كان يطارح لوز الغرام، ولم تكن هي قد عرفت أي إيطاليين من قبل، وفي النهاية، بعثت إلى حبيبها بخطاب في الولايات المتحدة تقول فيه إن علاقتهما لم تكن سوى غرام صبياني. كانت تشعر بالأسف وتعرف أنه لن يتفهم الأمر على الأرجح، لكنه قد يسامحها ذات يوم، ويكن لها مشاعر الامتنان، وقد كانت تتوقع، على نحو مفاجئ تماما، أن تتزوج في الربيع. كانت تحبه مثلما كانت تحبه دوما، لكنها أدركت الآن أن حبهما لم يكن سوى غرام صبياني. تمنت له أن يحقق نجاحا رائعا في حياته المهنية، وكانت تؤمن به تماما. كانت تعرف أن ذلك في صالحهما.
لم يتزوج الرائد من لوز لا في الربيع ولا في أي وقت آخر. ولم تتلق لوز قط أي رد على خطابها الذي أرسلته إلى شيكاجو بشأن الأمر. بعد ذلك بوقت قصير، أصيب هو بعدوى مرض السيلان من موظفة مبيعات في مركز تجاري في شيكاجو، بينما كانا يستقلان سيارة أجرة في منطقة لينكولن بارك.
الفصل السابع
بينما كان القصف يدك الخندق في فوسالتا، استلقى متمددا وهو يتعرق ويتضرع إلى يسوع المسيح قائلا: يا يسوع المسيح، أخرجني من هنا. يا يسوع العزيز، أرجوك أن تخرجني. أرجوك أيها المسيح، أرجوك، أرجوك أيها المسيح. فقط إذا نجيتني من القتل فقط، فسوف أفعل أي شيء تأمر به. إنني أومن بك، وسوف أخبر كل من في العالم بأنك وحدك من يهم. أرجوك، أرجوك يا يسوع العزيز. انتقل القصف إلى نقطة أبعد على خط النار. عدنا إلى العمل في الخندق، وأشرقت الشمس في الصباح، وكان اليوم حارا ورطبا ومبهجا وهادئا. وفي الليلة التالية عند العودة إلى ميستري، لم يخبر الفتاة التي صعد معها إلى الطابق العلوي في فيلا روسا عن يسوع. ولم يخبر أحدا قط.
وطن جندي
ذهب كريبس إلى الحرب من كلية ميثودية في كانساس. ثمة صورة يظهر فيها بين أصدقائه في الأخوية، وقد كانوا جميعا يرتدون ياقة لها نفس الشكل والطول. انضم إلى قوات المارينز عام 1917، ولم يعد إلى الولايات المتحدة حتى عادت الفرقة الثانية من نهر الراين في صيف العام 1919.
ثمة صورة يظهر فيها على نهر الراين مع فتاتين ألمانيتين وعريف آخر. بدا كريبس والعريف أضخم من الزي العسكري الذي كانا يرتديانه. الفتاتان الألمانيتان ليستا جميلتين. ونهر الراين لا يظهر في الصورة.
حين عاد كريبس إلى مدينته الأم في أوكلاهوما، كان استقبال الأبطال قد انتهى. لقد عاد متأخرا للغاية. كان جميع رجال المدينة الذين أرسلوا إلى الحرب قد قوبلوا بالترحاب الشديد لدى عودتهم. لقد كان هناك قدر كبير من الانفعال العاطفي. الآن قد هدأ رد الفعل. وبدا أنهم كانوا يظنون أنه من السخيف أن يعود كريبس في هذا الوقت المتأخر للغاية، بعد انتهاء الحرب بسنوات.
في بادئ الأمر، لم يرغب كريبس الذي شهد معارك بيلو وود وسواسون وشامبين وسان مييل وأرجون، في الحديث عن الحرب إطلاقا. بعد ذلك شعر بالحاجة إلى الحديث، لكن أحدا لم يرغب في سماع شيء عنها. لقد سمع أهل مدينته الكثير والكثير من قصص الحرب الوحشية؛ فما كان من الممكن أن تثيرهم الحقائق. وجد كريبس أن عليه أن يكذب كي يجد آذانا تستمع إليه أصلا، وبعد أن فعل ذلك مرتين، وجد أنه، هو أيضا، لديه رد فعل معاد للحرب ومعاد للحديث عنها. كره كل ما حدث له في إطار الحرب بسبب الأكاذيب التي رواها. كل المرات التي كانت قادرة على منحه الشعور بالهدوء والصفاء من داخله حين كان يفكر فيها - المرات البعيدة التي كان قد فعل فيها بسهولة وتلقائية، الشيء الوحيد؛ الشيء الوحيد الذي كان يمكن لرجل أن يفعله حين كان من الممكن أن يفعل شيئا آخر - قد فقدت الآن روعتها وقيمتها الثمينة، ثم فقدت هي نفسها بعد ذلك.
كانت أكاذيبه هينة إلى حد كبير، وقد تمثلت في أنه كان يعزو لنفسه فعل أشياء قد رآها آخرون أو فعلوها أو سمعوا بها، وأنه كان يذكر أحداثا مألوفة لجميع الجنود على أنها حقائق رغم أنها كان يشك في صحتها. حتى أكاذيبه لم تكن مثيرة في قاعة البلياردو. إن معارفه الذين سمعوا حكايات مفصلة عن نساء ألمانيات كان يعثر عليهن مقيدات في المدافع الرشاشة في غابة أرجون، والذين لم يستطيعوا فهم إمكانية وجود رماة ألمان غير مقيدين في مدافعهم الرشاشة، أو منعهم حسهم الوطني من أن يهتموا بأمرهم؛ لم تشوقهم قصصه.
صار كريبس يشعر بالتقزز تجاه التجارب التي تنتج عن الكذب أو المبالغة، وحين كان يلتقي في بعض الأحيان برجل آخر كان جنديا بالفعل ويتحدثان لبضع دقائق في غرفة الملابس بإحدى حفلات الرقص، كان يتخذ مرة أخرى الوضعية البسيطة للجندي القديم بين الجنود الآخرين؛ وهي أنه يكون مرتعبا للغاية وبشكل مثير للغثيان طوال الوقت. وبهذه الحال، فقد كل شيء.
خلال هذا الوقت، كان الصيف في أواخره، وكان هو ينام في سريره حتى وقت متأخر، ثم يستيقظ ليذهب إلى وسط المدينة حيث المكتبة ليحضر كتابا، ويتناول الغداء في المنزل، ثم يقرأ في الشرفة الأمامية إلى أن يمل ثم يسير عبر المدينة كي يقضي الساعات الأشد حرارة من اليوم في الظلام البارد في قاعة البلياردو. كان يحب لعب البلياردو.
في المساء، كان يمارس العزف على آلة الكلارينت الخاصة به، ويتمشى في وسط المدينة، ثم يقرأ ويذهب إلى النوم. كان ما يزال بطلا في عيون أختيه الصغيرتين. وكانت أمه تقدم له الإفطار في السرير لو أنه أراد ذلك. وكانت تأتي إليه كثيرا وهو في السرير وتطلب منه أن يحدثها عن الحرب، لكن انتباهها كان يتشتت دائما. أما والده، فكان لا يبالي بشيء.
قبل أن يرحل كريبس إلى الحرب، لم يكن يسمح له إطلاقا بقيادة سيارة الأسرة. كان والده يعمل في مجال العقارات، وكان يرغب في أن تكون السيارة متاحة له دائما حين يحتاج إليها ليصطحب الزبائن إلى الريف كي يعرض عليهم إحدى المزارع. كانت السيارة تقف دائما خارج مبنى فيرست ناشونال بانك، حيث كان والده يمتلك مكتبا في الطابق الثاني. والآن، بعد الحرب، كانت هي السيارة ذاتها.
لم يتغير شيء في المدينة سوى أن الفتيات الصغيرات قد كبرن. غير أنهن كن يعشن في ذلك العالم المعقد من الصداقات المحددة بالفعل والعداوات المتغيرة، والذي لم يكن كريبس يمتلك الطاقة ولا الشجاعة لاقتحامه. كان يحب النظر إليهن بالرغم من ذلك. كان هناك الكثير جدا من الشابات الجميلات. وكانت الغالبية العظمى منهن قصيرات الشعر. حين رحل، كانت الفتيات الصغيرات أو المتمردات فقط هن اللائي يصففن شعورهن بتلك الطريقة. كن جميعا يرتدين السترات والقمصان النسائية ذات الياقات المستديرة الكبيرة. لقد كان ذلك نمطا سائدا. كان يحب النظر إليهن من الشرفة الأمامية وهن يمشين على الجانب الآخر من الشارع. كان يحب النظر إليهن وهن يسرن تحت ظلال الأشجار. كان يحب الياقات المستديرة فوق ستراتهن. كان يحب جواربهن الحريرية وأحذيتهن المسطحة. كان يحب شعورهن القصيرة، وطريقة مشيتهن.
حين كان في المدينة لم يكن إعجابه بهن قويا للغاية. لم يعجب بهن حين رآهن في المتجر اليوناني للآيس كريم. لم يكن يرغب فيهن في حقيقة الأمر. كن معقدات للغاية. كان ثمة شيء آخر. فعلى نحو غامض، كان يرغب في أن يصاحب فتاة، لكنه لم يكن يرغب في أن يضطر إلى السعي ليفوز بها. كان يحب أن تكون له فتاة، لكنه لم يكن يرغب في قضاء وقت طويل للحصول عليها. لم يكن يرغب في أن يدخل في مناورات ومؤامرات حتى يفوز بها. لم يكن يرغب في أن يضطر إلى مغازلتها على الإطلاق. لم يكن يرغب في ترديد المزيد من الأكاذيب. لم يكن الأمر يستحق.
لم يكن يرغب في أية عواقب. لم يكن يرغب في أية عواقب بعد ذلك على الإطلاق. كان يرغب في أن يعيش دون عواقب، ثم إنه لم يكن يحتاج إلى فتاة في حقيقة الأمر. لقد علمه الجيش ذلك. لم يكن هناك من بأس في أن تتظاهر بأنك تحتاج فعلا إلى أن تكون لديك فتاة. كان الجميع تقريبا يفعلون ذلك، لكنه لم يكن صحيحا. إن المرء لا يحتاج إلى فتاة. إن ذلك هو الأمر الطريف. في البداية، يتباهى أحدهم بأن الفتيات لا يعنين أي شيء له على الإطلاق، وبأنه لم يفكر فيهن قط، وبأنهن لا يستطعن لمسه. وبعد ذلك، يتباهى بأنه لا يستطيع العيش دون الفتيات، وبأنه لا بد أن تكون له فتاة على الدوام، وبأنه لا يستطيع أن يخلد إلى النوم دون فتاة.
كل ذلك كذب. إنه كذب في الحالتين. إنك لا تحتاج إلى فتاة ما لم تفكر في الفتيات. لقد تعلم ذلك في الجيش. وعاجلا أم آجلا، سيكون لديك فتاة. وحين تكون مستعدا بالفعل لأن يكون لديك فتاة، ستعثر دائما على واحدة. أنت لا تحتاج إلى أن تفكر في الأمر. وعاجلا أو آجلا، سيتحقق الأمر. كان قد تعلم ذلك في الجيش.
الآن، كانت ستعجبه أي فتاة إن أتت هي إليه ولم ترغب في الحديث، لكن هنا في الوطن، كان الأمر كله معقدا للغاية. كان يعرف أنه لن يستطيع أن يخوض التجربة كلها مرة أخرى. لم يكن الأمر يستحق العناء. كانت تلك هي ميزة الفتيات الفرنسيات والألمانيات. لم يكن هناك كل هذا الكلام. لم تكن تستطيع أن تتكلم كثيرا ولم تكن تحتاج إلى الحديث. سوف تصبحان صديقين بمنتهى البساطة. راح يفكر في فرنسا، ثم بدأ يفكر في ألمانيا. وعلى وجه العموم، كانت تعجبه ألمانيا أكثر. لم يكن يرغب في أن يغادر ألمانيا. لم يكن يرغب في العودة إلى الوطن. بالرغم من ذلك، فقد عاد إلى الوطن. كان يجلس في الشرفة الأمامية.
أعجبته الفتيات اللائي كن يسرن على الجانب الآخر من الشارع. أعجبه شكلهن بدرجة أكبر كثيرا من إعجابه بشكل الفرنسيات أو الألمانيات. غير أن العالم اللائي كن يعشن فيه، لم يكن هو العالم الذي كان يعيش فيه. كان ليرغب في أن يصاحب فتاة منهن، لكن الأمر لم يكن يستحق. لقد كن يمثلن نمطا جميلا. أعجبه النمط. كان مثيرا، لكنه لم يكن ليخوض كل هذا الحديث. لم يكن يحتاج إلى فتاة بالدرجة التي تدفعه إلى ذلك. غير أنه كان يحب أن ينظر إليهن جميعا. لم يكن الأمر يستحق. ليس الآن وقد بدأت الأمور تتحسن ثانية.
جلس هناك في الشرفة يقرأ كتابا عن الحرب. كان كتابا في التاريخ وكان يقرأ عن جميع الاشتباكات التي اشترك فيها. كانت تلك تجربة القراءة الأكثر إثارة بالنسبة إليه على الإطلاق. وتمنى لو أنه كان هناك المزيد من الخرائط. كان يتطلع بشدة لقراءة جميع كتب التاريخ الجيدة حين تتوفر بها خرائط مفصلة رائعة. الآن، كان يتعرف على حقائق الحرب حقا. فقد كان جنديا جيدا. وقد شكل ذلك فرقا.
ذات صباح بعد شهر من عودته إلى البيت، دخلت أمه إلى غرفة نومه وجلست على السرير. ثم سوت مئزرها.
وقالت: «لقد تحدثت مع أبيك الليلة الماضية يا هارولد، وهو يوافق على أن تخرج بالسيارة في المساء.»
قال كريبس الذي لم يكن قد استفاق بالكامل بعد: «حقا؟ أخرج بالسيارة؟ حقا؟» «أجل. يرى أبوك منذ فترة أنه ينبغي لك أن تتمكن من الخروج بالسيارة في المساء متى رغبت، لكننا لم نتحدث في الأمر سوى الليلة الماضية.»
قال كريبس: «أراهن أنك قد دفعته إلى ذلك.» «كلا، لقد كان أبوك هو من اقترح أن نتحدث في الأمر.»
جلس كريبس في السرير وقال: «أجل، أراهن أنك قد دفعته إلى ذلك.»
سألت أمه: «هل ستنزل لتناول الإفطار يا هارولد؟»
قال كريبس: «حالما أرتدي ملابسي.»
خرجت أمه من الغرفة وكان بإمكانه أن يسمع أنها كانت تقلي شيئا في الطابق السفلي، بينما اغتسل هو وحلق وارتدى ملابسه لكي ينزل إلى غرفة الطعام لتناول الإفطار. وبينما كان يأكل، أحضرت أخته البريد.
تحدثت إليه قائلة: «حسنا يا هير. أيها الناعس العجوز. لم تستيقظ أصلا؟»
نظر كريبس إليها. كان يحبها. لقد كانت أخته الأقرب إليه.
سألها: «هل أحضرت الجريدة؟»
أعطته جريدة «ذا كانساس سيتي ستار»، ونزع هو عنها الغلاف البني وفتحها على صفحة الرياضة. طوى الجريدة وهي مفتوحة وأسندها إلى إبريق الماء، ثم ثبتها بطبق حبوب الإفطار حتى يستطيع أن يقرأ وهو يتناول الطعام.
تحدثت إليه أمه وهي تقف على عتبة المطبخ: «هارولد، من فضلك يا هارولد لا تفسد ترتيب الجريدة. إن والدك لا يستطيع أن يقرأ الجريدة إن لم تكن مرتبة.»
قال كريبس: «حسنا، لن أفسد ترتيبها.»
جلست أخته على الطاولة وراحت تشاهده وهو يقرأ.
تحدثت قائلة: «سوف نلعب البيسبول في المدرسة هذا العصر. وأنا سوف أرمي الكرة.»
قال كريبس: «حسنا، كيف حال الجناح القديم؟» «إنني أستطيع الرمي أفضل من معظم الصبيان. إنني أخبرهم جميعا أنك علمتني. الفتيات الأخريات لسن بارعات مثلي.»
قال كريبس: «حقا؟» «إنني أخبرهم جميعا أنك حبيبي. ألست حبيبي، يا هير؟» «بالتأكيد.» «ألا يمكن أن يكون أخي هو حبيبي أيضا فقط لأنه أخي؟» «لا أعرف.» «أنت بالطبع تعرف. ألا يمكن أن تكون حبيبي يا هير إذا كنت كبيرة بما يكفي، وإذا رغبت أنت؟» «بالتأكيد. أنت فتاتي الآن.» «هل أنا فتاتك حقا؟» «بالتأكيد.» «أتحبني؟» «أجل.» «هل ستحبني دوما؟» «بالتأكيد.» «أتأتي لكي تشاهدني وأنا ألعب البيسبول؟» «ربما.» «أف يا هير. إنك لا تحبني. إذا كنت تحبني حقا، كنت سترغب في أن تأتي لكي تشاهدني وأنا ألعب البيسبول.»
أتت والدة كريبس إلى غرفة الطعام من المطبخ. كانت تحمل طبقا به بيضتان مقليتان وبعض اللحم المقدد المقرمش، وطبقا به بعض الكعك المصنوع من الحنطة السوداء.
قالت: «اذهبي أنت الآن يا هيلين. أريد أن أتحدث إلى هارولد.»
وضعت طبق البيض واللحم المقدد أمامه، وأحضرت إبريقا من شراب القيقب من أجل كعك الحنطة السوداء، ثم جلست على الطاولة أمام كريبس.
قالت: «أرجو أن تترك الجريدة لدقيقة يا هارولد.»
أنزل هارولد الجريدة وطواها.
سألته أمه وهي تخلع نظارتها: «هل قررت ماذا ستفعل بعد ذلك يا هارولد؟»
أجاب كريبس: «كلا.» «ألا تظن أن الوقت قد حان لذلك؟» لم تقل أمه ذلك بطريقة خبيثة، بل بدت قلقة.
قال كريبس: «لم أفكر في الأمر.»
قالت أمه: «إن الرب يخصص لكل فرد عملا. ما من يد عاطلة في ملكه.»
قال كريبس: «لست في ملكه.» «إننا جميعا في ملكه.»
شعر كريبس بالحرج والحنق مثلما يشعر على الدوام.
تابعت أمه حديثها: «لقد كنت أشعر ببالغ القلق عليك يا هارولد. أعرف الإغراءات التي لا بد أنك قد تعرضت لها. وأعرف مدى ضعف الرجال. أعرف ما قاله جدك العزيز، والدي، عن الحرب الأهلية، وقد كنت أصلي لأجلك. إنني أصلي لأجلك طوال اليوم يا هارولد.»
نظر كريبس إلى دهن اللحم المقدد المتصلب على طبقه.
تابعت أمه حديثها: «إن أباك قلق أيضا. إنه يظن أنك قد فقدت طموحك، وأنه لم يعد لك هدف محدد في الحياة. تشارلي سيمونز الذي يضاهيك سنا لديه وظيفة جيدة وسوف يتزوج. لقد استقر جميع الفتيان، وخططوا لتحقيق هدف معين، يمكن للمرء أن يرى أن شبابا مثل تشارلي سيمونز في طريقهم لأن يكونوا حقا فخرا للمجتمع.»
لم يقل كريبس شيئا.
قالت أمه: «لا تنظر تلك النظرة يا هارولد. إنك تعرف أننا نحبك وأنا أريد أن أخبرك بحقيقة الوضع لصالحك. لا يريد أبوك أن يقيد حريتك. هو يرى أنه يجب السماح لك بقيادة السيارة. إذا كنت ترغب في أن تصطحب فيها بعض الفتيات الجميلات، فسوف يسرنا ذلك للغاية. إننا نريدك أن تستمتع بوقتك، لكن ينبغي عليك أن تستقر في عمل يا هارولد. أبوك لا يهتم من أي درجة تبدأ. العمل كله شريف مثلما يقول، لكن عليك أن تبدأ في عمل ما. لقد طلب مني أن أحدثك هذا الصباح، ويمكنك بعد ذلك أن تمر عليه في المكتب للقائه.»
قال كريبس: «أذلك كل شيء؟» «أجل. ألا تحب أمك يا ولدي العزيز؟»
قال كريبس: «لا.»
نظرت أمه إليه عبر الطاولة. كانت عيناها تلتمعان. وقد بدأت في البكاء.
قال كريبس: «أنا لا أحب أحدا.»
لم يكن هناك من فائدة. لم يستطع أن يخبرها، ولم يستطع أن يجعلها تفهم. لقد كان من السخف أن يقول ذلك. لم يفعل شيئا سوى أنه جرحها. ذهب إليها وأمسك بذراعها. كانت تبكي وهي تدفن رأسها في يديها.
تحدث إليها قائلا: «لم أكن أعني ذلك. كنت غاضبا فقط من شيء ما. لم أعن أنني لا أحبك.»
استمرت أمه في البكاء. وضع كريبس يده على كتفها.
وقال: «ألا تصدقينني يا أمي؟»
هزت أمه رأسها. «أرجوك، أرجوك يا أمي. أرجوك أن تصدقيني.»
تحدثت أمه بصوت مختنق: «حسنا.» تطلعت إليه بوجهها وقالت: «أصدقك يا هارولد.»
طبع كريبس قبلة على شعرها. ورفعت هي وجهها إليه.
تحدثت إليه قائلة: «إنني أمك. لقد حملتك بجوار قلبي وأنت طفل صغير للغاية.»
شعر كريبس بالاشمئزاز والغثيان على نحو غامض.
قال: «أعرف يا أمي. سأحاول أن أكون ولدا صالحا من أجلك.»
سألته أمه: «هلا ركعت وصليت معي يا هارولد؟»
ركعا بجوار طاولة غرفة الطعام، وصلت أم كريبس.
قالت: «والآن، فلتصل أنت يا هارولد.»
قال كريبس: «لا أستطيع.» «حاول يا هارولد.» «لا أستطيع.» «أتريدني أن أصلي من أجلك؟» «أجل.»
صلت أمه من أجله، ثم وقفا وقبل كريبس أمه وخرج من المنزل. لقد حاول بقوة أن يبقي حياته خالية من التعقيد. وحتى الآن، لم يمسه شيء منه. لقد شعر بالأسى تجاه أمه وقد دفعته إلى الكذب. كان سيذهب إلى مدينة كانساس ويحصل على وظيفة، وستكون هي راضية عن ذلك. كانت ستحدث جلبة أخرى على الأرجح قبل أن يرحل. لن يذهب إلى مكتب أبيه. سيتجاهل الأمر هذه المرة. كان يريد لحياته أن تسير بسلاسة. وكانت قد بدأت للتو تسير بتلك السلاسة. حسنا، كان كل ذلك قد انتهى الآن على أية حال. كان سيذهب إلى فناء المدرسة ويشاهد هيلين وهي تلعب البيسبول.
الفصل الثامن
في الساعة الثانية صباحا، اقتحم شخصان مجريان متجر سيجار عند تقاطع شارعي فيفتينث وجراند أفنيو. انطلق دريفيتس وبويل من مركز شرطة شارع فيفتينث في سيارة من طراز فورد. كان المجريان يعودان إلى الوراء بعربتهما للخروج من زقاق. أطلق بويل النار على من كان على مقعد العربة، ثم على الآخر الذي كان في هيكلها. أصاب دريفيتس الرعب حين وجد أن كليهما قد مات. تحدث قائلا: «اللعنة يا جيمي. ما كان لك أن تفعل هذا. إن هذا سيفتح على الأرجح علينا جحيما من المتاعب.»
قال بويل: «إنهما مجرمان، أليسا كذلك؟ إنهما إيطاليان لعينان، أليسا كذلك؟ من ذا الذي سيثير أية مشكلات بحق الجحيم؟»
قال ديفيرتيس: «ربما يمر الأمر بسلام في هذه المرة، لكن كيف عرفت أنهما إيطاليان حين أطلقت عليهما النار؟»
قال بويل: «إنهما إيطاليان لعينان. إنني أستطيع أن أميز الإيطاليين الملاعين من على بعد ميل.»
الثوري
في العام 1919، كان يسافر من قطار لآخر في إيطاليا، حاملا من مقر الحزب قطعة مربعة من المشمع مكتوب عليها بالقلم الرصاص الذي لا يمحى ما يخط به ما يفيد أنه رفيق قد عانى كثيرا تحت وطأة حكم البيض في بودابست، وأنه يطلب من الرفاق أن يقدموا له المساعدة بأي طريقة من الطرق. لقد استخدم هذه القطعة كبديل عن التذكرة. لقد كان خجولا للغاية وحديث السن بعض الشيء، وكان رجال القطار يسلمونه من طاقم إلى آخر. لم يكن يمتلك نقودا، وكانوا يطعمونه في مطاعم السكة الحديدية في منطقة العاملين.
لقد أعجبته إيطاليا. قال إنها بلد جميل، وجميع أناسها طيبون. لقد زار مدنا عديدة، وسار فيها كثيرا، ورأى الكثير من الرسومات. ابتاع نسخا من أعمال جوتو ومازاتشو وبييرو ديلا فرانتشيسكا، وكان يحملها مغلفة في نسخة من جريدة «أفانتي». أما مانتينيا، فلم يعجبه.
ذهب إلى بولونيا، وقد أخذته معي إلى منطقة رومانيا حيث كان علي أن أذهب كي أقابل شخصا ما. كانت رحلتنا معا جيدة. كان الوقت في بداية سبتمبر، وكان الريف جميلا. كان مجريا، وكان شابا لطيفا للغاية وخجولا جدا. لقد أساء إليه رجال هورتي، وهو الأمر الذي تحدث عنه قليلا. وبصرف النظر عما حدث في المجر، فقد كان يؤمن تماما بالثورة العالمية.
سأل: «وكيف حال الحركة في إيطاليا؟»
أجبت: «سيئة للغاية.»
قال: «لكنها سوف تتحسن. لديكم كل شيء هنا. إنه البلد الوحيد الذي يثق به الكل. سيكون نقطة الانطلاق لكل شيء.» لم أقل شيئا.
في بولونيا، ودعنا كي يستقل القطار إلى ميلانو، ثم إلى أوستا لكي يعبر الممر إلى سويسرا. حدثته عن أعمال مانتينيا في ميلانو. وقال بخجل شديد: «كلا.» فقد كان مانتينيا لا يعجبه. كتبت إليه أسماء الأماكن التي يمكن أن يأكل فيها في ميلانو، وعناوين الرفاق. شكرني جزيل الشكر، لكن عقله كان يتطلع بالفعل إلى عبور الممر. كان متلهفا للغاية لعبور ذلك الممر بينما لا يزال الطقس جيدا. كان يحب الجبال في الخريف. وقد كان آخر ما سمعته عنه أن السويسريين قد وضعوه في السجن بالقرب من سيون.
الفصل التاسع
طعن الثور بقرنه يد البيكادور الأول التي كانت تمسك بمقبض السيف، وراح الحشد المتجمهر ينعق به ازدراء. زلت قدما البيكادور الثاني وخرق الثور بطنه بقرنه، فتمسك بالقرن بيد، وثبت يده الأخرى جيدا على مكان الجرح، فدفعه الثور بعنف إلى الجدار وتحرر القرن، ورقد هو في الرمال، ثم نهض كسكير مجنون، وحاول أن يلكم الرجال الذين كانوا يحملونه بعيدا، وصرخ طالبا سيفه، لكنه فقد الوعي. جاء الفتى وكان عليه أن يقتل الثيران الخمسة؛ إذ لا يمكن أن يكون هناك أكثر من ثلاثة بيكادورات في مباراة مصارعة الثيران، وحين وصل إلى الثور الخامس كان متعبا للغاية حتى إنه لم يستطع أن يغمد السيف فيه. لم يكن يقدر على رفع ذراعه إلا بصعوبة كبيرة. حاول خمس مرات وكان الجمهور هادئا؛ إذ كان ثورا جيدا وبدا الأمر أنه إما هو وإما الثور، ثم نجح أخيرا. جلس في الرمال وراح يتقيأ، ووضعوا عليه رداء بينما راح الجمهور يصيح ويرمي بأشياء إلى حلقة المصارعة.
السيد إليوت وزوجته
حاول السيد إليوت وزوجته جاهدين أن ينجبا طفلا. لقد حاولا مرات عديدة بقدر ما كانت السيدة إليوت تطيق؛ حاولا في بوسطن بعد أن تزوجا وحاولا وهما مسافران بالسفينة. لم يحاولا كثيرا على متن السفينة؛ إذ كانت السيدة إليوت مريضة جدا. لقد مرضت، وعندما كان هذا يحدث، كانت تمرض مثلما تمرض النساء الجنوبيات؛ أي النساء اللائي ينتمين إلى الجزء الجنوبي من الولايات المتحدة. فكما هو الحال بالنسبة لجميع النساء الجنوبيات، تدهورت حالة السيدة إليوت بسرعة شديدة تحت وطأة دوار البحر، مع السفر ليلا والاستيقاظ في وقت مبكر للغاية في الصباح. ظن العديد من الأشخاص الموجودين على متن السفينة أنها والدة إليوت. وأما الآخرون الذين كانوا يعرفون أنها زوجته، فقد اعتقدوا أنها حامل. لقد كانت تبلغ من العمر أربعين عاما في حقيقة الأمر، وقد تسارعت سنوات عمرها فجأة حين بدأت في السفر.
لقد كانت تبدو أصغر سنا من ذلك بكثير، بل الحق أنها لم تكن تبدو في سنها الحقيقية على الإطلاق حين تزوجها إليوت بعد أسابيع عديدة من الوقوع في حبها، بعد أن عرفها لوقت طويل في متجر الشاي الذي تملكه قبل أن يقبلها ذات مساء.
كان هيوبرت إليوت يجري بعض الدراسات العليا في القانون بجامعة هارفارد حين تزوج. كان شاعرا يبلغ دخله عشرة آلاف دولار في العام تقريبا. كان يكتب قصائد طويلة للغاية بسرعة كبيرة جدا. كان يبلغ من العمر خمسة وعشرين عاما ولم يكن قد ضاجع امرأة قط إلى أن تزوج السيدة إليوت. أراد أن يحتفظ بنفسه نقيا كي يحفظ لزوجته ما كان يتوقعه منها من نقاء الذهن والجسد. كان يسمي ذلك بالاستقامة في العيش. لقد أحب العديد من الفتيات قبل أن يقبل السيدة إليوت، وكان يخبرهن في وقت ما، سواء تقدم أو تأخر، بأنه عاش حياة نقية. وهذا ما جعل كل الفتيات تقريبا يفقدن الاهتمام به. لقد كان مصدوما ومرتعبا من حقيقة أن الفتيات يخطبن إلى رجال ويتزوجن منهم، وهن يعرفن بأنهم قد جروا أنفسهم إلى الوحل. لقد حاول ذات مرة أن يحذر فتاة من رجل كان يعرف يقينا أنه كان خسيسا في الكلية، وقد نتج عن ذلك حادثة فظيعة للغاية.
كانت السيدة إليوت تدعى كورنيليا. علمته أن يدعوها باسم كالوتينا، الذي كان لقب عائلتها في الجنوب. بكت أمه حين أحضر كورنيليا إلى المنزل بعد زواجهما، لكنها ابتهجت كثيرا حين عرفت أنهما سيعيشان خارج البلاد.
حين أخبر كورنيليا كيف أنه قد حافظ على نقائه من أجلها، قالت: «فتاي العزيز الرقيق!» وقربته إليها أكثر من أي وقت سابق. كانت كورنيليا نقية هي أيضا. قالت: «قبلني هكذا ثانية.»
شرح لها هيوبرت أنه تعلم تلك الطريقة في التقبيل من قصة قد سمع رجلا يرويها. كان مسرورا بتجربته، وقد تماديا فيها إلى أبعد حد ممكن. أحيانا بعد أن يكونا قد قضيا وقتا طويلا في التقبيل، كانت كورنيليا تطلب منه أن يخبرها كيف أنه حافظ على نفسه نقيا من أجلها. ودائما ما كان هذا التصريح يثيرها ثانية.
في البداية، لم يكن هيوبرت ينتوي الزواج من كورنيليا على الإطلاق. لم يسبق له أن فكر فيها بتلك الطريقة. لقد كانت صديقة عزيزة له، وذات يوم في الغرفة الخلفية الصغيرة في متجرها، كانا يرقصان على موسيقى إحدى أسطوانات الجراموفون بينما كانت صديقتها في مقدمة المتجر، وقد نظرت في عينيه وقبلها. لم يستطع أن يتذكر قط متى كان قرار زواجهما، لكنهما تزوجا على أي حال.
قضيا ليلة يوم زواجهما في غرفة بأحد فنادق بوسطن. شعر كلاهما بخيبة الأمل، لكن كورنيليا قد تمكنت أخيرا من الخلود إلى النوم. لم يستطع هيوبرت النوم وخرج عدة مرات وراح يقطع ردهة الفندق ذهابا وإيابا مرتديا برنس الحمام الجديد الذي ابتاعه لرحلة زفافه من العلامة التجارية ياجر. بينما كان يسير في الردهة، رأى جميع أزواج الأحذية، سواء الصغيرة أو الكبيرة منها، موجودة خارج أبواب غرف الفندق. دفع ذلك قلبه إلى الخفقان بشدة، فأسرع عائدا إلى غرفته، لكن كورنيليا كانت نائمة. لم يحب أن يوقظها، وسرعان ما أصبح كل شيء على ما يرام، ونام بسلام.
في اليوم التالي زارا أمه، وفي اليوم الذي يليه أبحرا إلى أوروبا. كان من الممكن أن يحاولا إنجاب طفل، لكن كورنيليا لم تكن تقدر على المحاولة كثيرا بالرغم من أنهما كانا يرغبان في طفل أكثر من أي شيء آخر في العالم. رست سفينتهما في شيربورج، ثم ذهبا إلى باريس. حاولا إنجاب طفل في باريس. بعد ذلك قررا أن يذهبا إلى ديجون حيث كانت هناك مدرسة صيفية، وحيث ذهب عدد ممن كانوا معهما على متن السفينة. وجدا أنه ما من شيء يمكن القيام به في ديجون، غير أن هيوبرت كان يكتب عددا كبيرا من القصائد وكتبتها له كورنيليا على الآلة الكاتبة. كانت القصائد كلها طويلة للغاية، وكان هو صارما بشأن الأخطاء وكان يجعلها تعيد كتابة صفحة بأكملها إذا كان بها خطأ واحد. بكت كثيرا وحاولا مرات عديدة أن ينجبا طفلا قبل مغادرة ديجون.
عادا إلى باريس، ورجع إليها معظم أصدقائهما من السفينة أيضا. لقد ضجروا من ديجون، وكانوا سيستطيعون القول على أية حال إنهم، بعد مغادرتهم هارفارد أو كولومبيا أو واباش، قد درسوا في جامعة ديجون بإقليم كوت دور. كان العديد منهم سيفضلون الذهاب إلى لانجيدوك أو مونبلييه أو برينيان إن كانت بها أي جامعات. غير أن هذه الأماكن بعيدة للغاية. أما ديجون، فهي لا تبعد سوى أربع ساعات ونصف الساعة عن باريس، ويوجد مطعم في القطار.
ولهذا، فقد تجمعوا كلهم حول مقهى كافيه دو دوم، متجنبين مقهى روتوند الموجود على الجهة المقابلة من الشارع؛ إذ إنه كان يعج بالأجانب على الدوام، وذلك لبضعة أيام ثم استأجر الزوجان إليوت بيتا ريفيا كبيرا يقع في تورين من خلال إعلان في جريدة «ذا نيويورك هيرالد». بحلول ذلك الوقت، أصبح لإليوت عدد من الأصدقاء المعجبين بشعره، ونجحت السيدة إليوت في إقناعه بدعوة صديقتها التي كانت تعمل في متجر الشاي لزيارتهما. أصبحت السيدة إليوت أسعد كثيرا بعد أن جاءت صديقتها، وقد بكيا معا كثيرا لمرات عديدة. كانت الصديقة أكبر من كورنيليا بعدة سنوات وكانت تدعوها باسم هني. لقد كانت تنحدر هي أيضا من عائلة جنوبية عتيقة للغاية.
ذهب ثلاثتهم، مع عدد من أصدقاء إليوت الذين كانوا يدعونه باسم هوبي، إلى البيت الريفي في تورين. وجدوا تورين بلدة حارة مستوية للغاية تشبه كانساس كثيرا. أصبح لدى إليوت الآن عدد كبير من القصائد يكفي لتجميعها في كتاب. كان ينوي نشره في بوسطن، وقد أرسل فعلا شيكا خاصا بذلك إلى ناشر بعد أن اتفق معه.
في غضون وقت قصير، بدأ الأصدقاء يعودون ثانية إلى باريس. لم تعد تورين كما كانت تبدو في أول الأمر، وسرعان ما غادر جميع الأصدقاء مع شاعر شاب ثري وأعزب إلى منتجع بجانب البحر بالقرب من تروفيل. وهناك، شعروا جميعا بسعادة بالغة.
استمر إليوت في الإقامة بالبيت الريفي في تورين؛ إذ كان قد استأجره لفترة الصيف بأكملها. حاول هو والسيدة إليوت كثيرا في غرفة النوم الحارة الكبيرة على السرير الصلب الضخم إنجاب طفل. بدأت السيدة إليوت في تعلم نظام الكتابة على الآلة الكاتبة دون النظر إلى لوحة مفاتيحها، لكنها وجدت أنه يزيد من الأخطاء بالرغم من زيادة السرعة. كانت الصديقة الآن تكتب بالفعل جميع النسخ. لقد كانت منظمة وماهرة للغاية، وبدا أنها كانت تستمتع بالعمل.
صار إليوت معتادا على شرب النبيذ الأبيض، وعاش منعزلا في غرفته. كان يكتب الكثير من القصائد في الليل، ويبدو منهكا جدا في الصباح. أصبحت السيدة إليوت والصديقة تنامان الآن معا في السرير الكبير المصمم على طراز العصور الوسطى. وقد بكيا معا مرات عديدة. في المساء، كانوا يجلسون معا على العشاء في الحديقة أسفل إحدى أشجار الدلب، بينما تهب ريح المساء الحارة ويشرب إليوت النبيذ الأبيض، وتتبادل السيدة إليوت والصديقة أطراف الحديث، وقد كانوا جميعا سعداء إلى حد كبير.
الفصل العاشر
ضربوا الحصان الأبيض على سيقانه، حتى استند على ركبتيه ونهض. أدار البيكادور ركاب الحصان وجذبه وتسلق إلى السرج. تدلت أحشاء الحصان في كتلة زرقاء وراحت تتأرجح إلى الأمام والخلف عندما بدأ الحصان في الخبب، وراح مساعدو البيكادور يضربونه على الجانب الخلفي من سيقانه بالعصي. راح يخبب مرتعشا على طول الحاجز الخشبي لحلقة مصارعة الثيران. توقف متصلبا فأمسك أحد مساعدي البيكادور بلجامه وسار به إلى الأمام. ضربه البيكادور بمهمازيه، ومال إلى الأمام ووجه رمحه إلى الثور. راح الدم يندفع بانتظام من بين ساقي الحصان الأماميتين. كان يرتجف بعصبية. لم يستطع الثور أن يتخذ قراره بالهجوم من عدمه.
قطة تحت المطر
لم يكن هناك سوى أمريكيين يقيمان بالفندق. لم يعرفا أيا من الأشخاص الذين مرا بهما على الدرج في طريق ذهابهما من غرفتهما وإليها. كانت غرفتهما بالطابق الثاني وتطل على البحر. وكانت تطل أيضا على الحديقة العامة والنصب التذكاري للحرب. كان بالحديقة العامة أشجار نخيل كبيرة ومقاعد خضراء. في الطقس الجيد، كان يوجد هناك دائما فنان ومعه مسند لوحاته. أحب الفنانون طريقة نمو النخيل، وكذلك الألوان الزاهية للفنادق المواجهة للحدائق والبحر. كان الإيطاليون يأتون من مناطق بعيدة كي يتطلعوا إلى النصب التذكاري للحرب. كان مصنوعا من البرونز، وكان يتلألأ في المطر. كانت تمطر. كان المطر يتساقط من أشجار النخيل. وتجمعت المياه في برك على ممرات من الحصى. تولدت من البحر موجة طويلة في المطر، ثم انحسرت عن الشاطئ لتتولد مرة أخرى موجة طويلة في المطر. كانت السيارات قد اختفت من الميدان المجاور للنصب التذكاري للحرب. وعلى الجهة المقابلة من الميدان عند مدخل المقهى، وقف نادل وأخذ يتطلع إلى الميدان الفارغ.
وقفت الزوجة الأمريكية في النافذة تنظر منها إلى الخارج. وفي الخارج تحت نافذتهما تماما، ربضت قطة تحت إحدى الطاولات الخضراء التي يقطر منها الماء. كانت القطة تحاول أن تنكمش بأكبر درجة ممكنة كي لا يصيبها ماء المطر.
قالت الزوجة الأمريكية: «سأنزل وأحضر تلك القطة الصغيرة.»
عرض الزوج من مكانه على السرير المساعدة قائلا: «سأقوم أنا بذلك.» «كلا، سأحضرها أنا. القطة المسكينة تحاول أن تحتمي من الماء تحت طاولة.»
تابع الزوج القراءة وهو يستلقي مستندا على الوسادتين الموضوعتين على الطرف السفلي من السرير.
تحدث قائلا: «لا تبللي نفسك.»
نزلت الزوجة إلى الطابق السفلي ونهض مالك الفندق وانحنى لها عندما مرت بمكتبه. كان مكتبه يقع في أقصى طرف من الغرفة. كان رجلا عجوزا وطويلا للغاية.
قالت الزوجة بالإيطالية: «إنها تمطر.» كانت تكن الإعجاب لمالك الفندق.
هو أيضا علق على حديثها بالإيطالية قائلا: «أجل، أجل، يا سيدتي. الطقس سيئ.» ثم تابع: «الطقس سيئ للغاية.»
وقف خلف مكتبه في أقصى طرف من الغرفة المعتمة. كانت الزوجة تكن له الإعجاب. كانت تعجبها جديته البالغة عند تلقي أية شكاوى. كان يعجبها وقاره. كانت تعجبها رغبته في خدمتها. كان يعجبها شغفه بعمله. كان يعجبها وجهه الجاد العجوز ويداه الكبيرتان.
فتحت الباب وتطلعت إلى الخارج وهي لا تزال تكن له الإعجاب. كان المطر قد اشتد. وكان هناك رجل يرتدي رداء من المطاط يعبر الميدان الخالي متجها إلى المقهى. ستكون القطة إلى جهة اليمين. ربما ستستطيع أن تسير تحت الأفاريز. وبينما كانت تقف على عتبة الباب، فتحت مظلة من خلفها. لقد كانت الخادمة التي تعتني بغرفتهما.
ابتسمت وقالت بالإيطالية: «لا ينبغي أن تبتلي.» لقد أرسلها مالك الفندق بالطبع.
وبينما كانت الخادمة تمسك بالمظلة فوق رأسها، سارت على ممر الحصى إلى أن وصلت تحت نافذتهما. كانت الطاولة موجودة، وقد غسلها المطر فبدت خضراء لامعة، لكن القطة قد اختفت. أصابها الإحباط فجأة. تطلعت إليها الخادمة.
وقالت بالإيطالية: «أفقدت شيئا يا سيدتي؟»
قالت الفتاة الأمريكية: «كانت هنا قطة.» «قطة؟»
أجابتها بالإيطالية: «أجل، قطة.»
ضحكت الخادمة وقالت: «قطة ؟ قطة تحت المطر؟»
أجابت قائلة: «أجل، تحت الطاولة.» ثم تابعت: «أوه، كم كنت أريدها! كنت أريد قطة صغيرة.»
حين تحدثت بالإنجليزية، انقبض وجه الخادمة.
تحدثت قائلة: «هيا يا سيدتي، يجب أن نعود إلى الداخل. سيبللك المطر.»
قالت الفتاة الأمريكية: «أظن ذلك.»
عادا سائرين على ممر الحصى، ومرا من الباب. ظلت الخادمة بالخارج لكي تغلق المظلة. وبينما مرت الفتاة الأمريكية بغرفة المكتب، انحنى مالك الفندق من مكتبه. شعرت الفتاة بشيء صغير للغاية ينقبض بداخلها. لقد أشعرها مالك الفندق بأنها صغيرة للغاية، ومهمة للغاية في الوقت ذاته. انتابها شعور لحظي بالأهمية الفائقة. صعدت على الدرج لأعلى. فتحت باب الغرفة. كان جورج يقرأ على السرير.
سألها وهو يضع الكتاب من يده: «هل أحضرت القطة؟» «وجدتها قد ذهبت.»
تحدث وهو يريح عينيه من القراءة قائلا: «عجبا! أين عساها أن تكون قد ذهبت؟»
جلست على السرير.
ثم قالت: «لقد كنت أريدها بشدة. إنني لا أدري ما السبب في أنني كنت أرغب فيها بهذا القدر. كنت أريد تلك القطة الصغيرة المسكينة. ليس من الجيد أبدا أن تكون مثل هذه القطة المسكينة في الخارج تحت المطر.» استأنف جورج القراءة.
نهضت عن السرير وجلست أمام مرآة طاولة الزينة، وراحت تنظر إلى نفسها في مرآة اليد. فحصت منظرها الجانبي، جانبا ثم الآخر. بعد ذلك فحصت خلف رأسها ورقبتها.
سألت وهي تعيد النظر إلى منظرها الجانبي: «ألا تعتقد أنها ستكون فكرة جيدة إذا تركت شعري ينمو كي يصير طويلا؟»
تطلع جورج إليها ببصره ورأى ظهر رقبتها وكان شعرها مقصوصا كشعر صبي. «إنه يعجبني على هذه الحال.»
قالت: «لقد مللت منه بشدة. لقد مللت من أن أبدو كصبي.»
غير جورج وضعيته على السرير. لم يكن قد حول نظره عنها منذ أن بدأت في الحديث.
تحدث قائلا: «إنك تبدين جميلة للغاية.»
وضعت المرآة على منضدة الزينة وسارت إلى النافذة وأطلت منها. كان الظلام قد بدأ في الحلول.
قالت: «أريد أن أضم شعري إلى الخلف مستويا ومحكما في ربطة كبيرة أشعر بها على ظهري. أريد أن يكون لي قطة صغيرة تجلس على حجري وتموء حين أملس فراءها.»
تحدث جورج من السرير قائلا: «حقا؟» «وأريد أن آكل على طاولة عليها أدواتي الفضية وأريد شموعا. وأريد أن يحل الربيع وأريد أن أصفف شعري بالفرشاة أمام المرآة وأريد قطة صغيرة وأريد ثيابا جديدة.»
قال جورج: «يا إلهي! توقفي عن الحديث وابحثي عن شيء تقرئينه.» وعاد للقراءة ثانية.
كانت زوجته تطل من النافذة. كان الظلام قد حل بالفعل وكان المطر لا يزال يتساقط على أشجار النخيل.
تحدثت قائلة: «على أية حال، أنا أريد قطة. أريد قطة. أريد قطة الآن. إذا لم يكن باستطاعتي أن أحظى بشعر طويل أو بأي متعة، فيمكنني أن أحظى بقطة.»
لم يكن جورج يستمع إليها. كان يقرأ كتابه. نظرت زوجته من النافذة حيث أضاءت الأنوار في الميدان.
طرق شخص على الباب.
قال جورج بالإيطالية: «ادخل.» ورفع بصره من الكتاب.
على عتبة الغرفة، وقفت الخادمة. كانت تحمل قطة كبيرة مرقشا فراؤها بلون درع السلحفاة. كانت تضمها إليها وقد تدلت أمام جسدها.
قالت: «معذرة، لقد طلب مني مالك الفندق أن أحضر هذه القطة إليك سيدتي.»
الفصل الحادي عشر
كان الجمهور يصيح طوال الوقت ويرمي قطعا من الخبز في الحلقة، ثم بدأ في رمي الوسائد وزجاجات النبيذ الجلدية، مع الاستمرار في الصفير والصراخ. وأخيرا أصبح الثور متعبا جدا من كثرة ما نخزوه بقسوة، فثنى ركبتيه واستلقى على الأرض، ومال أحد مساعدي البيكادور إلى الأمام على رقبته وقتله بالخنجر. قفز الجمهور فوق الحاجز وأحاطوا بالبيكادور وجذبه رجلان وأوقفاه، وقطع رجل خصلة شعره المتدلية من الخلف وراح يلوح بها، واختطفها منه طفل وجرى بعيدا بها. بعد ذلك، رأيت البيكادور في المقهى. كان قصيرا للغاية وله وجه بني وكان ثملا وقال إن ما حدث قد وقع من قبل بالطريقة نفسها. أنا لست بمصارع ثيران جيد في حقيقة الأمر.
في غير أوانه
بالليرات الأربع التي جناها بيدوتسي من العمل في حديقة الفندق، شرب خمرا حتى أصبح في حالة سكر تام . رأى الشاب يسير هابطا على الممر وتحدث إليه بطريقة غامضة. قال الشاب إنه لم يأكل بعد، لكنه سيكون مستعدا للذهاب فور أن يفرغ من الغداء، بعد أربعين دقيقة أو ساعة.
في الحانة القريبة من الجسر، سمحوا له بتناول ثلاث كئوس أخرى من براندي العنب؛ لأنه كان واثقا ومتكتما للغاية بشأن العمل الذي سيقوم به في فترة العصر. كان يوما عاصفا تبزغ فيه الشمس من وراء الغيوم، ثم تختفي تحت رذاذ المطر. كان هذا يوما رائعا لصيد سمك السلمون المرقط.
خرج الشاب من الفندق وسأله عن الصنارتين، وما إذا كان يجب أن تتبعهما زوجته بهما. أجاب بيدوتسي: «أجل، لتتبعنا.» عاد الشاب إلى الفندق وتحدث إلى زوجته. بدأ هو وبيدوتسي في السير على الطريق. كان الشاب يحمل حقيبة صغيرة على كتفه. رأى بيدوتسي الزوجة، والتي بدت شابة مثل زوجها وكانت ترتدي حذاء مخصصا للجبال وبيريه أزرق، وقد بدأت في اتباعهما على الطريق وهي تحمل صنارتي الصيد، مفككتين، كل منهما في يد. لم يحب بيدوتسي أن تسير خلفهما بعيدا. ناداها غامزا بعينه إلى الشاب قائلا: «سيدتي، تعالي وسيري معنا. سيدتي، هيا تعالي. ولنسر كلنا معا.» أراد بيدوتسي أن يسير ثلاثتهم معا في شارع كورتينا.
ظلت الزوجة بالخلف تتبعهما متباطئة ومتجهمة الوجه بعض الشيء. ناداها بيدوتسي برقة: «سيدتي، هيا فلتلحقي بنا وتسيري هنا معنا.» نظر الشاب إلى الخلف وصرخ فيها بشيء ما. توقفت الزوجة عن التباطؤ ولحقت بهما.
جميع من مروا بهم وهم يسيرون في الشارع الرئيسي للمدينة قد حياهم بيدوتسي باهتمام. قال لأحدهم بالإيطالية وهو يرفع طرف قبعته: «صباح الخير يا أرتورو!» حدق موظف البنك فيه من باب مقهى فاشيست. وراحت مجموعات من ثلاثة أو أربعة أفراد تقف أمام المتاجر تحدق في ثلاثتهم. حتى العمال الذين كانوا يعملون على أساسات الفندق الجديد بستراتهم التي تناثر عليها مسحوق الحجارة تطلعوا إليهم حين مروا. لم يتحدث إليهم أحد أو يحيهم بإشارة سوى شحاذ المدينة الذي كان نحيفا وعجوزا بلحية قد زاد من سمكها باللعاب، وقد رفع قبعته حين مروا.
توقف بيدوتسي أمام متجر تمتلئ نافذته بالزجاجات وأخرج زجاجة براندي العنب الفارغة الخاصة به من جيب داخلي في معطفه العسكري القديم. تحدث وهو يشير بالزجاجة قائلا: «القليل من الشراب، بعض من نبيذ المارسالا للسينيورا، شيء، شيء للشراب.» كان يوما رائعا. «نبيذ المارسالا، أتحبين المارسالا، سينيورينا؟ القليل من المارسالا؟»
وقفت الزوجة متجهمة. تحدثت قائلة: «سيكون عليك أن تتصرف مع هذا. لا أستطيع فهم كلمة واحدة مما يقول. إنه سكران، أليس كذلك؟»
بدا أن الشاب لم يسمع ما قاله بيدوتسي. كان يتساءل في نفسه أي شيء بحق الجحيم قد دفعه لأن يقول مارسالا. هذا هو ما يشربه ماكس بيربوم.
تحدث بيدوتسي أخيرا وهو يمسك بكم الشاب وقال بالألمانية: «النقود، الليرات.» ابتسم ولم يكن راغبا في الإلحاح على هذا الأمر، لكنه كان يحتاج إلى أن يدفع الشاب إلى التصرف.
أخرج الشاب المحفظة من جيبه وأعطاه ورقة نقدية من فئة عشر ليرات. صعد بيدوتسي الدرج إلى باب المتجر المتخصص في بيع أنواع النبيذ المحلية والأجنبية. لكن كان الباب مغلقا.
تحدث إليه أحد المارة في الشارع وقال بحنق: «إنه يظل مغلقا حتى الثانية.» نزل بيدوتسي الدرج. وشعر بأنه قد أهين. تحدث قائلا: «لا يهم. يمكننا إحضاره من متجر كونكورديا.»
سار ثلاثتهم جنبا إلى جنب على الطريق المؤدي إلى متجر كونكورديا. في المدخل المسقوف لمتجر كونكورديا، حيث تكدست الزلاجات الجماعية الصدئة، سأله الشاب بالألمانية: «ماذا تريد؟» أعطاه ورقة العشر ليرات وقد طواها مرة بعد المرة. أجاب قائلا: «لا شيء، أي شيء.» كان يشعر بالإحراج. «ربما نبيذ المارسالا. لا أدري. المارسالا؟»
أغلق باب متجر كونكورديا على الشاب والزوجة. تحدث الشاب إلى الفتاة الواقفة خلف نضد المعجنات قائلا: «ثلاث كئوس من نبيذ المارسالا.» سألته قائلة: «تعني اثنتين؟» أجابها: «كلا. الثالث لعذول.» قالت: «أوه، عذول!» وضحكت وهي تنزل الزجاجة. صبت ثلاث كئوس من مشروب عكر له لون الوحل. كانت الزوجة تجلس على طاولة تحت صف الجرائد المعروضة على أرفف. وضع الشاب الكأس أمامها وقال: «ربما يجدر بك أن تشربيها. ربما تشعرك بتحسن.» جلست وراحت تنظر إلى الكأس. خرج الشاب من الباب بكأس لبيدوتسي لكنه لم يره.
قال وقد عاد إلى غرفة المعجنات حاملا الكأس: «لا أعرف أين ذهب.»
قالت الزوجة: «لقد كان يريد ربع لتر منه.»
سأل السيد الشاب الفتاة: «ما سعر ربع اللتر منه؟» «من النبيذ الأبيض؟ ليرة واحدة.»
تحدث إليها قائلا: «كلا، من المارسالا. ضعي هاتين الكأسين أيضا مع تلك الكمية.» وأعطاها كأسه وكأس بيدوتسي. ملأت مكيال ربع اللتر من النبيذ باستخدام قمع. قال السيد الشاب: «وأريد أيضا زجاجة لكي يوضع كل هذا فيها.»
ذهبت للبحث عن زجاجة. كان الأمر كله مسليا لها.
تحدث قائلا: «أنا آسف لأنك تشعرين بهذا البؤس يا تايني. آسف لأنني تحدثت إليك بهذه الطريقة على الغداء. لقد كان كلانا يشير إلى الأمر نفسه لكن من زاوية مختلفة.»
قالت: «لا يهم. لا شيء في الأمر يهم على الإطلاق.»
سألها: «أتشعرين بالبرد الشديد؟ ليتك ارتديت سترة إضافية.» «إنني أرتدي ثلاث سترات.»
أتت الفتاة بزجاجة بنية رفيعة للغاية وصبت المارسالا بداخلها. دفع السيد الشاب خمس ليرات إضافية. خرجا من الباب. كانت الفتاة مستمتعة. كان بيدوتسي يسير ذهابا وإيابا على الطرف الآخر من الطريق بعيدا عن الرياح حاملا الصنارتين.
تحدث قائلا: «هيا بنا. سأحمل الصنارتين. ما أهمية أن يراهما أي شخص؟ لن يضايقنا أحد. لن يضايقني أحد في كورتينا. إنني أعرفهم في المجلس المحلي. لقد كنت جنديا. جميع من في هذه المدينة يحبونني. إنني أبيع الضفادع. ماذا سيحدث إذا كان صيد الأسماك ممنوعا؟ لا شيء. لا شيء على الإطلاق. لا مشكلة. هناك أسماك كبيرة من السلمون المرقط، أؤكد لكما. هناك الكثير منها.»
كانوا يسيرون هابطين التل باتجاه النهر. كانت المدينة خلفهم. اختفت الشمس بين الغيوم وتناثر رذاذ المطر. تحدث بيدوتسي مشيرا إلى فتاة تقف بعتبة منزل مروا به قائلا: «انظرا، إنها ابنتي.»
قالت الزوجة: «طبيبه؟ أعليه أن يرينا طبيبه؟»
قال الشاب: «لقد قال ابنته.»
دخلت الفتاة إلى المنزل كما أشار إليها بيدوتسي .
ساروا هابطين من التل إزاء الحقول ثم استداروا ليتبعوا ضفة النهر. كان بيدوتسي يتحدث بسرعة، مع الكثير من الغمز بالعين وإبراز درايته بما يفعل. وبينما كان ثلاثتهم يسيرون جنبا إلى جنب، اشتمت الزوجة رائحة نفسه ذات مرة مع الريح. ومرة، نكزها هو في الضلوع. وكان يتحدث أحيانا بلهجة دامبيزو الإيطالية، وأحيانا أخرى بلهجة تايرولر الألمانية. لم يستطع أن يحدد أيهما يستطيع فهمه على النحو الأفضل؛ السيد الشاب أو زوجته؛ لذا كان يتحدث باللغتين. لكن حين قال الشاب: «أجل، أجل.» بالألمانية، قرر بيدوتسي أن يكون حديثه كله بلهجة تايرولر، لكن الشاب والزوجة لم يفهما شيئا. «لقد رآنا جميع من في المدينة ونحن نسير بهاتين الصنارتين. إن شرطة الصيد تتبعنا الآن على الأرجح. أتمنى لو أننا لم نقم بهذا الأمر اللعين. وهذا الأحمق العجوز اللعين سكران للغاية أيضا.»
قالت الزوجة: «وأنت طبعا لا تملك الشجاعة للتراجع. إن عليك بالطبع أن تواصل المسير.» «لم لا تعودين؟ هيا عودي يا تايني.» «سأبقى معك. إذا كان عليك أن تذهب للسجن، فيجب أن أذهب معك أيضا.»
أخذوا منعطفا حادا باتجاه الضفة، ووقف بيدوتسي ومعطفه يتطاير بسبب الريح، يشير إلى النهر الذي كان بنيا وموحلا. وفي الخارج إلى اليمين، كانت هناك كومة من القمامة.
قال السيد الشاب: «حدثني بالإيطالية.» «أون ميتسورا. بيو دون ميتسورا.» «يقول إن أمامنا نصف الساعة على الأقل. هيا، عودي يا تايني. إنك تشعرين بالبرد في هذه الرياح على أية حال. إنه يوم سيئ ولن نحصل على أي متعة، على أية حال.»
قالت: «حسنا.» وتسلقت صاعدة الضفة المعشوشبة.
كان بيدوتسي بالأسفل عند النهر ولم يلاحظها إلا بعد أن كادت تختفي عن الأنظار على القمة. صاح مناديا: «فراو! فراو! فرولاين! لا تذهبي.»
وصلت إلى قمة التل.
قال بيدوتسي: «لقد ذهبت!» صدمه الأمر.
نزع الأشرطة المطاطية التي كانت تمسك بأجزاء الصنارة معا وبدأ في تجميع أجزاء إحدى الصنارتين. «لكنك قلت أمامنا نصف الساعة.» «أوه، أجل. المكان جيد على مسافة نصف الساعة من السير. وهنا المكان جيد أيضا.» «حقا؟» «بالتأكيد. هنا جيد، وهناك جيد أيضا.»
جلس السيد الشاب على الضفة وراح يركب إحدى الصنارتين، فوضع البكرة، وأدخل الخيط في الحلقات. كان يشعر بعدم الارتياح، وكان يخشى أن يمر بهما حارس صيد في أي لحظة، أو أن يأتي من المدينة إلى الضفة مجموعة من معاوني الشرطة من المدنيين. كان يستطيع رؤية منازل المدينة وبرج الجرس على حافة التل. فتح صندوق أوتار الطعم الخاص به. انحنى بيدوتسي وأدخل فيه إبهامه المستوي الصلب وسبابته أيضا وشبك وتري الطعم المبللين. «ألديك بعض الرصاص؟» «كلا.» «لا بد أن يكون معك رصاص.» كان بيدوتسي منفعلا. «لا بد أن يكون معك بيومبو (رصاص). بيومبو. قطعة بيومبو صغيرة. إنها ستوضع هنا. هنا فوق الخطاف وإلا فسوف يطفو الطعم على المياه. لا بد أن تكون معك. فقط قطعة بيومبو صغيرة.» «ألديك منه؟» «كلا.» راح يفتش في جيوبه بيأس، ويغربل القماش المتسخ في بطانات جيوب معطفه العسكري الداخلية. «ليس معي أي منه. لا بد أن يكون معنا بيومبو.»
تحدث السيد الشاب قائلا: «لن نستطيع الصيد إذن.» وراح يفك أجزاء الصنارة، فلف الخيط ثانية على البكرة عبر الحلقات. «سنحضر بعض البيومبو ونصطاد غدا.» «لكن أصغ إلي كارو [وتعني بالإيطالية، يا عزيزي]، لا بد أن يكون معك بيومبو. سيطفو الخيط مستويا على المياه.» كان يوم بيدوتسي ينهار أمام عينيه. «لا بد أن يكون معك بيومبو. القليل منه فقط يكفي. أدواتك كلها نظيفة وجديدة لكن ليس معك رصاص. كنت سأحضر بعضا منه، لكنك قلت إن لديك كل شيء.»
نظر الشاب إلى الجدول وقد تغير لونه بفعل الثلج الذائب. تحدث قائلا: «أعرف. سنحضر بعض البيومبو ونصطاد غدا.» «في أي ساعة من الصباح؟ أخبرني.» «في السابعة.»
أشرقت الشمس. كانت دافئة ولطيفة. شعر الشاب بالارتياح. ما عاد الآن خارجا على القانون. أخرج زجاجة المارسالا من جيبه وهو جالس على الضفة ومررها إلى بيدوتسي. مررها بيدوتسي إليه مجددا. أخذ الشاب رشفة منها ومررها إلى بيدوتسي مجددا. مررها بيدوتسي مجددا إليه. تحدث قائلا: «اشرب، اشرب . إنها المارسالا الخاصة بك.» وبعد رشفة أخرى قصيرة، مرر الشاب الزجاجة إليه. كان بيدوتسي يراقبها عن كثب. أخذ الزجاجة بسرعة كبيرة وأمالها. الشعر الرمادي الموجود على ثنايا رقبته، راح يهتز بينما كان يشرب، وركزت عيناه على نهاية الزجاجة البنية الضيقة. لقد شربها بأكملها. سطعت الشمس بينما كان يشرب. كانت رائعة. لقد كان يوما جيدا برغم كل شيء. لقد كان يوما رائعا بالفعل. «اسمع كارو! في السابعة صباحا.» كان قد نادى الشاب ب «كارو» عدة مرات ولم يحدث شيء. لقد كان نبيذ مارسالا جيدا. التمعت عيناه. أيام كهذا اليوم كانت بانتظاره. كان سيبدأ أحدها في السابعة صباح الغد.
بدآ في صعود التل باتجاه المدينة. وكانت خطوات الشاب أسبق. كان قد وصل إلى مكان عال من التل. نادى عليه بيدوتسي. «اسمع كارو! أيمكن أن تتكرم وتعطيني خمس ليرات؟»
سأله الشاب مقطبا: «لقاء رحلة اليوم؟» «كلا، ليس عن اليوم. أعطها لي اليوم لقاء رحلة الغد. سوف أحضر كل شيء غدا. [ثم أضاف بالإيطالية] خبز وشرائح سلامي وجبن؛ سأحضر أشياء جيدة لنا جميعا؛ لك ولي ولزوجتك. سأحضر طعما للصيد، سمك المنوة، وليس ديدانا فحسب. وربما أتمكن من إحضار بعض من المارسالا أيضا. كل ذلك مقابل خمس ليرات. خمس ليرات مقابل خدمة كهذه.»
فتش الشاب في محفظته وأخرج ورقة نقدية من فئة الليرتين وورقتين، كل منهما من فئة الليرة الواحدة.
تحدث بيدوتسي قائلا: «شكرا لك كارو. شكرا لك.» قالها بنبرة أحد أعضاء نادي كارلتون وهو يتلقى جريدة «ذا مورنينج بوست» من عضو آخر. هذا هو العيش. انتهى من أمر حديقة الفندق، فقد كسر السماد العضوي المتجمد بشوكة الروث. كانت الحياة تتفتح أمامه.
تحدث قائلا: «إلى السابعة صباحا إذن كارو.» وربت على ظهر الشاب ثم تابع قائلا: «في السابعة تماما.»
قال الشاب وهو يضع المحفظة في جيبه ثانية: «من المحتمل ألا آتي.»
قال بيدوتسي: «ماذا؟ سوف أحضر سمك المنوة يا سيدي. وشرائح السلامي وكل شيء؛ لي ولك ولزوجتك أيضا. لنا نحن الثلاثة.»
قال الشاب: «قد لا آتي. من المرجح جدا ألا آتي. سوف أترك لك خبرا مع مالك الفندق في مكتبه.»
الفصل الثاني عشر
لو حدث ذلك أمامك وعلى مقربة شديدة منك، لاستطعت أن ترى فيلالتا يزمجر في وجه الثور ويلعنه، وحين هجم الثور وثب إلى الوراء بثبات مثلما تفعل شجرة بلوط حين تهب عليها الرياح؛ ساقاه مضمومتان معا، والقماش الأحمر يجرجر على الأرض والسيف يتبع المنحنى الذي يخلفه. بعد ذلك، سب الثور وحرك القماش أمامه، ثم وثب متفاديا الهجمة ورجلاه ثابتتان، وراح القماش ينحني ومع كل وثبة كان الجمهور يزأر.
حين بدأ في قتله، كان ذلك بالسرعة نفسها. راح الثور ينظر إليه مباشرة في عينيه بكراهية. سحب السيف من ثنايا القماش الأحمر ووجهه إليه بحركة واحدة ونادى على الثور: «تورو! تورو! [تعال، تعال أيها الثور]» وهاجم الثور وهاجم فيلالتا وللحظة واحدة صارا كيانا واحدا. أصبح فيلالتا كيانا واحدا مع الثور ثم انتهى الأمر. فيلالتا يقف منتصبا ومقبض السيف الأحمر يبرز بخفوت من بين كتفي الثور. فيلالتا يرفع يده إلى الجمهور والثور يزأر دما، وينظر مباشرة إلى فيلالتا بينما تستسلم ساقاه ويتهاوى.
تزلج عبر الريف
ارتجت عربة القطار المعلق مرة أخرى ثم توقفت. لم يمكنها المضي قدما؛ إذ كان الثلج قد تكوم بغزارة على السكة الحديدية. إن الرياح العاصفة التي تصقل السطح الظاهر من الجبل كانت قد جرفت سطح الثلج فتكونت على الثلج قشرة ثلجية صلبة. نك الذي كان يجهز زلاجتيه باستخدام الشمع في عربة الأمتعة، دفع فردتي حذائه في واقيتي الأصابع الحديدية وأغلق الإبزيم بإحكام. قفز من العربة بشكل جانبي على القشرة الثلجية الصلبة واستدار بقفزة، ثم جثا وانزلق بسرعة عبر المنحدر، وهو يجرجر عصوي التزلج خلفه.
على الثلج الأبيض في الأسفل، هبط جورج وارتفع حتى اختفى عن الأنظار. الاندفاع والانزلاق المفاجئ عند سقوطه في تموج منحدر على جانب الجبل، قد سلبا لب نك ولم يتركا له سوى ذلك الإحساس الرائع بالطيران والسقوط. ارتفع لكي يصعد قليلا ثم بدا أن الثلج ينزلق من تحته بينما راح يهبط باندفاع إلى الأسفل أكثر فأكثر، وأسرع فأسرع إلى المنحدر الطويل الشديد الانحدار الأخير. وبينما كان يجثو حتى كاد أن يصل إلى وضع الجلوس على زلاجتيه، محاولا الحفاظ على انخفاض مركز الجاذبية، وكان الثلج يتطاير كعاصفة رملية، كان يعرف أن الوتيرة التي كان يسير بها سريعة للغاية. غير أنه قد حافظ عليها. لم يستسلم ويسقط. ثم جاءت رقعة من الثلج الناعم كانت الرياح قد جمعتها في منخفض؛ فأسقطته وراح يتدحرج ويتدحرج مع اصطدام الزلاجتين بعضهما ببعض، وشعر حينها وكأنه أرنب جريح قد أطلق النار عليه، ثم علق في مكانه؛ فتصالبت ساقاه وبرزت زلاجتاه إلى الأعلى وامتلأت أذناه وأنفه بالثلج.
كان جورج يقف أبعد قليلا أسفل المنحدر ينفض الثلج عن معطفه الواقي من الرياح بضربات كبيرة من يده.
نادى نك قائلا: «لقد كنت رائعا يا مايك. ذلك ثلج ناعم لعين. لقد نال مني بالطريقة نفسها.» «كيف حال التزلج على الوادي الضيق؟» ركل نك زلاجتيه إلى جانبيه وهو راقد على ظهره ونهض واقفا. «عليك أن تبقى على اليسار. إن الهبوط سريع ورائع مع ضرورة اتخاذ وضعية كريستي في القاع بسبب وجود سياج.» «انتظر لحظة ولنقم بها معا.» «كلا، فلتبدأ أنت أولا. أرغب في رؤيتك وأنت تتزلج على الوديان الضيقة.»
تقدم نك آدمز أمام جورج، وقد كان ظهره الضخم ورأسه الأشقر لا يزالان معفرين قليلا بالثلج، ثم بدأت زلاجتاه في الانزلاق على الحافة، وانزلق للأسفل وقد صدر عن حركته في مسحوق الثلج البلوري صفير، وبدا في صعوده وهبوطه على الوديان العميقة المتموجة وكأنه يطفو ويغرق. ظل نك على اليسار، وفي النهاية بينما راح يندفع نحو السياج وهو يبقي على ركبتيه مضمومتين عن قرب معا ويستدير بجسده وكأنه يثبت مسمارا ملولبا، أدار زلاجتيه بحدة إلى اليمين مثيرا سحابة من الثلج وراح يتباطأ إلى أن توقف تماما بمحاذاة جانب التل والسياج السلكي.
نظر إلى أعلى التل. كان جورج يهبط متخذا وضعية تلمارك جاثيا؛ فكانت إحدى ساقيه ممددة إلى الأمام ومحنية، وثنى الأخرى إلى الخلف بينما عصواه كانتا تتدليان كساقي حشرة رفيعتين وتركلان هبات من الثلج إذ تلمسان السطح، وأخيرا استدارت الهيئة الجاثية الزاحفة بأكملها في منحنى جميل إلى جهة اليمين، ساق تمتد إلى الأمام والأخرى إلى الخلف، الجسم كله يميل عكس اتجاه الحركة، العصوان تحددان المنحنى كنقاط من الضوء، كل ذلك في غيمة جامحة من الثلج.
تحدث جورج قائلا: «كنت خائفا من القيام بوضعية كريستي. كان الثلج عميقا للغاية. لقد قمت بحركة رائعة.»
قال نك: «لا أستطيع تنفيذ وضعية تلمارك بساقي.»
أخفض نك الجديلة العلوية من السياج بزلاجته، وانزلق جورج من فوقه. تبعه نك إلى الطريق. اندفعا محنيي الركب على الطريق المؤدي إلى غابة صنوبرية. أصبح الطريق جليدا مصقولا، ملطخا باللون البرتقالي واللون الأصفر الشبيه بلون التبغ بسبب الحيوانات التي تنقل جذوع الأشجار. حافظ المتزلجان على مسارهما على جانب الطريق الثلجي. كان الطريق ينحدر بحدة إلى جدول، ثم يمتد مباشرة إلى أعلى التل. عبر الأحراج، استطاعا أن يريا مبنى طويلا منخفض الأفاريز قد أبلاه الطقس. عبر الأشجار، بدا أصفر باهتا. ومن نقطة أقرب، بدت أطر النوافذ مطلية باللون الأخضر. كان الطلاء يتقشر. أرخى نك الأبازيم بإحدى عصوي التزلج وخلع الزلاجتين.
تحدث قائلا: «ربما من الأحرى أن نحملها لأعلى من هنا.»
تسلق الطريق المنحدر وهو يحمل الزلاجتين على كتفيه، ويضرب بمسامير كعبي حذائه في الممشى الجليدي. سمع جورج وهو يتنفس ويضرب بحذائه خلفه تماما. رصا الزلاجات على جانب النزل ونفضا الثلج عن سرواليهما، ودقا بحذاءيهما على الأرض لتنظيفهما، ودخلا.
في الداخل كان الجو معتما بعض الشيء. أضاءت في ركن الغرفة مدفأة كبيرة من البورسلين. كان السقف منخفضا. واصطفت على جانبي الغرفة مقاعد ملساء أمامها طاولات داكنة اللون ومبقعة بالنبيذ. كان هناك سويسريان يدخنان الغليون، وكان توجد زجاجتان من النبيذ الجديد العكر بجوار المدفأة. خلع الفتيان سترتيهما وجلسا أمام الحائط في الجانب الآخر من المدفأة. توقف صوت في الغرفة المجاورة عن الغناء، ودخلت من الباب فتاة ترتدي مئزرا أزرق لترى ما يرغبان في شربه.
قال نك : «زجاجة من نبيذ سيون.» ثم تابع: «أهذا يناسبك يا جيدج؟»
قال جورج: «بالتأكيد. إنك تعرف عن النبيذ أكثر مما أعرف. إنني أحب جميع أنواعه.»
خرجت الفتاة.
تحدث نك قائلا: «لا شيء يمكن أن يضاهي التزلج على الإطلاق، أليس كذلك؟ ذلك الشعور الذي يغمرك حين تنزلق في البداية على منحدر طويل.»
قال جورج: «أوه، إن الحديث يعجز عن وصف روعته.»
أحضرت الفتاة النبيذ، وقد واجها مشكلة مع الفلينة. فتحها نك أخيرا. خرجت الفتاة وسمعاها تغني بالألمانية في الغرفة المجاورة.
قال نك: «إن فتات الفلين الموجود بداخلها هذا لا يمثل مشكلة.» «أتساءل إن كان لديها أي كعك.» «فلنسأل ونر.»
دخلت الفتاة ولاحظ نك أن المئزر يخفي حملها ببراعة. قال في نفسه: لماذا لم ألاحظ هذا حين أتت أول مرة؟
سألها: «ماذا كنت تغنين؟» «مقطوعة أوبرالية، مقطوعة أوبرالية ألمانية.» لم تبد راغبة في مناقشة الموضوع. «لدينا بعض ستردل التفاح إن كنتما تريدانه.»
قال جورج: «إنها ليست ودودة، أليس كذلك؟» «حسنا، إنها لا تعرفنا وربما ظنت أننا سنسخر من غنائها. إنها من هناك حيث يتحدثون الألمانية على الأرجح وهي شديدة الحساسية لكونها هنا، ثم إن لديها ذلك الطفل الذي سيأتي وهي ليست متزوجة؛ لذا فهي شديدة الحساسية.» «ما يدريك أنها غير متزوجة؟» «إنها لا ترتدي خاتما. اللعنة! إن الفتيات في هذه الأنحاء لا يتزوجن إلا بعد أن يحملن.»
فتح الباب ودخلت منه مجموعة من قطاع الخشب من على الطريق، الذين راحوا يدقون بأحذيتهم على الأرض لتنظيفها، ودخلوا إلى الغرفة بوتيرة منتظمة سريعة. أتت النادلة بثلاثة لترات من النبيذ الجديد للمجموعة، وجلسوا هم على طاولتين يدخنون هادئين وقد خلعوا قبعاتهم، واستندوا إلى الخلف على الجدار أو إلى الأمام على الطاولة. وفي الخارج كانت الجياد في عربات الجليد الخشبية تصدر في بعض الأحيان صوت رنين أجراس حادا، حين كانت تهز رءوسها.
كان جورج ونك يشعران بالسعادة. كانا يحبان بعضهما. كانا يعلمان أن عليهما العودة إلى بلدهما.
سأل نك: «متى سيكون عليك العودة إلى المدرسة؟»
أجاب جورج : «الليلة. علي أن آخذ قطار العاشرة وأربعين دقيقة من مونترو.» «ليتك تستطيع البقاء حتى يتسنى لنا التزلج على جبل دنت دي ليس غدا.»
قال جورج: «علي أن أتلقى تعليمي. أوه، ألا تتمنى يا مايك لو أننا فقط نتسكع معا؟ نأخذ زلاجتينا ونركب القطار إلى حيث المكان المناسب للتزلج ثم نذهب ونقضي بعض الوقت في الحانات ونتزلج في أوبرلاند ومنطقة فاليه وأنحاء وادي إنجادين ولا نأخذ معنا في حقيبتي الظهر سوى عدة التصليح وبعض السترات وملابس النوم الإضافية ولا نعبأ بالمدرسة أو أي شيء غيرها.» «أجل، ونعبر الغابة السوداء بالطريقة نفسها. كم فيها من أماكن رائعة!» «لقد ذهبت إلى صيد الأسماك فيها بالصيف الماضي، أليس كذلك؟» «بلى.»
أكلا الستردل وشربا ما تبقى من النبيذ.
مال جورج بظهره على الحائط وأغمض عينيه.
تحدث قائلا: «النبيذ يجعلني أشعر بهذا دوما.»
سأل نك: «أهو شعور سيئ؟» «كلا، أنا بخير، لكنه شعور طريف.»
قال نك: «أعرف.»
قال جورج: «بالتأكيد.»
سأل نك: «أنحضر زجاجة أخرى؟»
قال جورج: «ليس لي.»
جلسا هناك، نك يميل بمرفقيه على الطاولة، وجورج يسترخي بظهره على الحائط.
قال نك وهو يتوجه بجسمه من الجدار إلى الطاولة: «أستنجب هيلين طفلا؟» «أجل.» «متى؟» «في أواخر الصيف القادم.» «هل أنت سعيد بهذا؟» «أجل. الآن.» «هل ستعودان إلى الولايات المتحدة؟» «أعتقد هذا.» «أترغب في ذلك؟» «كلا.» «أترغب هيلين في ذلك؟» «كلا.»
جلس جورج صامتا. نظر إلى الزجاجة الفارغة والكأسين الفارغتين.
تحدث قائلا: «إنها الجحيم، أليس كذلك؟»
قال نك: «كلا. ليس إلى هذه الدرجة.» «ولم لا؟»
قال نك: «لا أدري.»
قال جورج: «هل ستذهبان يوما للتزلج في الولايات المتحدة؟»
قال نك: «لا أدري.»
قال جورج: «الجبال ليست كثيرة.»
قال نك: «كلا. إنها صخرية بشدة. ويوجد بها الكثير من الأخشاب وهي بعيدة للغاية.»
قال جورج: «أجل، تلك هي الحال في كاليفورنيا.»
قال نك: «أجل، تلك هي الحال في كل مكان ذهبت إليه.»
قال جورج: «أجل، تلك هي الحال.»
نهض الرجلان السويسريان ودفعا حسابهما وغادرا المكان.
قال جورج: «أتمنى لو أننا كنا سويسريين.»
قال نك: «إن جميعهم مصابون بتضخم في الغدة الدرقية.»
قال جورج: «لا أصدق هذا.»
قال نك: «ولا أنا.»
ضحكا.
قال جورج: «ربما لن نذهب للتزلج معا مرة أخرى يا نك.»
قال نك: «لا بد أن نذهب. إن الأمر لا يستحق إذا لم تتزلج معي.»
قال جورج: «حسنا، سنذهب.»
صدق نك على كلامه قائلا: «لا بد لنا من ذلك.»
قال جورج: «أتمنى لو أننا نقطع وعدا على ذلك.»
نهض نك. زرر سترته الواقية من الرياح بإحكام. انحنى من فوق جورج ورفع عصوي التزلج من مكانهما على الحائط. غرس إحدى العصوين في الأرض.
تحدث قائلا: «ما من جدوى في قطع الوعود.»
فتحا الباب وخرجا. كان الجو شديد البرودة. أصبحت القشرة الثلجية صلبة للغاية. كان الطريق يمتد إلى أعلى التل ثم إلى أشجار الصنوبر.
أخذا الزلاجات من حيث كانت تستند على جدار النزل. ارتدى نك قفازيه. كان جورج قد بدأ التحرك صاعدا على الطريق بالفعل، واضعا زلاجتيه على كتفه. الآن، سيشرعان في رحلة التزلج إلى البيت معا.
الفصل الثالث عشر
سمعت صوت الطبول وهي تتقدم في الشارع، ثم جاء صوت النايات والمزامير ثم انعطفوا عند الزاوية، وهم جميعا يرقصون. امتلأ الشارع بهم. رآه مايرا ثم رأيته أنا. حين أوقفوا الموسيقى من أجل الراحة، جثا في الشارع معهم جميعا، وحين بدءوها مجددا قفز لأعلى وراح يرقص في الشارع معهم. بالتأكيد كان ثملا.
قال مايرا: الحق أنت به؛ فهو يكرهني.
لذا ذهبت ولحقت به وأمسكت به بينما كان جاثيا ينتظر انطلاق الموسيقى وقلت: هيا يا لويس. ويحك لديك جولة مصارعة ثيران هذا العصر. لم يستمع إلي، بل كان يتطلع بشدة لبدء الموسيقى.
قلت: لا تكن أحمق لعينا يا لويس. هيا لنعد أدراجنا إلى الفندق.
بعد ذلك بدأت الموسيقى مجددا وقفز هو إلى الأعلى والتف مبتعدا عني وبدأ في الرقص. أمسكت بذراعه لكنه أفلت مني وقال: دعني وشأني. أنت لست بأبي.
عدت إلى الفندق وكان مايرا ينظر من الشرفة كي يرى إذا كنت سأعيده أم لا. عاد إلى الداخل حين رآني، ونزل إلى الطابق السفلي وعلى وجهه علامات الاشمئزاز.
قلت: حسنا، ما هو إلا مكسيكي همجي جاهل على أية حال.
قال مايرا: أجل، ومن سيقتل ثيرانه بعد أن يطيحوا به؟
قلت: نحن على ما أعتقد.
قال مايرا: أجل، نحن. نحن من يقتل ثيران الهمج، وثيران السكيرين، وثيران راقصي رقصة ريو-ريو. أجل، نحن من يقتلها. نحن من يقتلها بالتأكيد. أجل. أجل. أجل.
أبي
حين أنظر إلى الأمر الآن، أعتقد أن أبي كان مقدرا له أن يصبح رجلا بدينا؛ واحدا من هؤلاء الرجال البدناء القصار المعتادين الذين تراهم دائما، لكنه لم يصبح كذلك قط إلا في فترة قصيرة في أواخر حياته، ثم إن ذلك لم يكن خطأه؛ فقد كان يقفز بالخيل فوق الحواجز فقط، وكان يستطيع أن يزداد وزنا في ذلك الوقت. إنني أتذكر كيف كان يرتدي قميصا مطاطيا فوق قميصين رياضيين وفوق ذلك كنزة ضخمة، ويأخذني كي أركض معه في شمس الضحى الحارة. كان يقوم أحيانا بجولة تجريبية بإحدى خيول راتسو في الصباح الباكر بعد العودة من تورينو في الرابعة صباحا، ثم يعود بها مسرعا إلى الإسطبلات في عربة أجرة، وبعدها حين يكون الندى قد غطى كل شيء، والشمس تبدأ لتوها في السطوع، كنت أساعده على خلع حذائه العالي الرقبة، ويرتدي هو حذاء رياضيا، وكل هذه الملابس، ثم ننطلق.
كان يقول وهو يقفز على أطراف أصابع قدميه إلى الأعلى والأسفل أمام غرفة تبديل الملابس الخاصة بفرسان السباق: «هيا يا فتى! لنتحرك.»
بعد ذلك، كنا نبدأ الجري ببطء حول الساحة الداخلية مرة تقريبا يكون هو فيها متقدما ويجري بسلاسة، ثم كنا نخرج من البوابة إلى أحد تلك الطرق التي تتفرع من سان سيرو التي تصطف فيها الأشجار على الجانبين. كنت أسبقه حين نصبح على الطريق، وكنت أتمكن من الجري جيدا وأنظر حولي فأراه يهرول بسلاسة خلفي تماما، وبعد برهة أخرى عندما أنظر مجددا يكون قد بدأ في التعرق. كان يتعرق بغزارة، غير أنه لم يكن يفتأ يثابر مثبتا عينيه على ظهري، لكن حين يراني أنظر إليه كان يبتسم ابتسامة عريضة ويقول: «هل أتعرق بغزارة؟» وحين كان أبي يبتسم هكذا، لم يكن بوسع أحد أن يفعل شيئا سوى أن يبتسم مثله. كنا نواصل الركض باتجاه الجبال ثم يصيح أبي: «جو! تعال!» وكنت أنظر خلفي فأراه يجلس تحت شجرة بمنشفة كان يحملها على خصره وقد لفها حينئذ على رقبته.
كنت أعود وأجلس إلى جانبه، وكان هو يخرج حبلا من جيبه ويبدأ في الوثب فوقه في الشمس بينما يسيل العرق على وجهه، وكان الحبل يثب في الغبار الأبيض بينما يطقطق: طق، طق، طق، وتزداد الشمس سخونة، ويزداد هو جدية في الوثب ذاهبا آيبا فوق رقعة من الطريق. لكم كان من الممتع أن أرى أبي وهو يثب فوق الحبل! كان يستطيع أن يدير الحبل بسرعة أو يثب فوقه ببطء ومهارة. يا إلهي، كان يجب أن ترى الإيطاليين وهم ينظرون إلينا أحيانا حين كانوا يمرون بنا؛ إذ يسيرون إلى المدينة إلى جانب ثيران بيضاء ضخمة تجر عرباتهم. لقد كانوا بالتأكيد ينظرون إلينا كما لو أن أبي كان مخبولا. كان يبدأ في الوثب بسرعة إلى أن يتوقفوا تماما ويشاهدوه، ثم يدفعون الثيران إلى الحركة بالصراخ فيها ونخزها بالمهاميز ويتحركون ثانية.
حين كنت أجلس أشاهده وهو يتمرن في الشمس الحارة، كنت أشعر بالتأكيد أنني شديد الولع به. لقد كان مرحا بلا شك، وكان يؤدي تمرينه بجد شديد وينهي بالوثب فوق الحبل بانتظام وسرعة مما يجعل العرق يجري على وجهه كالمياه، ثم يعلق الحبل على الشجرة ويأتي ليجلس بجواري ويميل مستندا على الشجرة، والكنزة والمنشفة ملفوفتان حول رقبته.
كان يقول: «لا شك أن الحفاظ على الوزن أمر صعب للغاية يا جو.» ثم يستند بظهره ثانية ويغمض عينيه ويأخذ أنفاسا طويلة وعميقة، ويتابع قائلا: «ليس الأمر كما كنت شابا.» كان ينهض بعد ذلك وقبل أن يبرد، كنا نجري عائدين إلى الإسطبلات. كانت تلك هي طريقته في الحفاظ على وزنه. كان قلقا طوال الوقت. معظم فرسان السباق يستطيعون أن يخسروا ما يريدونه من وزن بركوب الخيل. يخسر الفارس قرابة الكيلوجرام من وزنه في كل مرة يركب فيها الخيل، لكن أبي كان ضخما بعض الشيء ولم يكن بمقدوره أن يفقد ما يريده من وزن دون كل ذلك الركض.
أتذكر ذات مرة في سان سيرو أن ريجولي، وهو إيطالي شاب، الذي كان يعمل فارس سباق لحساب بوزوني قد خرج من ساحة تدريب الخيل قاصدا الحانة ليشرب شيئا باردا، وكان ينقر حذاءه بسوطه بعد أن وزن نفسه للتو، وكان أبي قد وزن نفسه للتو أيضا وخرج حاملا السرج تحت ذراعه، وقد بدا محمر الوجه ومتعبا، وأضخم من الملابس التي يرتديها، ووقف هناك ينظر إلى ريجولي الشاب وهو يقف على الباب الخارجي للحانة هادئا ونشيطا. تحدثت إليه قائلا: «ما الخطب يا أبي؟» ذلك أنني قد ظننت أن ريجولي ربما قد اصطدم به أو شيئا من هذا القبيل، لكنه لم يفعل شيئا سوى أن راح ينظر إلى ريجولي وقال: «أوه، اللعنة على ذلك.» وتوجه إلى غرفة تغيير الملابس.
حسنا، ربما كان سيصبح الأمر على ما يرام إن كنا قد أقمنا في ميلانو وشاركنا في سباقات الخيل في ميلانو وتورينو؛ ذلك أنه إذا كان هناك أية مضامير يسهل التسابق فيها، فهي في هذين المكانين. «تماما كالعزف على البيانولا يا جو.» كان هذا هو ما قاله أبي حين نزل عن فرسه في حجيرة الفوز بعد سباق الحواجز الذي رأى الإيطاليون أنه سباق رائع. سألته ذات مرة، فقال: «التسابق في هذا المضمار سهل للغاية. أهم ما في الأمر هو الوتيرة التي تسير بها، ذلك هو ما يجعل قفز الحواجز خطيرا يا جو. إننا لن نسير بأي وتيرة سريعة هنا، كما أن الحواجز ليست بالحواجز الخطيرة أيضا. غير أن الوتيرة هي ما يسبب المتاعب دوما، لا الحواجز.»
كان مضمار سان سيرو هو أروع مضمار رأيته، لكن أبي كان يقول إن حياتنا مملة للغاية؛ إذ كنا نتردد ذهابا وإيابا بين ميرافيوري وسان سيرو ونركب الخيل كل يوم تقريبا ونركب القطار كل ليلتين.
كنت مهووسا بالخيول أيضا. ثمة شيء مميز فيها حين تخرج وتتجه إلى مواقعها في المضمار. إنها تبدو رشيقة تتراقص بينما يمسك الفرسان بزمامها بإحكام أو ربما يرخونه قليلا ليسمحوا لها بالجري بعض الشيء وهي تتجه إلى مواقعها. وحين تصبح عند الحاجز، كان ذلك هو أكثر ما يأسرني. لا سيما في سان سيرو حيث الميدان الأخضر الكبير والجبال البعيدة وذلك الإيطالي البدين الذي يصدر إشارة البدء وهو يحمل سوطه الكبير والفرسان يتحركون بها قليلا، ثم ينفتح الحاجز ويدق الجرس، وتنطلق جميعها معا، ثم تبدأ في التباعد بعضها عن بعض. أنت تعرف كيف تنطلق مجموعة من الخيول. إذا كنت في منصة المتفرجين تراقب الأمر بمنظارك، فكل ما تراه هو اندفاعها بسرعة ثم ينطلق ذلك الجرس ويبدو الأمر كما لو أنه يدق لألف عام، ثم تستدير حول المنعطف. لم أر شيئا كهذا على الإطلاق.
غير أن أبي قال ذات يوم في غرفة تغيير الملابس بينما كان يرتدي ملابسه العادية: «ليست هذه بخيول يا جو. إن مثل هذه الأحصنة الهرمة كانت لتقتل في باريس لجلودها وحوافرها.» كان ذلك هو اليوم الذي فاز فيه بجائزة بريميو كوميرتشو إذ دفع بفرسته لانتورنا في آخر مائة متر إلى خارج الميدان مثلما تندفع الفلينة من الزجاجة.
بعد بريميو كوميرتشو مباشرة، توقفنا عن المشاركة في أي نشاط وغادرنا إيطاليا. كان أبي وهوربروك وإيطالي بدين، كان يرتدي قبعة من القش وظل يمسح وجهه بمنديل، يتجادلون في مقهى بالجاليريا. كانوا جميعا يتحدثون بالفرنسية، وكان الرجلان يريدان شيئا من أبي. وفي النهاية توقف أبي عن الكلام وجلس هناك ينظر إلى هولبروك، وظل الاثنان يحاصرانه بالكلام، يتكلم أحدهما أولا ثم يتكلم الآخر، وكان الإيطالي البدين يقاطع هولبروك دائما.
تحدث أبي قائلا: «هلا خرجت وابتعت لي نسخة من جريدة «ذا سبورتسمان» يا جو؟» وأعطاني عملتي سولدو دون أن يحول نظره عن هولبروك.
وهكذا خرجت من الجاليريا وسرت إلى أن وصلت أمام دار أوبرا سكالا وابتعت الجريدة، وعدت ووقفت بعيدا بعض الشيء؛ لأنني لم أشأ أن أقاطعهم. كان أبي يجلس مسندا ظهره في مقعده ينظر إلى قهوته في الأسفل ويعبث بملعقة، وكان هولبروك والإيطالي البدين واقفين، وكان الإيطالي البدين يمسح وجهه ويهز رأسه. دخلت وتصرف أبي وكأن الرجلين لا يقفان هناك وقال: «أتريد آيس كريم، يا جو؟» نظر هولبروك إلى أبي وقال ببطء وتمعن: «يا حقير!» وخرج هو والإيطالي البدين من بين الطاولات.
جلس أبي هناك وابتسم لي بعض الشيء، لكن وجهه كان شاحبا، وبدا سقيما للغاية، وكنت أنا خائفا وشعرت بالغثيان بداخلي؛ لأنني كنت أعرف أن شيئا ما قد حدث، ولم أتخيل أن أحدا قد يصف أبي بأنه حقير وينجو بفعلته. فتح أبي جريدة «ذا سبورتسمان»، وراح يقرأ عن سباقات الخيل لبعض الوقت ثم قال: «عليك أن تتحمل الكثير من الأمور في هذا العالم يا جو.» وبعد ذلك بثلاثة أيام، غادرنا ميلانو إلى الأبد في قطار تورينو المتجه إلى باريس، بعد إقامة مزاد أمام إسطبلات تيرنر بعنا فيه كل ما لم نستطع حمله في صندوق وحقيبة.
وصلنا إلى باريس في الصباح الباكر في محطة طويلة وقذرة، أخبرني أبي بأنها محطة ليون. كانت باريس مدينة كبيرة للغاية مقارنة بميلانو. في ميلانو، يبدو لك أن كل فرد يتجه إلى مكان ما وأن عربات الترام تذهب إلى وجهة ما، وليس هناك أي نوع من أنواع التخبط، أما باريس فتعمها الفوضى وهم لا ينهونها أبدا. غير أنني قد أحببتها، أحببت جزءا منها على أية حال؛ ذلك أن بها أفضل مضامير السباقات في العالم. يبدو أنها كانت هي ما يملأ المدينة بالحيوية والحركة، والشيء الوحيد الذي يمكنك أن تعول عليه هو أن الحافلات تسير كل يوم على خطها المقرر، مارة بكل الأماكن التي يجب أن تذهب إليها في مسارها. لم أتمكن قط من معرفة باريس جيدا؛ إذ إنني كنت آتي إليها من ميزون مع أبي تقريبا مرة في الأسبوع أو مرتين، وكان هو دائما يجلس على مقهى كافيه دي لا بيه على جانب الأوبرا مع مجموعة من أصدقائه من ميزون، وأعتقد أن تلك المنطقة من أكثر مناطق المدينة ازدحاما. بالرغم من ذلك، فلا بد لي من القول إنه من الغريب أن مدينة كبيرة مثل باريس لا يوجد بها مركز تجاري مثل الجاليريا، أليس كذلك؟
حسنا، لقد ذهبنا لنعيش في ميزون-لافيت، حيث كان يعيش جميع أصدقائنا ما عدا المجموعة التي كانت تعيش في شانتيي، وقد كنا نعيش مع امرأة تدعى السيدة مايرز وكانت تدير نزلا. تكاد تكون ميزون هي أروع مكان للعيش رأيته في حياتي. ليست المدينة بالشيء الكثير، لكن بها بحيرة وغابة رائعة كنا نتسكع فيها طوال اليوم، أنا وبعض الفتيان، وقد صنع لي أبي مقلاعا أصبنا به العديد من الأشياء، لكن أفضلها كان طائر عقعق. وفي أحد الأيام، أصاب به دك أتكينسون الصغير أرنبا ووضعناه تحت شجرة وكنا جميعا نجلس حوله، وكان لدى دك بعض السجائر، وفجأة قفز الأرنب وأسرع إلى الأجمات وطاردناه، لكننا لم نتمكن من العثور عليه. لكم حظينا بالمرح في ميزون. كانت السيدة مايرز تعطيني الغداء في الصباح وكنت أقضي طوال النهار خارج المنزل. تعلمت أن أتحدث الفرنسية بسرعة. إنها لغة سهلة.
فور أن وصلنا إلى ميزون، كتب أبي إلى ميلانو للحصول على رخصته، وظل يشعر بقلق بالغ إلى أن حصل عليها. كان يجلس مع مجموعة أصدقائه على مقهى كافيه دي باري في ميزون، وكان هناك الكثير من الرجال الذين تعرف إليهم حين كان يشترك في سباقات الخيل في باريس قبل الحرب، يعيشون في ميزون، وكان هناك الكثير من الوقت للجلوس؛ إذ إن عمل فارسي السباق في إسطبلات السباق ينتهي كله في التاسعة صباحا؛ فهم يأخذون المجموعة الأولى من الخيول لكي يعدوا بها في الخامسة والنصف صباحا، ثم يأخذون المجموعة الثانية في الثامنة صباحا. وهذا يعني الاستيقاظ في موعد مبكر للغاية والنوم مبكرا أيضا. وإذا كان أحد فارسي السباق يتسابق لحساب شخص آخر، فهو لا يستطيع الإسراف في شرب الخمر لأن المدرب يراقبه دوما إذا كان صغيرا، وإن لم يكن صغيرا، فعليه أن يراقب نفسه دوما؛ لذا فحين لا يكون لدى فارس السباق من عمل يؤديه يجلس في معظم الأحيان على مقهى كافيه دي باري مع أصدقائه، ويقضون معا نحو ساعتين أو ثلاث يحتسون مشروبا كنبيذ فيرموث مع ماء الصودا ويتحدثون ويقصون الحكايات ويلعبون البلياردو ويبدو الأمر وكأنهم في ناد أو في الجاليريا في ميلانو. غير أن ذلك لا يشبه الجاليريا حقا؛ لأن هناك الجميع يتجولون طوال الوقت، والجميع يجلسون حول الطاولات أيضا.
حسنا، حصل أبي على رخصته بالفعل. لقد أرسلوها إليه دون عناء، واشترك في بضعة سباقات. كان ذلك في مدينة أميان في شمال البلاد وما إلى ذلك، لكنه لم يحصل على عمل ثابت. كان الجميع يحبونه، وكنت كلما أتيت إلى المقهى في وقت الضحى وجدت شخصا يشاركه الشراب لأن أبي لم يكن صارما كمعظم فرسان السباق الذين جنوا أول دولار لهم من المشاركة في سباقات الفروسية في المعرض العالمي في سانت لويس في عام 1904. هذا ما كان أبي يقوله حين يمازح جورج بيرنز. بالرغم من ذلك، يبدو أن الجميع قد تجنبوا إشراك أبي في أي من السباقات.
كنا نذهب كل يوم بالسيارة من ميزون إلى حيث يذهبون، وقد كان ذلك هو الجانب الأكثر إمتاعا على الإطلاق. كنت سعيدا بعودة الخيول من دوفيل وكنت سعيدا بالصيف أيضا، بالرغم من أن ذلك كان يعني التوقف عن التسكع في الغابة؛ إذ إننا كنا سنركب إلى أونجن أو ترومبلي أو سان كلو ونشاهدها من منصة المدربين وفرسان السباق. لقد تعلمت الكثير عن سباقات الخيول بالفعل من الذهاب مع تلك المجموعة من الأصدقاء، وأمتع ما في الأمر أننا كنا نخرج كل يوم.
أتذكر إحدى المرات التي كنا فيها في سان كلو. كان سباقا كبيرا بقيمة مائتي ألف فرنك وسبع خيول كان المتوقع فوزه منها هو كزار. ذهبت إلى ساحات التدريب كي أرى الخيول مع أبي، وقد كانت خيولا لم ير مثلها. كان كزار هذا فرسا ضخما رائعا أصفر اللون وكان يبدو وكأنه قد ولد للسباق فحسب. لم أر فرسا مثله قط. كان يقاد فيما بين ساحات التدريب ورأسه للأسفل وحين مر بي اهتزت له روحي؛ إذ كان جميلا للغاية. لم يوجد من قبل فرس بهذه الروعة والرشاقة وتلك البنية المثالية للسباق. وقد سار في ساحة التدريب يخطو بقدميه بهدوء وحرص، ويتحرك بسلاسة كأنه يعرف ما عليه أن يفعله تماما؛ فلم يكن يتحرك باندفاع أو يقف على ساقيه بعينين جامحتين مثلما تفعل تلك الخيول الرديئة المحقونة بالمواد المخدرة. كان الجمهور غفيرا حتى إنني لم أتمكن من رؤيته ثانية فيما عدا سيقانه وهو يركض وأجزاء من جسده الأصفر. شق أبي طريقه من بين الحشد وتبعته إلى غرفة تغيير الملابس لفرسان السباق في الخلف بين الأشجار، وقد كان هناك حشد كبير أيضا، لكن الرجل الذي كان يرتدي قبعة مستديرة ويقف على الباب أومأ برأسه تحية إلى أبي وسمح لنا بالدخول، وكان الجميع هناك يرتدون ملابسهم ويدخلون القمصان من فوق رءوسهم ويرتدون الأحذية العالية الرقبة وكان الجو حارا وتنتشر فيه رائحة العرق وزيوت التدليك، وكان الجمهور يراقب ما يحدث.
سار أبي وجلس بجوار جورج جاردنر الذي كان يرتدي سرواله وقال: «ما النبأ يا جورج؟» قال ذلك بنبرة عادية تماما؛ إذ إنه ما من فائدة في ترقب الأجواء؛ فإما أن جورج يستطيع أن يخبره، وإما أنه لا يستطيع.
تحدث جورج بصوت خفيض للغاية وقد انحنى يزرر الجزء السفلي من سروال الركوب، وقال: «لن يفوز.»
تحدث أبي وهو يميل بالقرب منه كي لا يسمعه أحد وقال: «ومن سيفوز؟»
قال جورج: «كيركابن، وإذا فاز، فلتحتفظ لي ببعض التذاكر.»
قال أبي لجورج شيئا بصوته المعتاد، وقال جورج بنبرة تنم عن المزاح: «لا تراهن أبدا على أي شيء أخبرك به.» وانطلقنا إلى الخارج مرورا بالجمهور الذي كان يراقب ما يحدث واتجهنا إلى آلة تسجيل المراهنات من فئة 100 فرنك. غير أنني كنت أعرف أن شيئا كبيرا سيحدث إذ إن جورج هو الذي سيتسابق بكزار. توقف أبي في الطريق وحصل على واحدة من نشرات الرهان الصفراء التي كان مدونا فيها النسب الأولية للرهان وكان كزار بنسبة 5 إلى 10 فحسب، وكان يليه في ذلك سيفيسيدوت بنسبة 3 إلى 1، وكان الخامس في القائمة هو كيركابن بنسبة 8 إلى 1. راهن أبي بخمسة آلاف على فوز كيركابن وأضاف ألفا على الترتيب، وسرنا حول المدرج المسقوف من الخلف لكي نصعد الدرج ونتخذ مكانا لمشاهدة السباق.
كان المكان مكتظا للغاية، وفي البداية تقدم رجل يرتدي معطفا طويلا وقبعة رمادية عالية ويحمل سوطا مثنيا في يده، ثم خرجت الخيول واحدة بعد الأخرى وعلى ظهر كل منها فارس وصبي من صبيان الإسطبل على كل جانب من جانبيها يمسك بلجام كل منها ويسير معها، وهذه المجموعة بأكملها كانت تتبع الرجل العجوز. ظهر الحصان الأصفر الضخم كزار أولا. لم يكن يبدو ضخما جدا حين تنظر إليه في البداية حتى ترى طول سيقانه وبنيته بأكملها وكذلك الطريقة التي يتحرك بها. يا إلهي! لم أر حصانا مثله من قبل. كان جورج جاردنر يمتطيه، وراحا يتحركان ببطء خلف الرجل العجوز الذي كان يرتدي قبعة رمادية عالية ويسير وكأنه مدير حلبة في السيرك. خلف كزار الذي كان يسير الهوينا بصفرته في الشمس، كان هناك حصان أسود جيد البنية له رأس جميل يركبه تومي آرتشيبولد، وبعد الحصان الأسود كانت هناك مجموعة من خمس خيول تتحرك جميعها ببطء في تتابع وتمر بالمدرج المسقوف ومنطقة الوزن. قال أبي إن الحصان الأسود هو كيركابن فدققت النظر فيه، وقد كان جميلا بالفعل، لكنه لم يكن يقارن بكزار على الإطلاق.
هلل الجميع لكزار حين مر، وقد كان فرسا في غاية الروعة بكل تأكيد. سارت مجموعة الخيول حول المرج ثم عادت تقترب من نهاية مضمار السباق، وطلب رئيس السيرك من صبيان الإسطبل أن يتركوا الخيول واحدة بعد الأخرى كي تتمكن من العدو بجوار المدرج في طريقها لمكان الانطلاق ويتمكن الجميع من رؤيتها جيدا. لم يكد يمر أي وقت على الإطلاق بعد أن وصلت إلى مكان الانطلاق حتى دق الناقوس وكانت الخيول قد انطلقت من مواقعها، وكان يمكنك أن تراها بعيدا عبر المضمار تبدأ في الجري معا عند الدوران الأول كمجموعة من الخيول الخشبية الصغيرة. كنت أراقبها بالمنظار وكان كزار متأخرا بعض الشيء، بينما كان يتقدم السباق إحدى الخيول ذات اللون البني المحمر. راحت الخيول تندفع وتستدير وعادت وهي تدق الأرض دقا وكان كزار متأخرا للغاية حين مرت الخيول بنا، بينما كان كيركابن هذا في المقدمة يجري بسلاسة. يا إلهي! إنه لأمر مهيب حين تمر بك ثم يكون عليك أن تشاهدها وهي تبتعد وتغدو أصغر فأصغر ثم تتجمع عند المنعطفات ثم تستدير باتجاه آخر جزء مستقيم من المضمار وأنت تشعر أنك تريد أن تسب وتلعن وتزداد رغبتك في ذلك أكثر فأكثر. وأخيرا، عبرت المنعطف الأخير ووصلت إلى الجزء المستقيم وكان كيركابن يسبق بعيدا في المقدمة. بدا الجميع في هيئة غريبة وكانوا جميعا يرددون: «كزار» بشيء من الاستهجان، ثم اقتربت الخيول وهي تدق الأرض بالقرب من الجزء المستقيم الأخير، ثم برز شيء من بين المجموعة في منظاري، جزء من حصان أصفر الرأس وبدأ الجميع يصيحون: «كزار» وكأنهم مجانين. أتى كزار أسرع من أي شيء رأيته في حياتي، واقترب من كيركابن الذي كان يجري بأقصى سرعة قد يجري بها حصان أسود مع ضرب الفارس له بالمنخاس ضربا مبرحا، وقد كادا أن يكونا متحاذيين للحظة ثم بدا كزار وكأنه يجري بضعف السرعة بتلك القفزات الكبيرة وذلك الرأس المرفوع، لكن حين صارا ندين كانا قد عبرا خط النهاية وحين ظهرت الأرقام في أماكنها كان الحصان رقم 2 في المركز الأول مما كان يعني أن كيركابن قد فاز.
راح جسمي كله يرتجف وشعرت بشيء من الإعياء، ثم حشرنا جميعا مع الناس عند نزول الدرج للوقوف أمام اللوحة حيث كانوا سيعرضون ما حققه كيركابن. والحق أنني كنت قد نسيت في أثناء مشاهدة السباق ذلك المال الكثير الذي راهن به أبي على كيركابن. كنت أرغب بشدة في فوز كزار. أما الآن وقد انتهى كل شيء، فقد كان من الرائع أن أعرف أننا قد حظينا بالفائز.
قلت لأبي: «كان سباقا رائعا يا أبي، أليس كذلك؟»
نظر إلي بتعبير طريف بعض الشيء وقبعته المستديرة على ظهر رأسه، وقال: «جورج جاردنر فارس سباق رائع بالتأكيد. من المؤكد أن منع ذلك الحصان كزار من الفوز كان يستلزم فارسا بارعا.»
لقد كنت أعرف أن في الأمر شيئا غريبا طوال الوقت، لكن قول أبي لذلك صراحة بهذا اليقين قد سلب مني كل متعة ولم أشعر بتلك المتعة الحقيقية بعد ذلك قط، حتى حينما عرضوا الأرقام على اللوحة ورن الجرس ورأينا أن أرباح كيركابن كانت 67,50 لكل 10. كان جميع المحيطين يقولون: «مسكين كزار! مسكين كزار!» أما أنا فقد كنت أتمنى لو أنني كنت فارس سباق وسابقت بكزار بدلا من ذلك الحقير. وقد كان من الغريب أن أفكر في جورج جاردنر على أنه حقير؛ إذ إنني كنت أحبه، ثم إنه قد أخبرنا بالفائز، لكنني أعتقد أن تلك هي حقيقته على أية حال.
جنى أبي الكثير من المال من وراء ذلك السباق وصار يزور باريس كثيرا. حين كانوا يتسابقون في ترومبلي، كان يطلب منهم أن يوصلوه إلى باريس في طريق عودتهم إلى ميزون وكنا نجلس أنا وهو في الخارج على مقهى كافيه دي لا بيه ونشاهد الناس وهم يمرون. الجلوس هناك أمر مسل؛ فهناك تمر حشود من الناس ويأتي إليك أنواع شتى من الناس يحاولون أن يبيعوا لك بعض الأغراض، وقد كنت أحب الجلوس هناك مع أبي. كان ذلك هو أكثر وقت نستمتع فيه. كان يمر بنا رجال يبيعون أرانب مضحكة تقفز حين تضغط أنت على زر، وكانوا يأتون إلينا ويمازحهم أبي. كان أبي يتقن الفرنسية إتقانه للإنجليزية وكان جميع هؤلاء الرجال يعرفونه؛ فمن السهل دوما تمييز فارس السباق، ثم إننا كنا نجلس على الطاولة نفسها دوما، وقد اعتادوا على رؤيتنا هناك. كان هناك رجال يبيعون صحف الزواج وفتيات يبعن بيضا مطاطيا، كنت إذا ضغطت على الواحدة منها يخرج منها ديك، وكان هناك رجل هزيل جدا يبيع بطاقات بريدية لباريس ويعرضها على الجميع، ولم يكن أحد يشتري أيا منها بالطبع، ثم كان يعود ويريهم الجانب السفلي من البطاقات فيتضح أنها بطاقات بذيئة، وكان الكثير من الأشخاص يقبلون على شرائها.
يا إلهي! إنني أتذكر الأشخاص المرحين الذين كانوا يمرون بنا. كان هناك فتيات يأتين في وقت العشاء بحثا عن رجل يرافقهن ويدعوهن إلى الطعام، وكن يتحدثن إلى أبي الذي كان يمازحهن بالفرنسية وكن يربتن على رأسي ثم يمضين. وذات مرة، كانت هناك سيدة أمريكية تجلس مع ابنتها على الطاولة المجاورة لنا وتأكلان الآيس كريم، وقد ظللت أنظر إلى الفتاة وقد كانت رائعة الجمال وابتسمت إليها وابتسمت إلي لكن ذلك هو كل ما آل إليه الأمر؛ إذ إنني ظللت أترقبها هي وأمها كل يوم، وخططت لكي أتحدث إليها، ورحت أفكر فيما إذا كانت أمها ستسمح لي باصطحابها إلى أوتوي أو ترومبلي بعد أن أتعرف عليها، لكنني لم أر أيا منهما مجددا. حسنا، أعتقد أن الأمر ما كان ليفلح على أية حال؛ إذ إنني حين أفكر في الأمر الآن أتذكر أن الطريقة التي ظننت أنها الأفضل في الحديث إليها هي أن أقول لها: «اعذريني، لكن هل لي أن أقدم لك رهانا رابحا في أونجن اليوم؟» وبالرغم من كل شيء ربما كانت لتحسبني بائعا لتذاكر الرهان، فليس هناك من أحد يحاول حقا أن يقدم لها رهانا رابحا.
كنا نجلس في كافيه دي لا بيه، أنا وأبي، وكان لنا تأثير كبير على النادل؛ إذ كان أبي يشرب الويسكي الذي كان ثمن الكأس منه خمسة فرنكات مما كان يعني إكرامية جيدة عند حساب عدد الكئوس. كان أبي يشرب أكثر مما رأيته قبل ذلك على الإطلاق، لكنه لم يكن يمتطي خيولا على الإطلاق آنذاك، ثم إنه قال إن الويسكي يساعده على إنقاص وزنه. غير أنني قد لاحظت أن وزنه كان يزداد في حقيقة الأمر. كان قد ابتعد عن أصدقائه القدامى في ميزون، وبدا أنه يستمتع بالجلوس فحسب في الشارع معي. بالرغم من ذلك، فقد كان ينفق الكثير من المال في السباق كل يوم. كان يبدو عليه الحزن بعض الشيء بعد آخر سباق إذ كان قد خسر في ذلك اليوم، إلى أن نصل إلى طاولتنا ثم يتناول أول مشروب له من الويسكي ثم يصبح على ما يرام.
كان يقرأ جريدة «باري سبور» ثم ينظر إلي قائلا: «أين فتاتك يا جو؟» ليمازحني بشأن ما قلته له عن الفتاة التي كانت تجلس في ذلك اليوم على الطاولة المجاورة. وكان ذلك يجعل وجهي يحمر خجلا، لكنني كنت أحب أن يمازحني بشأنها. كان ذلك يمنحني شعورا جيدا. كان يقول: «استمر في البحث عنها يا جو؛ فهي سوف تعود.»
كان يسألني بعض الأسئلة عن بعض الأشياء، وكان يضحك لبعض الأشياء التي أخبره بها. بعد ذلك، كان يبدأ هو في الحديث. كان يتحدث عن ركوب الخيل في مصر أو في سان موريتس على الجليد قبل أن تفارق أمي الحياة، وعن وقت الحرب حين كانوا يعقدون سباقات منتظمة في جنوب فرنسا دون نقود ولا رهان ولا جمهور ولا أي شيء؛ للحفاظ على مستوى الخيول فحسب. وكان يتحدث عن سباقات منتظمة يرهق فيها فرسان السباق خيولهم بشدة. يا إلهي! كان يمكن أن أظل أستمع إلى أبي وهو يتحدث لساعات، لا سيما حين يكون قد تناول كأسين أو نحو ذلك من الويسكي. كان يخبرني عن طفولته في كنتاكي والذهاب لصيد الراكون، وعن الأيام الخوالي في الولايات المتحدة قبل أن يفسد كل شيء هناك. وكان يقول: «حين يصبح معنا مبلغ جيد من المال يا جو، ستعود إلى الولايات المتحدة وتتلقى تعليمك.»
وكنت أسأله: «ولماذا أعود إلى هناك لأتلقى التعليم إذا كان كل شيء فاسدا هناك؟»
وكان يجيب: «الأمر مختلف الآن.» ثم يدعو النادل كي يدفع ثمن ما تناوله من الويسكي، ثم نركب سيارة أجرة إلى محطة سان لازار ونركب القطار المتجه إلى ميزون.
ذات يوم في أوتوي بعد حضور سباق حواجز، ابتاع أبي الحصان الفائز مقابل 30 ألف فرنك. كان عليه أن يزايد قليلا للحصول عليه، لكن الإسطبل باعه له أخيرا وحصل أبي على رخصته واللباس الذي يمثل به في غضون أسبوع. كم كنت فخورا بأبي حين أصبح مالكا لحصان. رتب له أبي مكانا في الإسطبل الخاص بتشارلز دريك، وانقطع أبي عن زيارة باريس، وبدأ جريه وتعرقه مجددا، وكنت أنا وهو فريق الإسطبل بكامله. كان اسم حصاننا جيلفورد، وكان حصان قفز جميلا ورقيقا من سلالة أيرلندية. تولى أبي تدريبه بنفسه وركوبه بنفسه أيضا، معتقدا أن هذا كان استثمارا جيدا. كنت فخورا بكل شيء وكنت أرى أن جيلفورد على القدر نفسه من البراعة التي كان يتمتع بها كزار. كان حصانا جيدا بارعا في القفز، لونه بني محمر، يجري بسرعة على الأرض المنبسطة إذا طلبت منه ذلك، وقد كان جميل الشكل أيضا.
لكم كنت مولعا به! المرة الأولى التي سابق به فيها أبي، جاء في المرتبة الثالثة في سباق حواجز لمسافة 2500 متر، وحين نزل عنه أبي في مربط الخيل متعرقا وسعيدا، وذهب للوزن، كنت فخورا به كما لو أنه كان أول سباق يشترك فيه على الإطلاق. القضية أنه حين يتوقف رجل عن ركوب الخيل لفترة طويلة، فأنت لا تستطيع أن تصدق فعلا أنه قد ركبها من قبل. أصبح الأمر كله مختلفا الآن؛ إذ إنه في ميلانو، حتى السباقات الكبيرة لم يبد أنها كانت تشكل أي فرق لدى أبي؛ فلم يكن يتحمس على الإطلاق إذا فاز، أما الآن فالوضع مختلف حتى إنني لم أكن أخلد إلى النوم إلا قليلا في الليلة السابقة على السباق، وكنت أعرف أن أبي متحمس أيضا، حتى وإن لم يظهر ذلك. إن دخول السباق بنفسك وعلى حصان تملكه يشكل فرقا هائلا.
المرة الثانية التي سابق فيها أبي وجيلفورد، كان يوم أحد مطيرا في أوتوي، في سباق بري دي مارا، وهو سباق حواجز لمسافة 4500 متر. فور أن انطلق، سارعت إلى المدرج بمنظاري الجديد الذي اشتراه لي أبي كي أشاهدهما به. انطلقا من الطرف البعيد للمضمار، وقد كان هناك مشكلة عند الحاجز؛ فثمة فرس كان يرتدي الغمامة الواقية قد أحدث جلبة كبيرة وراح يشب فيما حوله، واصطدم بالحاجز مرة واحدة، غير أنني استطعت أن أرى أبي في سترته السوداء وصليب أبيض وقلنسوة سوداء يجلس بظهر منتصب على جيلفورد ويربت عليه بيده. بعد ذلك اندفعوا قافزين ثم اختفوا من مجال البصر خلف الأشجار وكان الناقوس يقرع بشدة وتقعقع نوافذ أكشاك الرهان وهي تغلق. يا إلهي! لكم أثارني ذلك، وكنت خائفا من النظر إلى الخيول، لكنني ثبت المنظار حيث كانت ستخرج من خلف الأشجار، وقد خرجت بعد ذلك وظهرت السترة السوداء القديمة في المرتبة الثالثة، وكانت تقفز جميعا فوق الحاجز وكأنها طيور. اختفت الخيول عن النظر ثانية بعد ذلك، ثم جاءت تدق الأرض وهي تنزل من المنحدر، وقد كانت تسير جميعها بسلاسة ونعومة، ثم اجتازت بسهولة السياج وأخذت تبتعد عنا وقد تكدست معا وكأنها وحدة واحدة. كانت تبدو وكأنك تستطيع السير على ظهورها؛ إذ كانت تسير متكتلة في مجموعة واحدة وبسلاسة شديدة. قفزت بعد ذلك الحاجز الضخم المزدوج وسقط شيء. لم أستطع أن أرى من سقط، لكن بعد لحظة واحدة نهض الفرس وراح يعدو حرا، أما البقية فقد كانت لا تزال متكتلة معا وراحت تستدير مع المنعطف الأيسر الطويل متجهة إلى المضمار المستقيم. قفزت الجدار الحجري ونزلت عنه متكدسة إلى المضمار باتجاه الحاجز المائي الكبير أمام المنصات. رأيتها تقترب وصحت إلى أبي وهو يمر، وقد كان يسبق بفرسه في المقدمة ويتقدم عن الباقين بمسافة تعادل طول حصان، وينطلق بخفة قرد وكان الجميع يتسابقون نحو الحاجز المائي. انطلقت الخيول فوق سياج الحاجز المائي الكبير معا، ثم حدث تصادم وابتعد اثنان من الخيول إلى الجانب واستمرا في العدو، وتكدست ثلاث خيول أخرى فوق بعضها. لم أتمكن من رؤية أبي في أي مكان. استندت إحدى الخيول على ركبتيها ونهضت بينما تمسك الفارس باللجام وركب عليها واندفع سعيا للفوز بمركز جيد. كان الحصان الآخر يقف بمفرده بعيدا وهو يهز رأسه بعنف ويعدو، بينما يتدلى منه زمام اللجام، وأخذ الفارس يترنح إلى أحد جانبي المضمار أمام السياج. بعد ذلك ، تدحرج جيلفورد إلى الجانب ونهض عن أبي وبدأ يجري على ثلاثة سيقان بينما كان حافره الأمامي المخلوع يتدلى، ورقد أبي هناك على العشب مستلقيا ووجهه إلى الأعلى والدم يغطي جانب رأسه. هبطت من المنصة جريا واصطدمت بمجموعة من الناس ووصلت إلى السور وأمسك بي شرطي، واتجه رجلان ضخمان من حاملي النقالات إلى أبي، وعلى الجانب الثاني من المضمار رأيت ثلاث خيول تفصل بينها مسافة كبيرة، تظهر من خلف الأشجار وتقفز من فوق الحاجز.
كان أبي ميتا حين أحضروه إلى الداخل، وبينما كان الطبيب يستمع إلى ضربات قلبه بشيء يضعه في أذنيه، سمعت صوت طلقة أتى من المضمار، وذلك كان يعني أنهم قد قتلوا جيلفورد. تمددت بجوار والدي حين حملوا النقالة إلى غرفة المستشفى، وتمسكت بالنقالة ورحت أبكي وأبكي، وكان هو يبدو شاحبا جدا ومغيبا وميتا بشكل بشع للغاية، ولم أستطع أن أقاوم شعوري بأنه ربما ما كان عليهم أن يطلقوا الرصاص على جيلفورد إذا كان أبي قد مات. ربما كان حافره سيتحسن. لا أدري. لقد كنت أحب أبي حبا جما.
بعد ذلك جاء رجلان وربت أحدهما على ظهري ثم ذهب وألقى نظرة على أبي، وسحب ملاءة من فوق السرير المتنقل وغطاه بها، بينما كان الآخر يتحدث في الهاتف بالفرنسية ليطلب سيارة إسعاف تنقله إلى ميزون. لم أستطع أن أتوقف عن البكاء؛ فقد أخذت أبكي، وأبكي، وأختنق بالبكاء بعض الشيء، ودخل جورج جاردنر وجلس بجانبي على الأرض ووضع ذراعه حولي وقال: «هيا يا جو. إنك فتى كبير. انهض وسوف نخرج وننتظر سيارة الإسعاف.»
خرجت أنا وجورج إلى البوابة وكنت أحاول التوقف عن النحيب، ومسح جورج وجهي بمنديله، ووقفنا إلى الخلف على مبعدة بعض الشيء بينما كان الجمهور يخرج من البوابة، وتوقف رجلان بالقرب منا ونحن ننتظر خروج الجمهور من البوابة وكان أحدهما يعد مجموعة من تذاكر المراهنة وقال: «حسنا، لقد نال بتلر ما يستحقه بالفعل.»
تحدث الرجل الآخر قائلا: «أنا لا يهمني على الإطلاق ما حدث لهذا النصاب. لقد جنى على نفسه بما كان يفعله.»
قال الرجل الآخر وهو يمزق مجموعة التذاكر إلى نصفين: «أعتقد أن ذلك صحيح.»
ونظر إلي جورج جاردنر ليرى إذا كنت قد سمعت هذا أم لا، وكنت قد سمعته بالفعل؛ فقال: «لا تستمع إلى هذين الأحمقين يا جو. لقد كان أبوك رجلا رائعا.»
لكنني لا أدري. يبدو أن هؤلاء عندما ينخرطون في الكلام عن أحد، لا يتركون شيئا فيه إلا ونالوا منه.
الفصل الرابع عشر
رقد ماييرا ساكنا ورأسه بين ذراعيه، ووجهه في الرمال. شعر بالدفء واللزوجة من النزيف. وكان يشعر بقرن الثور وهو يضربه في كل مرة. أحيانا كان الثور يضربه برأسه فقط. وذات مرة اخترقه القرن تماما وقد شعر به ينغرس في الرمال. أمسك أحدهم بالثور من ذيله. كانوا جميعا يسبونه ويلعنونه ويلوحون بالرداء الأحمر في وجهه حتى ابتعد. حمل بعض الرجال ماييرا وراحوا يجرون به باتجاه الحواجز وخرجوا به من البوابة عبر الممر المحيط بالمدرج المسقوف من الأسفل واتجهوا به إلى المستشفى. وضعوا ماييرا على سرير، وخرج أحد الرجال في طلب الطبيب، ووقف الآخرون في أماكنهم. أتى الطبيب جريا من الإسطبل حيث كان يخيط جروح خيول البيكادورات. اضطر إلى التوقف كي يغسل يديه. كان هناك صياح عظيم في المدرج المسقوف بالأعلى. شعر ماييرا بأن كل شيء يصبح أكبر فأكبر، ثم أصغر فأصغر. بعد ذلك، غدا كل شيء أكبر فأكبر، ثم أصغر فأصغر. بعد ذلك، بدأ كل شيء يجري أسرع فأسرع، مثلما يكون الحال حين يسرعون وتيرة شريط فيلم سينمائي. وبعد ذلك فارق الحياة.
نهر كبير ذو قلبين
الجزء الأول
مضى القطار على خط السكة الحديدية حتى توارى بعيدا عن مجال البصر، مستديرا حول أحد التلال التي احترقت أشجارها. جلس نك على حزمة قماش القنب والأغطية التي ألقاها عامل الأمتعة من باب عربة الأمتعة. كانت البلدة قد اختفت كل معالمها، ولم يتبق منها سوى السكة الحديدية والريف المحترق. الحانات الثلاث عشرة التي كانت تصطف على الشارع الوحيد في سيني لم يتبق لها أثر. وبرزت أساسات فندق مانشن هاوس من فوق الأرض. كانت الحجارة قد تكسرت وتشققت بفعل النيران. كان ذلك هو كل ما تبقى من بلدة سيني. وحتى سطح الأرض كان محترقا.
تطلع نك إلى الطريق المحترق على جانب التل حيث كان يتوقع أن يرى منازل البلدة المتناثرة، ثم سار على قضبان السكة الحديدية إلى الجسر الذي يمر فوق النهر. كان النهر هناك. وقد كانت تتشكل دوامات حول دعائم الجسر المصنوعة من جذوع الأشجار. نظر نك في المياه الصافية التي انعكس عليها لون القاع البني المغطى بالحصى، وشاهد أسماك السلمون المرقطة تحافظ على ثباتها في التيار بخفقان زعانفها. وبينما كان يشاهدها، راحت تغير مواقعها بزوايا سريعة وقد كان ذلك لكي تحافظ على ثباتها في المياه السريعة من جديد. أخذ نك يراقبها لفترة طويلة.
راقبها وهي تحافظ على ثباتها وأنوفها في التيار، ورأى الكثير منها في المياه العميقة سريعة الحركة، وقد بدت مشوهة بعض الشيء؛ إذ كان ينظر بعيدا إلى القاع عبر السطح البلوري المحدب للمياه، السطح الذي راح يندفع وينتفخ بسلاسة في وجه أكوام الجذوع الخاصة بالجسر. في قاع النهر، كانت هناك أسماك السلمون المرقطة الكبيرة. لم يرها نك في البداية. رآها بعد ذلك في قاع النهر، أسماك كبيرة تحافظ على ثباتها على القاع الحصوي في غشاوة متحركة من الرمال والحصى، يثيرها التيار على دفقات متقطعة.
نظر نك إلى النهر في الأسفل من فوق الجسر. كان يوما حارا. طار أحد طيور الرفراف أعلى التيار. مضى وقت طويل منذ أن نظر نك إلى مجرى نهر ورأى أسماك السلمون المرقطة. كانت رؤيتها تمنحه شعورا كبيرا بالرضا. وبينما راح ظل طائر الرفراف يتحرك أعلى النهر، اندفعت سمكة سلمون كبيرة إلى أعلى التيار في زاوية طويلة، ولم يكن سوى ظلها هو الذي يحدد الزاوية، ثم تلاشى ظلها حين وصلت إلى سطح المياه وسقطت عليها الشمس، وحين عادت إلى التيار تحت السطح، بدا أن ظلها يطفو في النهر مع التيار، واتجهت دون مقاومة لموقعها تحت الجسر حيث صمدت في مواجهة التيار.
خفق قلب نك حين تحركت سمكة السلمون. عاوده ذلك الشعور القديم كاملا.
التفت ونظر إلى مجرى النهر. كان يمتد بعيدا، يغطي قاعه الحصى وبه مناطق من المياه الضحلة وجلاميد صخرية كبيرة، وحوض عميق حيث كان ينعطف حول سفح جرف.
سار نك عائدا إلى عوارض الربط حيث كانت حقيبته ترقد بين الرماد بجوار قضبان السكة الحديدية. كان سعيدا. عدل وضع أحزمة الحقيبة حول حزمة الأمتعة، وأحكم شد الأربطة، وعلق الحقيبة على ظهره ثم مرر ذراعيه عبر حزامي الكتفين وخفف من عبء الحمل على كتفيه بعض الشيء بأن مال بجبينه للأمام وشد الحزام العريض للحقيبة إلى رأسه. بالرغم من ذلك، كانت لا تزال ثقيلة. كانت ثقيلة للغاية. كان يمسك بحقيبة الصنارة الجلدية في يده ويميل إلى الأمام كي يظل حمل الحقيبة على أعلى كتفيه، وسار على الطريق الموازي لقضبان السكة الحديدية مخلفا وراءه المدينة المحترقة في الحر، ثم انعطف حول تل، على جانبيه تلان عاليان قد شوهتهما النيران، متجها إلى طريق كان يؤدي إلى الريف. سار على الطريق وهو يشعر بالألم من حمل الحقيبة الثقيلة. كان الطريق يتجه إلى أعلى بوتيرة ثابتة. كان صعود التل شاقا. كانت عضلاته تؤلمه وكان اليوم حارا، لكن نك كان سعيدا. شعر بأنه قد ترك كل شيء خلفه؛ الحاجة إلى التفكير، والحاجة إلى الكتابة، واحتياجات أخرى. كلها كانت خلفه.
منذ أن نزل من القطار وألقى عامل الأمتعة حقيبته من باب العربة المفتوح، اختلفت الأمور. كانت سيني محترقة والريف قد احترق وتغير، لكن ذلك لم يكن مهما. لا يمكن أن يكون قد احترق كل شيء. كان يعرف ذلك. راح يسير على الطريق وهو يتعرق في الشمس ويتسلق كي يعبر سلسلة التلال التي كانت تفصل السكة الحديدية عن سهول الصنوبر.
امتد الطريق، منخفضا في بعض الأحيان، لكنه كان صاعدا إلى أعلى على وجه العموم. استمر نك في الصعود. وأخيرا بلغ الطريق قمته بعد أن ظل موازيا لجانب التل المحترق. استند نك بظهره على أرومة وحرر نفسه من أحزمة الحقيبة. أمامه على المسافة التي يستطيع أن يصلها ببصره، كان سهل الصنوبر. انتهى الريف المحترق على اليسار عند سلسلة التلال. وفي الأمام برزت من السهل جزر من أشجار الصنوبر الداكنة. وبعيدا على اليسار كان هناك خط النهر. تبعه نك بعينيه ورأى المياه تومض في الشمس.
لم يكن أمامه سوى سهل الصنوبر، وصولا إلى التلال البعيدة الزرقاء التي كانت تحدد حدود بحيرة سوبيريور. لم يكن يراها إلا بالكاد؛ إذ كانت باهتة وبعيدة للغاية في ضوء الشمس الحارة فوق السهل. إذا ظل ينظر إليها بثبات، كانت تختفي. أما إذا أغلق عينيه بعض الشيء، كان يراها؛ تلك التلال البعيدة التي كانت تحدد حدود البحيرة.
جلس نك مستندا على الأرومة المتفحمة وراح يدخن سيجارة. كانت حقيبته متزنة على قمة الأرومة وكانت أحزمتها مربوطة وقد تشكلت فيها فجوة من ظهر نك. جلس نك يدخن متطلعا ببصره إلى الريف. لم يكن يحتاج إلى إخراج خريطته. كان يعرف موقعه من موقع النهر.
بينما كان يدخن، مادا ساقيه أمامه، رأى جندبا يسير على الأرض ثم على جوربه الصوفي. كان الجندب أسود اللون. بينما كان نك يسير على الطريق، أفزع من التراب العديد من الجنادب. كانت كلها سوداء. لم تكن بالجنادب الكبيرة ذات الأجنحة التي يجتمع فيها اللونان الأصفر والأسود أو الأحمر والأسود والتي تحدث أغمدة أجنحتها السوداء طنينا عند طيرانها. كانت جنادب عادية فحسب، غير أنها كانت جميعها سوداء بلون السخام. جالت بخاطر نك بينما كان يسير، لكنه لم يفكر بشأنها في حقيقة الأمر. والآن، بينما راح يشاهد الجندب الأسود الذي كان يعضض صوف جوربه بشفته الرباعية، أدرك أنها قد تحولت جميعا إلى اللون الأسود من العيش في الأرض المحترقة. أدرك أن الحريق قد حدث في العام السابق بالتأكيد، لكن الجنادب قد أصبحت كلها سوداء اللون الآن. تساءل في نفسه كم من الوقت ستظل على تلك الحال.
مد يده إلى الأسفل بحرص وأمسك بالجندب من جناحيه. قلبه على ظهره حيث أصبحت أرجله تتحرك في الهواء، ونظر إلى بطنه المفصلي. أجل، لقد كانت سوداء اللون هي أيضا، ومتقزحة بينما كان ظهره ورأسه مغبرين بالتراب.
تحدث نك بصوت عال للمرة الأولى قائلا: «هيا أيها الجندب، طر بعيدا.»
ألقى الجندب إلى الهواء وشاهده وهو يطير بعيدا إلى أرومة متفحمة على الجانب الآخر من الطريق.
وقف نك. أسند ظهره إلى حقيبته التي استقرت في وضع عمودي على الأرومة وأدخل ذراعيه عبر أحزمة الكتفين. وقف وحقيبته على ظهره أعلى التل وراح يتطلع إلى الريف باتجاه النهر البعيد، ثم هبط على جانب التل بعيدا عن الطريق. تحت السفح، كان الطريق مناسبا للسير. على بعد مائتي ياردة من سفح التل، توقف خط الحريق. وامتد بعده السرخس الحلو في ارتفاع الكاهل، وكان السير خلاله سهلا، كما امتدت كتل من أشجار صنوبر جاك؛ ريف طويل متموج به العديد من المرتفعات والمنخفضات، والأرضية الرملية الممتدة، وقد عاد الريف حيا من جديد.
حافظ نك على اتجاه سيره مع اتجاه الشمس. كان يعرف الموقع الذي يريد أن يصل فيه إلى النهر وواصل السير عبر سهل الصنوبر، صاعدا مرتفعات صغيرة ليرى مرتفعات أخرى لا تزال أمامه، وأحيانا كانت تبدو من فوق أحد المرتفعات جزيرة كبيرة مصمتة من أشجار الصنوبر إلى يمينه أو يساره. كسر بعض أعواد السرخس الحلو المرقط ووضعها تحت أحزمة حقيبته. سحقها الاحتكاك واشتم رائحتها وهو يسير.
كان مرهقا ومحترا للغاية من السير على سهل الصنوبر غير المستوي المنعدم الظلال. كان يعرف أنه يستطيع أن يصل إلى النهر في أي لحظة بالانعطاف إلى يساره. لم تكن المسافة لتزيد عن ميل. غير أنه قد واصل السير باتجاه الشمال ليصل إلى أقرب نقطة من منبع النهر يستطيع أن يبلغها في مسيرة يوم واحد.
بعد مرور بعض الوقت وبينما كان نك يسير، رأى إحدى الجزر الصنوبرية الكبيرة التي تبرز فوق الأرض العالية المتموجة التي كان يعبرها. سار مع الأرض المنخفضة ثم صعد على مهل إلى قمة الجسر وانعطف نحو أشجار الصنوبر.
لم يكن هناك نباتات تحت شجرية في جزيرة أشجار الصنوبر. كانت جذوع الأشجار تمتد مستقيمة إلى الأعلى أو يميل بعضها على بعض. وكانت الجذوع مستقيمة وبنية دون أغصان. وكانت الأغصان في الأعلى. تشابك بعضها وشكلت ظلا مصمتا على أرض الغابة البنية. حول تلك الأيكة من الأشجار كانت هناك منطقة عارية. كانت بنية وشعر بها نك ناعمة تحت قدميه إذ مشى عليها. كانت الأرضية مغطاة بإبر الصنوبر المتشابكة، وتمتد على مسافة أعرض من الأغصان العالية. كانت الأشجار قد نمت وتحركت الأغصان إلى الأعلى تاركة خلفها للشمس تلك المساحة العارية التي كانت تغطيها من قبل بالظلال. وعلى حافة هذه القطعة الممتدة من أرضية الغابة بالضبط، بدأ امتداد السرخس الحلو.
تحرر نك من حقيبته واستلقى في الظل. استلقى على ظهره وتطلع إلى الأعلى إلى أشجار الصنوبر. استراحت رقبته وظهره والجزء السفلي من ظهره إذ تمدد. أراحه استناد ظهره على الأرض. تطلع ببصره إلى السماء من بين الأغصان، ثم أغمض عينيه. فتحهما ونظر إلى الأعلى مجددا. كانت الرياح تحرك الأغصان في الأعلى. أغمض عينيه مجددا وخلد إلى النوم.
استيقظ نك متصلبا ومتشنجا. كانت الشمس قد أوشكت على الغروب. كانت حقيبته ثقيلة، وآلمته الأحزمة حين حملها. مال إلى الأمام بالحقيبة والتقط حقيبة الصنارة الجلدية وانطلق من بين أشجار الصنوبر عبر منخفض السرخس الحلو باتجاه النهر. كان يعرف أن المسافة لا يمكن أن تزيد عن ميل.
هبط من تل مغطى بأروم الشجر إلى مرج. على حافة المرج تدفق النهر. كان نك سعيدا لوصوله إلى النهر. سار عبر المرج متجها إلى أعلى النهر. تشبع سرواله بالندى بينما كان يسير. بعد اليوم الحار، هبط الندى بسرعة وغزارة. لم يصدر عن النهر أي صوت. كان سريعا وناعما للغاية. على حافة المرج، قبل أن يرقى إلى قطعة مرتفعة من الأرض ليخيم عليها، نظر نك إلى أسماك السلمون المرقطة وهي تقفز. كانت تقفز لتحصل على الحشرات الآتية من المستنقع على الجانب الآخر من النهر عند غروب الشمس. قفزت أسماك السلمون المرقطة من المياه كي تنالها. بينما كان نك يسير على امتداد المرج الصغير بمحاذاة النهر، قفزت الأسماك عاليا خارج المياه. الآن بينما كان ينظر في النهر، لا بد أن الحشرات كانت مستقرة على سطح المياه؛ إذ كانت الأسماك تأكل بوتيرة مستمرة على امتداد النهر بأكمله. وعلى امتداد البصر من مكانه على المرج، كانت الأسماك ترتفع من المياه؛ فتتشكل دوائر على السطح كله، كما لو أن المطر يبدأ في الهطول.
ارتفعت الأرض وكانت حراجية ورملية، لتطل على المرج والنهر والمستنقع. أنزل نك حقيبته وحقيبة الصنارة وبحث عن قطعة مستوية من الأرض. كان يتضور جوعا وكان يريد أن ينصب خيمته قبل أن يطهو. وبين اثنتين من أشجار صنوبر جاك، كانت الأرض مستوية إلى حد كبير. أخرج الفأس من حقيبته وقطع جذرين ناتئين؛ فسوى ذلك قطعة كبيرة من الأرض تكفي لأن ينام عليها. سوى الأرض الرملية بيده واقتلع كل نباتات السرخس الحلو من جذورها. فاحت يداه برائحة طيبة من السرخس الحلو. سوى الأرض التي اقتلع منها الجذور. لم يكن يريد أي كتل تحت الأغطية. حين أصبحت الأرض مستوية، فرد أغطيته الثلاثة. طوى أحدها طيتين ووضعه على الأرض مباشرة، ثم فرد الاثنين الآخرين فوقه.
باستخدام الفأس، شق قطعة سميكة لامعة من أرومة شجرة صنوبر، وقسمها ليصنع منها أوتادا للخيمة. كان يريد أوتادا طويلة ومتينة كي تستقر في الأرض. وبعد أن أخرجت الخيمة وفرشت على الأرض، بدت الحقيبة، وهي تميل على إحدى أشجار الصنوبر، أصغر كثيرا. ربط نك الحبل الذي كان بمثابة الدعامة الأفقية للخيمة بجذع إحدى أشجار الصنوبر ورفع الخيمة من فوق الأرض من الطرف الآخر للحبل وربطه بشجرة الصنوبر الأخرى. تدلت الخيمة على الحبل كأنها غطاء من القنب يتدلى على حبل الغسيل. أدخل نك عمودا كان قطعه من قبل تحت القمة الخلفية للخيمة وربط الجوانب بالأوتاد. شد الجوانب إلى الخارج بإحكام وغرس الأوتاد في الأرض بعمق، ودق عليها بالجانب المسطح من الفأس حتى اختفت ربطات الحبل في الأرض، وانسدل قماش الخيمة مشدودا بإحكام.
على مدخل الخيمة المفتوح ثبت نك قطعة من الشاش الرقيق لكي تحول دون دخول البعوض. زحف نك إلى الداخل من تحت حاجز البعوض حاملا العديد من الأغراض من الحقيبة كي يضعها على رأس السرير تحت الجزء المائل من الخيمة. وصل النور إلى داخل الخيمة عبر القنب البني الذي كانت تفوح منه رائحة طيبة. كانت الأجواء تجمع بين الغموض وألفة البيت. شعر نك بالسعادة حين زحف إلى داخل الخيمة. لم يشعر بالتعاسة طوال اليوم. غير أن شعوره الآن كان مختلفا. الآن، قد فرغ مما كان عليه فعله. كان عليه أن يفعل هذا. والآن قد فعله. كانت رحلة شاقة. وكان متعبا للغاية. والآن قد انتهى ذلك. كان قد صنع مخيمه. ولقد استقر فيه. لا يمكن لشيء أن يمسه الآن. كانت خيمته في مكان جيد. وكان هناك في هذا المكان الجيد. كان في بيته في المكان الذي صنعه فيه. والآن كان يشعر بالجوع.
خرج زاحفا من تحت حاجز الشاش. كان المكان مظلما إلى حد كبير في الخارج، وقد كان داخل الخيمة أكثر إضاءة.
ذهب نك إلى حيث حقيبته وتحسس بأصابعه داخلها حتى وجد في قعرها مسمارا طويلا في كيس ورقي للمسامير. وضعه في شجرة الصنوبر وأمسكه جيدا وأخذ يدق عليه بلطف بالجزء المسطح من فأسه. علق الحقيبة على المسمار. كانت أشياؤه كلها فيها. والآن قد أصبحت بعيدة عن الأرض في مكان محمي.
كان نك يشعر بالجوع. كان يعتقد أنه لم يشعر بمثل هذا الجوع من قبل. فتح علبة من لحم الخنزير والفاصوليا وعلبة من مكرونة الإسباجيتي وأفرغهما في مقلاة. تحدث نك قائلا: «يحق لي أن آكل مثل هذا الطعام، ما دمت قد حملته معي.» بدا صوته غريبا في الأحراج التي بدأ يحل عليها الظلام. ولم يتحدث مجددا.
أشعل نارا ببعض قطع الأخشاب التي قطعها بفأسه من أرومة. وضع على النار شواية من السلك، وثبت أرجلها الأربعة في الأرض بحذائه. وضع نك المقلاة على الشواية في اللهب. كان جوعه قد اشتد أكثر. غدت المكرونة والفاصوليا دافئة، فقلبهما نك ومزجهما معا. بدأ الطعام في البقبقة وتكونت فيه فقاقيع صغيرة كانت تصعد إلى السطح بصعوبة. فاحت منه رائحة طيبة. أخرج نك زجاجة من صلصة الطماطم وقطع أربع شرائح من الخبز. كانت الفقاقيع تصعد الآن بسرعة أكبر. جلس نك بجوار النار ورفع المقلاة عنها. صب نصف الطعام تقريبا في طبق من الصفيح. راح ينتشر ببطء على الطبق. كان نك يعرف أنه ساخن للغاية. صب بعضا من صلصة الطماطم. كان يعرف أن مزيج الفاصوليا والمكرونة لا يزال ساخنا للغاية. نظر إلى النار، ثم إلى الخيمة، ولم يكن ينتوي أن يفسد الأمر بحرق لسانه. إنه لم يستمتع بحلوى الموز المقلي لسنوات لأنه لم يكن يستطيع الانتظار حتى تبرد. كان لسانه حساسا للغاية. وكان يتضور جوعا. على الجانب المقابل من النهر في المستنقع، في الظلام شبه الدامس، رأى الضباب يتصاعد. ألقى نظرة أخرى على الخيمة. كل شيء على ما يرام. أخذ ملء ملعقة من الطبق.
قال نك: «يا يسوع!» ثم أضاف بسعادة: «يا يسوع المسيح!»
أكل ما في الطبق كله قبل أن يتذكر الخبز. أنهى نك الطبق الثاني بالخبز وقد مسحه به إلى أن صار لامعا. لم يكن قد أكل منذ أن تناول كوبا من القهوة وشطيرة من شرائح لحم الخنزير في مطعم محطة قطار سانت إيجناس. لقد كانت تجربة جيدة للغاية. شعر بمثل ذلك الجوع من قبل، لكنه لم يتمكن من إشباع جوعه حينها. كان بمقدوره قبل ساعات أن ينصب خيمته إذا أراد؛ فقد كان هناك الكثير من الأماكن الجيدة للتخييم على النهر. غير أن هذا المكان جيد.
وضع نك قطعتين رقيقتين كبيرتين من خشب الصنوبر تحت الشواية. وتوهجت النار. كان قد نسي أن يحضر ماء للقهوة. أخرج من حقيبته دلوا قابلا للطي مصنوعا من القنب، وسار هابطا من التل، عبر حافة المرج، متجها إلى النهر. كانت الضفة الأخرى مغطاة بالضباب الأبيض. شعر بالعشب رطبا وباردا حين انحنى بركبتيه على الضفة وأنزل الدلو المصنوع من القنب في النهر. انتفخ الدلو وانجذب بقوة التيار. كانت المياه باردة كالثلج. أخرج نك الدلو من المياه وحمله ممتلئا إلى المخيم. لم يكن الجو باردا للغاية هكذا بعيدا عن النهر.
ثبت نك مسمارا آخر كبيرا وعلق فيه الدلو الممتلئ بالمياه. غمس فيه إناء القهوة وملأه حتى المنتصف، ووضع المزيد من رقائق الصنوبر على النار تحت الشواية ووضع الإناء عليها. لم يستطع أن يتذكر كيف كان يصنع القهوة. كان يتذكر جدالا بشأنها مع هوبكينز، لكنه لم يتذكر الطريقة التي كان يؤيدها. قرر أن يغليها. تذكر الآن أن تلك كانت طريقة هوبكينز. كان يتناقش في كل شيء مع هوبكينز. وبينما كان ينتظر غليان القهوة، فتح علبة صغيرة من المشمش. كان يحب فتح العلب. أفرغ علبة المشمش في كوب من الصفيح. وبينما كان يراقب القهوة على النار، شرب العصير الموجود مع المشمش. كان يشرب بحرص في البداية لكي يتجنب سكبه، ثم راح يمتص قطع المشمش نفسها ويبتلعها ببطء. لقد كانت أفضل من المشمش الطازج.
غلت القهوة بينما كان يراقبها. ارتفع الغطاء إلى أعلى وسالت القهوة وثفلها على جانب الإناء. رفعه نك من على الشواية. كان ذلك نصرا لهوبكينز. وضع السكر في كوب المشمش الفارغ وصب فيه بعض القهوة لكي تبرد. كانت ساخنة للغاية بما لا يسمح بصبها وقد استخدم قبعته لكي يمسك بمقبض الإناء. لم يكن سيتركها تنقع في الإناء على الإطلاق. لن يفعل ذلك في الكوب الأول. يجب أن يتبع طريقة هوبكينز تماما. كان هوب يستحق ذلك. كان يكن لشرب القهوة جدية كبيرة. كان أكثر من عرفهم نك جدية. لم يكن صارما، بل جادا فقط. مضى على ذلك وقت طويل. كان هوبكينز يتكلم دون أن يحرك شفتيه. كان يلعب البولو. جنى ملايين الدولارات في تكساس. كان قد اقترض أجرة السفر لكي يذهب إلى شيكاجو، حين جاءته البرقية بأن بئر البترول الأولى الكبيرة الخاصة به قد بدأت في الإنتاج. كان يمكن أن يرسل برقية طلبا للنقود، غير أن ذلك كان سيستغرق وقتا طويلا. كانوا يسمون فتاة هوب «فينوس الشقراء». لم يكن هوب يمانع لأنها لم تكن فتاته الحقيقية. أخبرهم هوبكينز بكل ثقة أن أحدا منهم لن يسخر من فتاته الحقيقية. وقد كان على حق. رحل هوبكينز حين أتت البرقية. كان ذلك على ضفة النهر الأسود. استغرق الأمر ثمانية أيام كي تصله البرقية. أعطى هوبكينز مسدسه الآلي من طراز كولت عيار 0,22 إلى نك. وأعطى آلة تصويره إلى بل. كان ذلك ليتذكراه بهما دوما. كانوا سيذهبون جميعا لصيد السمك مرة أخرى في الصيف التالي. أصبح هوب ثريا. كان سيشتري يختا وسيذهبون جميعا في رحلة بحرية على الساحل الشمالي إلى بحيرة سوبيريور. كان متحمسا لكنه كان جادا. ودع كل منهم الآخر وكانوا جميعا يشعرون بالحزن. ألغى تلك الرحلة. لم يريا هوبكينز بعد ذلك قط. كان ذلك منذ وقت بعيد على ضفة النهر الأسود.
شرب نك القهوة، القهوة التي كانت على طريقة هوبكينز. كانت القهوة مرة. ضحك نك. كانت نهاية جيدة للقصة. كان ذهنه قد بدأ يعمل. كان يعرف أنه يستطيع أن يوقفه؛ إذ كان متعبا بما فيه الكفاية. سكب القهوة من الإناء وألقى ثفلها في النار. أشعل سيجارة ودخل إلى الخيمة. خلع حذاءه وسرواله، وحين جلس على الأغطية، لف الحذاء في السروال لكي يصنع منهما وسادة ودخل بين الأغطية.
في الخارج أمام الخيمة، راح يراقب وهج النار إذ هبت عليها رياح الليل. كانت ليلة هادئة. كان المستنقع هادئا تماما. تمدد نك تحت الغطاء بارتياح. كانت هناك بعوضة تطن بالقرب من أذنه. جلس نك وأشعل عود ثقاب. كانت البعوضة على قماش الخيمة فوق رأسه. حرك نك عود الثقاب باتجاهها سريعا. أصدرت البعوضة في اللهب هسيسا أشعره بالارتياح. خبا عود الثقاب. استلقى نك مجددا تحت الغطاء. استدار على جانبه وأغمض عينيه. كان يشعر بالنعاس. شعر بالنوم يأتي. انثنى تحت الغطاء وخلد إلى النوم.
الفصل الخامس عشر
شنقوا سام كاردينلا في السادسة صباحا في دهليز سجن المقاطعة. كان الدهليز عاليا وضيقا وبه صفوف من الزنازين على الجانبين. كانت جميع الزنازين مأهولة. كان الرجال قد أحضروا للشنق. خمسة من الرجال الذين حكم عليهم بالشنق كانوا في الزنازين الخمس العليا. ثلاثة من هؤلاء الرجال كانوا من الزنوج. وقد أصابهم الرعب الشديد. جلس أحد الرجلين الأبيضين المتبقيين على سريره واضعا رأسه بين يديه. أما الآخر فقد استلقى على سريره وقد لف غطاء حول رأسه.
وصلوا إلى منصة الشنق عبر باب في الجدار. كانوا سبعة من بينهم كاهنان. كانوا يحملون سام كاردينلا. لقد كان على هذه الحال تقريبا منذ الرابعة صباحا.
بينما كانوا يربطون رجليه معا، رفعه حارسان إلى أعلى، وراح الكاهنان يهمسان له بشيء. قال أحدهما: «فلتكن رجلا يا بني!» حين اقتربوا منه بالغطاء الذي سيغطي رأسه، فقد سام كاردينلا التحكم في عضله الشرجي. أسقطه كلا الحارسين اللذين كانا يحملانه؛ إذ تقززا. سأل أحد الحارسين قائلا: «ما رأيك في أن نحضر كرسيا يا ول؟» قال رجل يرتدي قبعة مستديرة: «من الأفضل أن تحضر واحدا.»
حين خطوا جميعا إلى الوراء خلف فتحة المشنقة، التي كانت ثقيلة للغاية ومصنوعة من خشب البلوط والصلب وتعتمد على محامل كروية، كان سام كاردينلا يجلس هناك مربوطا بإحكام، وكان الكاهن الأصغر يركع بجوار الكرسي. أسرع الكاهن بالرجوع إلى الخلف قبل أن تفتح الفتحة بلحظات.
نهر كبير ذو قلبين
الجزء الثاني
في الصباح سطعت الشمس وبدأت درجة حرارة الخيمة في الارتفاع. زحف نك إلى خارج الخيمة من تحت حاجز البعوض الذي كان يمتد على مدخل الخيمة كي يشهد الصباح. شعر بالعشب مبتلا في يديه بينما كان يخرج. حمل سرواله وحذاءه في يديه. كانت الشمس قد علت لتوها فوق التل. كان هناك المرج والنهر والمستنقع. وعلى الجزء الأخضر من المستنقع على الجانب الآخر من النهر، وقفت أشجار بتولا.
كان النهر صافيا ينساب بسرعة وسلاسة في الصباح الباكر. وفي الأسفل على بعد مائتي ياردة تقريبا، كانت هناك ثلاثة من جذوع الأشجار تقطع مجرى النهر، وقد جعلت المياه فوقها سريعة وعميقة. بينما كان نك يشاهد المنظر، عبر أحد حيوانات المنك النهر على الجذوع ودخل المستنقع. كان نك متحمسا. أثار الصباح الباكر والنهر حماسه. كان في عجلة كبيرة بالفعل حتى إنه لم يرغب في تناول إفطاره، لكنه كان يعرف أن عليه أن يتناوله. أشعل نارا صغيرة ووضع عليها إناء القهوة.
بينما كانت المياه تسخن في الإناء، أخذ زجاجة فارغة وسار على حافة الأرض المرتفعة متجها إلى المرج. كان المرج مبتلا بالندى وقد أراد نك أن يمسك ببعض الجنادب كي يستخدمها طعما قبل أن تجفف الشمس العشب. وجد العديد من الجنادب الجيدة. كانت تقبع أسفل سيقان العشب. وأحيانا كانت تتعلق بهذه السيقان. كانت باردة ومبتلة بالندى ولم تكن تستطيع القفز إلى أن تدفئها الشمس. تناولها نك وأخذ منها فقط الجنادب البنية المتوسطة الحجم، ووضعها في الزجاجة. قلب نك جذع شجرة ووجد تحت طرفه ملجأ للمئات من الجنادب. لقد كان مسكنا للجنادب. وضع نك في الزجاجة ما يقرب من الخمسين من الجنادب البنية المتوسطة الحجم. وبينما كان ينتقي الجنادب، استدفأت الجنادب الأخرى في الشمس وبدأت في القفز. وحين بدأت في القفز طارت. طارت في البداية لمسافة قصيرة ثم وقفت متجمدة حين هبطت، وكأنها ميتة.
كان نك يعرف أنه فور يفرغ من طعام الإفطار، ستكون الجنادب في كامل حيويتها. فبدون الندى على العشب، كان سيقضي النهار بأكمله لكي يمسك بعدد كاف من الجنادب الجيدة وسيكون عليه أن يسحق العديد منها بضربها بقبعته. غسل يديه في النهر. شعر بالحماس لقربه منه. بعد ذلك سار إلى الخيمة. كانت الجنادب تقفز وهي متصلبة في العشب. وفي الزجاجة، كانت تقفز أيضا ككتلة واحدة بعد أن شعرت بالدفء بفعل حرارة الشمس. استخدم نك قطعة رفيعة من خشب الصنوبر لتكون سدادة للزجاجة. سدت القطعة جزءا كافيا من فوهة الزجاجة لئلا تخرج الجنادب منها، وتركت جزءا كافيا لمرور قدر كبير من الهواء.
دحرج الجذع إلى مكانه مرة أخرى، وعرف أنه يستطيع أن يحصل على الجنادب من هناك كل صباح.
أسند نك الزجاجة الممتلئة بالجنادب المتقافزة إلى جذع شجرة صنوبر. وبسرعة خلط بعضا من دقيق الحنطة السوداء بالماء وحرك الخليط برفق؛ لقد استخدم كوبا من الماء مع كوب من الدقيق . وضع بعضا من القهوة في الإناء وأخرج قطعة من الدهن من علبة، ومررها على المقلاة الساخنة، فراحت تبقبق وتنثر الرذاذ. على المقلاة التي يتصاعد منها الدخان سكب خليط الحنطة بهدوء في المقلاة التي يتصاعد منها الدخان. تمدد الخليط كالحمم البركانية وراح الدهن ينثر الرذاذ بحدة. بدأت كعكعة الحنطة تتماسك عند الأطراف ثم تحولت إلى اللون البني ثم أصبحت مقرمشة. كان السطح يبقبق بهدوء حتى اتخذ شكلا مساميا. دفع نك برقاقة من خشب الصنوبر تحت السطح البني. هز المقلاة إلى الجانب وتحركت الكعكة على السطح. فكر بينه وبين نفسه أنه لن يحاول أن يقلبها. أدخل رقاقة الخشب النظيفة تحت الكعكة بكاملها، ثم قلبها على وجهها. وتناثر منها الرذاذ في المقلاة.
حين نضجت أعاد نك وضع دهن مرة أخرى في المقلاة. استخدم ما تبقى من الخليط. وصنع منه كعكة كبيرة وأخرى أصغر منها.
أكل نك كعكة الحنطة الكبيرة والكعكة الأصغر مع تغطيتهما بزبدة التفاح. وضع زبدة التفاح على الكعكة الثالثة وطواها مرتين، ولفها في ورق مزيت ووضعها في جيب قميصه. وضع وعاء زبدة التفاح في الحقيبة وقطع خبزا يكفي لشطيرتين.
وجد في الحقيبة بصلة كبيرة. قطعها إلى نصفين ونزع عنها القشرة الخارجية الناعمة، ثم قطع أحد النصفين إلى شرائح، وصنع ساندوتشي بصل. لف الساندوتشين في ورق مزيت، ووضعهما في الجيب الآخر لقميصه الكاكي. نكس المقلاة على الشواية، وشرب القهوة محلاة وقد اصطبغت بلون أصفر بني إذ كان قد وضع فيها بعض الحليب المكثف، ثم رتب المخيم. لقد كان مخيما جيدا.
أخرج نك صنارته المخصصة للصيد بالحشرات الطائرة من حقيبتها الجلدية، وركبها ودفع بالحقيبة مرة أخرى إلى الخيمة. وضع البكرة وأدخل الخيط من الحلقات. كان عليه أن يمسكه من يد إلى الأخرى وهو يدخله في الحلقات وإلا فقد كان سينزلق للخلف بفعل وزنه. لقد كان خيطا ثقيلا مستدق الطرفين من النوع المخصص للصيد بالحشرات الطائرة. كان نك قد ابتاعه بثمانية دولارات منذ زمن بعيد. لقد صنع ثقيلا لكي يرفع إلى الخلف في الهواء ويهبط إلى الأمام مستويا وثقيلا ومستقيما؛ لكي يتيح إلقاء طعم صناعي لا يكاد يزن شيئا. فتح نك علبة أوتار الطعم المصنوعة من الألومنيوم. كانت أوتار الطعم ملتفة بين البطانات الرطبة المصنوعة من الفانيلا. كان نك قد بلل البطانات من مبرد المياه في القطار في الطريق إلى سانت إيجناس. في البطانات الرطبة صارت أوتار الطعم أكثر مرونة وفك نك أحدها وربطه بعقدة في نهاية الخيط الثقيل. ثبت خطافا على طرف الوتر. لقد كان خطافا صغيرا؛ رفيعا للغاية ومرنا.
كان نك قد أخذه من حافظة الخطافات، وجلس والصنارة على حجره. اختبر العقدة ونابض الصنارة من خلال شد الخيط. شعر بالسعادة وقد كان حريصا ألا يدع الخطاف يمسك بإصبعه.
بدأ يهبط إلى النهر، وهو يمسك بصنارته وزجاجة الجنادب تتدلى من رقبته من خلال سير جلدي مربوط بنصف عقدة حول عنق الزجاجة. وكانت شبكة الصيد تتدلى من كلاب مثبت في حزامه. وعلى كتفه، كان يوجد جوال دقيق كبير معقود كل جانب منه على هيئة أذن. كان الحبل على كتفه، والجوال يخبط رجليه.
شعر نك بالارتباك والسعادة المهنية، كانت جميع معداته تتدلى منه. فقد كانت تتأرجح زجاجة الجنادب على صدره. وانتفخ جيبا القميص؛ إذ كانا يحتويان على الغداء وحافظة الطعوم الصناعية.
خطا في النهر. كانت صدمة. التصق سرواله بساقيه. شعر بالحصى تحت حذائه. كانت المياه صدمة باردة متصاعدة.
راح التيار المتسارع يندفع أمام ساقيه. كانت المياه تصل إلى ما فوق ركبتيه في المكان الذي وقف فيه. خاض في الماء مع التيار. وانزلق الحصى تحت حذائه. نظر إلى دوامتي المياه اللتين تدوران تحت كلا ساقيه وأمال الزجاجة ليخرج أحد الجنادب.
قفز الجندب الأول عبر عنق الزجاجة وسقط في الماء. سحبته الدوامة الموجودة عند ساق نك اليمنى، ثم ظهر على السطح بعد مسافة قصيرة أسفل التيار. طفا بسرعة وهو يركل. وفي دائرة سريعة اخترقت سطح المياه الأملس، اختفى. أخذته إحدى أسماك السلمون المرقطة.
مد جندب آخر رأسه من الزجاجة. ارتعش قرنا الاستشعار لديه. كان يخرج ساقيه الأماميتين من الزجاجة كي يقفز. أخذه نك من رأسه وأمسك به بينما راح يدخل الخطاف الرفيع تحت رقبته، ثم إلى الأسفل عبر قفصه الصدري إلى آخر جزء من بطنه. أمسك الجندب بالخطاف بمجسه الأمامي، وراح يبصق عليه سائلا كعصارة التبغ. أنزله نك في المياه.
وهو يمسك بالصنارة في يده اليمنى، أطلق نك الخيط ليجرفه الجندب معه في التيار. فك جزءا من الخيط من البكرة وأطلقه حرا. كان بإمكانه رؤية الجندب في أمواج التيار الصغيرة. وبعد ذلك اختفى.
شعر نك بقوة شد على الخيط. راح نك يسحب الخيط المشدود. لقد كان صيده الأول. سحب الخيط بيده اليسرى بينما كان يمسك بالصنارة التي أصبحت الآن متحركة في التيار. انحنت الصنارة في حركات سريعة؛ إذ راحت السمكة تتحرك صعودا وهبوطا في التيار. كان نك يعرف أنها سمكة صغيرة. رفع الصنارة مباشرة في الهواء، وقد انحنت مع سحبها.
رأى سمكة السلمون المرقطة تندفع برأسها وجسمها في عكس اتجاه الخيط في النهر.
أخذ نك الخيط في يده اليسرى، وسحب إلى السطح سمكة السلمون التي كانت تضرب بتعب على التيار. كان ظهرها مرقطا بلون الحصى في المياه الصافية، وكان جانبها يلمع في الشمس. بينما كانت قصبة الصيد تحت ذراعه الأيمن، انحنى نك وغمس يده اليمنى في المياه. أمسك بسمكة السلمون التي لم تسكن قط بيده اليمنى المبتلة بينما كان يحل الخطاف عن فمها، ثم أطلقها ثانية في النهر.
تدلت السمكة في التيار في غير ثبات، ثم استقرت في القاع بجوار أحد الأحجار. أنزل نك يده في المياه ليلمسها، فأصبح الجزء السفلي من ذراعه حتى المرفق تحت المياه. كانت سمكة السلمون ثابتة في التيار المتحرك، تستريح على الحصى بجوار حجر. حين لمستها أصابع نك، وأحست بنعومتها وبرودتها تحت المياه، اختفت السمكة؛ اختفت في ظل عبر قاع النهر.
اعتقد نك بينه وبين نفسه أنها بخير. لقد كانت متعبة فحسب.
كان قد بلل يده قبل أن يلمس سمكة السلمون، لئلا يؤذي المخاط الرقيق الذي يغطيها. إذا لمست أسماك السلمون المرقطة يد جافة، فسوف يهاجم البقعة غير المحمية فطر أبيض. قبل سنوات حين كان نك يصيد الأسماك في الأنهار المكتظة، والصيادون من أمامه ومن خلفه، كثيرا ما كان يجد أسماك سلمون مرقطة ميتة يغطيها زغب الفطر الأبيض وقد انجرفت على صخرة أو طفت وبطنها إلى الأعلى في حوض ما. لم يكن نك يحب أن يصيد الأسماك في وجود رجال آخرين على النهر؛ فهم سيفسدون الأمر إلا أن يكونوا من أصدقائك.
راح يتقدم في النهر والتيار يصل إلى أعلى ركبتيه عبر المياه الضحلة التي تمتد إلى خمسين ياردة، والتي تعلو كومة الجذوع التي تقطع النهر. لم يضع الطعم في خطافه من جديد وأمسك به في يده بينما كان يخوض في المياه. كان متيقنا من أنه يستطيع صيد سمك السلمون المرقط الصغير في منطقة المياه الضحلة، لكنه لم يكن يريدها. لن يكون هناك سمك سلمون مرقط كبير في المياه الضحلة في هذا الوقت من اليوم.
الآن صارت المياه أعمق وبلغت أعلى فخذيه حادة وباردة. كان أمامه فيض المياه الهادئ المحجوز خلف الجذوع. كانت المياه هادئة وداكنة، يحدها من جهة اليسار الحافة السفلية من المرج، ويحدها المستنقع من جهة اليمين.
مال نك بظهره عكس التيار وأخرج جندبا من الزجاجة. ربط الجندب في الخطاف وبصق عليه؛ تمنيا لحسن الحظ. بعد ذلك سحب من البكرة عدة ياردات من الخيط وألقى بالجندب إلى الأمام في المياه السريعة الداكنة. طفا إلى الأسفل باتجاه الجذوع، وبعد ذلك سحب وزن الخيط الطعم تحت السطح. أمسك نك الصنارة بيده اليمنى وقد ترك الخيط يجري من بين أصابعه.
كان ثمة سحبة طويلة. شد نك القصبة، وخرجت الصنارة متحركة وخطيرة؛ إذ انحنت بضعف الدرجة، وصار الخيط مشدودا للغاية، وراح يخرجه من المياه وهو مشدود للغاية، وكل ذلك في سحبة ثقيلة خطيرة ثابتة. شعر نك باللحظة التي كان سينكسر فيها وتر الطعم إذا ازداد شده، وأفلت الخيط.
دارت البكرة مصدرة صريرا ميكانيكيا إذ انفلت الخيط بسرعة كبيرة. حدث ذلك بسرعة كبيرة للغاية. لم يتمكن نك من فحص الأمر حين اندفع الخيط بسرعة، وأصدرت البكرة صريرها حين انطلق الخيط.
حين ظهر قلب البكرة كاد يتوقف نبض قلبه من الإثارة، فمال بظهره عكس التيار الذي بلغ فخذيه، وأشاع فيهما برودة شديدة، وأوقف البكرة بقوة بإبهامه الأيسر. وقد كان من الصعب إدخال إبهامه في إطار البكرة.
حين أخذ يضغط، صار الخيط مشدودا للغاية بصلابة مفاجئة، وظهرت من وراء الجذوع سمكة سلمون مرقطة كبيرة قد خرجت عاليا من المياه. وبينما راحت تقفز، أنزل نك طرف الصنارة بعض الشيء. بالرغم من ذلك فقد شعر وهو ينزل القصبة ليخفف الضغط، باللحظة التي سيكون فيها الضغط شديدا للغاية والصلابة كبيرة. لقد انكسر وتر الطعم بالتأكيد. ولم يكن هناك من شك في شعوره بانفلات النابض بأكمله من الخيط وأصبح جافا وصلبا. بعد ذلك، صار مرتخيا.
بفم جاف وقلب سقيم، سحب نك الخيط بلف البكرة. لم يكن قد رأى سمكة سلمون مرقطة بهذه الضخامة من قبل. لقد كانت ثقيلة، وتتمتع بقوة لا يمكن تحجيمها، ثم إنها بدت ضخمة للغاية حين قفزت. لقد كان عرضها كعرض أسماك السلمون العادية.
كانت يد نك ترتجف. راح يلف الخيط ببطء. كانت الإثارة كبيرة للغاية. لسبب غامض، شعر بالإعياء بعض الشيء حتى إنه رأى أن الجلوس سيكون أفضل له.
لقد قطع وتر الطعم حيث كان الخطاف مربوطا به. أخذه نك في يده. راح يتخيل سمكة السلمون المرقطة في مكان ما في القاع، تحافظ على ثباتها فوق الحصى بعيدا في الأسفل تحت مستوى الضوء وتحت الجذوع، والخطاف في فكها. كان نك يعرف أن أسنان السمكة ستقطع وتر الطعم. كان يتوقع أن ينغرس الخطاف في فكها. كان متيقنا من أن السمكة غاضبة. أي شيء بذلك الحجم سيكون غاضبا. وقد كانت تلك سمكة سلمون مرقطة قد علق فيها الخطاف بثبات؛ علق فيها ثابتا كصخرة. هو أيضا كان يشعر بأنها صخرة قبل أن يبدأ في سحبها. يا إلهي! لقد كانت سمكة سلمون مرقطة كبيرة. لعمري إنها أكبر سمكة قد سمعت بها من هذا النوع.
تسلق نك إلى الخارج حيث المرج ووقف والمياه تتدفق من سرواله وتخرج من حذائه الذي كان يبقبق. ذهب وجلس على الجذوع. لم يكن يرغب في أن يتعجل أحاسيسه البتة.
راح يحرك أصابع قدميه في الماء وهي في حذائه، وأخرج سيجارة من جيب قميصه، أشعلها وألقى بعود الثقاب في المياه السريعة أسفل الجذوع. ظهرت سمكة سلمون مرقطة صغيرة عند عود الثقاب إذ راح يتأرجح في التيار السريع. ضحك نك، وكان ينوي أن ينهي سيجارته.
جلس على الجذوع يدخن ويتجفف في الشمس. كان يشعر بدفء الشمس على ظهره، والنهر يمتد من أمامه ضحلا ويتجه إلى الأحراج منحنيا إلى داخلها. وها هي المياه الضحلة، والضوء المتلألئ، وصخور المياه الناعمة الضخمة، وأشجار الأرز وأشجار البتولا البيضاء التي تمتد على الضفة، وها هي الجذوع دافئة في الشمس وناعمة في الجلوس عليها ودون لحاء ويوحي شكلها بملمس رمادي؛ وفي خضم كل هذا راح الشعور بالإحباط ينحسر عنه ببطء. انحسر عنه ببطء ذلك الشعور بالإحباط الذي انتابه بحدة بعد المغامرة التي آلمت كتفيه. أصبحت الأمور الآن على ما يرام. بينما كانت الصنارة ترقد على الجذوع، ربط نك خطافا جديدا في وتر الطعم وشد الخيط بإحكام إلى أن انعقد إلى عقدة متينة.
وضع الطعم في الخطاف ثم حمل الصنارة وسار إلى الطرف الأقصى من الجذوع لكي يدخل في الماء حيث لا يكون عميقا للغاية. تحت الجذوع وفيما وراءها، كان ثمة حوض عميق. سار نك حول النتوءات الصخرية السطحية الموجودة بالقرب من شاطئ المستنقع إلى أن وصل إلى المنطقة الضحلة من قاع النهر.
على اليسار حيث ينتهي المرج وتبدأ الأحراج، كانت هناك شجرة دردار ضخمة قد اقتلعت من جذورها. لقد تحطمت في عاصفة وسقطت إلى الداخل في الأحراج، وقد تكتل التراب على جذورها ونما العشب فيما بينها، فتشكلت منها ضفة صلبة بجوار النهر. كان النهر ينعطف إلى حافة الشجرة المجتثة. من المكان الذي وقف فيه نك، كان يرى القنوات العميقة كالأخاديد، وقد شكلها تدفق التيار في المنطقة الضحلة من قاع النهر. كان المكان الذي يقف فيه من قاع النهر مغطى بالحصى، وكانت المسافة التي تمتد بعده مغطاة بالحصى وبها الكثير من الجلاميد، وحيث كان النهر ينعطف بالقرب من جذور الشجرة، كان القاع يتكون من الطين الجيري، وبين أخاديد المياه العميقة راحت أوراق الأعشاب الخضراء تتمايل في التيار.
أمال نك الصنارة على كتفه ثم وجهها إلى الأمام، وانحنى الخيط إلى الأمام ملقيا بالجندب إلى الأسفل على إحدى القنوات العميقة بين الأعشاب. أصابت إحدى سمكات السلمون المرقطة الطعم، وأمسك بها نك في الخطاف.
بينما كان نك يمسك بالصنارة بعيدا إلى الخارج باتجاه الشجرة المجتثة، راح يتقهقر في التيار وكان يحاول إخراج سمكة السلمون المرقطة من خطر الأعشاب إلى النهر المفتوح وكانت السمكة تغوص في المياه فتنحني الصنارة معها. كان نك يمسك بالصنارة التي كانت تصطدم بالتيار، حتى بدأت السمكة تنجذب نحوه. راحت السمكة تتحرك باندفاع هاربة لكنها ظلت تقترب منه، وراح نابض الصنارة يخضع لاندفاعها ويهتز أحيانا في الماء، لكنه كان ما يزال يجلبها نحوه. تمهل نك أسفل النهر مع اندفاع السمكة. وبينما كانت الصنارة فوق رأسه وجه السمكة إلى الشبكة ثم رفع الشبكة.
تدلت السمكة ثقيلة في الشبكة بظهرها المبرقش وبدا جانباها الفضيان من خلال فتحات الشبكة. فكها نك من الخطاف. كانت تتمتع بجانبين ثقيلين يحسن حملهما وفك سفلي كبير وبارز. تركها نك تنزلق وهي تمور وتتزحلق بعنف إلى الجوال الطويل الذي كان يتدلى من كتفيه إلى الماء.
فتح نك الجوال عكس اتجاه التيار وتركه يمتلئ بالماء ثم رفعه إلى أعلى فراحت المياه تنسكب من جوانبه. وفي القعر بالداخل، كانت سمكة السلمون المرقطة الكبيرة حية في الماء.
تحرك نك في اتجاه التيار. وكان الجوال الذي كان يتدلى من كتفيه يغوص أمامه في المياه.
كان الجو يزداد حرارة، وكانت الشمس حارة على مؤخرة عنقه.
اصطاد نك سمكة سلمون مرقطة جيدة. لم يكن مهتما بصيد الكثير منها. الآن أصبح النهر ضحلا وواسعا. كانت هناك أشجار على طول الضفتين. ألقت أشجار الضفة اليسرى بظلال قصيرة على التيار في شمس الضحى. كان نك يعرف أن أسماك السلمون المرقطة ستكون موجودة في هذه الظلال. وبعد الظهيرة، بعد أن تكون الشمس قد عبرت باتجاه التلال، ستكون أسماك السلمون المرقطة في الظلال الباردة على الجانب الآخر من النهر.
ستقبع الأسماك الكبرى على الإطلاق بالقرب من الضفة. وكان يمكن اصطيادها دوما هناك في النهر الأسود؛ فحين تنخفض الشمس، تخرج جميع الأسماك إلى التيار. وحين تسطع الشمس على المياه في الوهج الأخير قبل الغروب، يمكنك أن تمسك سمكة سلمون مرقطة كبيرة في أي مكان في التيار. من المحال أن تصطاد في ذلك الوقت؛ إذ يصبح سطح المياه ساطعا في الشمس كمرآة. يمكنك أن تصطاد بالطبع أعلى النهر، لكن في نهر كهذا أو النهر الأسود، عليك أن تخوض عكس التيار وفي مكان عميق، حيث تتكدس المياه حولك. لم يكن الصيد أعلى النهر ممتعا مع هذا القدر الكبير من التيار.
راح نك يتحرك في المنطقة الضحلة وهو يشاهد الضفتين بحثا عن حفر عميقة. رأى شجرة زان تنمو بالقرب من النهر حتى إن أغصانها قد تدلت في المياه. كان التيار يرتد تحت الأوراق. دائما ما يكون هناك أسماك سلمون مرقطة في مكان كهذا.
لم يكن نك يرغب في الصيد في تلك الحفرة. كان متيقنا من أنه سيعلق في الأغصان.
بالرغم من ذلك، فقد بدت عميقة. ألقى بالجندب فحمله التيار تحت المياه، وتحت الغصن المتدلي من الخلف. سحب الخيط بقوة وشد نك القصبة. راحت سمكة السلمون المرقطة تهتز بعنف وقد برز نصفها خارج المياه بين الأوراق والأغصان. كان الخيط قد علق. سحب نك الخيط بقوة، وهربت السمكة. لف الخيط على البكرة، وسار في النهر ممسكا بالخطاف في يده.
في الأمام بالقرب من الضفة اليسرى، كان ثمة جذع كبير. رأى نك أنه كان مجوفا، وكان يشير لأعلى النهر فدخله التيار بهدوء، ولم تتشكل سوى موجة صغيرة على كل من جانبي الجذع. كانت المياه تزداد عمقا. الجزء العلوي من الجذع المجوف كان رماديا وجافا، وكان الظل يغطي جزءا منه.
خلع نك الغطاء عن زجاجة الجنادب، وقد علق أحدها به. أخذ نك الجندب ووضعه في الخطاف وألقاه في المياه. حمل الصنارة بعيدا إلى الخارج كي يتحرك الجندب على المياه باتجاه التيار المتدفق إلى الجذع المجوف. أنزل نك القصبة بعض الشيء وطفا الجندب. شعر نك بشدة عنيفة. سحب نك الصنارة في الاتجاه المعاكس للشد. بدا الأمر وكأن الخطاف قد علق بالجذع نفسه، غير أن نك قد شعر بشيء يتحرك.
حاول أن يخرج السمكة إلى التيار. وخرجت بصعوبة.
ارتخى الخيط وظن نك أن السمكة قد هربت، ثم رآها بعد ذلك في مكان قريب جدا في التيار تهز رأسها وتحاول خلع الخطاف عنها. كان فمها مغلقا بإحكام. كانت تحارب الخطاف في التيار الصافي المتدفق.
راح نك يلف الخيط بيده اليسرى على هيئة أنشوطة ويحرك الصنارة كي يجعل الخيط مشدودا، وحاول أن يوجه سمكة السلمون المرقطة إلى الشبكة، لكنها ابتعدت واختفت عن بصره، وراح الخيط يتحرك صعودا وهبوطا. صارع نك السمكة في الاتجاه المعاكس للتيار، وتركها تضرب في المياه على نابض الصنارة. نقل الصنارة إلى يده اليسرى، وجلب السمكة عكس اتجاه التيار بينما ظلت هي تحافظ على اتزانها وتحارب صنارة الصيد، ثم أدخلها في الشبكة. رفع نك السمكة من المياه، وقد شكلت نصف دائرة ثقيلة في الشبكة التي كانت المياه تتساقط منها، ونزع الخطاف منها ووضعها في الجوال.
فتح نك الجوال ونظر بداخله إلى سمكتي السلمون المرقطتين الكبيرتين الحيتين في المياه.
خاض نك في المياه العميقة متجها إلى الجذع الأجوف. خلع عنه الجوال من فوق رأسه، وبينما كان الجوال يخرج من المياه، راحت السمكتان تتخبطان، ودلى نك الجوال حتى تصبح السمكتان مغمورتين في المياه. بعد ذلك خرج إلى الجذع وجلس عليه، وراحت المياه تنساب من سرواله وحذائه وتتدفق إلى التيار. وضع الصنارة بجواره وتزحزح إلى الطرف الظليل من الجذع وأخرج الشطيرتين من جيبه. غمسهما في الماء البارد، وحمل التيار الفتات بعيدا. أكل الشطيرتين وغمس قبعته في الماء ليملأها ويشرب منها، وراحت المياه تتدفق من القبعة قبل أن يشرب.
كان الجو منعشا في الظل الذي كان نك يجلس فيه على جذع الشجرة. أخذ سيجارة وأخرج عود ثقاب ليشعلها. غاص عود الثقاب في الغابة الرمادية وقد صنع فيها فجوة ضئيلة. مال نك على جانب الجذع، ووجد مكانا صلبا وأشعل عود الثقاب. جلس يدخن ويشاهد النهر.
في الأمام، كان النهر يضيق ويتجه إلى المستنقع. أصبح النهر سلسا وعميقا وبدا المستنقع ممتلئا بأشجار الأرز التي كانت جذوعها قريبة بعضها من بعض وأغصانها مصمتة. لم يكن بالإمكان السير عبر مستنقع كهذا. كانت الأغصان منخفضة للغاية؛ حتى إنه ستيعين عليك أن تظل في مستوى الأرض تقريبا كي تتمكن من القيام بأي حركة. لن يكون باستطاعتك السير عبر الأغصان. فكر أن هذا قد يكون هو السبب في أن الحيوانات التي كانت تعيش في المستنقع كانت بتلك البنية التي كانت عليها.
تمنى لو أنه قد أحضر شيئا يقرؤه. كان يشعر بالرغبة في القراءة. لم يشعر بالرغبة في دخول المستنقع. راح ينظر إلى النهر. كانت هناك شجرة أرز تميل بالكامل على عرض النهر. وفيما وراء ذلك كان النهر يتجه إلى المستنقع.
لم يكن نك يرغب في دخوله الآن. شعر بنفور من الخوض في الأعماق بينما يصل عمق المياه إلى إبطيه، وذلك لاصطياد أسماك سلمون مرقطة كبيرة في أماكن يستحيل أن يخرجها منها. في المستنقع كانت الضفتان خاليتين، وكانت أشجار الأرز الضخمة تتشابك معا فوقها، ولم يكن ضوء الشمس يمر منها إلا في بعض المناطق؛ وفي المياه السريعة العميقة ومع الضوء القليل، سيكون الصيد مأساويا. في المستنقع، كان الصيد مغامرة مأساوية. لم يكن نك يريدها. لم يكن يرغب في نزول النهر اليوم مجددا.
أخرج سكينه وفتحها وغرسها في الجذع، ثم سحب الجوال ومد يده بداخله وأخرج منه إحدى السمكتين. أمسك بها بالقرب من ذيلها، وقد كان من الصعب حملها وهي حية في يده. ضربها على الجذع. ارتعشت السمكة ثم تصلبت. وضعها نك على الجذع في الظل وكسر رقبة السمكة الأخرى بالطريقة نفسها. وضعهما على الجذع جنبا إلى جنب. لقد كانتا سمكتين جيدتين.
نظفهما نك وشقهما من فتحة الإخراج إلى حافة الفك. خرجت الأحشاء والخياشيم واللسان كلها كقطعة واحدة. كان كلاهما ذكرين؛ فقد كان بهما شرائط طويلة من أعضاء التلقيح ذات اللون الرمادي المائل إلى الأبيض، والتي كانت ملساء ونظيفة. كانت الأحشاء كلها نظيفة ومتكتلة فخرجت كلها معا. ألقى نك بالفضلات على الشاطئ كي تجدها حيوانات المنك.
غسل نك السمكتين في النهر. حين رفعهما عن المياه، بدتا كالأسماك الحية. لم يكن لونهما قد خبا بعد. غسل يديه وجففهما على جذع الشجرة، ثم وضع السمكتين في الجوال الذي كان ممدا على الجذع، ولفهما فيه، وربط الحزمة ووضعها في شبكة الصيد. كانت سكينه لا تزال واقفة ونصلها مغروسا في الجذع. نظفها على الخشب ووضعها في جيبه.
وقف نك على جذع الشجرة ممسكا بالصنارة وهو يحمل شبكة الصيد التي تدلت ثقيلة، ثم خطا في المياه وسار وهو يثير رذاذا من المياه نحو الشاطئ. تسلق الضفة وانعطف إلى الأحراج باتجاه الأرض المرتفعة. كان عائدا إلى المخيم. نظر إلى الخلف. لم يكن النهر يبدو إلا من بين الأشجار. كان أمامه الكثير من الأيام التي يمكن أن يصيد فيها من المستنقع.
المبعوث
كان الملك يعمل في الحديقة. بدا مسرورا للغاية لرؤيتي. تجولنا في الحديقة معا، ثم قال: أقدم إليك الملكة. كانت تقلم شجيرة ورد. ردت قائلة: شرفت بلقائك. جلسنا على طاولة تحت شجرة كبيرة وطلب الملك الويسكي والصودا. قال: لدينا نوع جيد من الويسكي على أية حال. أخبرني أن اللجنة الثورية لن تسمح له بالخروج عن حدود القصر. قال: أعتقد أن بلستيراس رجل رائع جدا، غير أنه صعب المراس للغاية. أعتقد أنه قد فعل صوابا بقتل هؤلاء الرجال. لو أن كيرينسكي كان قد قتل بعض الرجال، لربما اختلف الوضع تماما. لا شك في أن الأمر الأهم في مثل هذا الشأن ألا تقتل أنت!
كان اللقاء ظريفا للغاية. تحدثنا لوقت طويل. ومثل جميع اليونانيين، كان يرغب في الذهاب إلى أمريكا.
Unknown page