قالت هيبا شيا: إن أصدقاءك الأعزاء قد ذبحوا الفلسفة ذبحا، أو قل إنهم خنقوها بتراب الشارع.
فتلوت خاشعا:
وإذا الموءودة سئلت * بأي ذنب قتلت ؟ وكانت هيبا شيا عندئذ قد اختفت من مخيلتي صورة وصوتا، فتركت مقعدي، وأويت إلى فراشي لأدخل في نعاس الليل.
شبح اسمه الغزو الثقافي
إنه لا يزورني إلا حينا طويلا بعد حين طويل، لكنه إذا فعل، بشرت نفسي بمحدث يستولي على لب سامعه بسحر حديثه، ومع ذلك فكثيرا ما يلوذ بصمت مفاجئ لا أدري له سببا، وذلك ما حدث في زيارته الأخيرة، وهي أخيرة لكنها وقعت منذ عامين أو نحو ذلك.
إنه في تلك الزيارة، جاء فاستوى على كرسيه بجواري، ولزم الصمت بعد تحية سريعة قصيرة هامسة، فأخذت من جانبي أحييه ثم أحييه، وأرحب به ثم أرحب به، فيكتفي بهزة رأسه ووضع كفه على صدره، مع ابتسامة مصنوعة، فبحثت في مخزون الدماغ عن أي شيء أقوله، لعلي أحرك فيه شهوة الإجابة، فتنحل عقدة لسانه، قلت: إنني يا أخي كثيرا ما أقع خلال قراءتي، على عبارة هنا وعبارة هناك، فيها من الغرابة عن المألوف ما يصدم، ولكن فيها كذلك من الحق ما يوقظ، وعندئذ أنظر إلى العبارة مرقومة أمامي على صفحتها بمداد أسود، إلا أنها تتألق أمام بصري وكأنها تحولت إلى أحرف من نور، أو هكذا يخيل إلي ساعتها، ولعل ذلك الوهم العجيب في طبيعتي، إزاء عبارات كهذه، هو الذي يعين ذاكرتي على الاحتفاظ بها، وكأنها احتفرت فيها بمسمار من نار.
هنا تحرك زائري حركة خفيفة على مقعده، وقال في اهتمام واضح: مثل ماذا؟ فقلت: مثل عبارة وردت في سياق ما يعرضه الكاتب، تقول: «إنهم يقولون لماذا تستعبدون الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا، مع أن هؤلاء الناس قد ولدتهم أمهاتهم مكبلين بقيود من فولاذ، هي قيود الغرائز التي لا حيلة لهم فيها، وقيود الظروف التي ترسم لهم معظم طريق الحياة مقدما.» تلك عبارة، وأخرى وجدتها تقول: «لا تنصت إلى من ينصحك بأن تعامل الناس كما تحب أن يعاملوك به، فقد فعلت ذلك ولقيت الوبال، فأنا أحب لنفسي أن يعاملني أصغر صغير وكأننا متساويان في الصغر، أو متساويان في الكبر إذا أردت فعاملت كبيرا ذات يوم بنبرة في الحديث قد توحي إليه بأننا متساويان صغرا مثل صغري، أو كبرا مثل كبره ، فحزن لذلك واغتم وبطش بي بعد ذلك بطش الأشداء لأعرف من هو ومن أنا، وكم تكون المسافة بيننا.» وعبارات أخرى في مجالات أخرى، مثل قول الجاحظ في كتاب الحيوان: «إن القردة تشبه الإنسان في ظاهر ملامحه وحركاته، ولكنها لا تشبهه في السريرة التي تبعثه على الوفاء، وأما الكلاب فتشبه الإنسان من باطن، إذ تشبهه في بواعث سريرته ولا تشبهه في ملامح وجهه أو حركات بدنه، ولذلك نضحك من القردة لأنها تحاكي الظاهر ولا تحاكي الباطن، ولا نضحك من الكلاب؛ لأنها اختارت الباطن حين حاكت.» هذا هو معنى ما ورد عند الجاحظ، وضعته لك في عبارتي لأنني لا أحفظ نص عبارته، وهكذا يا صاحبي فماذا ترى في أقوال كتلك؟
تحرك زائري مرة أخرى في مقعده، وابتسم، لكن حركته هذه المرة لم تكن كسابقتها صادرة عن قلق، بل جاءت لتعبر عن طمأنينة، كما لم تكن ابتسامته هذه المرة مصنوعة كسالفتها، بل جاءت مطبوعة بطبعة الرضا الودود، ثم قال: لقد صدقت إنها عبارات كاشفة كأنها المصابيح يتوهج الضوء في زجاجها، وهنا رأيته وقد اعتدل في جلسته، مسترخيا هادئا، استرخاء المطمئن وهدوءه، فعرفت أنني مقبل على حلو الحديث، قال:
سأقص عليك قصة، هي - كالعبارات التي ضربت لي أمثلة منها - في ظاهرها من البعد عن المألوف ما يصدم، ولكن فيها كذلك من الحق ما يوقظ! فلعلي ذكرت لك مرارا، ذلك الصديق الذي ورث عن أبيه الثراء العريض، كما ورث منه كذلك ميلا إلى تحصيل المعرفة تحصيلا دائبا متصلا، ومع ذلك فهو لم يصل عند ذلك التحصيل حد الإشباع، إن لم يكن قد زاده نهما، وهو الصديق الذي قلت لك عنه إنه دائم السفر، لا يستريح من رحلة إلا ليأخذ أهبته، ويعد عدته إلى رحلة أخرى، في كل مرة يعود إلي بزاد وفير، عما رآه وسمعه في طول أرض الله وعرضها، ولقد جاءني هذه المرة بأغرب ما يروى وربما كان كذلك أصدق ما يروى في دلالته الخافية لا في صورته الظاهرة.
زعم لي أنه مر بإحدى الجزر المجهولة في الجزء الجنوبي من المحيط الهادي، ذكر لي اسمها، لكني نسيته لأنه مما ينسى لطوله وكثرة أجزائه، وأهل تلك الجزيرة - كما روى لي - يرتدون ثيابا غريبة لكن الطيبة تشع نورا هادئا من وجوههم السمحة وعيونهم الوديعة، ويبدو أن الجزيرة غنية بطيباتها مما يتيح لأهلها فراغا وراحة، ثم ما هو إلا أن سمعوا صاحبي ينطق جملا متقطعة بلغته العربية غير المفهومة لهم، فأدركوا من فوهم أنها هي لغة من جاءهم من الرحالة وأحبهم، وأقام معهم، فأسرعوا به ليلتقي بهذا الزائر الجديد، وإذا بالرجل يمني عربي، استطاب الإقامة فأقام، وكان ذلك لصاحبي نعمة هبطت إليه من السماء.
Unknown page