التمس الشيح محمد عبده بعض هذه الدروس التي وجهها إليه مرشده عند الشيح حسن الطويل1، بيد أن هذه الدروس لم تشبع نهم نفسه، على الرغم من طرافتها، وذكاء مدرسها, وسعة مداركه، وإنما كانت مثيرة لنفس الشيح محمد عبده، تبعث فيها الرغبة إلى الاستقراء والتعمق والوصول إلى الحقائق الواضحة # بدون تردد أو التواء، وأن تستشف ما وراء هذه الألفاظ القديمة، وأن تصل هذا العلم القديم بالحاضر الجديد، وتحل مشكلات الحياة بعامة، ومشكلات مصر بخاصة، ولم يكن ذلك ميسورا عند الشيح حسن الطويل، وإنما تهيأ لمحمد عبده أن يدرك هذه الغاية عند أستاذه الأكبر جمال الدين الأفغاني حين وفد على مصر وقد تحابا وتصادقا، ووجد جمال الدين في محمد عبده التربة الخصبة التي تحيل تعاليمه عملا صادقا قويا لا ينقص منه شيء, بل يزيد على مرور الأيام نماء، ووجد محمد عبده في جمال الدين الأستاذ الذي كمل له ما كان يشعر به من نقص؛ فإذا كان الشيح درويش قد لقنه شيئا من التصوف سابقا, فقد كان تصوفا خياليا, تحول على يد جمال الدين إلى تصوف عملي، وإذا كان الشيخ درويش قد بعث فيه الجرأة لمواجهة الناس والتحدث إليهم وبث تعاليمه بينهم، فقد مكنه جمال الدين من اختيار الموضوعات الصالحة التي يتكلم عنها، وأفسح أمامه أفق الإصلاح, فتعددت شعبه وميادينه؛ من دينية وخلقية واجتماعية، ثم إن جمال الدين حرضه على استخدام سلاح آخر في ميدان الدعوة، غير الخطابة والمشافهة، ألا وهو سلاح القلم؛ حتى تسير دعوته مشرقة ومغربة، فتشمل القريب والبعيد، وحتى تكون متقنة رائعة تغذيها التؤدة والفكر الناضج والمنطق, وقد فتن محمد عبده بجمال الدين وبدروسه وبروحه المتوجهة وحماسته العارمة، ونشاط فكره, ونظراته للحياة، ووجد فيه ما لم يجده عند حسن الطويل, فلا بدع إذا رأيناه يكتب بخط يده على نسخة من كتاب قديم: "وكان الفراغ من قراءته وتقريره عند لسان الحق، وقائد الخلق إلى جناب الحق، خلاصة من تحلى بالحكمة، ومنقذ الضالين في تيه الجهالة والغمة، ومحيى الحق والدين, أستاذنا السيد جمال الدين" وكان يلقبه "الحكيم الكامل".
Page 285