وكان جمال الدين يبادل محمد عبده حبا بحب, وإعجابا بإعجاب، فقال عندما رحل من مصرسنة 1879: "تركت لكم الشيخ محمد عبده، وكفى به لمصر عالما". وهى كلمة تدل على مبلغ اعتقاد هذا المصلح الكبير في تلميذه, وقدرته على تنفيذ تعاليمه, والقيام بالدعوة إليها من بعده, وقد روى المخزومي في خاطراته أن جمال الدين لم يذكر اسم محمد عبده إلا مقترنا بكلمة "الصديق" أو "صديق # الشيخ"، ولما اعترض عبد الله نديم على ذلك وقال له ذات يوم: "أيها السيد, ما غفلت مرة عن إضافة لفظ الصديق إلى الشيخ محمد عبده, كأنه لم يكن بين الناس صديق غيره؛ إذ تراك تنعت من سواه بلفظ صاحبنا أو فلان من معارفنا، أجاب جمال الدين بقوله: وأنت يا عبد الله صديق، ولكن الفرق بينك وبين الشيخ محمد أنه صديقي على الضراء، وأنت صديقي على السراء، ويعترف محمد عبده بأنه مدين بالشيء الكثير لجمال الدين ويقول: "إن أبي وهبني حياة يشاركني فيها "أخواي" علي ومحروس, والسيد جمال الدين وهبني حياة أشارك فيها محمدا وإبراهيم وموسى وعيسى والأولياء والقديسين" وقد مرت بك كلمته في قدرة جمال الدين على تفتيق المعاني, وكيف يتكلم في كل فن كأنه من كبار أساتذته.
ومنذ اتصل محمد عبده بجمال الدين ابتدأ اتصاله بالحياة العامة، والجهاد في سبيل إصلاحه الأمة, وهو بعد طالب في الأزهر، ولم ينل شهادة تجيز له التدريس, فقد كتب في "الأهرام" في السنة الأولى من صدورها بعض مقالات دلت على روحه وجرأته مثل: "الكتابة والقلم" و"المدبر الإنساني والمدبر الروحاني" "والعلوم الكلامية الدعوة إلى العلوم العصرية"1. ولخص بعض دروس أستاذه في الفلسفة بجريدة "مصر" التي كان يصدرها أديب إسحق، وكان من الطبيعي أن يثير هذا ضجة حول ذلك الشيح الأزهري الجرئ, فمن معجب به ومن حاقد عليه، ومن جامد ساخط يرميه بالزندقة.
وأخيرا تقدم الشيح محمد عبده لنيل شهادة العالمية، وقد تآمر الممتحنون عليه قبل مثوله أمامهم، وعزموا على ألا يمنحوه العالمية، بيد أنه خيب أملهم بعلمه ومهاراته في تصريف الكلام, وسعة اطلاعه, وسرعة بديهته، ووجد من الشيخ العباسي المهدي عطفا، واستطاع الشيح العباسي أن يقنعهم بوجوب منحه الشهادة, ولكن أصروا في عناد على أنه لن ينالها من الدرجة الأولى, واكتفوا بإعطائه الدرجة الثانية2 في غرة رجب 1294ه-1877م.
Page 286