Fath Carab Li Misr
فتح العرب لمصر
Genres
وألبس هرقل التاج، كما يقول «حنا النقيوسي»، وما كان راغبا فيه، وذلك في الكنيسة عينها كنيسة «القديس توماس»، وعاد بعد أن أدى الصلاة ذاهبا إلى القصر، وجاء أعيان المدينة يؤدون له الولاء، ويقول «قدرينوس» إن تتويجه إنما حدث في كنيسة «القديس إسطفن»، وهي متصلة بالقصر، في حين أن «ديوان بسكال» يذكر أن تتويجه حدث بين حادثة إحراق «فوكاس» وبين إحراق تمثاله، ولا يذكر مكانا لذلك. وهذا فيه من الخلط ما فيه. ومن العجيب أن ديوان «حنا النقيوسي» يؤيد قصة تردد «هرقل» في قبول التاج، وأن «ديوان بسكال» وسائر مؤرخي بيزنطة يؤكدون وقوع ذلك التردد. على أنه لم يلبث أن زالت وساوسه، وأعلنت ولايته للأمر إمبراطورا للدولة في اليوم الخامس من شهر أكتوبر سنة 610، وأصبحت عروسه المخطوبة «فابيا» إمبراطورة للدولة، وصار اسمها «أودوقيا».
والظاهر أن «نيقتاس» لم يعمل على أن يتصل بهرقل عند القسطنطينية على خلاف ما جاء في ديوان حنا؛ مما يدل سياقه على أن «نيقتاس» كان في العاصمة عندما خلع «فوكاس»، ولا بد أن يكون الصواب ما ذهب إليه «زوتنبرج» من أن ذكر اسم «نيقتاس» في هذا الوضع إنما كان نتيجة سهو وقع فيه الكاتب أو الناسخ، وأن الصواب هو «كريسبوس». ولو كان «نيقتاس» ترك مصر حقيقة ولحق بهرقل فاشترك معه وتم له ما ابتغى، لما خفي الأمر على أحد، ولما جاء ذكره عرضا في غموض وإبهام. على أنني لا يسعني إلا أن أخالف «جبون» حيث يقول: «كانت رحلة هرقل سهلة موفقة، وأما سير «نيقتاس» فقد كان شاقا عسيرا، ولم يتم حتى كان النضال قد انتهى، فخضع للقضاء الذي حبا صديقه، ولم يظهر أقل تألم مما كان.»
وما هذا القول إلا قلب للحقيقة كما بينا؛ فإن مسير نيقتاس هو الذي كان سهلا موفقا على وجه الإجمال، وقد بلغ مقصده الذي رمى إليه منذ ملك مصر على رغم ما اعترض سبيله من الأخطار، وما لقي من العوائق بوقوف «بنوسوس» في وجهه، وقد وقع كل ذلك قبل أن يستطيع هرقل أن يزحف من «سلانيك» على العاصمة بزمن طويل؛ فمما سبق نرى من العدل أن نقول إن هرقل لاقى عقبات ومصائب في رحلته، وكان عليه أن يقهرها، ولكن ليس في أيدينا من وصفها شيء، ولا نستطيع أن ندركها أو نعرف حقيقتها.
الفصل الخامس
مصر في حكم الإمبراطور الجديد
أرسل الإمبراطور إلى نيقتاس يثبته في حكم الإسكندرية، وإن شئت قلت إنه جعله نائبا عن الملك في مصر،
1
وأصبح أصحاب «فوكاس» بين قتيل قضي عليه، أو طريد مبعد، أو مرتد ترك الجانب الخاسر وهجره؛ فكان هم «نيقتاس» أن يعيد للحكم المدني الروماني نظامه، وأن يعيد للجيش الروماني كيانه، وكان هذان آلتي الدولة الرومانية تحتفظ بهما بملك مصر. وكان الحكم المدني والجيش كلاهما في يد السادة الحاكمين ليس فيهم أحد من أقباط مصر أهل البلاد؛ فكان ذلك الحكم من هذا الوجه أشبه شيء بحكم الإنجليز في الهند، على أنه يختلف عنه اختلافا عظيما كان سببا في القضاء عليه؛ وذلك أن حكومة مصر لم يكن لها إلا غرض واحد، وهو أن تبتز الأموال من الرعية لتكون غنيمة للحاكمين ، ولم يساورها أن تجعل قصد الحكم توفير الرفاهة للرعية، أو ترقية حال الناس والعلو بهم في الحياة، أو تهذيب نفوسهم، أو إصلاح أمور أرزاقهم؛ فكان الحكم على ذلك حكم الغرباء، لا يعتمد إلا على القوة، ولا يحس بشيء من العطف على الشعب المحكوم. وكانت في يد الحكام عاصمة البلاد الإغريقية، كما كانت في يدهم العاصمة المصرية القديمة منفيس، وحصنها العظيم حصن بابليون الروماني على الشاطئ الشرقي من النيل، وكذلك كانوا يملكون مدائن عدة حصينة يلي بعضها بعضا بين أسوان في الجنوب والفرما في الشمال، وكان جند الحكومة وجباة ضرائبها ينتشرون من تلك المدائن يظهرون هيبة السلطان ويجمعون الأموال، على حين كان تجار الروم واليهود يحلون حيث شاءوا تحميهم جنود الربط، ينافسون الأقباط في التجارة منافسة شديدة.
وكانت الإسكندرية من أشق بلدان العالم حكما؛ لأنها كانت تجمع أخلاطا من الناس من إغريق بيزنطة وآخرين ولدوا بمصر وقبط وسوريين ويهود وعرب وغرباء من جميع البلاد، ولكن يلوح أن نيقتاس قد كسب إجلال أهل الإسكندرية وإن لم يكسب حبهم، مع ما عرف عنهم من التقلب وحب الخروج. وكان من أول ما أمر به أن رفع عنهم جباية المال ثلاث سنوات، فكانت تلك يدا مازهم بها زادتهم تقديرا له بعدما رأوا من غنائه في الحرب، وليس ثمة شك الآن في أنه بقي مقيما في الإسكندرية.
2
Unknown page