مقدمة المعرب
مقدمة المؤلف
1 - خروج هرقل
2 - النضال من أجل مصر
3 - خيبة بنوسوس
4 - ولاية هرقل
5 - مصر في حكم الإمبراطور الجديد
6 - فتح الفرس للشام
7 - فتح الفرس لمصر
8 - الفن والأدب
9 - جهاد أصحاب الصليب للفرس
10 - إعلاء الصليب
11 - دعوة النبي محمد (عليه الصلاة والسلام)
12 - فتح العرب للشام
13 - الاضطهاد الأعظم للقبط على يد قيرس
14 - مسير العرب إلى مصر
15 - أول الحرب
16 - وقعة هليوبوليس
17 - حصن بابليون
18 - حصار حصن بابليون وفتحه
19 - السير إلى الإسكندرية
20 - حوادث القسطنطينية
21 - تسليم الإسكندرية
22 - فتح بلاد الساحل
23 - انقضاء حكم الروم بمصر
24 - وصف الإسكندرية عند الفتح
25 - مكتبة الإسكندرية
26 - فتح «بنطابوليس»
27 - إعادة بنيامين
28 - الحكم الإسلامي
29 - ثورة الإسكندرية بقيادة منويل
خاتمة
الملاحق والمصادر
مقدمة المعرب
مقدمة المؤلف
1 - خروج هرقل
2 - النضال من أجل مصر
3 - خيبة بنوسوس
4 - ولاية هرقل
5 - مصر في حكم الإمبراطور الجديد
6 - فتح الفرس للشام
7 - فتح الفرس لمصر
8 - الفن والأدب
9 - جهاد أصحاب الصليب للفرس
10 - إعلاء الصليب
11 - دعوة النبي محمد (عليه الصلاة والسلام)
12 - فتح العرب للشام
13 - الاضطهاد الأعظم للقبط على يد قيرس
14 - مسير العرب إلى مصر
15 - أول الحرب
16 - وقعة هليوبوليس
17 - حصن بابليون
18 - حصار حصن بابليون وفتحه
19 - السير إلى الإسكندرية
20 - حوادث القسطنطينية
21 - تسليم الإسكندرية
22 - فتح بلاد الساحل
23 - انقضاء حكم الروم بمصر
24 - وصف الإسكندرية عند الفتح
25 - مكتبة الإسكندرية
26 - فتح «بنطابوليس»
27 - إعادة بنيامين
28 - الحكم الإسلامي
29 - ثورة الإسكندرية بقيادة منويل
خاتمة
الملاحق والمصادر
فتح العرب لمصر
فتح العرب لمصر
تأليف
ألفريد بتلر
ترجمة
محمد فريد أبو حديد
مقدمة المعرب
الطبعة الأولى
ألف الدكتور «ألفريد ج. بتلر» هذا الكتاب منذ ثلاثين عاما، وعرفته منذ عشرين، فكان من الكتب التي خلفت في نفسي أثرا كبيرا، يمتزج فيه الإعجاب والتقدير بالرغبة في أن تتملك اللغة العربية بحثا قيما مثله، والأسف على أن يخلو تراثنا الأدبي من كتاب نظيره. وأي شيء أعجب من أن تكون لغتنا العربية، وأن يكون الفتح العربي حدا فاصلا في تاريخنا يفتح صفحة جديدة في حياتنا، ثم مع هذا لا نجد وصفا عربيا لذلك الفتح يمكن أن يعتمد على دقته ويوثق بتحريه؟ فكانت النفس تتطلع إلى ضم كتاب الدكتور بتلر إلى ثروتنا الأدبية ، غير أنه كان يقعدها التفكير في مشقة ذلك العمل، ومظنة العجز عن إنجازه، وقلة الثقة بالقدرة على نشره، ثم أتيح لي أن أحقق ذلك الحلم بأن ناطت بي «لجنة التأليف والترجمة والنشر» ترجمة ذلك الكتاب؛ إذ اختارته من بين الكتب القيمة التي تسعى أبدا في إظهارها ونشرها، فوجدت في تكليفها سرور الساعي إلى تحقيق أمنية طالما تاقت نفسي إليها، وأرى أن هذا مكان لائق لكلمة أقولها عن تلك اللجنة المباركة، التي ما سعت إلى أن يعرف أحد عملها، وهي دائبة لا تفتر عن العمل في خدمة العلم والأدب، وما قصدت قط أن تظهر للملأ فضلها، وهي ماضية قدما في جهادها في ميدان التثقيف والتنوير، لم تقف خدماتها عند حد سياسي ولا عند وطن، بل كانت خدمتها للناطقين بالعربية أجمعين، بادئة بالكنانة المحروسة مصرنا المحبوبة، ولو كنت من غير أعضاء لجنة التأليف لوجدت مجال القول بعد فسيحا، ولكن حسبي ذلك من القول.
وبعد، فقد كان من حق هذا الكتاب أن ينقل إلى العربية منذ ظهر؛ فإنه يسد ثلمة في تاريخ العرب ما كان ينبغي لها أن توجد، وما كان أجدر بأن ينقله إلى العربية مصري؛ إذ إن الكتاب يتعلق بتاريخ مصر.
غير أن الذي عاقني عن ترجمته قد عاق أمثالي عنها، ولم يكن أحد ليستطيع مثل ذلك العمل الكبير في مصر إلا إذا شدت أزره هيئة علمية قوية، ولكن الخير إذا جاء متأخرا فليس ذلك بناقص من قدره، ولعل تأخر ظهوره في العربية إلى يومنا هذا كان عن قدر وحكمة؛ فإن للكتاب معنى كان لا يظهر في الماضي ظهوره اليوم، فهو اليوم في إبانه وأوانه، والأحوال ملائمة له، ومجرى الأهواء مستعد لقبوله وتلقيه؛ ذلك أن مؤلف الكتاب رجل باحث لم يقصد من تأليف كتابه إلا بيان الحقيقة ناصعة، فلم يكن ممن يذهبون في التأليف إلى غرض من دعاية دينية أو سياسية، ولا ممن يتسترون بالعلم من أجل غرض يخفيه أو شهوة يسترها، بل كان نزيها في بحثه، قاصدا في قوله إلى اللباب. ومثل هذا الباحث لا يدركه القراء حق إدراكه، ولا يقدره الناس حق قدره، إلا إذا كان الجو المحيط بهم جو بحث وراء الحق، ودرس لإجلائه والإبانة عنه، ونحمد الله إذ قد بدت في مصر هذه الأيام حركة جدية نحو البحث والدرس، ولسنا نشك في أن هذا الكتاب ممتزج بها، سائر في مسيرها، جار مجراها.
غير أن الأمر غير قاصر على ذلك؛ فإن الوقت الحالي أسعد الأوقات لظهور هذا الكتاب من ناحية أخرى، ولعلها أجل شأنا وأبلغ خطرا.
ذلك أن العرب لما دخلوا مصر كانوا فئة قليلة، وجعلوا يتخذون لهم في مصر نظاما ينتزعونه مما سبق من نظم الحكم في البلاد، وجعل عددهم يتزايد ممن دخل في الإسلام من أهل البلاد طوعا أو كرها، فإذا مصر بعد قرن فيها عدد كبير من المسلمين، وبعد أن كانوا فئة قليلة حاكمة أصبحوا فئة كبيرة تشترك وأهل البلاد في أعمال الحياة؛ ونشأ ما ينشأ بين الجيران المختلفي المشارب من المنافسات والمنازعات، وزادت تلك المنافسات على مر الزمن حتى كانت أحيانا تتخذ شكل ثورة من أهل البلاد المسيحيين، وكان رد ذلك قاسيا من جانب الحكومة القائمة التي ما كانت لتدع الثورة يندلع لهيبها من غير أن تقضي عليها، ثم مضى الوقت وكان عدد المسلمين يتزايد، وعدد المسيحيين يتضاءل، وتغيرت الدول، وتبدلت نظرتها إلى واجبها في الحكم، وداخل المسيحيين ما يداخل الأقلية عادة.
إذن كانت مصر قبل الإسلام أمة واحدة يحكمها الروم، فاحتفظت بقوميتها، وحاطتها بمذهب ديني مستقل حافظت عليه أشد المحافظة، وما كانت محافظتها على مذهبها الديني إلا صورة من صور الحرص على بقاء شخصيتها ودوام استقلالها، ثم جاء الإسلام فإذا أهل مصر بعد بضعة قرون قسمان، كل منهما منفصل عن الآخر رغم تجاورهما، وإذا فيها شعبان متنافسان يحمل أحدهما لواء الكثرة والسيادة، ويحمل الآخر سلاح الراغب عن الامتزاج والفناء.
وقد نكون على حق إذا نحن قلنا إن الأمر بقي على تلك الحال إلى العصور الحديثة، غير أن ذلك الانفصال طور متوسط في حياة الشعوب، وما كان لشعب أن يبقى على ذلك إلى الأبد؛ فإن سنة الطبيعة أن يمتزج سكان القطر الواحد، ويشتركوا في المصالح، ويشعروا بأنهم أهل وطن واحد، تجمعهم الحياة نفسها، وتقرب بينهم أواصر الجوار والاشتراك في سراء الظروف وضرائها، على أن بلوغ ذلك لا يكون إلا إذا مهدت له الظروف، وعملت على إحداثه الأحداث. والأحداث لا تخلق وإن سعى إليها الناس، بل إن الناس ينساقون فيها، وقد يؤثرون فيها بعض الأثر أثناء اندفاعهم في تيارها القوي. وقد تهيأت الظروف إلى ذلك الامتزاج منذ عهد قريب؛ فقد يمكن أن نقول - وفي قولنا كل ما يدعو إلى الوثوق - إن سنة 1919 كانت حدا فاصلا بين عهد قديم وعهد حديث؛ بين عهد لم يكن الشعب المصري يحس أنه شعب مرتبط مشترك، وعهد آخر يشعر فيه المصريون جميعا أنهم أهل بلاد واحدة. وها نحن اليوم نشهد جيلا جديدا من المصريين آخذا في الامتزاج والاشتراك على أساس وطنية صادقة، ووحدة لا تفصم عراها؛ فلو ظهر هذا الكتاب من نحو عشرين سنة لما قدره أهل مصر قدره، ولما تبينوا فيه روح مؤلفه العادل، ولما أدركوا ما في صدره من سعة، وما في عقله من رجحان، وأما اليوم فإنهم لا شك يقدرونه، ويدركون ما فيه من عدالة ونفوذ رأي؛ فمؤلف الكتاب معجب بالعربي، ومعجب بالقبطي؛ فهو يذكر حوادث التاريخ ذكر القاضي الناقد، لا يعبأ أين تميل به الحجة؛ لأنه لا يقصد إلى نصر فئة، ولا الدعاية لشعب، بل يذكر ما كان في الماضي، ويوضح ما فيه من المسائل من غير أن تكون في نفسه مرارة، أو أن يكون في حكمه زيغ؛ فهو إن رأى الحجة مع العرب أبان عنها بيانا شافيا، وإن رأى الحجة مع القبط كشف عنها كشفا صريحا، وفي نفسه سرور الباحث عن الحقيقة إذا وفق إلى كشفها؛ إذ ليس في قلبه ما يسخطه على تلك الحقيقة إذا هي تبدت في جانب دون جانب؛ فالمصريون في هذه الأيام يستطيعون أن ينظروا إلى الماضي نظرة إلى تاريخ جرت حوادثه جريانا طبيعيا، ساقتها إليه الظروف التي كان لا بد من أن تسوقها إليه، ويستطيعون إذا رأوا ما يؤلم في ذلك الماضي أن يتخذوا منه عبرة من غير أن تثور حفيظتهم؛ إذ إن الأخ لا تبعده عن أخيه ذكريات ما كان بين الجدود من إحن أو منافسات؛ فلنا أن نعتقد أن قيمة هذا الكتاب تبدو على حقيقتها اليوم، وما كانت لتظهر من قبل مثل ظهورها هذا؛ إذ كانت تتنازع القلوب عوامل الحياة نفسها، فتغلب على حكمها.
كان للمؤلف فضل التعرض لبعض مفتريات التاريخ، وكانت شائعة بين الناس يأخذونها تلقفا بغير تمحيص، وطالما كانت تلك المفتريات عضدا لمن أراد البغي على المصريين؛ إذ يسوقها حجة عليهم، عليها مظهر الصدق التاريخي، فينخدع بها القارئ.
وإليك مثلين لتوضيح ذلك؛ فقد تناول في أول بحثه مسألة طالما رددها المؤرخون، وهي اتهام المصريين القبط بأنهم كانوا دائما يرحبون بالغزاة الأجانب، فرحبوا أولا بالفرس، ورحبوا ثانيا بالعرب؛ يريدون بذلك أن يتخلصوا من نير ليضعوا نيرا آخر على رقابهم. وقد أظهر المؤلف في حادث من هذين الحادثين كذب ما ادعاه المغرضون من المؤرخين، وخلص إلى أن القبط إنما كانوا أمة شاعرة بوجودها، متماسكة فيما بينها، مستمسكة بمذهبها الديني، وقد اتخذت ذلك المذهب الديني رمزا لاستقلالها، فضحت في سبيله بكل شيء، وكانت - وهي تفعل ذلك - تحافظ على استقلالها وشخصيتها من أن تندمج في أمة أخرى، ولكن المؤلف أظهر أن تلك الأمة التي حافظت تلك المحافظة المرة على شخصيتها، لم تكن لترضى بأن تفتح ذراعيها لسيد جديد، وتقف معه في وجه السيد القديم، بل كان كل ما فعلته أن بقيت مكانها لا تحرك ساكنا برغبتها، تاركة ميدان النضال بين المتنافسين؛ إذ لم يكن لها مصلحة في الدفاع عن سيد أذاقها مر العذاب في محاولته القضاء على استقلالها. وهكذا أظهر المؤلف أمة القبط في ثوب العزة والأنفة، ورمى عنها ما كان المؤرخون قد ألقوه ظلما عليها من التهم الشنيعة بإظهارها في مظهر الدناءة والذلة.
ولكن هذه الروح العادلة التي حدت بالمؤلف إلى نصرة الحق في جانب أمة القبط، حدت به كذلك إلى نصرة الحق في جانب أمة العرب؛ فلم يحاول أن يخفي من فضائلها شيئا، أو يعكر من صفو سيرتها في مدة فتح مصر، بل كان عادلا في وصف الأفراد والمجموع. نرى إعجابه بقائد القوم عمرو بن العاص، كما نرى إعجابه بروح البساطة والطهارة التي كان عليها غزاة العرب إذ ذاك، ثم نراه تعرض لمسألة خاض فيها المؤرخون المتأخرون، ووجدوا فيها سبيلا للطعن في سيرة العرب، وهي إحراق مكتبة الإسكندرية، فأبان هناك عن الحق راجعا إلى أسانيد التاريخ، حتى أظهر أن العرب عندما غزوا الإسكندرية لم يجدوا هناك مكتبة كبرى؛ إذ كانت مكاتب تلك المدينة قد ضاعت ودمرت من قبل غزوتهم بزمن طويل.
وبعد، فإن هذا الكتاب له قيمة خاصة لسبب آخر فوق ما سبق لنا بيانه، وذلك أن تواريخ العرب وفتوحهم لم يتناولها إلى الآن كاتب حصر همه في ميدان محدود، وبحث فيه بحثا مستفيضا، كما فعل مؤلف هذا الكتاب؛ فنجد كثيرا من الكتب تصف سيرة العرب إجمالا، وتتعرض إلى فتح مصر في قول موجز لا يزيد على عشرات من الصفحات، وأكثر هؤلاء المؤرخين إنما يرجعون إلى ما كتبه العرب في دواوين أخبارهم، غير أن هذا الكتاب الذي بين أيدينا لا يتناول إلا فتح العرب لمصر، وهو في أكثر من خمسمائة صفحة، وقد رجع مؤلفه إلى أسانيد القبط والأرمن والسريان واللاتين وغيرهم، كما رجع إلى مؤلفات العرب، فكانت نظرته من غير جانب واحد؛ ولهذا نراه أقرب إلى التمحيص، وأحرى بأن يكون قد أصاب القصد.
والحق أن تاريخ الفتح في أشد الحاجة إلى ذلك التمحيص؛ فكم به من مسائل غامضة يجب على المؤرخ أن يجلو غموضها، نضرب لذلك مثلا شخصية المقوقس؛ فإنا نسمع ذلك الاسم يتردد في كتب التاريخ عند ذكر رسالة الرسول
صلى الله عليه وسلم
إلى حاكم مصر، ونجده مذكورا في أثناء الفتح عند ذكر المفاوضة بين العرب والروم، ونجده كذلك مذكورا عند تسليم الإسكندرية، وقد سماه بعضهم جورج أو جريج بن مينا، وسماه بعضهم ابن قرقب أو قرقب، وجعله بعضهم من أهل مصر، وقال آخرون إنه يوناني، وهو بين كل ذلك يلوح في وسط ظلمة من الشكوك لا يكاد الإنسان يعتقد أنه شخص طبيعي وجد حقيقة في تلك الأحداث؛ غير أن المؤلف ما زال يقارن ويناقش ويفحص، حتى خرج إلى أن المقوقس لم يكن سوى قيرس البطريرك الملكاني بالإسكندرية، الذي جمعت له ولاية الدين والدنيا معا في أيام هرقل وخلفائه، على أن المؤلف قد استدرك الأمر، فأظهر أن ذلك الاسم قد أطلقه العرب على سبيل التعميم على الذي كان بطريرك الروم قبل قيرس، كما أطلقوه على بنيامين بطريرك القبط الذي كان طريدا وعاد بعد أن استقر العرب في مصر. وقد كان يخالفه في هذا الرأي كتاب أكبرهم الأستاذ ستانلي لين بول، غير أن ذلك الأستاذ لم يسعه بعد أن اطلع على ما كتبه المؤلف في بحوثه المختلفة عن شخصية المقوقس إلا أن يذعن للحق، فكتب إليه في يوم عيد ميلاده:
وإني جاعل هديتي في عيد ميلادك شهادتي بالرجوع عن رأيي في معارضتك في شخصية المقوقس؛ إذ ثبت لدي أنه لم يكن سوى قيرس.
وقد رأينا أن نورد أبحاث المؤلف في هذا الشأن تفصيلا، فأضفنا إلى الكتاب ذيلا جديدا ضمنه ما كتبه المؤلف عن المقوقس في رسالة أصدرها بعد إصداره هذا الكتاب، وهي «معاهدة مصر في الطبري».
وقد عانينا كثيرا في أثناء ترجمة هذا الكتاب؛ إذ إن المؤلف يقتبس فقرات كثيرة عن كتاب العرب، وبعض تلك الفقرات نصوص لا بد للمترجم أن يرجع إلى أصولها في اللغة العربية، حتى لا تكون الترجمة مذهبة روح القول الأصلي، أما البعض الآخر فعبارة عن أوصاف مادية لا يهمه إلا تأدية ما تصفه، وقد وفقنا - ولله الحمد - إلى الوصول لتلك النصوص في أغلب الأحوال، ولكن عجزنا عن بعضها لغير تقصير منا، ولنضرب لذلك مثلا قطعة منقولة عن هشام بن الكلبي، وهي عبارة عن مناظرة لعمرو بن العاص في حضرة معاوية؛ فقد بحثنا في كل ما استطعنا الوصول إليه من كتب التاريخ والأدب فلم نجد ذلك النص، ثم سألنا كثيرا من المتأدبين في مصر فلم يهتدوا إليه، وأرسلنا في طلب ذلك إلى المؤلف نفسه، ولكن طول العهد قد أنساه من أين أتى بذلك النص، فأرسل يعتذر - وله العذر - قائلا: «لعلي أخذت ذلك النص من بعض مقتطفاتي من مكاتب باريس ومدريد.» فاضطررنا أمام هذا أن نترجم النص الإنجليزي بقدر ما استطعنا من التقريب إلى أسلوب عصر معاوية وعمرو.
وقد وردت في الكتاب مقتطفات كثيرة عن اللغتين اليونانية واللاتينية، ولم يكن لنا حظ العلم بهاتين اللغتين، فاستعنا ببعض من لهم إلمام بهما؛ فأما النصوص اليونانية فقد ترجمها لنا صديقنا المسيو كلونارس، وأما النصوص اللاتينية فقد ساعدنا صديقنا المستر ويد، المدرس بمدرسة فاروق، بأن أرسلها إلى صديق معروف بالتفوق في تلك اللغة، وهو «القاضي بربكهيد»؛ فلهم جميعا عميق الشكر على خدمتهم الجليلة، وكان لا بد لنا مع هذا من إثبات الأصل؛ فأما النصوص اللاتينية فقد كان من السهل إيرادها في هوامش الكتاب، وأما النصوص اليونانية فقد تعذر علينا ذلك، فوضعنا علامة نجمة في موضع النص، مع كتابة رقم مسلسل بجوار النجمة، ثم ألحقت كل النصوص اليونانية في آخر الكتاب مسلسلة بأرقامها ليطلع عليها من شاء. كما أشكر محمد أفندي إسماعيل الصاوي على مجهوده في عمل فهارس الكتاب، وحضرة محمد أفندي نديم ملاحظ مطبعة دار الكتب على عنايته بإخراج الكتاب في شكله الحاضر.
محمد فريد أبو حديد
مقدمة المؤلف
لعلنا لسنا في حاجة إلى الاعتذار عن تأليف هذا الكتاب فيما يمس الغرض منه، فإنما الغرض منه أن نبني تاريخا واسع المدى مفصل الأخبار لفتح العرب مصر، ولم يسبق لأحد أن كتب مثل هذا التاريخ، اللهم إلا رسائل متفرقة ألم كاتبوها ببعض هذا الأمر إلماما، أمثال «جبون» ومن جاء بعده، وتلك الرسائل ما هي إلا بعض أبواب أو فصول موجزة داخلة ضمن مؤلفات مكتوبة عن دولة الروم أو عن دولة العرب. وفي الحق أنه لمما يسترعي النظر ألا يكون في أية لغة من اللغات بحث مفصل له قيمة يصف تاريخ ذلك الفتح، وقد كان ذلك من سببين اثنين: أولهما قلة ما لدينا من الأخبار التي يمكن أن يعتمد عليها الباحث العادي، وثانيهما ذلك الخلاف الواسع بين الرواة والمصادر، سواء منها المشهور وغير المشهور، وسواء في ذلك الشرقي منها والغربي.
وعلى ذلك فقد لف هذا الموضوع ظلام دامس، فكان الوالج فيه مقدما على تيه حالك من الخلاف والتناقض، وقد يلوح قولنا هذا كأن فيه مبالغة ومغالاة، ولكنه الحق لا شك فيه، ويعززه رأي كاتب معروف، وهو المستر
E. W. Brooks ؛ إذ يقول: «وقل أن نجد حادثا هاما من حوادث التاريخ قد خفيت أخباره واختلف في رواياتها كما هو حال تاريخ فتح الإسكندرية. حقا إن تاريخ غزو العرب للدولة الرومانية كله تاريخ مظلم غامض، ولكن تاريخ مصر أشده ظلمة وحلوكة.»
1
وقد أقدمنا على تأليف هذا الكتاب، وقصدنا منه - على الأقل فيما اختططنا لأنفسنا - أن نجلو بعض تلك الظلمة التي تلف الأمر لفا، وأن ندخل إلى الموضوع نتائج البحث الجديد، وأن ننتفع بما صار في متناول اليد من الأخبار الجديدة، وأن نقرن ما جاء في كتب مؤرخي الشرق بعضه إلى بعض، ثم نعالجه بالفحص والتمحيص حتى نقيم تاريخ هذا العصر على أساس علمي، ولم يخف علي ما في عملي من تقصير عن الخطة التي رسمتها له، بل إني عالم به حق العلم؛ فقد أخفقت طريقتي في بعض الحالات، ولم أفلح فيما قصدت منها، فكنت في ذلك عند قول
Maeterlinck «كمن يضع عدسة منظاره المكبر على سكون وظلمة». غير أني أقر أن إخفاقي كان في حالات أخرى راجعا إلى عجز في أنا لضعف علمي باللغة العربية، ومشقة السير في عملي في فترات قصيرة من أوقات الفراغ، وهو عمل يتطلب استقرار الذهن والبحث الدقيق المتواصل. على أنني أرجو أن عملي هذا سوف يبعث على زيادة البحث، ويحفز إلى المضي في الدرس. والحق أنني ألفيت نفسي مضطرا إلى مخالفة جل ما استقرت عليه الآراء في موضوع الفتح العربي ؛ فإنك تجد سيرة الفتح، حتى فيما كتبه أحدث المؤرخين وأقربهم عهدا، لا تزيد في مجملها عما يلي:
أنه قبل غزوة العرب ودخولهم فعلا في البلاد، كانت مصر قد وضعت عليها الجزية مدة ثلاث سنين أو تزيد، وضعها عليها قيرس (المقوقس)، ثم منع منويل تلك الجزية، فجاء العرب يغزون البلاد من أجل ذلك، وأن المقوقس كان من القبط وانضم إلى العرب، وأن القبط عامة رحبوا بالغزاة، ورأوا فيهم الخلاص، وأسدوا إليهم كل مساعدة، وأن الإسكندرية فتحت عنوة بعد حصار طويل مليء بالحوادث العجيبة والمخاطرات المثيرة.
مثل هذه السيرة هي التي أثبتها هؤلاء المؤرخون، ولعل القارئ يظن أننا نغالي ونبالغ إذ نقول إن تلك القصة لا حقيقة لها من بدئها إلى ختامها، ولكنا لا نرى رأيا غير هذا. وإنا إذا بحثنا الأمر، وفحصنا هذه العبارات جميعا، وعرفنا منشأها وأساسها؛ لاح لنا أنها تقوم على أساس من الحقيقة أو من شبه الحقيقة، ولا شيء أدعى للنظر ولا أروح للنفس من أن تفحص تلك الحقائق، وترى كيف حورت وحرفت حتى أمكن أن تلفق منها قصة تاريخية كاذبة، وإن شئت قلت خرافة. وقد لا يعجب القارئ أننا أطلنا في الهوامش والحواشي في بعض المواضع، وجوابنا على ذلك أننا قد رأينا واجبنا أن نثبت المراجع التي رجعنا إليها، والأسباب التي حملتنا على الذهاب مذهبنا الذي سلكناه، ورأينا الإفاضة والإطالة أولى بنا في مثل هذا الموضوع، وحيالنا ميدان فسيح مليء بالأخبار المتناقضة والخلافات العظيمة، فأطلنا وأفضنا، وما كان ينبغي لنا ذلك لو كنا نعالج أمرا أقل رقعة وأضيق ميدانا. وكذلك قد أطلنا في ملحقات الكتاب، ولكن لقد كان من أوجب الواجبات أن نقيم لأنفسنا بناء لتاريخ ذلك العصر، ونتخذ نظاما لتسلسل تواريخه وضبطها؛ فمثلا لم يكن من الممكن أن نكتب تاريخ الفتح إلا إذا جلونا حقيقة المقوقس، ولم يكن لنا كذلك بد من رسم خطة تامة لتسلسل التواريخ فيه؛ فلم يكن بالمجزئ أن نثبت ما نستخلصه من النتائج، وهي في كثير من الأحيان طريقة لم يسبق إليها أحد، بغير أن نبين الدعائم التي أقمناها عليها. ولقد كانت تلك الدعائم كثيرة الشعب والوجوه، سواء أكان ذلك فيما يخص شخص المقوقس، أم يخص تواريخ الفتح الفارسي، أو تواريخ الفتح العربي.
وأما موضوع الكتاب فقد بدا لنا أن كتابة تاريخ الفتح العربي لمصر يجب ألا يعالج على أنه حادث منقطع العلاقة بسائر حوادث التاريخ، بل إنه حادث لا يظهر خطره ولا تتضح حقيقته إلا إذا قرن بالأحداث التاريخية الكبرى التي ساقت دولتي الروم والفرس القديمتين إلى الاصطدام بالدولة العربية الناشئة. وقد رأينا أن حكم هرقل علم ظاهر من أعلام التاريخ يليق لأن نجعله مبتدأ تاريخنا. ومن لطائف الاتفاق أنه يبدأ على حوادث ذات شأن عظيم وقعت في مصر، وكانت لا تزال مجهولة خافية؛ فقد حدث في أثناء ذلك الحكم أن تمزق ملك فارس، وأن بعث (النبي) محمد، وقام برسالته ونشر دينه، وأن أفلت حكم بيت المقدس والشام من أيدي القياصرة، وملك كسرى بلاد مصر، كما أننا نطلع منه على الأسباب السياسية والدينية التي مهدت السبيل لانتصار سيف الإسلام وصولة القرآن. على أننا في الوقت عينه لم ننس أن نلقي نظرة على مجرى الحوادث التي كانت تحدث فيما وراء حدود مصر، وكانت نظرتنا إليه إلمامة حتى تكون تلك الحوادث الخارجية ثانوية تابعة لا تخمر الغرض الأول من الكتاب.
ولا غنى لنا عن التعرض بالقول للمراجع التي رجعنا إليها في تاريخ هذا العصر الذي اخترناه، فنذكر أولا من التواريخ القصيرة التي كتبها أهل الغرب في العصور القريبة
His. of the Saracens ، وهو تاريخ عجيب ألفه «أوكلي»، وتكاد شهرته بين الناس تعدل شهرة كتاب جبون، وهو
Rom. Empire. ، ثم نذكر كتاب «شارب»، وهو
Eg. under The Romans ، ولكنه ليس بالمؤلف الكبير القيمة. ونجد أخبارا طريفة وبحثا حديثا في الطبعة التي أخرجها الأستاذ «بوري» من كتاب تاريخ «جبون»، وفي الكتاب الذي ألفه الأستاذ نفسه، وهو
Later Rom. Empire ، ونجد مثل هذه الفوائد في كتاب المستر «ملن»، وهو
Eg. under Rom. Rule ، وكتاب الأستاذ ستانلي لين بول، وهو
Eg. in The Mid. Ages ، ورسالته عن القاهرة في سلسلة الرسائل المسماة
Mediaeval Towns ، وكتاب فيل
Geschichte der Chalifen
مرجع قيم، بل هو لا غنى عنه، على أنه قد تقادم عليه العهد، وكتاب «فون رانكه»
Weltgeschichte
يحوي نبذة عن الفتح، ومقالا عن عمرو في مصر، وفيها يردد الكاتب الأخبار المتداولة، ولعلنا نستطيع تلخيص رأي «فون رانكه» في كلماته التي قالها هو، وهي: «وكان فتح مصر ناشئا من خيانة خائن قبطي خرج من قومه واستظل بألوية العرب.» وذلك لعمري رأي لا تقوم له اليوم قائمة في ميدان البحث. وأما المؤلفات الفرنسية الكبرى فلا بد لنا أن نذكر منها كتاب «ليبو» طبعة «سان مارتان»، وهو
Histoire du Bas Empire ، وهو كتاب لم يزد عليه المتأخرون إلا قليلا، أو لم يزيدوا عليه شيئا. وأما كتاب سيديو
Histoire Generale des Arabes ، فقد جاءت فيه نبذة عن الفتح، ولا يكاد الإنسان يجد بها جملة واحدة دقيقة. ومثل ذلك «ديهل» نفسه؛ فإنه كتب في كتابه القيم
Afrique Bizantine
ما يأتي: «وقد انحاز القبط إلى جانب المغيرين بغير أن يقاوموا مقاومة تذكر، وكانوا بانشقاقهم هذا سببا في نصرة المسلمين» (صفحة 553). وأما كتاب «رينودو»
His. Patr. Alex.
فمؤلف جليل فيه درس عميق وبحث مستفيض، وله قيمة لا ثلمة فيها في الموضوع الذي يعالجه، وقد كان «كاترمير» مؤلفا اشتهر بسعة علمه ودقة حكمه، ومؤلفاته لا تزال على قيمتها العظيمة لم تفقد شيئا يذكر في نظر الباحثين في تاريخ مصر. على أن مؤلفات أهل الغرب لا يجوز الاعتماد عليها وحدها، حتى وإن كانت خيرا مما هي وأتم؛ فإن من أراد أن يبحث بحثا جديدا من هذا النوع، وجب عليه أن يعتمد على المراجع الأصلية. أما تلك المراجع، فاليوناني منها مخيب للظن والأمل؛ فمنها كتاب تيوفانز، وقد كتبه المؤلف في سنة 813، ولكنه أساء كل الإساءة في فهم أخبار الفتح العربي، فتاريخه المجمل المقتضب يخلط بين الفتح الأول والفتح الثاني للإسكندرية، مع أنه لا يذكر أحد الفتحين، وهو يخترع معاهدة عقدت مع العرب قبل دخولهم لمصر غازين، وليس في كتابه تناسب ولا تناسق، وهو السبب في كثير من التاريخ المختلط المكذوب. ومن كتاب اليونان «نيقفوروس»، وهو خير من السابق شيئا ما، ولكن كتابه لسوء الحظ ليس به شيء من أخبار ما بين سنتي 641-668، وما بقي بعد ذلك لا يزيد على أنه «ثبت بأسماء القواد المنهزمين». وهذان الكاتبان كلاهما يورد نتفا مفردة غير متصلة، ويختلف أحدهما عن الآخر، ويذكر كلاهما من تواريخ السنين ما لا يستطاع قبوله.
وأما حنا مسكوس وبطارقة بيت المقدس زكريا وصفرونيوس، فقد كانوا كتابا دينيين في أواخر القرن السادس وأوائل القرن السابع، ونستطيع أن نلمح فيما كتبوه بعض إشارات إلى حوادث سبقت الفتح. وقد ترك «ليونتيوس» النيابولي في قبرص ترجمة لحياة «حنا الرحوم» بطريق الإسكندرية، وفيها فائدة لتاريخ مدة الفتح الفارسي، وقد نشرها جلزر نشرة بديعة متقنة. وأما كتاب
Chron. Paschale
أو
Alexandrinum ، فأغلب الظن أنه كتب في أوائل القرن السابع في مصر، ولكنه لا يبلغ عهد الفتح، في حين أن الكتاب اللاتيني
Chronicon Orientale
الذي ألفه
Echellensis ، مؤرخ في سنة 1238 بعد الميلاد.
وأما المراجع الأرمنية، فإنها تكاد تكون في نظرنا لا فائدة فيها لتاريخ الفتح، مع أنها تذكر بالتفصيل العظيم حروب الدولة الرومانية مع الفرس، وتصف ضياع الشام؛ فالأسقف سبيوس له كتاب ظهر باللغة الروسية، وقد حرره المستر «كونيبير» مع ترجمة إنجليزية، ولكنه لم يطبع بعد، وفيه أخبار توضح ذلك العصر، ولكن ليس فيها ما يتعلق بمصر، أو ما أقل ما يتعلق بمصر فيها. وميخائيل السوري يظهر أنه ينقل عن تيوفانز، وقد نشر كتابه «لانجلوا». وأما النسخة التي حررها «شابوت» فإنها لم تتم بعد، وكتاب «اليشع النصيبي» توجد منه نسخة مخطوطة في المتحف البريطاني، ولكن جزءا منه خاصا بالفتح العربي قد نشر في «بتجن».
فلنأت الآن إلى الكتاب المصريين، ويجب أن نجعل أولهم وعلى رأسهم حنا النقيوسي، وهو أسقف قبطي كتب في مصر في أواخر القرن السابع، ولعله ولد حوالي زمن الفتح، وكتابه عبارة عن مؤلف في تاريخ العالم، وقد كتب جزء منه في الأصل باللغة القبطية، وجزء آخر باليونانية، ويظهر أنه قد نقل إلى العربية في زمن متقدم جدا، وعلى أساس النسخة العربية وجدت ترجمة أثيوبية، وهي النسخة الوحيدة الباقية من ديوان حنا، وقد ترجمها زوتنبرج وحررها. وأخبار هذا الكتاب ذات قيمة عظمى؛ إذ كان نصها واضحا غير غامض، ولم يتطرق إليه الفساد، ولكن ذلك الكتاب لا يذكر به شيء لسوء الحظ ما بين تولية هرقل وبلوغ العرب حصن بابليون؛ وعلى ذلك فكل مدة الفتح الفارسي وعودة مصر إلى الروم قد ضاعت منه، وكذلك قد اختلطت أخبار آخر مدة الفتح العربي اختلاطا عظيما؛ إذ هي مقلوبة رأسا على عقب، لا يستطاع إقامتها، ولا يكاد النقد يعيد إليها سياقها. على أنه قد ثبتت منه بعض حقائق من الأمهات الكبرى، ولا بد لنا من اعتبارها معالم ثابتة لا تدافع، ولا يختلف في صحتها، مع أنها تخالف ما جاء في الأخبار العربية المتأخرة عنها؛ فهي على ذلك أسس متينة لمن أراد أن يبحث في تاريخ هذا العصر. والحق أنه لم يكن في الإمكان أن يكتب تاريخ الفتح العربي لمصر لولا أن عثرت البعثة البريطانية إلى بلاد الحبشة على نسخة مخطوطة من كتاب حنا، وإنا لنرجو أن يعثر يوما ما على نسخة قبطية أو عربية من كتاب حنا النقيوسي تكون سابقة للنسخة الأثيوبية التي وجدت.
2
ولقد وجد الدكتور «شفر» في متحف برلين قطعة من ست صفحات مكتوبة بلغة الصعيد، وهي كما قال المستر «كروم» تتفق اتفاقا يسترعي النظر مع ما جاء في ديوان حنا. وقد ترجم «زوتنبرج» كتاب حنا، ونشره نشرة فيها عيوب في بعض نواحي الترجمة، وفي حسبان التواريخ، ولا يزال أهل البحث على شوق في انتظار ظهور الترجمة الإنجليزية التي اضطلع بها الدكتور «شارلز».
وأما المخطوطات القبطية المتقدمة فلا يعرف منها إلا النزر اليسير مما لا علاقة له بموضوعنا، وقد عني المسيو أميلنو بنشر قطع من الوثائق البودلية، وبها قطعة من حياة بنيامين (وهو بحث منشور في الجريدة الآسيوية لسنة 1888 تحت عنوان
Fragments Coptes Pour Servir à l’Histoire de la Conquête de l’Egypte .) وقد نشر العلامة نفسه بحثا عن حياة صمويل القلموني في
Monuments pour servir a l’Histoire de l’Egypte Chret. aux V
e -VII
e
siècles ، وقد نشرت نسخة أثيوبية من حياة صمويل نفسه، وهي
Vido do Appa Samuel do Mosteiro do Kalamon ، نشرها
F. M. E. E. Pereira ، وهو الذي نشر كذلك عن اللغة الأثيوبية رسالة
Vida do Appa Daniel ، ونحن مدينون للمسيو أميلنو كذلك برسالة في ترجمة حياة «بيزنتيوس»، وأخرى في حياة البطريق إسحاق، وكلاهما عن وثائق قبطية كتبت في القرن السابع، وبها نبذ ذات شأن عظيم، ولا شك أن الترجمة العربية لحياة شنودة قائمة على أصل قبطي، وقد نشرها كذلك المسيو أميلنو، ولكن القيمة التاريخية لهذه الوثائق القبطية ليست عظيمة المقدار؛ فقد كان هم من كتبوها ذكر الأمور الخاصة بالكنيسة، وكلما كانت تلك الأمور خارقة للمألوف كانت عنايتهم بها أعظم، وأما أمور الدنيا وحركاتها التي حولهم فقد كانت قلوبهم منصرفة عنها، تكاد تكون مقفلة من قبلها، ولا حاجة بنا إلى الأسف على أن هؤلاء الكتاب كانوا يستطيعون أن يدونوا لنا الأخبار الكثيرة ولكنهم لم يفعلوا، فلا يذكرون تاريخ عصرهم وحوادثه إلا بعض نتف متفرقة يذكرونها عرضا، ويلمحون إليها تلميحا.
وإنه لأشد لأسفنا أن حنا النقيوسي وسائر كتاب القبط في القرن السابع تفصلهم حقبة طويلة من الزمن عن الكتاب العرب، وهي نحو قرنين، وإنا لنأمل بعض الأمل أن نرأب تلك الثلمة إذا ما تم درس أوراق البردي الكثيرة التي كشفت في الفيوم وسواها، وإن ما تم منها للآن على أيدي الدكتورين «غرنفل» و«هنت»، وعلى يدي المستر كروم، ليس له كبير جدوى في تاريخ العرب، غير أن أوراق البردي العربية التي ينشرها الأستاذ «كراباسك» لا بد ترسل نورا يجلو ذلك التاريخ، ولنا على ذلك دليل مما نشره في ثبت بين فيه نماذج من تلك الأوراق، وعرضه في معرض «فينا»، وقد كان بينها خطابات من عمال اشتركوا في ميدان الفتح، وأورد حنا النقيوسي ذكر أسمائهم كما أورد أسماءهم مؤرخو العرب.
ولسنا نطمع أن نأتي ببيان مستقص لكل مؤرخي العرب، وحسبنا أن نأتي هنا بكلمة عن كل من كبارهم؛ فلعل في ذلك فائدة؛
3
فقد كان من أول مؤرخي العرب وأعظمهم قدرا الواقدي (747-823 للميلاد)، وقد ضاع كتابه، ولم يبق منه إلا المقتبسات الكثيرة والإشارات العدة التي بقيت في كتب المؤرخين الآخرين. وأما تلك الكتب التي تحمل اسمه مثل كتاب «فتوح مصر»، فإنها تنسب إليه خطأ، ولكنها في العادة تذكر منسوبة إلى اسمه تسهيلا في القول ، بدل أن يقال إنها تأليف «المدعي بأنه الواقدي».
البلاذري (806-892) تعلم في بغداد، ثم تردد على أبواب الخلفاء، وكتب حوالي سنة 868 كتابه «فتوح البلدان»، وهو كتاب في ذكر الحروب والغزوات مرتبة بحسب الأقطار والأقاليم، وهذا الكتاب إذا لم يكن أول الكتب عهدا وأغزرها مادة فهو بغير شك حجة من أعظم المراجع قيمة، ويتضح منه أنه قد كان منذ القرن التاسع خلاف عظيم في الآراء عن تفاصيل فتح مصر، واسمه مشتق من «حب البلاذر»، وهو مادة مخدرة، وقد كان موته ناشئا من أخذه جرعة منه زائدة عن طاقته، والعلامة
Weil
لا يعرف البلاذري.
ابن عبد الحكم (المتوفى بالفسطاط سنة 870) مؤلفه موجود في نسخة وحيدة مخطوطة لم تنشر بعد، وهي في باريس، ولكن قد أعدت العدة لنشرها، وإن الباحثين في الأمور الشرقية ليتطلعون إلى ذلك تائقين، وقد نقل كثير من الأخبار عن ذلك المؤلف، نقلها المؤرخون المتأخرون من العرب، كما نقل عنه «فيل» و«كاترمير»، ويختلط في كتاب ابن عبد الحكم كثير من قصص الخيال بأخبار التاريخ، ولكن لو نشرت منه نسخة منقودة لكانت ذات شأن عظيم.
وثمة الكثير من أوائل من كتبوا في وصف البلدان باللغة العربية، وقد نجد في كتبهم كثيرا من الأخبار والنتف التاريخية التي لها قيمة عظمى، وقد نجد نصوص أكثرهم في كتاب «دي جويجه»
Bibliotheca Geographica Arabica ، ونسمي من هؤلاء الإصطخري (ولعله ممن كتب في القرن التاسع)، وأبا القاسم بن حوقل (وكتب حوالي سنة 960 للميلاد)، وشمس الدين المقدسي، وابن رستاه، وابن الفقيه (وكتبا حوالي سنة 900 للميلاد)، وابن واذح أو اليعقوبي (المتوفى سنة 874 للميلاد)، وهو حجة عظيم القدر، غير أن «فيل» لا يعرف عنه شيئا، والمسعودي (وكتب حوالي سنة 960 للميلاد)، وهو كاتب دقيق الملاحظة، وما كتبه ذو قيمة كبرى في وصف آثار الإسكندرية.
ابن قتيبة (828-889 للميلاد) خلف «كتاب المعارف»، وهو عبارة عن قاموس تاريخي لتراجم حياة الأعلام، وقد قال عنه «فوستنفلد»: «إنه أقدم الكتب التاريخية المحضة التي بقيت إلى الآن من مؤلفات العرب.» ولكن الظاهر أنه أخذ أخباره من الرواية الشفوية وحدها بغير أن يرجع إلى المدونات، وقد أكثر النقل عنه متأخرو المؤلفين العرب، غير أنه لم يأت في أخباره عادة إلا بالقليل، وأسلوبه غير مفصل ولا مستفيض، وذلك أمر غير عجيب، بل هو المتوقع منه.
والآن فلننتقل إلى ذكر علم من أشهر الكتاب، ومن أجلهم قدرا في أكثر ما كتب، وهو الطبري (839-923 للميلاد)، وقد ولد في بلاد طبرستان، واسمه مشتق منها، وتلقى كثيرا من العلم، ثم ضرب في البلاد، فذهب إلى العراق والشام ومصر، ودرس القرآن والحديث والفقه والتاريخ، ثم عاد إلى بغداد وأقام بها، واشتغل بالتدريس والكتابة، وأخباره في العادة دقيقة، ويعنى بها عناية كبرى، ويفصل فيها تفصيلا وافيا مجليا، ولكن من أكبر ما يدعو للأسف أن كتابه ناقص نقصا عظيما في أخبار فتح مصر؛ فإن روايته في ذلك قليلة قلة شديدة، وزيادة على قلتها قد دخلها خلط كبير في كل ما يتعلق بوصف البلدان وتواريخ الحوادث، وذلك يدعو إلى كثير من التضليل. على أننا نرى أنه من الجائز أن يكون العيب في ذلك عيب النساخ، وليس عيب المؤلف؛ إذ قد يكون النساخ قد اختصروا الأصل، ولم تكن لهم خبرة تسددهم في اختيار ما يجب اختياره، وإغفال ما يجمل بهم إغفاله من الأخبار والروايات التي أوردها المؤلف بعضها إلى جانب بعض في ديوانه. ولعل ذلك يوضح لنا العلة في أمر عجيب في ذلك الكتاب؛ إذ جاء فيه ما قد يفيد أن فتح الإسكندرية قبل فتح منفيس أو مصر.
والمؤرخ المسيحي سعيد بن بطريق معروف معرفة عظيمة باسم آخر أكثر شيوعا، وهو «أوتيكيوس»؛ وعلى ذلك فلسنا في حاجة إلى الإطالة في ذكره؛ فقد ولد في الفسطاط في سنة 876، وتوفي سنة 960 للميلاد، وكان عالما ممتازا في الطب والدين والتاريخ، وصار بطريق الملكانية من سنة 933، واستمر عليها إلى وفاته، وينتهي ديوانه في سنة 938، وقد نسج به تاريخا سائغ المقرأ، غير أنه لم يكن تاريخا نقديا، وقد جمع في نسجه كل ما وجده دونه من خيوط الأخبار في المؤلفات؛ وعلى ذلك قد حفظ أخبارا كثيرة ذات شأن كبير، وديوانه فيه غلطة ثابتة في التاريخ مقدارها ثماني سنوات، سوى ما فيه فوق ذلك من الأخطاء وخلاف المتفق عليه.
ودوننا كاتب مسيحي آخر، وهو الأسقف القبطي للأشمونيين، نعني ساويرس (ابن المقفع)، وكتب تاريخ حياة البطارقة، وهو كتاب لم ينشر، ولا يعرف عنه إلا القليل، اللهم سوى ما أخذ عنه رينودو في كتابه، وتوجد ثلاث نسخ مخطوطة من هذا الكتاب؛ إحداها في المتحف البريطاني، وهي مما تخلف من نحو القرن الخامس عشر، والثانية في المكتبة الأهلية (بباريس)، وهي من نحو القرن الرابع عشر، والثالثة وهي قبل هاتين بمدة طويلة، ولعلها من نحو القرن الثاني عشر، وهي في حيازة مرقس بك سميكة (مرقص باشا سميكة) في القاهرة. وكتاب ساويرس عظيم الفائدة فيما يتعلق بتاريخ الكنيسة، غير أنه ليس فيه كبير غناء فيما سوى ذلك من أخبار الدنيا، وقد كان يعيش في القرن العاشر، ولكن لم يتحقق تاريخ وفاته الصحيح. والنسخة الخطية التي في باريس بها مقدمة من كتابة محبوب بن منصور، وهو شماس كان بالإسكندرية في النصف الأخير من القرن الحادي عشر، وقد كان يحرر في كتاب «تاريخ حياة البطارقة»، وقد قال ساويرس في مقدمته التي كتبها بنفسه: إنه كان يلجأ إلى بعض القبط ليترجموا له الوثائق القبطية واليونانية إلى اللغة العربية؛ إذ إن اللغتين المذكورتين كانتا حتى عند ذلك غير معروفتين لأكثر المسيحيين. وهذا عظيم الدلالة؛ إذ يظهر الحال من الاضمحلال التي هوت إليها لغة القبط ولغة اليونان، كما أنه يظهر جهل ساويرس بهاتين اللغتين. والحق أن ذلك الدليل على جهل اللغة القبطية عجيب مدهش، حتى ليلوح لنا أنه لا يكاد يصدق (انظر ثبت الكتب المخطوطة في باريس، طبعة دي سلان، صفحة 83).
فلنمض الآن من التاريخ الكنسي الذي كتبه ساويرس المصري إلى الرسالة التي كتبها الماوردي عن الأحكام السياسية، وكان الماوردي من بغداد (975-1058)، وقد بلغ أعلى شأو في ميدان الفقه والقضاء والسياسة، وكان ممتازا بسعة علمه ودقة حكمه، كما كان ممتازا باستقامته واستقلاله وعزة نفسه، وكتابه في «الأحكام السلطانية» مؤلف نفيس، فيه قوة في البيان وعمق في البحث، وهو عمدتنا فيما نعرف عن نظام الضرائب في الإسلام، كما أنه عمدتنا في كثير غير ذلك من مسائل الشريعة والعرف.
وإذا نحن استثنينا هذا الكتاب لم نجد إلا فراغا منذ القرن العاشر إلى القرن الثاني عشر، حتى نأتي إلى عصر كتاب الإدريسي في الجغرافيا، وكان الإدريسي من أهل الأسفار، ولما بلغ من العمر ستين عاما نزل ضيفا كريما على بلاط الملك روجر الثاني في صقلية، وكتاب الإدريسي يحوي طائفة من الأخبار القيمة. وأتى بعده بفترة قصيرة كتاب ابن الأثير (1160-1232)، ثم كتاب أبي صالح، وكان يعيش في العصر نفسه، وكتب حوالي سنة 1200، ولعله ولد قبل مولد ابن الأثير ببضع سنين، ثم يلي ذلك كتاب ابن خلكان «وفيات الأعيان». وكان ابن الأثير من أهل ما بين النهرين، وكان أكثر درسه للعلم في الموصل وبغداد، وقضى معظم حياته في الدرس والأدب، ولكنا لا نستطيع أن نجعله في الميدان الذي نحن فيه إلا في مرتبة دون مرتبة كبار المؤرخين، ولعله نقل أخبار الفتح عن كتاب الطبري، وما جاء فيه من ذلك لا يزيد الأمر إلا تحييرا. ومن أعجب الأمور أن كتابه الذي يسميه «الديوان الكامل» تزيد قيمته بعد أن نخرج من فترة الفتح، حتى إنه ليخيل إلينا أن القضاء جرى بأن يلقي أخبار الفتح في مجاهل النسيان. وأما ابن خلكان فقد كان صديقا لابن الأثير، وخلف كتابا في تراجم الأعيان، وقد نقلنا عنه كثيرا من الأخبار، وتوجد نسخة قيمة من ذلك الكتاب في اللغة الفرنسية، نشرها
Mac Guckin de Slane ، وكتاب أبي صالح «تاريخ الكنائس والديارات» معروف اليوم، والفضل في ذلك يرجع إلى نسخة المستر
B. T. Evetts
التي طبعت في أكسفورد.
وأما تاريخ مصر القصير الذي ألفه عبد اللطيف البغدادي، فقد كان معروفا من زمن طويل، والفضل في ذلك راجع إلى نشرة «ويت» مع ترجمتها اللاتينية، وقد ولد عبد اللطيف في بغداد في سنة 1161، ورأى كثيرا من الحروب مع الصليبيين في أيام السلطان صلاح الدين مع أنه لم يكن من الجند، على أنه سافر في بلاد الشرق الأدنى، وأقام مدة طويلة في مصر، وكان قصده من زيارتها في أول الأمر أن يسمع حكمة «الميمونيين».
4
وقد اشتهر بالعلم شهرة واسعة؛ لما كان عليه من معرفة بالطب والفلسفة والتاريخ، ولكن خدمته للتاريخ ينقص منها ما في أخباره من قصر واختصار، ومن الاستطراد في كتابته وتنقله من أمر إلى آخر.
ياقوت (1178-1228) هو كاتب شائق، وأكثر ما كتبه موثوق به، وقد ولد في بلاد الدولة الرومانية، ثم بيع رقيقا في بغداد لتاجر، فكان يبعث في التجارة إلى بلاد الخليج الفارسي، ثم ترك مولاه لخلاف شجر بينهما، وأخذ في تحصيل العلم، وكان يرتزق في أثناء ذلك من نسخ الكتب، ثم صالح مولاه قبل سنة 1200، وعاد إلى الاشتغال بالتجارة، وسافر من أجل ذلك إلى جزيرة «كيس»، ولكنه عندما عاد من سفره وجد أن مولاه قد توفي، فاشتغل ببيع الكتب والتأليف والسفر، وحوالي سنة 1213 زار مدينة «تبريز» وبلاد الشام ومصر، وبعد ذلك بسنتين سار إلى الشرق من دمشق، حتى إذا بلغ مرو ألفى بها مكتبة مليئة بالكتب، وهناك بدأ كتابه «معجم البلدان»، وانتهى من كتابته في سنة 1224، ولكنه اضطر إلى الرجوع لزيارة الإسكندرية، ولم يبدأ في نقل كتابه إلا في سنة 1227 في حلب، ومات وهو يشتغل في ذلك العمل في السنة التالية، وإنما لمما يؤسف له أنه لم يستطع أن يعيد النظر على كتابه، وهو كتاب لا يزال ذا قيمة عظمى في التاريخ والجغرافيا.
وأما ديوان المكين أو ابن العميد، أي كتاب تاريخ المسلمين، فهو مجموعة من نتف وأخبار قصيرة مرتبة بحسب تاريخ السنين، والكتاب معروف؛ إذ نشر نصه مع ترجمة لاتينية في سنة 1625، نشره
Erpenius ، وقد نقل «جبون» عنه كثيرا، كما نقل عنه كثيرون غيره، ولم يكن ل «جبون» من المراجع العربية إلا هذا الكتاب مع بضعة كتب أخرى قليلة، وقد قال رينودو فيه رأيا غير مشهور، إذ قال:
5
Qui Elmacinum sequuntur si Arabice nesciant, non ipsum sed interpretem sequi deprehenduntur, qui ut in multis saepe falsus est, ita circa annorum Arabicorum cum Romanis comparationem saepissime (His.
وكذلك قال فيما يتعلق بالتواريخ:
6
Infinitis exemplis constat hallucinari saepissime Elmacinum.
والظاهر أن المكين، كما قال رينودو، جعل ديوانه أو جزءا كبيرا منه على أساس ساويرس، وهذه الحقيقة توضح بعض السبب في قلة تحريه ودقته، وقد ولد المكين حوالي سنة 1205، ولكن تاريخه ينتهي إلى ما قبل عصره بنحو قرن، وقد كان مسيحيا مصريا، ولكن مؤلفه يجب أن يعد بين المؤلفات الصغيرة القيمة في نظر الباحث في تاريخ مصر.
أبو الفرج (1226-1286)، ويسمى كذلك ابن العبري؛ نظرا لأنه من أصل إسرائيلي، وقد ولد في ملطية بأرمينيا، وهو معروف بكتابه «تاريخ الدول» الذي نشره «بوكوك» مع ترجمة لاتينية، وهذا التاريخ مكتوب باللغة العربية، وقد اختصره أبو الفرج نفسه من كتاب أكبر كتبه باللغة السريانية، وقد جاء فيه أول ذكر مفصل لإحراق مكتبة الإسكندرية المزعوم، ولكنه لا يزيد شيئا على ما نعرف من أخبار الفتح العربي. وكتابه «تاريخ الكنائس» باللغة السريانية يتعلق بالكنيسة السورية أكثر مما يتعلق بكنيسة الإسكندرية، ولكن به بعض أخبار قيمة تتعلق بعصرنا الذي نعالجه، وكان أبو الفرج مسيحيا يعقوبيا، وصار أسقفا، ثم صار بطريقا لطائفته.
وللنووي معجم في التراجم فيه كثير من الأخبار التي لا تتعلق بعصر خاص، ولكنا لا نجد به كثيرا مما له علاقة لازمة بالفتح العربي، وقد ولد في قرية «نوا» بقرب دمشق في سنة 1232، وصرف حياته في الدرس والتعليم، ثم مات من الإعياء والجهد، ولا يزال قبره محفوظا، وله في نفوس الناس مقام كبير؛ إذ يعدونه وليا من أولياء الله.
وأما القزويني المتوفى سنة 1283، فقد خلف كتابا في آثار البلاد، وهو يشبه أن يكون دليلا لوصف الآثار القديمة، وقد وجدناه ذا فائدة في المسائل المتعلقة بالآثار. وكتاب أبي الفداء في وصف البلدان لا يسعنا أن نغفله؛ فهو قيم لذاته، وقد زادت قيمته لما أضاف إليه «رينو» في طبعته الفائقة التي جاءت في مقدمتها مقالة ذات فائدة عظمى، وصفت فيها الموارد العامة لعلم وصف البلدان في العربية.
وقد كان أبو الفداء علما من الأعلام، سليل الأسرة التي أنجبت صلاح الدين الأيوبي، ودرج في سننها من سبل الفروسية، فكان يهيم بمعمعان الحرب منذ نعومة أظفاره، على أن ناحيته العقلية كانت نامية زاكية ، وصار في آخر عمره سلطانا لحماة فوق ما كان عليه من سعة العلم والتبريز في الأدب، فكان بابه مقصدا للأعلام في كل ضرب من الفنون والآداب، وكان مولده في سنة 1273، وكانت وفاته في سنة 1331.
ولعلنا لا نكون تجاوزنا الحدود ونحن في صدد قولنا هذا في وصف البلدان إذا نحن عرضنا لكتاب أميلنو
Geographie de l’Eg. à l’Epoque Copte ؛ فهو كتاب عظيم النفع، يرجع إليه لمعرفة أسماء البلدان في العصر القبطي والعربي. وكذلك يجدر بنا ذكر مقال المستر «لسترانج» في مؤلفي كتب وصف البلدان من العرب، وذلك في مقدمة كتابه
.
ابن خلدون (1332-1405) يذكرنا اسمه بانتشار الدولة الإسلامية على بلاد المغرب؛ فقد كان مولده في تونس، ولكن أسرته كانت قد انتقلت من زمن طويل إلى بلاد الأندلس وأقامت بها، ثم تركت أشبيلية، وأقامت في سبتة قبل ميلاده بنحو قرن، وقد حصل ابن خلدون العلم في تونس أولا، ثم في تلمسان، ثم لحق بسلطان غرناطة، وقام بنفسه على عقد المعاهدة مع «الدون بدرو» القاسي ملك قشطالة، وقد استطاع سلطان غرناطة بتلك المعاهدة أن يعود إلى قصبة ملكه، وتاريخ ابن خلدون بحالته التي بقي عليها إلى اليوم مختلط تحيط به ظلمة حيث يصف أخبار فتح مصر، على أنا نجد به نبذا ذات قيمة عظمى ظهر صدقها الناصع ظهورا جليا.
المقريزي (1365-1441) نجد فيه مؤلفا مصريا إذ ولد بالقاهرة، وكتابه «الخطط والآثار» أثر نفيس من آثار العمل المتصل في جمع الأخبار، وقد كان كاتبا مكثرا عظيم الإكثار، وكان مطلعا على عدد عظيم من المؤلفات، غير أن معظمها قد ضاع ودرست معالمه، فهو من جهة مقدار ما كتب أعظم مراجعنا وأكبرهم شأنا، على أنه قد رجع فيما رجع إليه إلى بعض مؤلفين ليسوا ذوي ثقة عظمى، ومنهم من لا يتضح معنى قوله ومنهم، من يشك في روايته، وعلى ذلك فإنه مع شدة غيرته في كتابته وعنائه في عمله لا نستطيع أن نصفه بالدقة والتحري، ولا بأنه استطاع أن يحسن بناء ما وجد دونه من الأخبار.
ابن حجر العسقلاني (1372-1448) نحن مدينون له بكتابه في التراجم الذي أفادنا في ترجمة حياة «عمرو، وسواه من القواد في مدة الفتح»، وكان مولده في عسقلان كما يدل عليه اسمه، ثم سافر كثيرا في بلاد الشام وبلاد العرب ومصر، وحج إلى بيت الله إذ كان عمره عشر سنين، واشتغل بالتجارة ثم بالشعر ثم بالأدب، ومات وقد طعن في السن في مدينة القاهرة.
أبو المحاسن (1409-1469) كان أبوه مملوكا للسلطان برقوق، وولاه على حلب ثم على دمشق، ولكن المؤرخ نفسه ولد في القاهرة وتعلم بها، وكان المقريزي أحد من تلقى عنهم العلم، وقد جمع كتابه في تاريخ مصر على طريقة هي أشبه شيء بطريقة المقريزي؛ أي إنه كان يروي مختلف الروايات عن الحادث الواحد بغير أن يعلق عليها أو ينقدها أو يرجح بعضها على بعض، وإن فعل كان ذلك نقدا يسيرا.
السيوطي (1445-1505) هو آخر من نذكر هنا من المؤرخين، وكتابه «حسن المحاضرة» مبني في كثير من نواحيه على كتاب المقريزي؛ فهو ينقل عنه قطعا بأكملها نقلا لفظيا، وكان السيوطي من أهل القاهرة، مع أن أسرته كانت في الأصل من أرومة فارسية، وحلت في أسيوط منذ ثلاثة قرون قبل مولده، وكان أبوه قاضيا في القاهرة، وعلم بالشيخانية، وخطب في مسجد ابن طولون. وقد بدأ السيوطي يكتب منذ صغره، وكان يفخر بأن مؤلفاته معروفة في آسيا الصغرى، والشام، وبلاد العرب، وشمال أفريقيا، وبلاد الحبشة ذاتها، ولكن غروره وتفيهقه جعلاه مكروها عند الناس، فعزل عن أعماله المختلفة في التدريس، أو اعتزل العمل بها من تلقاء نفسه، ثم انتحى ناحية في جزيرة الروضة ومات بها. وكتابه في التاريخ يدل على انحطاط حتى إذا قورن بكتب سلفه الأقربين، ولكن من الحق أن نقول عنه كما نقول عن سلفه، إن اختيارهم للروايات كان يحوي أخبارا لها قيمة وخطر مما أغفله سواهم من أصحاب المصنفات الأخرى، أو مما ردوه ولم يروا إثباته.
على أننا لا بد أن نذكر مؤلفا آخر ذا شأن عظيم، ولم يكن من مؤلفي التاريخ، بل من الكتاب في وصف البلدان والآثار، ولم يكشف مؤلفه إلا سنة 1891، نعني به ابن دقماق، ويظهر أنه مصري، وأن وفاته كانت سنة 1406. وقد نشر الدكتور «فولرز» نص كتابه مع مقدمة اعترف فيها، وحق له ذلك، بما كان عليه المؤلف من سعة العلم التي تستلفت النظر، والقصد الأول للكتاب يدل عليه عنوانه؛ فهو وصف لبلاد مصر، وكثير من الحقائق التي حفظها ابن دقماق في كتابه لم يسبقه إلى ذكرها أحد، وهي شائقة من أروع ما كتب، ولا سيما ما كان منها في وصف آثار الفسطاط والإسكندرية، ولنضرب لذلك مثلا، فإنه يذكر أن الباب الأصلي للحصن الروماني الذي كان تحت كنيسة المعلقة كان في عام 1400 مستعملا لمرور الناس، ولعلنا نرجو أن يوفق الدكتور «فولرز» إلى نشر ترجمة لذلك الكتاب العجيب.
هذه إذن أمهات الكتب الشرقية التي استمددنا منها تاريخنا هذا، وليس منها واحد يذكر أخبار الفتح واضحة متصلة، بل نرى واجبنا أن نقول إنه ليس منها ما يذكر تلك الأخبار دقيقة، ولا يكاد الإنسان يتصور مقدار ما فيها من خلط في التواريخ والحوادث والأشخاص، ولعل القارئ يستطيع من مطالعة الملاحق التي ألحقناها في آخر الكتاب أن يتبين شيئا من مقدار ما هنالك من خلط في التاريخ، ومقدار ما عانيناه من المشقة في ابتداع طريقة لضبط تواريخ الفتح الفارسي والفتح العربي؛ فالظاهر أن مؤرخي العرب لا يعرفون شيئا عن تيودور القائد الأعلى لجيوش الروم، فهم يخلطونه ببعض أصاغر القواد، وهم كذلك يخلطون بين قيرس وبنيامين، وبين فتح قطر مصر وفتح مدينة مصر وفتح الإسكندرية، وأما معاهدة بابليون فهم يخلطونها بمعاهدة الإسكندرية،
7
وكذلك لا يميزون بين فتح الإسكندرية الأول الذي كان صلحا، وبين فتحها الثاني الذي كان عنوة في مدة ثورة منويل. والحق أننا لا ندعي أننا قد جلونا هذه الظلمات، فإنا لم نعمل سوى أن حاولنا تبيين أكبر مواطن الخلط، والوصول إلى الحقائق التي غطى عليها تناقض الأخبار. وقد حاولنا كذلك أن نكتب بغير تحيز إلى جانب القبط أو العرب؛ فبدأنا درس هذا التاريخ وكان الاعتقاد السائد أن القبط قد ساعدوا العرب ورحبوا بهم، غير أننا اضطررنا إلى أن نعتقد أن التاريخ قد ظلم القبط في ذلك ظلما فاحشا، وكذلك بدأنا درسنا على الاعتقاد الشائع أن العرب أحرقوا مكتبة الإسكندرية، غير أنا اضطررنا إلى أن نرى أن التاريخ قد ظلم العرب في ذلك ظلما فاحشا كذلك، وقد رحبنا بالرأيين الجديدين معا؛ إذ كنا ممن يحملون لكلا الشعبين العربي والقبطي أكبر الإعجاب. على أننا لا يحملنا ذلك على الانحياز لأحدهم، فما كان لنا إلا قصد واحد، وهو أن نصل إلى الحق. غير أننا نرجو أن يهتم العرب والقبط جميعا بسعينا هذا الذي سعينا إليه في تمييز الحق وتصفيته من الباطل، وفي جلاء عصر شديد الظلمة من عصور تاريخ مصر.
وكنا في كتابة الألفاظ العربية نسير على النظام المتبع في نشرة مطبعة «كلارندرن» لكتاب أبي صالح، وهو النظام الذي أقره كثير من العلماء الإنجليز باستعمالهم إياه. على أننا لم نجد من الضروري أن ننقل وفق هذا النظام ما دخل إلى اللغة الإنجليزية من الألفاظ العربية وصقله الاستعمال، مثل محمد
Mohammed ، وعمر
Omar ، ومكة
Mecca ، والقاهرة
Cairo ، وكنا نحذف أداة التعريف كما فعل من قبلنا المستر
Le Strange
في بحثه «بغداد». ولقد كان من العسير في بعض الأوقات أن نختار صورة للفظ من صور له متعددة بين يونانية وقبطية وعربية، فمثلا آثرنا استعمال لفظ
Nikiou ، وهو يوناني قبطي؛ إذ كان هو المستعمل عند الفتح، وفضلناه على لفظ نقيوس، وهو الصورة العربية لاسم تلك المدينة؛ إذ إن تلك الصورة تكاد تكون ميتة اليوم، ولكنا عند ذكر الفيوم رأينا من اللازم استعمال ذلك اللفظ المألوف، وفضلناه على الصورة القبطية لذلك الاسم وهي «بيوم»، أو الصورة اليونانية الرومانية «إقليم أرسنويه»، وهذا الاختلاف كان في أكثر الأحوال مقصودا على ذلك ولو كان خطأ، ويجب ألا يضاف إلى بيان الأخطاء الغير المقصودة أو وجوه النقص في الكتاب.
ولا بد لنا أن نشكر الدكتور المبجل «ر. ه. شارلز» إذ أعارنا ترجمته لكتاب حنا النقيوسي، والمستر «ف. ك. كونيبير» إذ أعارنا ترجمة إنجليزية لكتاب سبيوس، وللمستر «ب. ت. افتس » أن أعاننا بترجمة نبذ كثيرة من الكتب العربية، والمستر «و. أ. كروم»، والمستر «أ. و. بروكس»، والأستاذ «فولرز»، الأستاذ في «يينا»، لما قدموه لنا من الاقتراحات ووجوه النقد. ولا بد لنا أن نذكر مع الشكر والعرفان من ساعدونا أثناء زيارتنا القريبة لمصر، ونخص منهم فضيلة الأستاذ الشيخ محمد عبده مفتي الديار المصرية؛ إذ قد قدم لنا بعض قطع اختارها أو كتبها خاصة بالفتح، ومرقص بك سميكة إذ ساعدنا بأن راجع معنا نسخة من تاريخ ساويرس، كما قدم لنا كثيرا من الأيادي في وجوه مختلفة لم يدخر فيها وسعا، وجناب ماكس هارتز بك إذ قدم لنا كثيرا من البيانات عن الحصن الروماني حصن بابليون، وعن سوى هذا من أمور خاصة بالفن والآثار، والكبتن ليونز
R. E.
بنظارة الأشغال العامة، والمنسنيور «ب. كازانوفا» مدير المعهد الفرنسي، والمستر «أ. أ. فلوير» رئيس مصلحة التلغرافات؛ إذ قدموا لنا كثيرا من المساعدات فيما يخص أسماء المواضع وخطط البلاد عموما. وفوق كل ذلك أبادر بأحر الاعتراف بفضل صديقي المبجل المفضل «العميد بوتشر» بالقاهرة؛ إذ أتاح لي فرصة زيارة القاهرة مرة ثانية من أجل هذا الكتاب، وقد كان لا يفتر عن أن يغمرني بعطفه وتشجيعه، وهو يتابع خطواتي في هذا العمل، ويضيء لي السبيل فيه.
ألفريد ج. بتلر
أكسفورد، في 22 سبتمبر سنة 1902
الفصل الأول
خروج هرقل
استهل القرن السابع والدولة الرومانية تلوح كأنها تنحدر من حال الاضمحلال إلى حال الذهاب والفناء، وقد كانت تلك الدولة قبل ذلك بستين عاما قد أبلغها سلطان جستنيان إلى بلاد القوقاز وبلاد العرب شرقا، وإلى أعمدة هرقل
1
غربا، وقد كان لذلك العاهل شخصية قوية ملكت على الناس عقولهم، حتى لكان يخيل إليهم - كما قال القائل - «أن العالم كله أضيق من أن يسعه».
2
وقد كان مجده وأبهة ملكه مساويين لقوته وسلطانه، وكان حزمه عدلا لمجده، حينا من الدهر على الأقل، وكان فوزه في ميادين العلوم والفنون فوزا باهرا، حتى إنه ليبز انتصاره في ميادين الحروب؛ فإن عملية الجليلين اللذين يقترنان باسمه لا يزال باقيا منهما قانونه ومجموعة أحكامه يسايران الأيام، مشهودا لهما أنهما عمدتان في فقه القانون، في حين أن كنيسة «أيا صوفيا» لا تزال على مر الأيام ماثلة يشهد لها الدهر أنها أبدع أثر وأجل مثل في طراز البناء البيزنطي.
على أن خطر الاضمحلال كان ماثلا حتى في أيام «جستنيان»؛ فقد توالت النوازل على الدولة حتى خشي عليها، فمن فساد خلقي إلى آخر سياسي. وزادت عليها نكبات طبيعية؛ فاجتاح الوباء بلاد الشرق كلها بادئا من مدينة «الفرما»، ثم ما زال يعصف ببلاد مصر جائسا خلالها إلى أن بلغ بلاد «لوبيا»، وأنشب مخالبه في فلسطين وما يليها من بلاد فارس إلى القسطنطينية. وأعقب الوباء الزلزال، فدمر من المدن ما قد يعدل ما أصاب أهل الدولة من «الموت الأسود»؛ فكانت آخر أيام ذلك العاهل القانوني تغشاها سحابة دكناء من الهم وتوقع البلاء. وما كادت أيام حكم خلفه «جستن» تقترب من نهايتها حتى كانت حكومة الدولة تتصدع، وقد كانت أيام ذلك الحكم قصيرة ولا روح فيها، وانتهى العاهل منها بالجنون. فلما جاء بعده «تيبريوس» سنة 578 أمل الناس أن يكون أسعد طالعا من سلفه، وقد كان يرجى منه على الأقل أن يسعى ليوقف تيار الاضمحلال، ولكن الأجل لم يمهله حتى يظهر قدره، فخلف لمن جاء بعده، وهو «موريق»، خزائن خاوية، وشعبا متذمرا، ودولة غير متماسكة.
وما كان لمثل ذلك الكرب أن ينفرج إلا على يدي رجل له أعظم عقل، ولا يخطئ له رأي. ولم يكن «موريق» بذلك الرجل، مع أنه كان يقصد خيرا؛ فقد أفسد عليه خططه وخيب سياسته عيب طالما أفسد أحسن الخطط والآراء عند تنفيذها، ألا وهو قلة الاعتداد بتغير الظروف والأحوال سفها وجهلا، فأدخل على جيشه بدعا يريد بها إصلاح شأنه، وكان ذا دراية بفنون الحرب وخططه، وما أحسن ما كتبه في ذلك الشأن، غير أن ذلك لم يحفظ كتائبه من الهزيمة، ثم إنه عمد إلى الاقتصاد، وأخذ نفسه بذلك أخذا شديدا لكي يصلح من حال الدولة المالية، فخاب سعيه فيما قصد إليه، ولم يفد إلا أن أمل شعبه وأبعده عنه كرها، فثار به، ورمى بالتاج مزدريا إلى جندي جاهل مشوه الخلقة، وهو «فوكاس».
وكانت الدولة عند ذلك كأنها سائرة إلى الدمار لا ينجيها منه شيء؛ فكان حكم «فوكاس» حكما ظالما، قائما على جيش فاسد، تدعمه عصبة فاسدة من الأشراف، حكما تتناقص هيبته وقوته كلما بعدت عن قصبته ميلا فميلا، وسلط على أنحاء الدولة سوط عذاب من الحكم السيئ، حتى لأصبحت وأقل بلادها عذابا تلك الأقاليم التي تستعر فيها الحرب مع الفرس أو مع همج الشمال.
وفي الحق لم يكن في بلاد الدولة الرومانية ما هو أشقى حالا من مصر؛ فقد سعى «جستنيان» جهده ليجبر القبط الذين ليسوا على مذهب الدولة (الأرثوذكسي) فيدخلهم في ذلك المذهب، ولكن امرأته «ثيودورا» عملت من جانب آخر، فأفسدت بعض سعيه؛ إذ كانت تعطف على مذهب هؤلاء الأقباط عطفا ظاهرا.
3
على أن ذلك العطف ما عتم أن قضى عليه الإمبراطور «جستن» وعفا أثره؛ ومن ثم عاد الكفاح الشديد الذي ثار قديما بين طائفتي «الملكانيين» و«المونوفيسيين»،
4
وصار أشد سعيرا، ولم يكن عند قبط مصر هم أكبر منه يملأ قلوبهم ويملك عليهم آمالهم؛ فلم يكن عجبا على ذلك أن يسمع صليل السلاح بين حين وحين في مدينة الإسكندرية نفسها، وأن تمتلئ أرض الصعيد بعصابات اللصوص وقطاع الطرق،
5
ويغزو أكنافها البدو وأهل النوبة، بل لم يكن عجبا أن تضطرب الأحوال في مصر السفلى، فتصبح ميدانا للشغب تثور بها فتن بين الطوائف توشك أن تكون حربا أهلية،
6
ولم يكن عجبا أن يكون هذا في بلاد أصبح الحكام فيها لا هم لهم إلا أن يجمعوا المال لخزائن الملك البيزنطي وحاشيته، وأن تكون لمذهبهم الديني اليد العليا بين أهل البلاد؛ فصار الحكم على أيديهم أداة لا تؤدي إلا إلى الظلم ونشر الشقاء؛ فالحق هو أن بلاد مصر إذ ذاك كانت جميعها تضطرم بنار الثورة، ورغبة الخروج لا يغطيها إلا غطاء شفيف من الرماد.
بدأ حكم «فوكاس» في نوفمبر سنة 602، وفي ذلك اليوم لبس التاج في حفل عظيم حسب الرسوم المعروفة، ألبسه إياه البطريق «قرياقوس» في كنيسة القديس حنا بالقسطنطينية، ودخل المدينة من الباب الذهبي، فسار فيها بين صفوف من العمد الجليلة، وفي الطرق الكبرى تحيط بموكبه الناس يهللون له في سرور كبير. غير أنه ما أتت سنة 609 حتى كانت بلاد الدولة كلها هائجة تتهيأ للثورة، ثم بدأت الثورة في «بنطابوليس»، والرواية المشهورة لتلك الحوادث هي أن «كريسبوس» صهر «فوكاس» - زوج ابنته - استوجب أن غضب عليه الملك غضبا هائلا؛ وذلك بأن أقام تمثاله وتمثال عروسه في ميدان السباق؛ فلما أن فسد بذلك ما بينه وبين الملك، شرع كريسبوس يدبر لحميه ثورة، ودعا هرقل حاكم إفريقية لينفذ ما دبره. أما الحقيقة فهي أن هرقل كان يدبر أمر ثورة لم يكن فيها صادرا عن أمر «كريسبوس»، وقد ذكر تلك الحقيقة «قدرينوس» ذكرا صريحا لا شك فيه، ولم يكن «كريسبوس» صهر الإمبراطور بالرجل الذي يقدر أن ينهض بادئا بأمر؛ فلما أن سمع بما ثار من الاضطراب في «بنطابوليس» قويت نفسه، فأنفذ سرا إلى الثائرين كتبا يحثهم فيها على ما هم فيه، ويعدهم بالمساعدة إذا ما استطاع «هرقل» أن يسير إلى القسطنطينية، وقد كان «هرقل» قد تقدم في السن، فلم يكن قادرا على مثل هذه المجازفة،
7
فما كانت سنه بأقل من خمسة وستين عاما، إلا أنه رأى دونه ابنه وسميه «هرقل»، وكان عند ذلك في مقتبل العمر، ورأى صديقه «نيقتاس»، وكان نائبه ووكيله الأكبر، فما أسرع أن وجد فيهما الأداة الصالحة لإنفاذ خطته.
وقد أساء كثير من الناس فهم خطة الحرب، فذكر «جبون» - وهو حجة فيما يقول - رواية تافهة خلع عليها قوة بذكره إياها، وهي أن هرقل ونيقتاس اتفقا على أن يسير أحدهما بحرا والآخر برا قاصدين إلى العاصمة، فمن سبق إليها كان جزاؤه أن يفوز بالتاج.
8
ولا تنس أنهما ابتدآ من «قيرين»؛
9
فإذا هما قد ابتدآ ومع كل منهما قوة من الجيش مساوية لما مع الآخر، لم تكن قسمة عادلة، وكان سباقهما سباقا لم يكن قبله أكثر منه ظلما وحيفا؛ فإن هرقل لم يكن عليه إلا أن يجوز البحر الأبيض، ثم يساحل بلاد اليونان ومقدونيا، ثم يقذف بعد ذلك بجيشه على العاصمة، في حين أن «نيقتاس» كان عليه - على ما جاء في تلك الرواية - أن يسير إلى مصر، فينزعها من يد «فوكاس»؛ ومن ثم كان عليه أن يسير سيرا طويلا منهكا إلى فلسطين وسوريا وقليقيا وآسيا الصغرى؛ فهب أنه في مثل تلك الحال فاز فوزا مبينا في عدة مواقع باهرة، وهب أن كل مقاومة له خبت نيرانها، وانطفأ لهيبها، هب كل ذلك تجد أنه ما كان مع ذلك ليستطيع أن يتابع سيره في السباق لنيل الجائزة لفوات الوقت عنه إذا لم يكن لشيء سواه؛ ولهذا نرى أن الأمر لم يكن كما جاء في تلك الرواية. وإننا لو صدقنا وجود فكرة مسابقة بين متنافسين يكون التاج فيها لمن سبق - وهذا ما نستبعده ونشك فيه كل الشك - نقول لو صدقنا ذلك لكان خط السير أبسط مما تزعم الرواية، وأقرب إلى أن يكون السباق معه عادلا على سواء. إنه لا شك في أن إقليم «بنطابوليس» لم يكن فيه ما يكفي لما يقوم بحاجة جيش عظيم، فما بالنا بما يكفي جيشين؟ ولم يكن على قائد كل فرقة من الفرقتين أن يكتفي بالذهاب إلى «بيزنطة»، بل كان لزاما عليه أن يرفع علم الثورة حيث يسير، وأن يجمع المؤن والأمداد، ثم يجتمع كل منهما بأخيه حتى يضربا العاصمة ضربة تتصدع لها. فاستقر الرأي على إنفاذ هذه الخطة، بأن يذهب «هرقل» بحرا، وأن يسير «نيقتاس» في البر - لا شك في هذا - ولكن الذي جهله «جبون» ومؤرخو اليونان، ولم يقدروا على الفطنة إليه، هو أن الغرض الذي رمى إليه «هرقل» هو مدينة «سلانيك»، وكان القصد الذي رمى إليه «نيقتاس» هو مدينة «الإسكندرية»، وأن نجاح الخطة المشتركة كان متوقفا على انضمام هاتين المدينتين للثوار، أو خضوعهما لهم.
إنه لا يكاد يكون شك في أن هرقل كانت له صلات وثيقة بأهل «سلانيك» أو بحزب منهم، وأن «نيقتاس» كان يتوقع أن يلقى في مصر ترحيبا وتسهيلا، وأنه إن لقي مقاومة فلن تكون إلا مقاومة يسيرة. على أن توقعه لم يصدق، وفشل حسبانه؛ إذ صمد له عدو شديد المراس لم يكن يتوقعه، فوقف في سبيله. وإني أرى من الواجب علي أن أؤكد مرة أخرى - مفندا لقول جبون - أن «نيقتاس» لم يكن له إلا قصد واحد وهو فتح مصر، وأن مصر كانت من خطة العمل مع «هرقل» بموضع القطب تدور عليه رحاها، وأنها كانت العقبة لا عقبة سواها بينه وبين القسطنطينية؛ فإذا هو فتحها ملك بذلك الفتح أرضا يستطيع أن يجند منها الجنود، وتمكن من «مزرعة النيل» تخرج له القمح والخيرات، ووضع يده على ميناء الإسكندرية وما فيها من السفين؛ فإذا تم له ذلك كان من أشد الحمق أن يقتحم بجيشه الشام وآسيا بدل أن يذهب عامدا نحو الدردنيل فيلتحق بجيوش هرقل. وعلى ذلك فقد كانت الخطة كما يلي:
كان على هرقل أن يبحر بسفنه إلى «سلانيك»، وأن يعد هناك أسطولا قويا وجيشا جرارا، في حين أن «نيقتاس» كان عليه أن يملك الإسكندرية - وهي المدينة الثانية في الدولة جمعاء - فإذا هو ملكها قطع عن القسطنطينية ما كان يبعث إليها من قمحها، ووضع يده على موضع يستطيع فيه أن يجهز سرية بحرية يرمي بها «فوكاس»؛ فإذا لم يتهيأ له ذلك أمكنه على الأقل أن يقطع عن «فوكاس» كل إمداد من ذلك القطر.
10
وهذه الحادثة لا يذكرها مشاهير مؤرخي بيزنطة إلا عرضا في بضعة أسطر، ولا يكاد أحدهم يدرك مكان مصر وخطورة محلها من هذه الثورة، ولكن قد انبعث نور جديد على تاريخ مصر منذ كشف كتاب حنا النقيوسي، أو بقول أدق منذ نقلت إلى لغة أوروبية ترجمة لنسخة مخطوطة باللغة الأثيوبية من «ديوان أخبار حنا أسقف نقيوس»، وكانت «نقيوس» إذ ذاك مدينة عظيمة من مدن مصر السفلى، وكان حنا نفسه يعيش في النصف الثاني من القرن السابع للميلاد، وكان لا بد قد اتصل بكثير من الشيوخ المعمرين الذين شهدوا الحوادث التي أدت إلى سقوط «فوكاس»، أو بمن يكون عندهم ذكر منها؛ فديوان أخباره على ذلك له خطر كبير، ويسترعي النظر فيه دقة روايته وتحريه الحقيقة، إلا في مواضع شوهت فيها النسخة المخطوطة تشويها، وذلك مع أن هذا الديوان نقل من لغته الأصلية إلى لغة أخرى. حقا إن فيه بعض أغلاط، وفيه مواضع لا يتفق ما يذكره فيها مع سائر الحوادث، ولكن يعوض ذلك ويكفر عنه أن الكتاب يكشف من الحقائق شيئا كثيرا كان مجهولا؛ فالحق أن ذلك الديوان يبعث من لدنه نورا جديدا عجيبا يكسو تاريخ الدولة الرومانية الشرقية، وتاريخ بطارقة الإسكندرية، وتاريخ مصر عامة في ذلك العصر الذي قل أن يوجد عصر مثله في خطره ومكانه، على أنه عصر قد أهمل أمره إهمالا لا تبرره قلة ما ورد عنه، ونقص ما تخلف من آثاره، وفوق كل هذا فديوان حنا يكمل من نواح عدة ما جاء في الروايات الأخرى من نقص، ويصحح ما يشوبها من خطأ، مثل روايات «تيوفانز» و«قدرينوس» و«نيقفوروس».
الفصل الثاني
النضال من أجل مصر
وإن شئت قلت إن الناس لا نعلم من ديوان الأسقف المصري أنه قد كان ثمة بعض قتال في إقليم البنطابوليس نفسه؛ فقد جمع هرقل هناك جيشا من ثلاثة آلاف جندي منفقا في سبيل ذلك أموالا عظيمة، واجتمع لديه فوق ذلك جيش مما يسميه ذلك المؤرخ «الهمج»، وكانوا بلا شك من البربر، وقد جعل هؤلاء تحت قيادة «بوناكيس»، وهو تحريف في اللغة الأثيوبية لاسم يوناني؛ فانتصر بفضل هذا الجيش نصرا لم يكلفه كبير عناء على قواد الدولة، وهم «مارديوس» و«إكليزياريوس» و«إيزيدور»، واستطاع بوقعة واحدة أن يقضي على قوة فوكاس في ذلك الجزء من أفريقيا، وفي الوقت نفسه أرسل «كيسيل» حاكم طرابلس كتيبة لعلها ذهبت إلى جنوب بنطابوليس. وعلى كل حال فإن نيقتاس بدأ السير عند ذلك نحو الإسكندرية مساحلا، ثم لحق به في بعض المواضع «كيسيل» و«بوناكيس»، ولم يكن ثمة ريب في أنه سينزل على الرحب في كل مكان حتى يبلغ أكناف القطر المصري؛ ذلك بأن «ليونتيوس» حاكم مريوط - وهو الإقليم المصري في غرب الإسكندرية - كان قد استماله القوم، فوعدهم بجند كثير.
ويظن الناس أن مثل هذا السير إذا حدث اليوم حدث في صحراء مجدبة لا يكاد الماء يوجد بها، ولكن قامت أدلة كثيرة على أنه قد كان في القرن السابع في ذلك الإقليم كثير من المدن العامرة، وبساتين من النخيل، وأرض واسعة ذات خصوبة، وهو إقليم لا يعرف فيه الآن، وإن شئت قلت إن الناس لا يتصورون منه إلا أنه فياف من صخور ومن رمال محرقة. وهذا الأمر له خطر وشأن كبير عند الرواد، وعند من يهمهم الدرس والعلم؛ ولهذا نستميح القارئ عذرا إذا نحن قلنا فيه كلمات قليلة.
ذكر بطليموس أن إقليم «قيرين» ينتهي عند الجانب الشرقي لمدينة «دارنيس»، ومن ثم يبدأ إقليم «مرمريكا»، ومنذ قلنا إن «نيقتاس» قد سار إلى الشرق فإنه لا بد قد مر ببلاد كثيرة، منها مدينة «أكسيلس» و«بالوفيوس» و«بطراقس» و«أنتيبرجوس» ورأس «قطينيوم»، وكل هذه كانت في إقليم «مارماريكا». وكان أول إقليم «لوبيا» عند مدينة «بانورموس»، وكانت به مدائن كثيرة منها «قطابتموس» و«سيلنوس» و«بريطونيوم»،
1
وهي «أمونيا» بحسب تسمية «سترابو» لها. وكانت «بريطونيوم» قصبة الإقليم، وفيها مقر الحاكم، ويلوح أن ذلك الاسم ما زال باقيا في الاسم العربي «البرطون». وكان ما يلي ذلك من الشرق في الإقليم ذاته مدينة «هرميا»، ويليها «لوكاسبيس»، وكان أول إقليم «مريوط» في منتصف المسافة بين «لوكابيس» و«كيموفيكوس»، وكانت أكبر مدائن هذا الإقليم مدينة «بلينطين» في «تينيا»، ومدينة «تابوسيريس الكبرى»، وحصن «الكرسونيسوس»، ومدينة «مارية»، وهي مريوط.
وترد في كتب «بطليموس» و«سترابو» أسماء مدائن أخرى. ومن المحقق أن إقليم مصر في القرن الأول كان ينتهي حيث يبدأ إقليم «قيرين»، وأنه لم يكن يفصل بين الإقليمين مفازة من أرض لا يمكن السير فيها. وقد طرأ على إقليم «لوبيا» فيما بعد شيء من الفساد والخراب حتى أتى القرن السادس، فأصبح «جستنيان» يعوض الحاكم عن فقر إقليمه بأن ضم إقليم «مريوط» إلى حكمه. على أن الطريق بين بنطابوليس والإسكندرية بقي مع ذلك محفوظا، مراحله محددة، وليس به من قطوع تذكر، ولا من عائق يعوق السير به، بل وما زال الطريق متصلا قائما إلى اليوم الذي نصفه في هذا الكتاب. وهذا أمر ثابت قام عليه الدليل القاطع؛ ذلك لأنا نعلم أن الجيش الفارسي سار في أوائل القرن السابع بعد فتح مصر ليفتح بنطابوليس وكان سيره في البر، ثم عاد بعد أن فاز فوزا مبينا في غزوته تلك. ويقول «جبون» إن تلك الغزوة قضت قضاء تاما على المحلات اليونانية في مدينة «قيرين»، ولنذكر أن ذلك لم يكن إلا بعد سنوات تسع من غزوة «نيقتاس»، ولكن «جبون» قد أخطأ الصواب كل الخطأ؛ إذ زعم أن جيوش «كسرى» جرت على ذلك الإقليم ذيل الخراب والعفاء؛ فالحق أن تلك الجيوش أحدثت بالإقليم ضررا عظيما، ولكنه لم يكن تخريبا قضى عليه، ولا تدميرا لا قيام بعده، بل إن الأمر كان على خلاف ذلك؛ فإن عمرو بن العاص العربي عندما فتح الإسكندرية بعد نحو ثلاثين سنة من ذلك الحادث اتجه نظره بالطبع إلى إقليم بنطابوليس، وسار نحوه فاتحا «برقة» و«قيرين»، وليس في وصف تلك الفتوح ما يدل على أن ذلك المسير كان عملا حربيا خطيرا، ولا أن العرب تغلبوا فيه على صعاب طبيعية.
إنه ليس شيء أبعد عن الحق من أن يقول قائل إن الطريق إلى غرب مصر كان يشق فيافي قاحلة؛ فلدينا من الأدلة ما يذكر صريحا أن كل أرض الساحل الواقعة إلى غرب مصر بقيت آهلة يزكو بها الزرع حتى مضت قرون ثلاثة بعد الفتح العربي. ويذكر المؤرخ العربي «المقريزي» أن مدينة «لوبيا» قاعدة لإقليم يقع بين الإسكندرية و«مراقية». وذكره لهذين الاسمين على هذه الصورة يدل على أن الاسمين القديمين «لوبيا» و«مرمريقا» قد بقيا في اللغة العربية لم يكد يعتريهما تغيير. وقال المقريزي في موضع آخر إن إقليم بنطابوليس يبدأ بعد مدينتي «لوبية» و«مراقية». وجاء في كتابي «القضاعي» و«المسعودي» ما يتفق مع هذا الدليل. وكان في إقليم «لوبيا» أربع وعشرون مدينة ما عدا القرى الصغيرة. وقال المقريزي في وصف «مراقية» نقلا عن ترجمة «كاترمير»:
2 «مدينة مراقية كورة من كور مصر، وهي آخر حد أراضي مصر، وفي آخر أرض مراقية تلقى أرض أنطابلس (بنطابوليس)، وهي برقة، وبعدها عن مدينة سنترية نحو من بريدين (وقدر ذلك أربعة وعشرون ميلا)، وكانت قطرا كبيرا به نخل كثير ومزارع، وبه عيون جارية، وبها إلى اليوم بقية، وثمرها جيد إلى الغاية، وزرعها إذا بذر ينبت من الحبة الواحدة من القمح مائة سنبلة، وأقل ما تنبت تسعون سنبلة، وكذلك الأرز بها جيد زاك، وبها إلى اليوم بساتين متعددة. وكانت مراقية في القديم من الزمان يسكنها البربر الذين نفاهم داود - عليه السلام - من أرض فلسطين، فنزلها منهم خلائق، ومنها تفرقت البربر؛ فنزلت زناتة ومغلية وصريسة الجبال، ونزلت لواتة أرض برقة ... إلخ. فلما كان في شوال سنة أربع وثلاثمائة من سني الهجرة المحمدية (916 ميلادية)، جلا أهل لوبيا ومراقية إلى الإسكندرية خوفا من صاحب برقة، ولم تزل في اختلال إلى أن تلاشت في زمننا، وبها بعد ذلك بقية جيدة.»
3
والكلمات الأخيرة، كما هو ظاهر، تقصد المدينة وليس الإقليم، وهي ذات دلالة كبرى؛ لأنها تصف ما بقي من آثار المدينة حتى سنة 1400 للميلاد. وإنا لذاكرون هنا أمرا على سبيل الاستطراف، وذلك أن خرائط الملاحة لأهل البندقية كانت فيها حوالي سنة 1500 سلسلة غير منقطعة من الأسماء على هذا الجزء من ساحل البحر الأبيض المتوسط، ولكن المقريزي يحدثنا حديثا آخر عن مريوط، فيقول إنها كانت قديما تزدحم بها البيوت والحدائق، وكانت أرض الإقليم كله حدائق منثورة إلى حدود برقة غربا. وكانت مريوط في أيامه مدينة تابعة لإقليم الإسكندرية، وإليها كانت ترسل ما تثمره حدائقها من الفاكهة الكثيرة. ويقول «شمبوليون» إنها كانت عاصمة لمصر السفلى في أيام الإمبراطورية المصرية القديمة، ثم اضمحل أمرها شيئا فشيئا. وكانت في أيام «فرجيل» و«سترابو»، كما يشهدان بذلك، معروفة بجودة خمرها على الأقل، وتقع أطلالها اليوم على اثني عشر ميلا إلى غرب الإسكندرية، ولكنها لا تكاد تكون معروفة لأحد. على أن الأرض التي تحت الرمال من الغرين، وهذا يعزز ما كان يعرف عنها قديما من الخصب.
فمن الجلي إذن أنه قد كانت قبل فتح العرب لمصر سلسلة متصلة من المدائن، وأرض فسيحة من مزارع أولها عند الإسكندرية إلى أن تبلغ «قيرين»؛ وأن مسير «نيقتاس» بجيشه هناك لم يكن به من الشدة ما يستوجب مهارة كبرى في القيادة، ولا جلدا عظيما على تحمل المشاق. وأغلب الظن أن ما يوصف به الطريق في الوقت الحاضر من الوعورة فيه كثير من المبالغة؛ فإن الحجاج المسلمين يسلكون ذلك الطريق من مراكش وتونس وطرابلس سائرين على أقدامهم بقرب الساحل. وتكثر آثار الإغريق والرومان في تلك البلاد، ولكن أهلها اليوم من أشد الناس تعصبا؛ فالبدوي المتنقل هناك يمنع تلك الأرض أن تطأها قدم الباحث المتنقل؛ ولهذا بقيت يجهلها التاريخ وعلم الآثار القديمة أكثر مما يجهل البقاع القاصية في قلب الصحراء، مع أن سواحلها يحف بها البحر الأبيض المتوسط، وتكاد تكون على مدى البصر من بلاد إيطاليا واليونان. وهذا بالطبع راجع إلى سببين معا؛ إلى حكم الترك، وإلى شدة البدوي في عقيدته. وهما سببان اجتمعا فكانا كافيين لأن يجعلا التنقل هناك متعذرا يكاد يكون مستحيلا؛
4
فلو أتيح لتلك البلاد أن تكون يوما تحت حكم دولة متمدينة لأصبحت ميدانا فسيحا للبحث والتنقيب، وقد يكون من الممكن أن تسترجع شيئا من خصبها القديم ورخائها الماضي إذا ما أقيمت بها الأعمال الهندسية الملائمة لها.
وبعد، فإنا قد خرجنا عما كنا بصدده من القول، وطال بنا القول في سواه، على أن ذلك يساعدنا على أن ندرك حقيقة سير «نيقتاس» بجيشه في تلك الأراضي، ومنه نستطيع أن نعرف أنه لم يلق في طريقه إلا قليلا من المشاق، على أنه لا شك قضى في سيره زمنا طويلا، وكانت المؤامرات أثناء هذا يتلو بعضها بعضا بين أحزاب يكيد بعضها لبعض في عاصمة القطر المصري؛ فقد اشترك رجلان في مؤامرة ليقتلا «فوكاس» ويجعلا التاج بعده لهرقل، وكان أحد هذين الرجلين «تيودور» بن «ميناس» الذي كان حاكم الإسكندرية تحت حكم الإمبراطور «موريق»، وكان الثاني «تنكرا»، ويظن زوتنبرج خطأ أنه قد يكون «كريسبوس»، وكان بطريق الإسكندرية الملكاني الذي أقامه «فوكاس» لا علم له بهذه المؤامرة، ولكن «حنا» حاكم الإقليم وقائد الحامية، ورجلا آخر اسمه «تيودور» كان مراقب الأموال العامة، نقلا إلى البطريق نبأها، ثم اشتركوا ثلاثتهم في إرسال خطاب ينذرون به «فوكاس» بالخطر.
وكان الإمبراطور يعرف حق العلم ما كان عليه المصريون من تقلب الأحوال وقلة الثبات؛
5
ولهذا كان يريد أن يستميلهم؛ فأرسل إليهم منذ حين عددا كبيرا من الأسود والفهود لتعرض على الناس، ثم أرسل مع ذلك عددا من القيود وآلات التعذيب تصحبها خلع سنية وأموال لكي توزع على أصحابه وأعدائه لكل ما يستحقه؛ فلما جاءه كتاب البطريق تظاهر بأنه لا يعبأ بما كان يتهدده من خطر، ولكنه لم يتردد في عزمه، ولم يهن في عمله؛ فقد كان عالما بالحاجة الشديدة لأن تبقى مصر في يده مهما تكلف في سبيل ذلك؛ فدعا حاكم «بيزنطة»، واستوثق منه بيمين محرجة على أن يبقى على ولائه، ثم أرسله مع إمداد عظيم إلى الإسكندرية، وإلى المصالح الكبرى مثل «منوف» و«أثريب» في مصر السفلى، وأرسل في الوقت عينه أوامر مستعجلة إلى «بنوسوس» في سوريا يدعوه أن يأتي بكل ما يستطيع حشده من الجنود إلى مصر؛ لأن «بنوسوس» كان عند ذلك في «أنطاكية»، وقد أرسل إليها ولقب «أمير الشرق» لكي يقضي على ثورة لليهود إذ وثبوا على المسيحيين، وكانت ثورتهم أقرب إلى أن تكون دينية من أن تكون سياسية، على أننا لا نستطيع في أكثر الأحوال أن نميز بين خيوط الدين وخيوط السياسة في نسيج حوادث ذلك العصر. وقد قام «بنوسوس» بعمله ذلك قياما لك أن تصفه بما شئت، فإما قلت خير قيام وإما قلت شره؛ فقد أنفذ عمله بأن قتل الناس جملة بين من شنق أو أغرق أو أحرق، وبين من عذب أو رمي للوحوش الكاشرة، واستحق بذلك أن يقترن اسمه باللعن والخوف. وفي الحق أنه كان رجلا ممن يثلج قلب «فوكاس» ويقر عينه، كان «ضبعا مفترسا» يعرس في القتل؛ فلما أن جاءته رسالة «فوكاس» تلقاها بقلب ملؤه السرور.
كان «نيقتاس» في هذه الأثناء يقترب من الإسكندرية من الجانب الغربي، وسلمت له مدينة «كبسين» - وربما كانت هي حصن «كرسونيسوس» - فأعتق حاميتها، وأخرج من كان في السجون من الحزب الثائر، ثم استمر بهم في سيره، وأرسل دعاة يسبقونه داعين إلى الثورة فيما حول «ترعة الثعبان» - وسميت بذلك لتعرج سيرها - وكانت على مسافة قريبة من المدينة، ولكنه رأى أن الجيوش الإمبراطورية راصدة له تسد عليه الطريق، وكانت منيعة في العدد والعدة، فدعا «نيقتاس» قائدها أن يسلم قائلا: «تنح عن طريقنا، ثم اصبر على حيادك حتى تضع الحرب أوزارها؛ فإن كانت الدائرة علينا لم يضرك ذلك، وإذا كانت الدبرة لنا فإنا جاعلوك حاكم مصر، ولكن على كل حال قد انتهى حكم فوكاس.» فأجابه القائد جوابا قصيرا إذ قال: «سنقاتلكم حتى نقتل في سبيل فوكاس.» ثم ابتدأت الواقعة. وأكبر الظن أن ذلك القائد هو الذي أقسم أن يحمي الإمبراطور، وكان أصدق في حربه من سائر جنوده، وأثبت جنانا، فانتصر «نيقتاس» نصرا مبينا، وقتل القائد الإمبراطوري، وجعل رأسه على سنان رمح ورفع مع الأعلام المنتصرة، ودخل الجيش الظافر من «باب القمر» إلى المدينة فلم يلق فيها بعد ذلك كيدا. وهرب «حنا» حاكم البلد و«تيودور» مراقب الأموال العامة، فاحتميا بكنيسة «القديس تيودور» في الجانب الشرقي من المدينة، في حين هرب البطريق الملكاني إلى كنيسة «القديس أثناسيوس»، وكانت على مقربة من شاطئ البحر. ولا يذكر لنا «حنا» أسقف «نقيوس» شيئا عما آل إليه أمر البطريق، ولكنا نعرف من غيره من الرواة أنه هلك.
اجتمع القسوس والعامة عند ذلك، وأجمعوا رأيهم على مقت «بنوسوس» ومن كان معه من الوحوش المفترسة، ورحبوا جميعا بقائد «هرقل»، ثم رفعوا رأس القائد المقتول على باب المدينة، ووضعوا أيديهم على قصر الحاكم وأبنية الحكومة، كما استولوا على خزائن القمح والأموال العامة، ثم أخذوا كنوز «فوكاس»، وملكوا جزيرة «فاروس» وحصنها وكل ما هنالك من السفن. ولم يكن العمل الأخير بأقل أعمالهم خطرا؛ فإن جزيرة «فاروس» - كما قال «قيصر» من قبل ذلك بزمن طويل حين رآها وعرف خطرها - كانت مفتاحا من مفتاحي مصر، وكانت «الفرما» هي المفتاح الآخر. ولما ملك «نيقتاس» عاصمة القطر أرسل «بوناكيس» لينشر علم الثورة في مصر السفلى. وقد كان عمله هينا؛ فإن المصريين في كل مكان كانوا يكرهون حكم «بيزنطة». فدخلت المدائن واحدة بعد أخرى تحت لواء جيش الخلاص، وفتحت «نقيوس» أبوابها وفيها مطرانها «تيودور»، وقام حزب الثورة في «منوف» فنهب دار الحاكم «أرستوماكوس»، ودور من كان هناك من كبار الرومانيين، وأصبح جل المدائن وجل حكام الأقاليم مع أعداء «فوكاس»، ثم عاد «بوناكيس» إلى العاصمة بعد حملة موفقة منصورة. «سبنيتس» أو سمنود؛ إذ ثبت «بول» عمدة المدينة إلى جنب لوائه، وكان صديقه «كسماس» مريضا أقعده الشلل، ولكنه كان يتقد شجاعة وأنفة، فكان يحمل في المدينة ليبث حماسته في قلوب الحامية. وكذلك كان الحال في «أثريب»؛
6
إذ رفض الحاكم «مرقيان» أن يدخل في زمرة الثائرين، وكان صديقا آخر من أصدقاء «بول»؛ فكأن الحرب كانت لا تزال جذعة.
وكان «بنوسوس» قد بلغ في سيره مدينة قيصرية عندما أتاه نبأ سقوط الإسكندرية، فحفزه ذلك النبأ إلى أن يكون عمله أشد قسوة، ثم وضع جنوده في السفن من ذلك الثغر واتجه نحو الجنوب مسرعا؛ وهناك إما أن يكون قد أنزل فرسانه على حدود مصر، وإما أن تكون فصيلة من الفرسان لقيته آتية من فلسطين. وكانت خطته أن يذهب إلى «أثريب» ليمنع سقوطها في يد عدوه؛ فقسم أسطوله إلى قسمين لكي يصل إلى تحقيق غرضه؛ فأما أحدهما فإنه سار في الفرع الأكبر الشرقي للنيل، وأما الثاني فقد سار في الفرع «البلوزي»، وجاءت الفرسان معقبة في أثره من البر. وكان في أثريب عدا الحاكم «مرقيان» سيدة ذات بأس اسمها «كرستدورا»، وكانت تنصر جانب الإمبراطور يدفعها دافع انتقام شخصي، وجاء إليها «بول» و«كسماس» من منوف ليشتركوا جميعا في الرأي، ويدبروا أمر الحرب. وقد أرسل مطران «نقيوس» ومراقب الأموال «ميناس» يطلبان إلى «مرقيان» و«كرستدورا» أن يرميا تماثيل «فوكاس» ويذعنا لأمر هرقل، وكان ذلك عندما سمعا بقدوم «بنوسوس»، وبلوغه البرزخ الشرقي مع جنوده، ثم جاءت الأنباء بعد ذلك أنه أخذ مدينة «الفرما». وكان من قواد هرقل في جيش عند «أثريب» اثنان، وهما «بلاتو» و«تيودور» - والحق أنه يخيل إلينا أن لا نهاية لعدد الأشخاص الذين اسمهم «تيودور» - فكانا يرقبان زحف «بنوسوس» فزعين خائفين، وأرسلا إلى «بوناكس» على عجل رسالة يطلبان فيها المعونة؛ فما أبطأ «بوناكس» في أن يسير على الفرع الغربي للنيل (الفرع البولبيتي) حتى بلغ «نقيوس»، وهناك علم أن «بنوسوس» وصل إلى «أثريب». وترك «بنوسوس» تلك المدينة وراءه، وسار على الترعة التي تخرج من النهر ذاهبة إلى الغرب نحو منوف، وسار معه «مرقيان» و«كسماس» والمرأة التي لا يفل حدها، ولا تكل همتها «كرستدورا».
سار «بول» عندئذ بمن معه ليلحق بجيش «بنوسوس»، وما كاد الجيشان الإمبراطوريان يجتمعان حتى جاء «بوناكس» وحل تجاههم، واستحر بعد ذلك القتال واستعر، وكان فيه القضاء؛ فإن جيوش الثوار لم يبق منها فل، بل هزمت هزيمة تامة، فقذف بجزء منها في الترعة، وقتل منها من قتل، وأسر من أسر، ووضعوا في القيود، وأخذ «بوناكس» نفسه أسيرا ثم قتل صبرا. ولقي قائد آخر اسمه «ليونتيوس» عين ما لقيه «بوناكس». وأما «بلاتو» و«تيودور» فقد استطاعا الهرب، واعتصما بدير قريب من المكان. ولم يكن في «نقيوس» قوة على مقاومة جيش «بنوسوس» المنتصر مع أنها كانت ذات حصون؛ وعلى ذلك خرج المطران «تيودور» ومراقب الأموال «ميناس» ومعهما الإنجيل والصلبان في موكب مهيب، سائرين إلى القائد المنتصر، نازلين على حكمه، راجين عفوه. وكان خيرا لهما أن يلقيا بأنفسهما من أعلى أسوار مدينتهما؛ فقد أودع «ميناس» السجن، وغرم 3000 قطعة من الذهب، ثم أذيق العذاب بأن جلد جلدا طويلا، ثم أطلق سراحه، فلم يبق إلا قليلا ومات من الجهد. وأما «تيودور» فقد أخذه «بنوسوس» معه إلى «نقيوس» وقد دخلها عندئذ بجيشه، فرأى عند باب المدينة تماثيل فوكاس وهي محطمة على الأرض، وقد شهد «مرقيان» و«كرستدورا» أن ذلك إنما من فعل المطران «تيودور»، فأمر بأن تضرب عنق ذلك المسكين. وأعقب ذلك قتل القائدين «بلاتو» و«تيودور»، وثلاثة من أعيان منوف، وهم «إيسيدور» و«حنا» و«جوليان»، وكانوا جميعا قد هربوا، فالتجأوا إلى دير، فأسلمهم رهبانه خاضعين. وأما عامة الأسرى فقد نفى «بنوسوس» منهم من كانوا في خدمة الإمبراطور «موريق»، وقتل سائرهم ممن كانوا قد دخلوا الجيش وحملوا السلاح تحت لواء «فوكاس».
ارتدت موجة النصر عند ذلك، وأوشكت أن تذهب إلى جانب الإمبراطور الحاكم، وصار «بنوسوس» بمثابة سيد مصر السفلى، وأسرعت جيوش الثوار من كل صوب نحو الإسكندرية تسلك الترع الكثيرة التي تخترق أرض تلك الجهات؛ وذلك لأنهم كانوا يخشون الحرب، ولا يأمنون أن يسلموا، وكان من أسهل الأمور على «بنوسوس» أن يسير من «نقيوس» في الفرع الغربي من النيل ثم يسير في الترعة المؤدية إلى الإسكندرية.
كان «نيقتاس» على استعداد كامل للقاء عدوه، وقد حشد في المدينة جيشا كبيرا، بعضهم من جند منظمة، وبعضهم من أحابيش، فيهم البحري والمدني، يعززهم الحزب الأخضر
7
في المدينة، وكانت دور الصناعة دائبة على عمل السلاح والحديد، ووضعت الجنود على الأسوار ومعهم آلات الدفاع القوية، ويلوح أن «بنوسوس» أرسل «بول» لكي يأتي المدينة من الجنوب بأسطول من السفن. ولعل ذلك كان عند الموضع الذي تدخل فيه الترعة إلى المدينة من بابين عظيمين من الحجر، بناهما «طاطيان»، وحصنهما في أيام الإمبراطور «فالنس»، ولكن لما جاء أسطول «بول» حتى صار على مدى الرمي من آلات الدفاع بالمدينة، قذفت عليه الحجارة الضخمة قذفا مريعا، فوقعت بين السفن تحطم منها، فلم يستطع «بول» أن يقترب من الأسوار، وأمر سفنه بالرجوع خوف أن تغرق أو تتحطم؛ فانظر ما بلغته مجانيق الإسكندرية من القوة في ذلك الوقت.
الفصل الثالث
خيبة بنوسوس
يظهر أن «بنوسوس» وإن كان قد جعل سيره بحذاء ترعة كليوباترا، وهي أكبر الترع التي تخرج من الفرع البلبيتي ذاهبة نحو الإسكندرية، قد اتخذ سبيل البر على الأقل في المرحلة الأخيرة من مسيره، وقد نزل أول منزل له في «ميفاموميس»، ثم نزل في «دمكاروني» بحسب رواية الأسقف المصري. ولسنا نجد وصفا لهذين الموضعين في كتاب «زوتنبرج»، حتى إنهما ليحيران من يسمع بهما أول الأمر. غير أنه ورد في سياق ذلك الكتاب أن «ميفاموميس» هي «شبرا» في وقتنا هذا، وهذه لا بد أن تكون «شبرا» القريبة من دمنهور. ويذكر «شمبوليون» مدينة اسمها «موممفيس»،
1
ويقول إنها على سبعة فراسخ من دمنهور إلى جهة الغرب، ويسمي المدينة الأخيرة «تيمنهور» بحسب ما كانت معروفة به عند المصريين القدماء؛ وعلى ذلك فلسنا نتردد في أن نقول إن «ميفاموميس» هي بعينها «موممفيس»، وإن موضعها بقرب دمنهور، ولكن «شمبوليون» لا يمكن أن يكون على حق في قوله إنها هي عينها «بانوف خت» التي سماها العرب «منوف السفلى»، والتي يقول ذلك العالم الفرنسي إنها على مسافة واحد وعشرين ميلا من «دمنهور»، وهي مسافة يستحيل تصورها.
أما «دمكاروني» فلا يستطيع الإنسان أن يذكر اسما شبيها في كتاب آخر، ولكنا إذا علمنا أن «دم» أو «تم» كان حرفا يوضع في أول أسماء البلاد في اللغة المصرية القديمة، ومعناه «مدينة»، إذا ذكرنا ذلك لم يكن ثم موضع للشك في نظرنا أن «دمكاروني» هي الاسم القبطي لمدينة «كيريوم» أو «كريون».
2
وهذا التفسير يتفق كل الاتفاق مع وصف ذلك الإقليم؛ فإن «كريون» كانت واقعة إلى الغرب على الترعة التي كان «بنوسوس» يسير عليها، وذلك يتفق مع ما ورد في الكتاب، وهي فوق ذلك في نحو منتصف المسافة بين الإسكندرية ودمنهور؛ إذ هي على نحو ثمانية وثلاثين كيلومترا من الإسكندرية، وعلى نحو واحد وثلاثين كيلومترا من دمنهور.
سار «بنوسوس» من «كريون» ولم يلق كيدا إلى أن بلغ الجانب الشرقي من العاصمة، وهناك وقف بجيشه على مرأى من أسوار المدينة، وعقد النية على أن يهاجمها في غده، وهو يوم الأحد. وإنه لمما نتوق إليه لو استطعناه أن نعرف الوسائل التي كان يطمع أن يصدع بها الأسوار العالية والحصون المنيعة التي كانت تحرس تلك المدينة الكبرى.
3
غير أن أهل الإسكندرية لم يكونوا في حال يستطيعون معها صبرا على الحصار؛ فيقال إن قديسا من أهل صعيد مصر اسمه «تيوفيلوس» (الواثق بالله)، أو «صاحب الاعتراف»، كان يعيش على رأس عمود. ويلوح أنه تلقى فوق ذلك العمود الحكمة والكياسة، فنصح «نيقتاس» أن يخرج ويناجز أعداءه القتال. فخرج بجنوده، ووقف بهم داخل «باب أون»، وكان الطريق الأكبر الذي يشق المدينة طولا طريقا واسعا فسيحا، فكان فيه ما يتسع لحشد الجيش. أما اسم «باب أون» فلا يفسره «زوتنبرج»، ولا يجد الناظر إليه لأول مرة أي شبه بينه وبين علم معروف من أعلام الإسكندرية، ولكنا نجد في موضع آخر من الكتاب أن اسم «أون» مرادف ل «عين شمس»، واسم «عين شمس» هو الاسم العربي للمدينة المشهورة ب «هليوبوليس»، وكان الاسم المصري القديم لهليوبوليس هو «أون»؛ ف «باب أون» على ذلك هو الباب المتجه نحو مدينة «هليوبوليس»، ويمكن فوق ذلك أن يقال إنه هو بعينه الباب المعروف ب «باب الشمس»، وهو في نهاية الطرف الشرقي لذلك الطريق الواسع الذي كان يشق الإسكندرية من الشرق إلى الغرب، كما أن «باب القمر» كان عند نهاية الطرف الغربي منه، وكان يقطعه عند مفترق واسع طريق آخر يتجه بين الشمال والجنوب. ولنا أن نقول هنا إن كثرة ورود الأسماء المصرية القديمة، كما هو ظاهر من استعمال اسم «أون» هنا وفي أسماء وردت في مواضع أخرى، يدل دلالة قوية على أن «حنا النقيوسي» كتب هذا الجزء من ديوانه الأصلي باللغة القبطية.
والآن فلنعد إلى ما كنا فيه؛ فإن الجيوش الإمبراطورية أتاها الأمر عند ذلك أن تزحف على المدينة يقودها قائد فارس، فتقدموا ولكنهم قبل أن يقتربوا من المدينة أرسلت عليهم النيران المحرقة من مجانيق عظيمة كانت تزمجر وتخور فوق الأسوار والآطام، وأصابت إحدى تلك المقذوفات القائد فكسرت فكه، وأردته صريعا لم تمهله، وأصابت أخرى قائدا ثانيا فقتلته؛ فتردد الزاحفون وقد أوقعت هذه المجانيق فيهم الرعب والاضطراب. وعند ذلك أمر «نيقتاس» جيشه بالخروج من المدينة، ففتح «باب الشمس» وخرج الجيش منه، فوقف صفا، وحمل على العدو حملة صادقة ثلم بها صفوفه، واستحر القتال، ثم انجلى عن شطر جيش «بنوسوس» شطرين، ووقعت على أثر ذلك الهزيمة. ولما رأى «نيقتاس» أن أكثر المنهزمين يسرعون نحو الشمال، سار بجماعة من رديفه، وهم من جنود السودان، وخرج من باب آخر قريب من كنيسة «مار مرقص» في الجهة الشمالية من المدينة تجاه البحر، وعند نهاية السور من الشمال الشرقي؛ فما لبث أن سبق المنهزمين الفارين وأخذ عليهم السبيل، فردهم من حيث جاءوا، فكانوا في رجوعهم بين مستهدف تحت الأسوار تحصده القذائف من حجارة وسهام، وبين جانح نحو البساتين يلجأ إلى حوائطها ذات الأشواك، فيحصر هناك ويقتل. وأما من هربوا من جيش «بنوسوس» نحو اليسار، أي إلى الجنوب، فقد وجدوا أنفسهم حيال ترعة تقطع عليهم سبيلهم، وكانت سيوف العدو تلمع من ورائهم وهم يتبعونهم، فأخذ الخوف بقلوبهم وأذهل ألبابهم، فصاروا يخبط بعضهم بعضا خبطا بالسلاح وقد أعمى الهول أبصارهم.
وهكذا تمزق جيش «بنوسوس» كل ممزق، وكان بين القتلى «مرقيان» حاكم «أثريب» و«ليونتيوس» و«فالنس» وكثير من الأعيان، وكان للواقعة من الأثر ما جعل الحزب الأزرق نفسه يتخلى عن «فوكاس»، ولكن «بنوسوس» نجا بنفسه وارتد إلى قلعة «كريون»، وكريون مدينة سيأتي ذكرها بعد ثلاثين عاما عند مسير العرب بقيادة عمرو إلى الإسكندرية، وكانت واقعة على كلتا ضفتي الترعة الآتية من النيل إلى العاصمة، ويصفها «ابن حوقل» بأنها كانت في أيامه مدينة كبيرة جميلة تحيط بها الحدائق، وهي لا تزال باقية إلى اليوم، ولكنها قرية صغيرة. ولسنا ندري أي عمل قام به «بول» وأسطوله في أثناء هذا القتال، فلعله كان يناجز جانبا من جيش العدو في الجنوب الغربي من المدينة؛ فلم يكن قريبا هو وأسطوله من محل القتال، ولم يساعد في حرب البر، ولم تكن له يد في حماية الفارين.
فلما سمع «بول» بعد ذلك بتلك الهزيمة القاضية، سولت له نفسه أن يسلم ويلتحق بأصحاب «نيقتاس»، ولكنه مع ذلك ثبت في جانب حزبه، واستطاع أن يتقهقر بوسيلة من الوسائل إلى مدينة «كريون» حيث لحق بالقائد «بنوسوس». ولا بد لنا أن نقر بالإعجاب على كره منا بما كان لهذا القائد «بنوسوس» من قوة الجنان وسعة الحيلة؛ فإنه لم يدر في خلده ساعة أن يخرج هاربا من النضال، فسار مسرعا في الترعة إلى أن بلغ فرع النيل الغربي، ثم سار في النهر صعدا إلى «نقيوس»، وكان جنوده لا يزالون يحمونها، فجمع هناك أسطوله، وأصلح من شأنه، واستطاع أن يسيطر على النهر بعد أن دمر عددا كبيرا من سفن الإسكندرية. وإذ كان غير قادر على لقاء «نيقتاس» مرة أخرى، اتخذ سبيله في ترعة أخرى (ولعلها ترعة الروجاشات) سائرا نحو مريوط، ثم سلك ترعة الثعبان التي في غرب الإسكندرية قاصدا نحو مريوط يريد أن يستولي عليها، ويجعلها قاعدة له يجهز منها السرايا إلى الإسكندرية، ولكن «نيقتاس» بلغه خبر هذه النية، فأمر أن تهدم القنطرة التي عند «دفاشير» بقرب مريوط؛ وبذلك سد مجرى الترعة، وحال دون إتمام ما أراد عدوه.
فثارت ثورة «بنوسوس» عندما علم بهذا الفشل، وعزم على أن يدع الحرب الصريحة، وأن يقتل «نيقتاس» غيلة؛ فأوعز إلى أحد جنوده أن يذهب إليه كأنه رسول جاء ليفاوضه في أمر التسليم وشروطه، وقال له: «خذ معك خنجرا صغيرا، واجعله تحت ردائك، فإذا ما اقتربت من «نيقتاس» فضعه فيه، واخرق به قلبه حتى تتركه قتيلا، ولعلك تقدر أن تنجو في أثناء الاضطراب الذي يعقب ذلك، فإذا أنت لم تستطع النجاة فقد مت شهيدا في سبيل حماية الإمبراطورية، وسأجعل ولدك جميعا في قصر الملك أتعهدهم بنفسي، وأجري عليهم الأرزاق مدى حياتهم.» ذلك كان تدبير «بنوسوس»، ولكنه فشا؛ إذ أذاعه خائن؛ فإن رجلا ممن كان معه اسمه «حنا» أرسل كتابا ينذر فيه «نيقتاس» ويحذره، حتى إذا ما جاء الفاتك إليه أحاط به الحراس وفتشوه، فوجدوا معه الخنجر مخبوءا، فضربوا به عنقه.
فلما خاب «بنوسوس» في كيده سار في البر إلى «دفاشير»، وشفى غله بأن أحدث في أهلها مقتلة عظيمة، وجاء «نيقتاس» يسعى للقائه، غير أن «بنوسوس» كان يعلم أنه من الحمق أن يخاطر بمناجزته القتال بمن معه وهم فلول ضعيفة، فعاد أدراجه على ذلك، وعبر نهر النيل، والتجأ إلى «نقيوس» ليتحصن فيها مرة أخرى. وأما «نيقتاس» فإنه لم يتبعه إلى العدوة الأخرى، بل بقي في غرب النهر وسار إلى مريوط، فأخذ المدينة والإقليم، ووضع فيهما جندا كثيرا. وكان شديد القلق لما لقيه من استماتة عدوه وشجاعته، وسرعة حركته التي كان يغلب بها خططه؛ ولهذا كان يقدم الحزم في مقابلة حركات عدوه الجريء، فلم يعبر (نيقتاس) النهر ذاهبا نحو منوف إلا بعد أن خلص له كل ما وراءه، وثبت قدمه على الجانب الغربي من النيل، وكان في منوف حصن حصين، وهو من أكبر ما أقامه «تراجان»، وكان في طاقته أن يبقى على المقاومة ما شاء لو دافع عنه من فيه دفاعا قويا، ولكن الناس كانوا من غير شك يميلون إلى حزب الثوار، وكان جنود الإمبراطورية تخبو شجاعتهم برغم شجاعة قائدهم وجراءة احتياله في الحرب، ففر عدد كبير من جند الحامية، وأخذ الحصن عنوة بعد قتال ضعيف.
فلما تم ل «نيقتاس» ملك ضفتي النيل وما حولهما من البلاد، سار قاصدا مدينة «نقيوس»، وقد ضيق عليها من كل جانب؛ فبلغ الأمر بالقائد «بنوسوس» أن وهنت عزيمته، ففر تحت جنح الليل، ولعله انسل من بين الجيش المحاصر، وسار إلى الشرق نحو «أثريب»، أو لعله هوى مع النهر إلى الشمال، ثم ضرب نحو مدينة «صان» سالكا إليها إحدى الترع الكثيرة التي هناك. وعلى كلا الحالين استطاع أن يبلغ «الفرما» سالما؛ ومن ثم ركب البحر إلى فلسطين، ومنها سار في طريقه إلى القسطنطينية تشيعه لعنات الناس إلى أن لحق بسيده «فوكاس». وكان فتح «منوف» و«نقيوس» إيذانا للمدن الأخرى ولسائر القواد أن يسلموا، وأسر «بول» حاكم «سمنود»، وصديقه المقعد الجريء «كسماس»، ولكن الفاتح المنتصر عفا عنهما عفوا صريحا، ثم قبض «نيقتاس» على زعماء الحزب الأخضر، وأنذرهم وأوعدهم إذا لم يسيروا بالحسنى؛ وذلك لأنه رآهم قد اتخذوا نصره على عدوه ذريعة للاعتداء على الحزب الأزرق، ولقتل الأنفس ونهب الأموال، فتصالح الحزبان، وعقد لحكام جديدين على المدائن كلها، واستقر الأمر، وعاد سلطان القانون، وصار هرقل سيد القطر المصري.
لقد كانت الحرب قتال المستميت، وطالت بها مدة الزمن، وتقلبت بها الأمور تقلبا عجيبا، تارة يبسم فيها الحظ، وتارة يعبس؛ فقد رأينا البلاد في سباتها وهي جاهمة كارهة، فإذا هي تهب على صوت الصور من جيوش «هرقل»، ثم فتح «نيقتاس» الإسكندرية بغير قتال يذكر، ورأينا الثورة تنتصر في مصر، ثم رأينا «بنوسوس» وهو يهوي كأنه نمر انقض على رأس مصر السفلى، فاكتسح كل ما دونه حتى بلغ أسوار الإسكندرية، وصدم حصونها صدمة لم تغن شيئا، فارتد وهو كليم حسير عاجز عن المضي في النضال إلا مناجزة هينة بين حين وحين، وبقي على ذلك مدة تحمد فيها شجاعته وحماسته المتقدة؛ فلما لم يبق له ما يستطيع به المقاومة مكر بأعدائه الذين أحاطوا به، فهرب منهم تحت جنح الليل، ولم يمكنهم من نيل ثأرهم منه. وإنها لصورة بديعة زاهية الألوان، تدل كل ناحية منها على حقيقة ما تصوره، وقد بقيت كلها مجهولة لا يعرف عنها التاريخ شيئا حتى كشف عنها تاريخ «حنا» أسقف «نقيوس».
ولسنا نجد في كتب مؤرخي بيزنطة كلمة واحدة تقص علينا شيئا من أنباء هذه الحرب العجيبة التي ثارت ثورتها بمصر، اللهم إلا أن «ديوان بسكال» يذكر في حوادث سنة 609 للميلاد «ثورة أفريقيا والإسكندرية»، ونجد في كتاب «جبون» - وهو يعرف كل ما كتبه هؤلاء المؤرخون معرفة لا نقص فيها - خلاصة استخلصها من مطالعة ما كتبوا عن الثورة، فيقول: «احتشدت جيوش أفريقيا، وجندها فتيان مقدامان (هرقل ونيقتاس)، واتفقا على أن أحدهما يسافر بالأسطول من «قرطاجنة» إلى «القسطنطينية»، وأن يسير الآخر بجيشه عن طريق مصر وآسيا، وأن يكون الرداء الإمبراطوري الجائزة لمن يجد منهما وينجح. فتسرب شيء قليل من أخبار ذلك العزم إلى «فوكاس»، فأخذ زوج الفتى «هرقل» وأمه رهينتين كي يبقى «هرقل» على ولائه، ولكن «كريسبوس»، وكان ماكرا غدارا، هون أمر ذلك الخطر البعيد عند الإمبراطور، وأهمل أمر الدفاع أو توانى فيه، واستنام الطاغية وتراخى حتى ألقت السفن الأفريقية رواسيها في خليج هلسبونت.»
4
ولا يرد هنا ذكر لحوادث مصر وما كان لها من الأثر في مصير الثورة، بل لقد جاء في كتاب «جبون» بعد بضع صفحات من الباب نفسه وصف لدخول الفرس في مصر في أيام كسرى سنة 616 للميلاد، وفيه يقول عن مصر صراحة: «إنها كانت الإقليم الأوحد من أقاليم الدولة لم تعتره غزوة من خارجه ولا حرب في داخله منذ أيام دقلديانوس.» وهذه عبارة يعجب لها الإنسان؛ لأن «جبون» ينقض جزءا منها في وصفه القصير المبين لأقباط مصر في الباب الثاني؛ فالحق أن الإنسان كلما أمعن في درس ذلك العصر تبين له وزاد عنده وضوحا أن مصر كانت فيه أكثر بلاد الدولة هياجا، وأيقن أن أمورها كانت في اضطراب يكاد يكون مطردا منذ انعقد مجلس «خلقيدونية»، وما أكثر الأدلة على ذلك الاضطراب في ثنايا كتاب «حنا النقيوسي»، وفي كتب أخرى مثل «تاريخ بطارقة الإسكندرية» الشهير الذي ألفه «رينودو». وهذه الكتب تصف اضطراب مصر بغير تعرض للقصة التي نحن بصددها؛ قصة هرقل ذاتها.
وليس هذا موضع البحث في حوادث تاريخ مصر في القرنين الأخيرين من حكم الرومان، كما أنه ليس موضع البحث في المراجع التي يرجع إليها في ذلك التاريخ. ويقيننا أنه إذا جاء الوقت الذي يكتب فيه تاريخ هذا العهد كتابة وافية، ظهر أن ذينك القرنين كانا عهد نضال متصل بين المصريين والرومانيين، نضال يذكيه اختلاف في الجنس واختلاف في الدين، وكان اختلاف الدين أشد أثرا فيه من اختلاف الجنس؛ إذ كانت علة العلل في ذلك الوقت تلك العداوة بين «الملكانية» و«المونوفيسية»،
5
وكانت الطائفة الأولى، كما يدل عليه اسمها، حزب مذهب الدولة الإمبراطورية وحزب الملك والبلاط، وكانت تعتقد العقيدة السنية الموروثة، وهي ازدواج طبيعة المسيح، على حين أن الطائفة الأخرى، وهي حزب القبط (المونوفيسيين) أهل مصر، كانت تستبشع تلك العقيدة وتستفظعها، وتحاربها حربا عنيفة في حماسة هوجاء يصعب علينا أن نتصورها، أو نعرف كنهها في قوم يعقلون، بله ممن يؤمنون بالإنجيل؛ فالحق أن روح التعصب الشديدة التي ثارت بمن مزقوا جسم «هيباشيا» قطعا في المحراب كانت لا تزال كامنة في القلوب لم تتغير. غير أنها بعد أن كانت تدفع إلى التنكيل بفتاة جميلة يعزى إليها ذنب الوثنية، صارت تثور بفرقتين كل منهما تدعي أنها ابنة المسيح، وترمي الأخرى بأنها من نسل الشيطان. وفوق هذا قد كان يزيد الأمر شرا ما كان بين الحزبين الأخضر والأزرق من نضال؛ إذ كانت عداوة هذين الحزبين في مصر عداوة حقيقية بلغت أشد ما بلغته عداوتهما في أي جهة من جهات الدولة الرومانية. ولم تكن تلك العداوة ناشئة عن خلاف الدين، غير أن الخلاف الديني كان يزيدها ضراما.
حسبنا هذا القول لندل به على ما كانت عليه مصر في ذلك العصر من السلام في داخلها. أما ما يزعم الزاعمون من أنها كانت بمنجاة من غزوات الأجانب وإغاراتهم، فيكفي لإظهار خطئه أن نذكر إغارة الفرس في أيام الإمبراطور «أنستاسيوس» حين أحرقت كل أرباض الإسكندرية كما يشهد بذلك «سعيد بن بطريق»، وهو كاتب مصري المولد، وهو يذكر أن القتال ظل قائما بين المصريين وغزاة الفرس في مواقع يتلو بعضها بعضا، وأن البلاد عصفت بها مخالب الخراب، فلم تكد تنجو من السيف حتى أصابتها مجاعة دفعت بالناس إلى الثورة. وماذا عسانا أن نذكر عن عسف الاضطهاد، وعن المذابح وما سال فيها من الدماء، وتشجيع الحكام لذلك حتى «جستنيان» نفسه؟ وماذا عسانا أن نذكر من الثورات الصغيرة مثل تمرد «أرستماخوس» في أيام الإمبراطور «موريق»، ومن خروج اللصوص في عصابات منظمة، ومن غارات البدو وقبائل السودان وما يصحبها من انزعاج دائم؛ إذ كانت تلك القبائل إذ ذاك كما هي اليوم خطرا يهدد حدود البلاد؟ فلئن كانت الحرب في كثير من الأحيان غير ثائرة في البلاد في الحقيقة، فإن شبحها المخيف كان يتراءى لها أبدا، ويرفعه الآل على آفاقها .
فمن الواضح إذن كما ترى أن أسبابا كثيرة أدت إلى أن تكون تلك البلاد دائمة الاضطراب، وكانت الأحزاب بها كثيرة عنيفة الخلاف؛ فكان لأي غاز عقد العزم على غزوها أن يعتمد على أحد تلك الأحزاب التي بها. أما «نيقتاس» فقد أعانه أن «فوكاس» كان كريها عند الناس كراهة لا شك فيها؛ ذلك لأن جرائمه قد زادت على الطاقة حتى في نظر الرومانيين أنفسهم، وكان القبط يرونه طاغية فتاكا، وكان فوق ذلك قطب سلطة أجنبية وعقيدة مكروهة
6
كان وجودها بينهم ينغص عليهم حياتهم، ويجعل عشيهم مرا. على أنه من الجائز أن «نيقتاس» أحس أن بقاءه بمصر لازم حتى بعد خروج «بنوسوس» منها لكي يدعم سلطانه ويوطده. ومن سوء الحظ أن تواريخ تلك الفترة ليس من السهل إدراكها؛ فإن «حنا النقيوسي» على ما يظهر يزعم أن مدة الحرب قبل هزيمة «بنوسوس» عند الإسكندرية قد وقعت في السنة السابعة من حكم «فوكاس»؛ أي قبل تمام سنة 609، فتكون الواقعة ذاتها إذن قد حدثت في شهر نوفمبر من تلك السنة،
7
وقد تكون سائر الحوادث قد استغرقت بضعة أسابيع أخرى، ومعنى هذا أن «نيقتاس» قد تم له ملك مصر في ربيع سنة 610. ومن العجيب أن أمرا واحدا لا يرد له ذكر في ديوان أسقف «نقيوس»؛ وذلك هو القسط الذي كان لحصن «بابليون» في النضال، وهو ذلك الحصن القوي بقرب «ممفيس»؛ فقد كان في القوة ثاني الحصون بمصر لا تفوقه إلا الإسكندرية، ولا شك أنه قد كانت فيه قوة مسلحة من جنود الإمبراطورية، وقد كان في وقت غزو العرب أول ما قصد إليه القائد العربي، وكان فتحه فصل الخطاب في انتصار الهلال. وكل هذا واضح جلي يصفه ديوان ذلك المؤرخ حتى لا يسع الإنسان إلا أن يفهم من ذلك الإغفال أن الحصن قد سلم إلى «نيقتاس» بغير حرب؛ فإذا صح هذا، وإذا صح أن الحرب قد وضعت أوزارها قبيل ربيع سنة 610، كان من الجلي أن «نيقتاس» لم يكن يخطر له ببال أن يسارع نحو «القسطنطينية»، ولو فعل لاستطاع أن يصل إلى العاصمة البيزنطية، ويخلع «فوكاس» قبل زحف هرقل بستة أشهر؛ لأنه لا محل للشك في أنه كان يستطيع أن يجهز في مصر أسطولا كافيا لغرضه هذا. حقا إن المؤرخ «قدرينوس» يقول إن وقعة «بنوسوس» بأهل أنطاكية ومذبحته لهم كانت في سنة 610. ولو صح هذا لكانت الحرب المصرية كلها في خلال تلك السنة، ولكن هذا التاريخ لا يتفق مع سائر ما جاء في كتاب «قدرينوس»، وهو أيضا لا يتفق مع «ديوان بسكال»، وكذلك يختلف اختلافا لا مجال فيه للتوفيق مع النسخة الأثيوبية المخطوطة من ديوان حنا التي عندنا، وتواريخ ذلك الديوان - ديوان حنا - على وجه الإجمال موثوق بصحتها ثقة كبيرة؛ وعلى ذلك فإنا نرجح أن التاريخ السابق هو الصحيح، ويصح لنا أن نجزم بأن «نيقتاس» بعد أن أتم الغرض الذي كان موفدا إليه بأن حاز النصر على ضفاف النيل قنع بالبقاء في تلك البلاد حتى يقوم هرقل بزحفه، وعمل على أن يجمع جيوش الدولة التي في مصر ويستميلها إلى جانبه، ثم أن يجمع في يده أزمة موارد البلاد العظيمة من قمح وسفن، وكانت القسطنطينية تعتمد عليها اعتمادا عظيما.
الفصل الرابع
ولاية هرقل
لنصف الآن ما كان من أمر هرقل في هذه الأثناء؛ إننا لا نعرف إلا اليسير من وصف رحلته في البحر، ولا يزيد «حنا النقيوسي» من العلم شيئا كثيرا على ما يذكره مؤرخو «بيزنطة» من الوصف الضئيل؛ فإنهم جميعا مثله يقصرون وصفهم على ما حدث في نهاية الأمر في القسطنطينية، غير أنه من الواضح أن سيره كان بطيئا، وأنه بدأ سيره كما بدأ «نيقتاس» في قلة من السفن إذا نظرنا إلى عظم ما كان مقدما عليه، وأنه كان على سفنه جنود من الروم وجنود من إفريقية، وأنه كان عليه أن يجمع السفن في أثناء سيره، ويجهز أسطولا وجيشا يكفيان لما كان مقبلا على اقتحامه من قتال «فوكاس». وقد لقي ترحابا في الجزائر وفي مدائن الساحل التي مر بها، وجاءت إليه المتطوعة تترى تنضوي تحت لوائه، ولا سيما من رجال الحزب الأخضر.
1
وليس ثمة من يذكر أن جيوشه لقيت مقاومة، غير أنه ولا شك لم يخطر بباله أن يقصد إلى القسطنطينية بمن سار بهم من جند قليل؛ فإنه لما سافر من إفريقية سار على سواحل بلاد اليونان أو من خلال جزائرها حتى بلغ «سلانيك»، فجعلها مقرا لأعماله، وأقام بها مدة طويلة لا تقل عن عام وهو يجهز أسطولا وجيشا، ويوثق عرى المودة بينه وبين الكارهين لفوكاس في العاصمة وزعيمهم «كريسبوس». وكانت سلانيك في ذاك الوقت كما هو معروف مدينة حصينة منيعة، وكانت إحدى مدائن قليلة في مقدونية قاومت جموع الهون وسواهم من الهمج الذين كانوا يجتاحون البلاد إذ ذاك؛
2
فالحق أنها كانت بابا من أبواب الإمبراطورية الشرقية تشرف على الطريق الآتية من قرطاجنة وصقلية وغرب البحر الأبيض المتوسط إلى القسطنطينية؛ ففيها إذن أقام هرقل بغير قتال كما يلوح، وكان مقامه فيها عزيزا، حتى إن أحد المؤرخين، وهو «سعيد بن بطريق»، ظن على ما يلوح أنه من أهل المدينة، ولكن يجب أن نذكر أن كل ما جاء في كتاب «سعيد بن بطريق» من ذكر حوادث هذه الثورة كان أبتر، وفيه خلط كثير في التاريخ، وقد كان ولا شك مخطئا في هذا الزعم.
ولسنا نرى من هرقل في مدة الأشهر الكثيرة التي قضاها في «سلانيك» إلا سعيا واحدا، وهو أن يكمل خطته، ويجمع الأمداد، ويذلل الصعاب. ولسنا ندري ما كانت الصعاب التي قامت في سبيله في ذلك العصر الذي لا نجد شيئا من ذكر حوادثه في دواوين الأخبار، وأكبر ظننا أنه قد أبدى فيه مثل ما أبداه فيما بعد في حرب الفرس، فأعجب العالم وأدهشه من همة لا يعتريها كلال مقرونة إلى حزم وبصر بالأمور. على أنه لم يفرغ من تجهيز أمره إلا في سبتمبر سنة 610، وعند ذلك أقلع الأسطول الذي جمعه، وأعد ما يحتاج إليه من المئونة والعدة، ولم ينس أن يحمل معه آثار الأبرار من القديسين في السفن التي في الصدر، ورفع علم الصليب على رءوس سارياتها، وجعل فوق سفينته دمية ذات حرمة خاصة، «دمية لم تنحتها أيدي البشر»، جعلها عند مقدم السفينة. وانتشرت أنباء الأسطول ومجيئه إلى الدردنيل انتشار النار في الهشيم حتى بلغت العاصمة، وما كادت حتى جهرت جماعة كبيرة من الشيوخ وأهل الدولة بالدخول في طاعة «هرقل»، وكان معهم «تيودور» المجيد، ولكن يلوح أن «كريسبوس» بقي قابعا لا يحرك ساكنا في أول الأمر. ويقول «حنا النقيوسي» إن رعاع المدينة وغوغاءها ثارت على الإمبراطور، وشرعت تصب عليه صنوف السباب.
والظاهر أن «فوكاس» لم يكن على استعداد طيب للقاء هذه الجائحة التي ظلت تعصف بآفاقه هذه المدة كلها؛ فلما جاءته أنباء ثورة مصر أولا كان في مرفأ الميناء عدد كبير من السفن تحمل القمح من الإسكندرية، فأخذها وأسر من فيها من الرجال، وسجنهم في حصن مشرف على مرفأ «الهبدومون»، فأقاموا هناك ما شاء الله؛ فلما عاد «بنوسوس» من غزوته بالفشل ولم يقدر على استرجاع مصر، لم يعاود الإمبراطور سعيا يذكر في سبيل الدفاع؛ فكان أول ما أنذر «فوكاس» إنذارا مزعجا صوت هؤلاء السجناء من أهل الإسكندرية، وقد هللوا إذ رأوا سفن هرقل مقبلة، وكان الإمبراطور عند ذاك في قصر «الهبدومون»
3
على مقربة من الحصن، فلم يكد يسمع ذلك حتى وثب إلى جواده، وأسرع به إلى قصر اسمه «قصر الملك الأكبر» داخل أسوار المدينة. وقد وقع ذلك في يوم سبت على رواية «ديوان بسكال»، ولا بد أن يكون ذلك هو اليوم الثالث من شهر أكتوبر. وفي اليوم التالي بعث «بنوسوس» في جيش ومعه المركبات الحربية الملكية للقاء من ينزل إلى البر من جنود «هرقل»، ولكن فرقة المركبات ثارت ووثبت بقائدها؛ لأن «كريسبوس» كان قد استمالهم إلى حزبه؛ فهرب القائد إلى المدينة والغيظ يأكل قلبه؛ فلما بلغها دفعه غيظه إلى جناية فظيعة؛ وذلك أنه جعل يقذف بالنيران على أحياء المدينة التي حول القصر المعروف ب «قيصريون»، فلم يقدر على إحراقه، ولكنه استطاع أن يقاوم الذين لحقوا به من ورائه من غوغاء المدينة، وأفسد عليهم سعيهم، فلم يخلصوا إليه، وهرب في زورق إلى مرسى في الميناء اسمه «ميناء جوليان»، غير أن أعداءه لحقوا به هناك، وضيقوا عليه الخناق، فحاول أن يقاومهم مقاومة عنيفة، غير أن ذلك لم يجده شيئا؛ إذ كان أعداؤه جموعا كثيرة. فلما لم يقدر على شيء، ورأى الخطر منه أقرب من وريده؛ قذف بنفسه في الماء فغاص به، وما إن طفا مرة حتى علاه سيف شق رأسه، وذهب بذهابه روح مارد ثائر، فغاب عن أرض طالما أفسد فيها، وأخرجت جثته من الماء، فجرها الناس إلى «سوق الثيران»، فأحرقوها يجللها العار وتشيعها اللعنات.
وهذه القصة قصة «بنوسوس» وموته قد جمعناها من ديوان «قدرينوس» وكتاب «حنا النقيوسي» و«ديوان بسكال»، ومن العجيب أنهم يتفقون جميعا فيما يوردونه، ولا يختلفون اختلافا حقيقيا إلا قليلا؛ فقد تختلف رواياتهم ولكن اختلافها ناشئ من نقص شيء أو زيادة آخر، وليس فيما بينها تناقض في ذكر الحوادث، وفوق هذا فإن مواضع الاتفاق بينهم في كثير من الأحيان واضحة تسترعي النظر، وهم إنما يتفقون في الجوهر لا في تفصيل الوصف، وهذا يدل على أنهم كتبوا ما كتبوه وكل منهم وحده مستقل عن الآخرين. وفي هذا ما يبعثنا على الاطمئنان إلى رواياتهم والاعتماد عليها، وليس ثمة ما يبعث على الظن أنهم رجعوا جميعا إلى مرجع واحد نقلوا عنه.
ومنذ علم الإمبراطور بما أصاب «بنوسوس» عرف أن ساعته قد دنت، ولم يكن في نيته أن يخلع عن نفسه التاج، في حين لم يكن يتوقع الرحمة إذا هو سلم لأعدائه؛ فكان أمله الوحيد في أن يقاتل إلى أن يحكم السيف حكمه. غير أن تسلل خير جنوده عنه لم يدع له أملا إلا قليلا، فلم يبق له إلا ولاء الحزب الأزرق، وإن شئت فقل لم يبق له إلا تلك العداوة الشديدة التي كان يحملها الحزب الأزرق لأعدائه أصحاب الحزب الأخضر، وما داخلهم من الحنق عندما رأوا نجاح الفئة المعادية لهم؛ وعلى ذلك جهز «فوكاس» أسطولا، وجعل رجاله من الحزب الأزرق، وجعله في ميناء «أيا صوفيا»، واستعد لقتال هرقل. وإنا ناقلون هنا قصة يرويها «حنا النقيوسي»، ولا نعرف أن مؤرخا آخر ذكرها؛ وذلك أن «فوكاس» و«خازن أمواله» «ليونتيوس» السوري عندما علما أن حياتهما أصبحت بعد قتل «بنوسوس» في أشد الخطر من غوغاء المدينة، أخذا كل ما في خزائن الدولة من الأموال وقذفا بها في البحر؛ فضاع بذلك في لحظة واحدة كل ما كان للإمبراطور «موريق» من الثروة، وما جمعه «فوكاس» من الذهب والجواهر بغصب أموال من قتل من ضحاياه، وما كنزه «بنوسوس» من أموال وتحف وأوان نفيسة حصلها بالظلم البالغ والغصب المتعدد. قال المطران: «وهكذا كان «فوكاس» سببا في وقوع الفاقة والعوز بالدولة الرومانية الشرقية.»
وكانت هذه الفعلة شفاء للغل، وريا للحقد، وهي جديرة بخلق «فوكاس»، والظاهر أنها وقعت في اللحظة التي لاح فيها نصر هرقل في الوقعة البحرية، ولا بد أن تلك الكنوز كانت محمولة في سفينة الإمبراطور حتى لا تؤخذ نهبا في أثناء القتال؛ فلما وقعت الهزيمة ألقي بها في اليم جميعا. وما كان من شك في نهاية الأمر، وعلى من تكون الدبرة مهما كان من شدة القتال، فهزمت سفن الإمبراطور، وقذف بها إلى الشاطئ أو استولى عليها العدو، وفر من استطاع من الجند فاستأمن في كنيسة «أيا صوفيا». وأما «فوكاس» فالظاهر أنه عاد بصحبة «ليونتيوس» إلى «قصر الملك الأكبر»، فلحق به «فوتيوس»، أو هو «فوتنيوس»، و«بروبس»، فضربا التاج عن رأسه فتردى عنه، ثم وضع هو في القيود والسلاسل، وجيء به يجر جرا على جانب المرفأ وقد تمزقت ثيابه كل ممزق، وعرض هناك على جنود الجيش والأسطول المنتصرين، ثم اقتادوه بين التهليل إلى حضرة الفاتح المنتصر في كنيسة «الرسول توماس» وصيحات اللعن الصاخبة تصدع أذنيه.
ومن الجائز أن «هرقل» اختار هذه الكنيسة ليصلي فيها شكرا لله على ما أولاه، ولم يختر كنيسة «أيا صوفيا» إذ كان بها عدد عظيم ممن فر من الحزب المقهور؛ ولهذا لم تكن تتسع لجمع كبير فوق ذلك أو لحفل ديني. ولسنا في حاجة إلى أن نكلف خيالنا شططا ليصور لنا كل ما جرى بين «فوكاس» و«هرقل»، وحسبنا أن نتصور كنيسة فخمة تزدحم برجال الدولة من قواد وشيوخ وجنود، وبقوم من رجال الدين مثلوا في ثيابهم السنية حول المحراب وقد وضعت عليه آنية الذهب، ومن حولهم يدوي المكان بأصداء النشيد نشيد الشكر لله، ثم يدخل «فوكاس» مكبلا بالقيود.
لبث الإمبراطور المخلوع برهة أمام تابعه المنتصر، وقد وصفهما «قدرينوس» وصفا مشهورا؛ فهرقل فتى في زهرة العمر؛ إذ كان في نحو الخامسة والثلاثين، وهو من بيت نبيل، وكان ربعة لا هو بالقصير ولا بالطويل، متين البناء، عريض الصدر، له قوام قوي مفتول، وكان شعره أشقر وكذلك لحيته، وكان وجهه ناصعا منيرا، له عينان لونهما صافي الزرقة، وتعلوه وسامة بديعة؛ فكان ظاهره ينم عن رجل صادق صريح عليه وقار وهيبة، قوي في جسمه وعقله، تبدو على وجهه سيماء الشجاعة والحزم والقدرة، ولعله كانت تبدو عليه كذلك صفة أخرى ذكرها «سعيد بن بطريق»، ألا وهي أنه لا يعبأ بما يرتكب في سبيل إتمام قصده. أما «فوكاس» فكان في مثل قامته، ولكن هذا كل ما كان بينهما من الشبه؛ فقد كانت صورته كريهة مما بها من العاهات، وكان لا لحية له، يعترض وجهه ندب جرح قبيح غائر فيه، وكان ذلك الندب يحمر أو يربد كلما ملكته سورة وثارت ثائرته، وكان حاجباه بارزين يقترنان في جبهة خفيضة من فوقها جمة من شعر أحمر، ومن دونها عينان تومضان وميضا وحشيا، وكان بذيء اللسان، مدمنا للخمر، مقبلا على المعاصي، قاسي القلب لا يتحرك قلبه بشفقة إذا ما عذب أو سفك الدماء. هذه صورة ذلك الجندي الذي سلط على الدولة الشرقية سوط عذاب ثماني حجج، ثم جاء عند ذلك ليحاسب على ما جنت يداه، فتلي عليه كتاب ذنوبه، وكشفت منه جريمة بعد أخرى، وقال هرقل: «أهذا سبيل حكمك؟» فكان رده: «وهل أنت من يحكم خيرا من هذا؟»
حكم عليه بالقتل، وأنفذ فيه ذلك، وارتكبت في قتله مثلة فظيعة، ولعمري إن تلك المثلة لم تكن من عيب في «هرقل» أو قسوة في خلقه، بل كانت من عيب في العصر كله وما كان معروفا فيه من العادات. على أنها لم تكن أفظع مما كان مباحا في قانون بلادنا
4
من تقطيع الأوصال وقطع الجسم أرباعا. قطعت أعضاء «فوكاس»؛ فقطعت يداه أولا، ثم بترت ذراعاه، وتلا ذلك تشويه آخر، ثم قطع رأسه بعد ذلك ووضع على قضيب، وعرض في أكبر طرق المدينة. أما سائر جسمه فقد سحب على الأرض إلى ميدان سباق الخيل، ثم إلى سوق الثيران، وأحرق في الموضع الذي كان فيه رماد «بنوسوس» ولما يكد يبرد، وأحرق عدا ذلك علم الحزب الأزرق (وليس الأخضر كما زعم جبون)، وجيء بتمثال «فوكاس» فحملوه في ميدان السباق في موكب استهزاء، يحمله جماعة يلبسون الثياب البيضاء الكهنوتية، وفي أيديهم الشموع موقدة حتى رموه في النار، وقد قال قائل: «قد أحرقوا «فوكاس» و«ليونتيوس» و«بنوسوس»، وذروا رمادهم في الهواء؛ إذ كان الناس كلهم يكرهونهم.»
وألبس هرقل التاج، كما يقول «حنا النقيوسي»، وما كان راغبا فيه، وذلك في الكنيسة عينها كنيسة «القديس توماس»، وعاد بعد أن أدى الصلاة ذاهبا إلى القصر، وجاء أعيان المدينة يؤدون له الولاء، ويقول «قدرينوس» إن تتويجه إنما حدث في كنيسة «القديس إسطفن»، وهي متصلة بالقصر، في حين أن «ديوان بسكال» يذكر أن تتويجه حدث بين حادثة إحراق «فوكاس» وبين إحراق تمثاله، ولا يذكر مكانا لذلك. وهذا فيه من الخلط ما فيه. ومن العجيب أن ديوان «حنا النقيوسي» يؤيد قصة تردد «هرقل» في قبول التاج، وأن «ديوان بسكال» وسائر مؤرخي بيزنطة يؤكدون وقوع ذلك التردد. على أنه لم يلبث أن زالت وساوسه، وأعلنت ولايته للأمر إمبراطورا للدولة في اليوم الخامس من شهر أكتوبر سنة 610، وأصبحت عروسه المخطوبة «فابيا» إمبراطورة للدولة، وصار اسمها «أودوقيا».
والظاهر أن «نيقتاس» لم يعمل على أن يتصل بهرقل عند القسطنطينية على خلاف ما جاء في ديوان حنا؛ مما يدل سياقه على أن «نيقتاس» كان في العاصمة عندما خلع «فوكاس»، ولا بد أن يكون الصواب ما ذهب إليه «زوتنبرج» من أن ذكر اسم «نيقتاس» في هذا الوضع إنما كان نتيجة سهو وقع فيه الكاتب أو الناسخ، وأن الصواب هو «كريسبوس». ولو كان «نيقتاس» ترك مصر حقيقة ولحق بهرقل فاشترك معه وتم له ما ابتغى، لما خفي الأمر على أحد، ولما جاء ذكره عرضا في غموض وإبهام. على أنني لا يسعني إلا أن أخالف «جبون» حيث يقول: «كانت رحلة هرقل سهلة موفقة، وأما سير «نيقتاس» فقد كان شاقا عسيرا، ولم يتم حتى كان النضال قد انتهى، فخضع للقضاء الذي حبا صديقه، ولم يظهر أقل تألم مما كان.»
وما هذا القول إلا قلب للحقيقة كما بينا؛ فإن مسير نيقتاس هو الذي كان سهلا موفقا على وجه الإجمال، وقد بلغ مقصده الذي رمى إليه منذ ملك مصر على رغم ما اعترض سبيله من الأخطار، وما لقي من العوائق بوقوف «بنوسوس» في وجهه، وقد وقع كل ذلك قبل أن يستطيع هرقل أن يزحف من «سلانيك» على العاصمة بزمن طويل؛ فمما سبق نرى من العدل أن نقول إن هرقل لاقى عقبات ومصائب في رحلته، وكان عليه أن يقهرها، ولكن ليس في أيدينا من وصفها شيء، ولا نستطيع أن ندركها أو نعرف حقيقتها.
الفصل الخامس
مصر في حكم الإمبراطور الجديد
أرسل الإمبراطور إلى نيقتاس يثبته في حكم الإسكندرية، وإن شئت قلت إنه جعله نائبا عن الملك في مصر،
1
وأصبح أصحاب «فوكاس» بين قتيل قضي عليه، أو طريد مبعد، أو مرتد ترك الجانب الخاسر وهجره؛ فكان هم «نيقتاس» أن يعيد للحكم المدني الروماني نظامه، وأن يعيد للجيش الروماني كيانه، وكان هذان آلتي الدولة الرومانية تحتفظ بهما بملك مصر. وكان الحكم المدني والجيش كلاهما في يد السادة الحاكمين ليس فيهم أحد من أقباط مصر أهل البلاد؛ فكان ذلك الحكم من هذا الوجه أشبه شيء بحكم الإنجليز في الهند، على أنه يختلف عنه اختلافا عظيما كان سببا في القضاء عليه؛ وذلك أن حكومة مصر لم يكن لها إلا غرض واحد، وهو أن تبتز الأموال من الرعية لتكون غنيمة للحاكمين ، ولم يساورها أن تجعل قصد الحكم توفير الرفاهة للرعية، أو ترقية حال الناس والعلو بهم في الحياة، أو تهذيب نفوسهم، أو إصلاح أمور أرزاقهم؛ فكان الحكم على ذلك حكم الغرباء، لا يعتمد إلا على القوة، ولا يحس بشيء من العطف على الشعب المحكوم. وكانت في يد الحكام عاصمة البلاد الإغريقية، كما كانت في يدهم العاصمة المصرية القديمة منفيس، وحصنها العظيم حصن بابليون الروماني على الشاطئ الشرقي من النيل، وكذلك كانوا يملكون مدائن عدة حصينة يلي بعضها بعضا بين أسوان في الجنوب والفرما في الشمال، وكان جند الحكومة وجباة ضرائبها ينتشرون من تلك المدائن يظهرون هيبة السلطان ويجمعون الأموال، على حين كان تجار الروم واليهود يحلون حيث شاءوا تحميهم جنود الربط، ينافسون الأقباط في التجارة منافسة شديدة.
وكانت الإسكندرية من أشق بلدان العالم حكما؛ لأنها كانت تجمع أخلاطا من الناس من إغريق بيزنطة وآخرين ولدوا بمصر وقبط وسوريين ويهود وعرب وغرباء من جميع البلاد، ولكن يلوح أن نيقتاس قد كسب إجلال أهل الإسكندرية وإن لم يكسب حبهم، مع ما عرف عنهم من التقلب وحب الخروج. وكان من أول ما أمر به أن رفع عنهم جباية المال ثلاث سنوات، فكانت تلك يدا مازهم بها زادتهم تقديرا له بعدما رأوا من غنائه في الحرب، وليس ثمة شك الآن في أنه بقي مقيما في الإسكندرية.
2
حقا إنا نسمع بأنه كان في بيت المقدس قبل زحف الفرس عليها، ويقولون إنه أنقذ بعض الآثار المقدسة - الحربة والإسفنجة - من أن تدركها يد الفرس، ولكنه عاد إلى الإسكندرية بعد ذلك كما سنرى؛ فالحقيقة هي بلا شك أن هرقل أمره أن يسير إلى الشام لعله يدفع عنها الفرس، ولم يكن عنده علم بمقدار ما أتوا به من الجيوش الجرارة، فلم يستطع نيقتاس إلا أن يسرع عائدا إلى مصر.
ولكن من سوء الحظ أن تاريخ مصر في هذه الفترة عسير إدراكه؛ فإن ديوان «حنا النقيوسي» لا يذكر عنها شيئا، وعليه جل اعتمادنا إلى ذلك الوقت؛ فإن بالنسخة التي ننقل عنها نقصا كبيرا؛ إذ تغفل ثلاثين عاما من ذلك الوقت، وكأن يدا أثيمة قد عمدت إلى ذلك الكتاب فأودت بكل ما فيه ذكر لحكم هرقل. غير أننا نجد ذكر كثير من حوادث بعض أنحاء الدولة في بعض مؤلفات الأرمن،
3
أو كتب سواهم من أهل الشرق التي كتبت في هذا العصر، ولكن ما أشبه هؤلاء بمؤرخي بيزنطة في أنهم لا يذكرون إلا النزر اليسير عن مصر. على أننا نستطيع أن نلمح خلال الظلام سير الحوادث الكبرى التي عصفت بسلطان الدولة البيزنطية في مصر في أواخر حياة ذلك الإمبراطور.
فإذا نحن أردنا أن نعرف تاريخ مصر في مدة الأعوام الثلاثين التي بين ولاية هرقل وبين الفتح العربي، فلا مناص لنا من أن نلجأ على الأكثر إلى ما كتبه رجال الكنيسة أو ما كتبه رجال لهم ميول دينية قوية تجعلهم غير أمناء في رواياتهم؛ فالحق أن أمور الدين في القرن السابع كانت في مصر أكبر خطرا عند الناس من أمور السياسة، فلم تكن أمور الحكم هي التي قامت عليها الأحزاب واختلف بعضها عن بعض فيها، بل كان كل الخلاف على أمور العقائد والديانة، ولم يكن نظر الناس إلى الدين أنه المعين الذي يستمد منه الناس ما يعينهم على العمل الصالح، بل كان الدين في نظرهم هو الاعتقاد المجرد في أصول معينة. وكان الناس لا يكادون يحسون شيئا اسمه حب الوطن، وما كانت عداواتهم عند اختلاف الجنس والوطن لتثور ويتقد لهيبها على الأكثر إلا إذا اختلف معها المذهب الديني؛ فكان اختلاف الناس ومناظراتهم العنيفة كلها على خيالات صورية من فروق دقيقة بين المعتقدات، وكانوا يخاطرون بحياتهم في سبيل أمور لا قيمة لها، وفي سبيل فروق في أصول الدين وفي فلسفة ما وراء الطبيعة يدق فهمها ويشق إدراكها؛ فحق على مصر المسيحية قول الشاعر «جوفنال» إذ يصف ما كان بين قومه من النزاع والشقاق على أيهما أفضل في العبادة؛ عبادة التماسيح أم عبادة القطط؛ إذ قال: «كل مكان يكره الآلهة التي لجيرانه، ويعتقد أن الآلهة الحقيقية هي التي يعبدها هو.»
4
لقد تغير الزمان، ولكن الناس هم هم لم تتغير طباعهم. ومنذ كانت الأحزاب ومناظراتها قائمة على ما كان في الدين من شيع وفرق كان جل آثار العصر وما تخلف من كتبه تراجم لحياة القديسين والبطارقة، وقلما نجد فيها ذكرا لأهل الحرب أو السياسة، وعلى هذه الآثار نعتمد في معرفة تاريخ مصر في ذلك العهد.
كان في مصر في ذلك العصر ما كان فيها منذ مجلس «خلقيدونية» في سنة 451؛ وذلك أن كلتا فرقتي المسيحية بمصر كان لها بطريقها، وكانت أمورها الدينية مستقلة، ولكن هذا لم يذهب بشيء من شدة الخلاف الثائر بين الأحزاب، ولم يقلل من متاعبه. نقول هنا للمرة الثانية إن الحزبين بمصر كانا يعرفان باسمين مشهورين: أولهما حزب اليعاقبة وهم القبط، والثاني حزب الملكانية
5
وهم حزب الملك. وكان اليعاقبة على مذهب «المونوفيسيين»، وأكثرهم وإن لم يكونوا جميعا من الجنس المصري،
6
على حين كان الملكانيون يتبعون المذهب الذي أقره مجلس «خلقيدونية»، وكان أكثرهم من أصل إغريقي أو أوروبي. ونجد إجماعا من المؤرخين، وفيهم «ساويرس الأشمونيني»، على أنه ما ولي إمبراطور إلا سار على سنة القضاء على مذهب اليعاقبة في مصر قضاء لا هوادة ولا رحمة، وكان اليعاقبة لا يرضون إلا بأن يمحوا كل أثر من آثار مذهب «خلقيدونية».
وقد سبق ذكر مقتل البطريق الملكاني «تيودور» عند فتح «نيقتاس» للإسكندرية سنة 609؛ فقد
7
كانت ثورة «هرقل» ثورة على السلطان الإمبراطوري في القسطنطينية، وكان القبط باشتراكهم فيها يؤملون بلا شك أن يجدوا في الحكم الجديد سيرا أرفق بهم مما كانوا يجدونه من عسف «فوكاس». والحق أنهم لم يشعروا بخيبة بالغة في أول الأمر؛ فإن البطريق القبطي «أنستاسيوس» بقي على كرسيه ست سنوات بعد خمس قضاها في مدة الثورة، حتى توفي في 22 كيهك (أي 18 ديسمبر) من سنة 616 للميلاد.
8
واستطاع الأقباط عند ذلك أن يبنوا في الإسكندرية بعض الكنائس، أو يعيدوا بناء أخرى مثل كنيسة «القديس ميخائيل»، وكنيسة «القديس أنجيلوس»، والقديسين «كزماس» و«دميان»، هذا عدا أديرة عدة. وكان «أنستاسيوس» ينصب القسوس ويعتمد المطارنة، ولكن لا ننسى مع ذلك أن الملكانيين كانوا لا يزالون محتفظين بسلطانهم في العاصمة، ولهم أكبر الكنائس فيها.
وليس ثمة ما يدعو إلى الشك في أن هرقل كان حريصا كل الحرص على أن يستميل قلوب أقباط مصر، وكان «نيقتاس» في الوقت عينه يرى لزاما عليه أن يجزيهم على ما قدموه من خدمة؛ فإذا كانت حكومة بيزنطة قد أقامت بطريقا ملكانيا بدلا من «تيودور» القتيل، فإنها اختارته رجلا أوصى به «نيقتاس» إيصاء خاصا، وكانت حياته الماضية وخلقه بحيث جعلاه موضع إعجاب اليعاقبة، حتى بجلوه في حياته، وعظموه بعد مماته؛ إذ اتخذوه أحد القديسين الذين تخلد أسماؤهم في التقويم القبطي. ومن العجيب أن «نيقتاس» جاء بعد ذلك فساعد مساعدة كبرى في التوفيق بين «المونوفيسيين» من أهل الشام وبين الكنيسة القبطية. وهذا يدل على أنه كان يميل للأقباط ويعطف عليهم، وأنه لم يكتف بأن يسلك معهم مسلك الاعتدال والتسامح.
9
وكان المطران الأكبر الملكاني الذي عين حديثا هو «حنا الرحوم» أو هو المحسن. وقد أطلق عليه ذلك اللقب لما كان يأتيه من أعمال البر والإحسان،
10
ولكن كرمه لم يكن فوضى؛ فإنه بعث من حوله ليجوسوا خلال المدينة، فيأتوه بخبر «سادته ومساعديه». فلما سألوه عما يعنيه بقوله أجاب قائلا: «أقصد من تسمونهم أنتم «الفقراء والمساكين»، وأسميهم أنا «السادة والمساعدين»؛ لأنهم في الحق يساعدوننا ويمنحوننا ملكوت السموات.» وعلى هذا كتبوا له صحيفة بأسماء الفقراء، فأجرى عليهم كل يوم رزقا، وبلغ عددهم 7500. فلما رأى «نيقتاس» أن البطريق تجري يده بالعطاء جريان البحر، نفس عليه ذلك، وجاءه يوما فقال: «إن الدولة محتاجة أشد الحاجة إلى المال، وإن ما عندك من المال يأتي إليك عن رضا لا يؤذي أحدا، فابعث بما عندك إلى بيت مال الدولة.» فقال له البطريق: «إن ما نقدمه لملك السموات يجب ألا نبذله لملك في الأرض، ولست بمعطيك شيئا عن رضا، ولكن خزانة الله تحت سريري هذا، وأنت وما تختار لنفسك.» فدعا «نيقتاس» بحراسه، وأمرهم أن يأخذوا المال من تحته، وفيما كانوا خارجين رأوا قوما يحملون في أيديهم أواني صغيرة كتب عليها «أحسن العسل»، وأخرى كتب عليها «عسل لم يدخن». فسألهم «نيقتاس» أن يعطوه واحدة منها لطعامه، فهمس القوم في أذن البطريق أن فيها ذهبا، فأرسل حنا آنية منها إلى «نيقتاس» مع رسول، وأرسل إليه أن لا يفتحها إلا في حضوره، ثم قال إن كل الأواني التي رآها وهو خارج لم تكن إلا مملوءة بالمال. فلم يسع «نيقتاس» مع هذا إلا أن ذهب إلى البطريق، ورد إليه كل ما أخذ منه من المال، وكذلك رد الآنية، ثم بعث إليه بمال آخر من عنده.
11
ومثل هذه القصص تظهر على الأقل ما كان لرئيس الدين بالإسكندرية من سلطان، وما كان لديه من موارد المال. وإنه لمن المستطرف أن نعلم كذلك أن الكنيسة كانت تملك أسطولا من السفن التجارية. وقيل إن إحدى تلك السفن ساقتها الريح عن طريقها، وكان عليها عشرون ألف مد
12
من القمح، فبلغت السفينة سواحل بريطانيا وكان بها قحط شديد، ثم عادت تحمل من هناك القصدير، فباعه الربان في «بنطابوليس». وجاء في موضع آخر أن جمعا من السفن يبلغ ثلاث عشرة سفينة عدا يحمل كل منها عشرة آلاف مد من القمح، ذهب كل ما فيها ضياعا في البحر الأدرياوي في أثناء عاصفة، وكانت كلها ملكا للكنيسة، وتحمل عدا القمح حمولة أخرى من الفضة والمنسوجات الدقيقة، وسوى ذلك من ثمين المتاع.
13
ولا يمكن أن يشك أحد في أن الكنيسة كان لها قسط من تجارة القمح العظيمة التي كانت رائجة بين الإسكندرية والقسطنطينية، وكان جستنيان قد أعاد لها نظامها ورواجها،
14
وكان للكنيسة فوق ربح هذه التجارة وفوق ما كان الناس يهبونها طائعين مختارين، أوقاف من أرض الزراعة تؤتي أموالا عظيمة؛ فليس من العجيب إذن أن نرى «حنا الرحوم» يدهش الناس بإنفاقه. وكان «أندرونيكوس» الذي صار بطريقا للقبط بعد «أنستاسيوس»، وأدرك عهد «حنا الرحوم» مدة أشهر، لا يقل عنه شهرة بثرائه وكثرة إحسانه.
بقيت مصر وفيها بطريقان للمذهبين مدة، وكانت خطة هرقل في مبدأ أمره أن يوفق بين هذين المذهبين العظيمين اللذين اقتسما أتباع الدين المسيحي في مصر، ولكن لم يستطع رئيس الدين القبطي أن يبقى في العاصمة؛ فقد كانت العداوة بين الشيعتين، وإن خمدت، تتقد في خفاء، ويندلع منها اللهب إذا ما هب عليها أضعف ريح من الفتنة. ورأت الحكومة أن من الحكمة التفريق بين رئيسي الدين حتى لا يبقى المتنافسان معا في العاصمة؛
15
فإن «أنستاسيوس» مثلا عندما جاء إليه بطريق أنطاكية كان مقيما في دير «الهانطون»، وهو دير شهير على الساحل على نحو تسعة أميال إلى غرب الإسكندرية؛
16
ومن ثم خرج في موكب مهيب للقاء ضيفه.
17
وكذلك لم يذهب إلى الإسكندرية، بل أرسل يطلب قسوسه منها، وعقد في الدير مجمعا أسفر عن رجوع الاتفاق والاتصال بكنيسة أنطاكية.
ولكن أندرونيكوس خليفة «أنستاسيوس» شذ عن هذه السنة، سنة ترك الإقامة بالإسكندرية؛ فقد كان عند انتخابه شماسا في كنيسة «أنجيليون»
18
بالإسكندرية، فبقي هناك مقيما في صومعته المتصلة بالكنيسة مدة ولايته، وكانت ست سنوات. والسبب في أنه لم يبعد عن الإسكندرية هو أنه كان من أسرة عريقة، وكان له قوم من أقاربه بين حكام المدينة يمنعونه ويعتز بهم. ولسنا ندري كيف كانت العلاقة بين البطريقين. على أن «حنا الرحوم» مات بعد أشهر قليلة من ولاية «أندرونيكوس» رئاسة الدين في القبط. ولسنا نعرف على وجه التأكد ما إذا كان جورج
19
الذي ولي بعد حنا بطرقة الملكانية قد أقام في الإسكندرية أم لم يقم؛ وعلى ذلك فأغلب الظن أن العلاقة بين الاثنين لم تكن ذات شأن عند ذلك.
وليس من المجدي أن نأسف لأن أمثال هذه الأخبار المفصلة عن الكنيسة، والتي لا تلذ كثيرا للقارئ، هي جل ما بقي من تاريخ مصر في السنوات الخمس أو الست التي جاءت بعد ثورة هرقل، ولكن قد آن لنا أن نخرج من هذه الترهات إلى السبيل الواضح، فنرى ما كانت تتجاوب به الأنحاء الشرقية من الدولة من جليل الحوادث التي بلغ صداها جوانب النيل. وكان قد جرى القضاء بأن تزعزع قوة الرومانيين في مصر وتصدع جدرانها، فتمهد بذلك السبيل إلى الفتح العربي، ولكن النضال الذي كان بين إمبراطورية الرومان ودولة الفرس كان شائعا في ميدان فسيح. وإذا أردنا أن نعرف أثره في مصير مصر كان علينا أن نسير وراء حوادثه وتقلبات أحواله، ولو كان ذلك إلماما غير مفصل.
الفصل السادس
فتح الفرس للشام
خرج الثائر الغاصب «بهرام» على كسرى حفيد «أنوشروان» ملك الفرس العظيم بعد ولايته بأيام قلائل، وطرده من بلاده، فهرب مع عميه، وعبروا دجلة، وقطعوا أطناب القنطرة التي اجتازوا عليها حتى لا يلحق بهم أحد من ورائهم،
1
ثم سار كسرى إلى «قرقيسيا» على نهر الفرات ينوي أن يؤدي الصلاة في مشهد من مشاهد النصارى، يسأل الله أن يخلصه من أعدائه؛ ومن ثم يقال إنه ضرب في الأرض خائر العزيمة، كسيف البال، لا يدري أيحتمي بالهون أم بالروم؛ فرمى أعنة فرسه على غاربه وجعل الحكم للقضاء،
2
فحمله فرسه إلى حدود الروم، فنزل ضيفا على القوم الذين ظلت بلاده في حرب مستعرة معهم نحو سبعة قرون.
فلقيه الإمبراطور «موريق» مرحبا مؤهلا، أو بعبارة أدق لقد لقيه نائب عنه عند «هيرابوليس»، ويقال إن الإمبراطور نفسه أرسل إليه هدية لا يقدر لها ثمن من الجوهر، وإنه زوجه ابنته «مارية»،
3
وأكبر من كل هذا أنه نصره، وأرسل «نارسيس» بجيش جرار ليعيد إليه ملكه من «بهرام». وحدث اللقاء عند نهر الزاب في إقليم «بلرات»، وكانت موقعة شديدة القتال، وكان فيها فصل الخطاب؛ فإن جيش بهرام كان أقل عددا من جيش الروم، فتمزق شر ممزق، مع أن قائده قاتل بما كان معروفا عنه من الشجاعة والبصر بأمور الحرب، وهرب بهرام إلى بلخ، فأدركه بها أتباع الملك وقتلوه؛
4
وبذلك عاد كسرى إلى عرش فارس بمساعدة الروم، واختار لحرسه الخاص كتيبة من الروم عددها ألف جندي؛ وبذلك حل السلام وثيقا بين الدولتين، حتى لقد قيل إن كسرى تنصر. ويستدلون بما قدمه من النفائس قربانا لمشهد «مار سرجيس»، وما كتبه من الرسائل إلى بطريق أنطاكية على أنه كان
5
يؤثر مذهب اليعاقبة.
ولا شك أن نشأته وعلاقاته بالدولة المسيحية وزواجه كان لها أثر كبير في تخفيف وطأة العداوة القديمة الموروثة بين ديانة المجوس وديانة المسيح، ولكن الروم طلبوا المكافأة على مساعدتهم بأن تضم إليهم أرض فسيحة جعلت ملكهم بالغا شواطئ نهر الرس؛ فكانت هذه الخسارة سببا في إيلام كسرى وقومه، كما كان ميل كسرى إلى المسيحية، وهي دين غريب، مؤلما لكهنته؛ فلا شك مع هذا أن يكون قد بادر إلى العدول عن ميوله وإصلاح خطئه؛ فاضطر بتأثير عوامل قوية، بعضها ديني وبعضها سياسي، إلى أن يقطع صلته وينقض عهده مع الدولة البيزنطية، فصرف حرسه الرومي وتغير على «نارسيس»، وكان على رأس الجيش في «دارا». فأراد «موريق» أن يستل غيظ الملك ويسترضيه، فبعث «جرمانوس»
6
ليحل محل «نارسيس».
واتفق في ذلك الوقت أن وثب فوكاس، ذلك الرجل المشوه الفظيع، بعد أن تم له الأمر في بيزنطة، فقتل الإمبراطور موريق مع كل ولده ذكورا وإناثا، ولم يكن كسرى ليطلب عذرا بعد هذا لتبرير غضبه وإثارة الحرب علانية، ولئن كان لا يزال فيه شيء من التردد فقد زال عنه عندما بلغه أمر «نارسيس»، وأنه خرج ثائرا في «أذاسة»، وقسم الدولة الرومانية إلى شطرين محتربين.
7
على أن نارسيس دفعته ثقة حمقاء مرة إلى أن يذهب إلى العاصمة ليزور بعض أصحابه فيها، فقبض عليه فوكاس وأحرقه في ميدان سباق الخيل، ولكن كان ذلك بعد أن انتهى الأمر وسبق السيف العذل. فلما جاء «ليليوس» رسول فوكاس إلى جرمانوس في «دارا»، بعثه هذا معززا مكرما إلى البلاط الفارسي، وكان معه رسائل وهدايا إلى الملك كسرى، ولكن الملك أودع الرسول السجن، وسار بجيشه إلى أرمينيا.
وليس من قصد هذا الكتاب أن نصف القتال الذي كان بين فوكاس وكسرى؛ فإنه لم يكن في عصرنا الذي نصفه، وليس له من صلة بتاريخ مصر اللهم إلا بما كان له من الآثار العامة، ولسنا نجد شيئا نزيده على ما كتب من قبل؛ وعلى ذلك فحسبنا أن نذكر أن ملك الفرس بعد أن فتح أرمينيا ، وكثيرا ما كانت ميدانا للنضال بين الدول، قسم جيشه إلى قسمين، فأرسل قسما منه إلى الجنوب لفتح الشام، وأرسل الآخر إلى الغرب ليخرق قلب آسيا الصغرى؛ يقصد بذلك أن يصل إلى القسطنطينية. وليس توارد الحوادث بالأمر الواضح، ولكنا لا يعنينا منها إلا ما كان من أمر الجيش الذي ذهب إلى الجنوب. وقد كان سيره بطيئا، حتى إن فتح أنطاكية لم يتم إلا وقد صار «هرقل» ملك الدولة. وبعد، فلو صح أن الباعث لكسرى على خوض الحرب إنما هو الانتقام من فوكاس، لكان موت هذا الطاغية مختتم النضال، ولكن الملك العظيم قد عرف في حربه ضعف عدوه، وزاده النجاح رغبة في المضي في سبيله، ولم يكن سبيله إلا إخضاع الدولة الرومانية لحكمه. ولم يكن ذلك مجرد خيال بعيد التحقيق؛ فقد كانت جيوشه أكثر عددا وأتم عدة وأبدع نظاما من جيوش عدوه، وكان قواده لا أكفاء لهم في جيش الروم بعد أن مات «بنوسوس» و«نارسيس»، وكانت خزائنه عامرة بالمال، والشعب من ورائه يدا واحدة، في حين كان أهل الدولة الرومانية شيعا وفرقا، وخزائنها تكاد تكون خاوية.
ومع ذلك فقد كانت بلاد الشام وعرة المسالك، وكان حصار المدن أمرا شاقا، وكان الجيش يقضي قسطا كبيرا من السنة بلا عمل في معسكر الشتاء، فلم يقدر خوريام
8
قائد الفرس على أن يسير إلى بيت المقدس بعد الاستيلاء على «دمشق» و«قيصرية» إلا في السنة الخامسة من حكم هرقل. وأرسل ذلك القائد، على ما يلوح، رسلا من مقره في قيصرية إلى بيت المقدس يدعوها إلى التسليم للملك الأعظم. وقد حدث ذلك، فأسلم اليهود المدينة إلى قواد الفرس بعد أن غلبوا المسيحيين من أهل المدينة على أمرهم.
9
وما هي إلا شهور قليلة بعد ذلك حتى وثب المسيحيون بالفرس، فقتلوا قادتهم، وملكوا الأمر على الجنود المرابطة، وأغلقوا أبواب المدينة، وعند ذلك جاء «شاه-ورز» وحاصرهم، ثم ساعده اليهود على هدم الأسوار، فاستطاع جنوده أن يدخلوا المدينة في اليوم التاسع عشر من مجيئه، وكان دخولهم من نقب أحدثوه في الأسوار، وأخذوا المدينة
10
عنوة، وأعقب ذلك مشاهد مروعة من التقتيل والنهب والتدمير، وكانت الضحايا عظيمة، وأقرب ما قيل فيها إلى الأفهام قول «سبيوس» و«توماس الأرظروني»؛ إذ قالا إن عدد القتلى بلغ 57000، وعدد الأسرى 35000، على أن مؤرخي بيزنطة يقولون إن عدد من هلكوا كان 90000، وهو تقدير غير دقيق؛
11
فقول كتاب الأرمن أقرب إلى الحقيقة. على أنه من الثابت أن القتلى كان بينهم آلاف كثيرة من الرهبان والقديسين والراهبات. وبعد أن قضى الفرس في المدينة واحدا وعشرين يوما في القتل والنهب خرجوا من المدينة وأوقدوا فيها النيران؛ فخربت بذلك أو جردت مما بها كنيسة القبر المقدس وسواها من البيع العظمى التي بناها قسطنطين.
12
أما الصليب المقدس، وكان قد دفن في الأرض بغطائه الذهبي ذي الجواهر،
13
فأخرج منها وقد عرف مكانه بالتعذيب،
14
وأخذ هو وشيء لا حصر له من الآنية المقدسة من الذهب والفضة، وجعل كله غنيمة، وأسر عدد عظيم من الناس كان من بينهم البطريق «زكريا». فأما صندوق الصليب المقدس والبطريق فأرسلا هديتين إلى مارية زوج كسرى. وأما سائر الأسرى فإذا نحن صدقنا ما رواه «قدرينوس»، فقد اشترى اليهود كثيرا منهم ليمتعوا أنفسهم بتقتيلهم. وقد قال كاتب «ديوان بسكال»، وفي قوله رنة الأسى: «إن كل هذا لم يحدث في سنة ولا في شهر، بل في بضعة أيام.» وكان تاريخ هذا على سبيل البت في شهر مايو سنة 615.
15
من هذا نعرف أن المدينة المقدسة قد نزلت بها كوارث السيف والنار، ومن لم يدركه القتل والأسر من أهلها هرب لائذا إلى الجنوب في القرى المسيحية من بلاد العرب.
16
وكانت تلك القرى جماعات وادعة، فعكر صفوها ما بلغها من صدى الدعوة الجديدة؛ دعوة نبي الإسلام. ولعل ذلك الحادث من انتصار الفرس أهل الأوثان في بيت المقدس هو الذي نزلت بمناسبته الآية الشهيرة:
غلبت الروم * في أدنى الأرض وهم من بعد غلبهم سيغلبون * في بضع سنين .
17
ولكن الملجأ الأكبر للهاربين المشتتين من المسيحيين كان القطر المصري ولا سيما الإسكندرية، وكان عدد سكانها قد تزايد بمن كان يرد إليها من اللاجئين الذين كانوا لا ينقطع سيلهم منذ ابتدأت غزوة الفرس في بلاد الشام.
وقد كان كرم «حنا الرحوم» وما عنده من المال لا يكفيان لسد الحاجة الشديدة التي عمت البلد قبل أن تأتي إليها وفود اللاجئين من بيت المقدس، فما بالك بالحال وقد جاءت إليها تلك الوفود، ثم زاد البلاء اشتدادا؛ إذ كان فيض النيل في ذلك الصيف فيضا ضعيفا مخطرا، وكانت عقباه مجاعة
18
جرت على البلاد كلها ذيل الخراب؟ على أن الهبات كانت لا ينقطع مددها عن الكنيسة، وقلما جاء قاصد قصد «حنا الرحوم» «كما تلجأ السفينة إلى المرفأ الذي لا موج فيه» ثم ارتد خائبا؛ فكان ذلك البطريق الطاهر يطعم الطعام للفقراء، وفوق ذلك بنى الملاجئ والمستشفيات للمرضى والجرحى، ولم ترض نفسه أن يعنف الأغنياء إذا هم بلغت بهم ضعة النفس أن يستفيدوا من إحسانه، ولكن هذا البذل لا يمكن أن يدوم. فلما اشتد القحط وجد حنا خزائنه قد أخذت تخوي، وفيما كان في شدة من أمره أصابته فتنة شديدة؛ وذلك أن أحد الناس أتى إليه وكان قد تزوج مرتين؛ ولهذا كان غير صالح أن يدخل بين رجال الدين،
19
ولكنه أتى إليه بمقدار عظيم من المال، وشيء كثير من القمح مهرا؛ لكي يبيح له الدخول في زمرة رجال الدين. وكان حنا لم يبق لديه إلا كيلان من القمح في خزائنه، ولكنه لم يتردد طويلا، ثم أبى أن يقبل الهبة؛ فجوزي على ذلك بأن أتته بعد قليل أنباء بأن سفينتين من سفن الكنيسة تحملان مقدارا كبيرا من القمح آتيتان عند رأس فاروس مقبلتين من صقلية، وما عتمتا أن صارتا في المرفأ.
ولكن بر البطريق لم يكن مقصورا على مصر، ولم يكن معناه إطعام الجائعين وحده؛ فإنه ما كادت المدينة المقدسة تنهب وتدمر حتى ذهب راهب اسمه «مودستوس»، كان قد نجا من القتل، فجعل يجوب أرض فلسطين في طلب المعونة على إعادة بناء الكنائس المخربة. وقد نجح في سعيه، وعاد إلى بيت المقدس ومعه مقدار كبير من المال، فوجد أن اليهود قد خسروا حباء الفرس وتعضيدهم، وكان الفرس قد بذلوهما لهم في أول الأمر ثمنا لما قدموه من المساعدة، وصار بعد ذلك المسيحيون في مكان الحظوة عند الفرس؛ فجعل «مودستوس» على رئاسة جماعة المسيحيين في الحكم الدنيوي والديني، وأبيح له أن يعيد بناء الكنائس. وأرسل كسرى - كما جاء في «سبيوس» - أوامر خاصة يأمر بالإحسان إلى الأسرى، وأن يعيدوهم إلى حيث يستقرون، وأن يرجعوا بناء بيوت الدولة، ثم أجاز طرد اليهود، فتسابق الناس إلى إنفاذ أمره.
ويذكر لنا المؤرخ نفسه نص خطاب أرسله «مودستوس» إلى «كومتاس» (رئيس الدين في أرمينيا) بعد أن تم العمل في الكنائس، وفيه يقول: «لقد جعل الله أعداءنا أصدقاء، وأنزل الرحمة والرضوان في قلوب غزاتنا، على حين أن اليهود الذين اجترءوا على معاداة هذه الأماكن الشريفة وإحراقها قد شردهم الله من البلد المقدس، وقدر عليهم ألا ينزلوا به ولا يروه، وقد أرجعت فيه بيوت العبادة إلى سابق عزها ومجدها.» ثم جاء فيه بعد ذلك: «لقد عادت كل كنائس بيت المقدس إلى سابق سيرتها؛ تصلي فيها القسوس، ويسود السلام على مدينة الله وما حولها.»
وليس بأقل غرابة من هذا ما رواه الكاتب نفسه عن مجمع عقده المسيحيون وأوحى به كسرى، ولا تزال هذه القصة محفوظة بين طيات خطاب كان أرسله الجاثليق الأرمني ومطارنته ردا على رسالة جاءتهم من قسطنطين خليفة هرقل. وقد جاء في هذا الخطاب أن الملك الأعظم أمر مطارنة الشرق وأشور أن يجتمعوا في بلاطه، وقال لهم: «لقد سمعت أن في المسيحيين فرقتين تلعن إحداهما الأخرى، فمن يدرينا أيهما على الحق؟ فليأتوا جميعا إلى مجلس واحد، فليأخذوا بالحق، وليذروا الباطل.» وقد جعل الطبيب الأكبر للملك ورجلا آخر اسمه «سمباط البجرتوني» عميدين لهذا الاجتماع، وكان بين من جاءوا إليه من الخواص «زكريا» بطريق بيت المقدس، كما جاء سواه من «رجال حكماء كانوا فيمن أخذ أسيرا من الإسكندرية». وكان ذلك المجمع أولا كثير الصخب والاضطراب، فاضطر الملك أن يخرج منه أتباع كل الفرق التي لا تدين للمذاهب التي أقرها أحد المجامع السابقة، وهي مجمع «نيقة» و«القسطنطينية» و«أفيسوس» و«خلقيدونية»، ثم أمر الملك المجتمعين من رجال الدين أن يفحصوا ما تقرر في هذه المجامع، وأن يرسلوا إليه بما يرون في ذلك. فجاءت إلى الملك كتب عدة يبسط فيها أصحابها مختلف الآراء، وجعل هو يفكر فيها ويزنها في عقله، ثم جعل يسائل فيها «زكريا» وأهل الدين الإسكندريين، وكانوا يقسمون له أن يقولوا الصدق؛ فأجمعوا على أن الدين الحق هو ما أقرته مجامع «نيقة» و«القسطنطينية» و«أفيسوس»، وتبرءوا من مجمع «خلقيدونية»؛ وعلى ذلك كان حكمهم ل «المونوفيسيين»، ومذ سمع الملك هذا أمر أن يبحث في خزائنه ومكاتبه عن الصحيفة التي كان مذهب «نيقة» مدونا بها، فوجدوها ورأوا أنها وفق عقيدة الأرمن، فأمر كسرى «أن يؤمن المسيحيون في دولته جميعا بما آمن به الأرمن». وكان ممن رضي عن ذلك «الملكة شيرين التي تحب الله، وسمباط الباسل، وكبير أطباء الملك». وختمت الصحيفة التي كتب فيها المذهب الصحيح كما أقره المجلس بخاتم الملك الأعظم، وجعلت في «ديوان السجلات» بالدولة.
وليس لدينا ما هو أكبر دلالة على ما كان عليه كسرى في معاملته للمسيحيين من هذه الرواية التي بقيت محفوظة للتاريخ في ثنايا خطاب المطارنة الأرمن. وإنا لنلمح الصدق في لهجة الخطاب، وليس بنا ما يدعو إلى الشك في صحته. وكانت كتابته حوالي سنة 638؛ أي بعد نحو عشرين سنة من المجمع الذي جاء ذكره فيه؛ ذلك المجمع الذي انعقد عقده بعد زمن قصير من فتح الفرس بيت المقدس. وهذا الخطاب يصور لنا الملك الأعظم في صورة غير التي ألف الناس رؤيتها؛ فلم يكن الملك الوثني المتعصب يضطهد أصحاب الصليب ويقاتلهم، بل كان على غير ذلك يبيح للمسيحيين حقهم في اعتقادهم، ويبدي غيرة وإقبالا عجيبين على فهم عقائدهم، ويعجب أشد العجب من خلافهم وتطاحنهم وتنابذهم، وهو ما لا يتفق مع روح دينهم، ويظهر الحرص على إزالة ما بينهم من الشقاق والخلاف. ولا ندري أكان ذلك من حدب على ما فيه صلاح أمرهم، أم كان الباعث عليه حرصا على الكياسة في تصريف أمور الدولة. فكان يجلس معهم وهم يتناظرون، ويسائلهم فيما هم فيه، ويتدبر ما يجيبونه به؛ فلما أن استقر رأيه على قرار وحكم حكمه، قيل إنه توعد بعض المطارنة أن يضرب أعناقهم ويهدم بيعهم إذا هم عصوا ما أمر به. على أن القصة تدل في مجملها على هوادة ورفق يقربان من العطف على المسيحية، وهو ميل بدا منه من قبل عندما أمر أن يعيد المشردين من المسيحيين إلى بيت المقدس، والإذن لهم بإعادة بناء ما تهدم من معابدهم. وقد جاء في كتاب «حنا النقيوسي»
20
أن أبا «هرمزداس»، وهو «أنوشروان» الكبير، بقي مدة يضمر الإيمان بالدين المسيحي، ثم عمده أحد المطارنة. ولسنا ندري ما مبلغ هذا من الحق، ولكن أثر نساء الملوك من المسيحيات، وأثر الأطباء والفلاسفة في بلاط هؤلاء الملوك، جعل في قلوبهم عطفا على المسيحية، وجعلهم يعرفون عنها من العلم شيئا كثيرا.
21
وفي الحق إن عجبنا من أن الفرس كانوا في حكمهم على مثل هذا الرفق لا يحيدون عنه في معاملة الكنيسة المسيحية، أشد من عجبنا من سورة البطش التي كانت توقع بتلك الكنيسة في بعض الأحايين.
وخلاصة القول أن «حنا الرحوم» مطران الإسكندرية بذل في سبيل إعادة الكنائس في بيت المقدس إلى سابق عهدها ما يقال إنه بلغ ألف عدل من القمح والخضر، وألف بغل، وألف سفينة من السمك، وألف خابية من الخمر، وألف رطل من الحديد، وألف صانع.
22
وقد كتب حنا إلى «مودستوس» في خطاب له: «أعتذر إليك أني لا أستطيع أن أرسل شيئا جديرا بكنائس المسيح، وما كان أحب إلي أن أجيء فأعمل بيدي في بناء كنيسة القيامة.»
23
ويروى عنه أيضا أنه بعث مرة عيرا تحمل من الذهب والقمح والثياب وما إلى ذلك مع رجل اسمه «كريسيبوس»، وقد تكون هذه رواية أخرى للقصة السابقة عينها، ويروى أنه أرسل «تيودور» مطران «أماتوس في قبرص» و«جريجوري» مطران العريش «رينوقولورا»
24
و«أنستاسيوس» رئيس دير الجبل الأكبر دير «القديس أنطون»،
25
وأرسل معهم مالا كثيرا، وتقدم إليهم أن يفدوا به من استطاعوا فداءه من الأسرى. وكان هذا في النصف الثاني من سنة 615.
الفصل السابع
فتح الفرس لمصر
في الوقت الذي كانت فيه العير التي أرسلها حنا الرحوم تقطع الصحراء آتية من مصر إلى بيت المقدس في أول خريف سنة 615، أتى إلى «أنستاسيوس» بطريق القبط ضيف نزل عليه، وهو «أنستاسيوس» بطريق أنطاكية، وكان قد اعتزل عند غزوة الفرس، وكان لقاؤهما - كما ذكرنا آنفا - في دير «الهانطون» على الساحل إلى غرب الإسكندرية. ولعل بطريق أنطاكية كان يصحبه مطران أو اثنان من مطارنة الشام، وكان قد حل في الدير من قبل مطارنة آخرون أمثال «توما الهركلي» و«بولص التلوي»، وكانوا دائبين في عملهم العظيم، ألا وهو مراجعة ترجمة الإنجيل السريانية ومقابلتها على النص اليوناني، وكان سواهم في مصر كثيرون جاءوا إليها لائذين؛ فإنه «قد هرب كل من استطاع الهروب؛ إذ كان الفرس يفسدون في الشام خوفا أن يدركهم شرهم، وكان فيهم ناس علمانيون من كل الطبقات، وقسوس من جميع الدرجات ومعهم مطارنتهم، جاءوا كلهم إلى الإسكندرية يحتمون بها».
1
فكان على ذلك من المحتمل أن تصدق الأقوال الشائعة عن وجود خمسة من المطارنة مع البطريقين عند اجتماعهما. وقد كان من أثر هذا الاجتماع اتحاد الكنيستين الشامية والقبطية، ولم يبق «أنستاسيوس» في مصر إلا شهرا واحدا، ثم عاد إلى الشام، وشهد فيها أول عهد التسامح العجيب الذي كان على ما يظهر يحل سريعا في إثر غزاة الفرس عقب القتال الأول العنيف الذي كانت الدماء تسيل فيه غزارا؛ إذ كان الفرس في حربهم غلاظ القلوب ما دام السيف في أيديهم، وكانت غلظتهم وحشية لا يبررها عقل ولا تدعو إليها حاجة، حتى كان يخيل إلى الناس أن جندهم لا يمل من سفك الدم، فإذا ما ساد السلام وعاد الأمن صار حكمهم عادلا وديعا على غير توقع، كانوا على ذلك في بلاد العرب وفي الشام وفلسطين، وكانوا على ذلك أيضا في مصر كما تشهد حوادثها بعد حين.
استغرق فتح الشام سنين ستة، وكان فتح بيت المقدس آخر ما كان عليهم القيام به هناك، لم يبق بعده إلا قليل من الأمور. فلما اقترب خريف سنة 616 كان الاستعداد قد تم لغزو مصر. ويظهر أن القائد لم يكن «خوريام»، وهو «شاه-ورز»، بل كان قائدا آخر اسمه «شاهين».
2
سار شاهين على محجة الحرب وطريقها الواضح، وهي الطريق التي سار فيها قمبيز و«أنطيوخس أبيفانس» والإسكندر الأكبر، والتي كان مقدرا عليها أن تشهد سير عمرو بعد سنوات قليلة وهو يقود جيوش العرب.
كان أول تلك الطريق عند العريش (رينوقولورا)، وكانت تتبع ساحل البحر إلى الفرما ومنها إلى ممفيس، ثم تبلغ مجمع النهرين عند رأس مصر السفلى، ومن «ممفيس» كانت تصل إلى «نقيوس» متبعة فرع النيل الغربي، ومن هناك تسير إلى الإسكندرية. ولم يكن لدى أهل وادي النيل رغبة في قتال شديد ولا قدرة عليه؛ ولهذا لا نجد ذكرا لوقعة ذات شأن، ولا لسعي شديد في سبيل الدفاع عن البلاد.
ويصف مؤرخو اليونان كل هذه الحرب في كلمة قصيرة؛ إذ يقولون: «جاء الفرس فأخذوا مصر كلها والإسكندرية وليبيا إلى حدود أثيوبيا، ثم عادوا ومعهم عدد عظيم من الأسرى، وغنائم جليلة المقدار.»
3
ويزيد المؤرخون المصريون على تلك القصة شيئا يسيرا لا يشفي غلة. على أننا نعرف منهم أنه قد فتحت الفرما بغير كبير عناء، وأن الفرس خربوا من كنائسها الكثيرة وأديرتها.
4
ولا يرد ذكر لإخضاع حصن بابليون بقرب ممفيس، ولنا أن نقول إنه كان غير محصن، ولم تكن فيه حاميات من الجنود تدفع عنه - ولو أن الفرس كانوا بلا شك أهل السبق والتبريز في فنون الحصار وحروبه - وكذلك نعرف منهم أن جيش الفرس سار في البر بعد فتح «ممفيس» يساعده أسطول عظيم في نهر النيل، وسار متبعا الشاطئ الشرقي من الفرع الأكبر الغربي، ومر بمدينة «نقيوس» في طريقه إلى الإسكندرية.
5
وأما فتح الإسكندرية فقد بقي وصف شائق له،
6
يقول كاتبه إن تلك المدينة العظمى «بناها الإسكندر كما أوصاه أستاذه أرسطو، فجعل لها سورا، وأجرى وراء الأسوار مياه النيل، وجعل لها أبوابا قوية»، وقد ظل الحصار زمنا ولم يستطع الفرس أن يدخلوا ذلك المعقل المنيع مع ما كانوا عليه من بصر بأمور الحصار. والحق أن حصونها كانت قوية لا يكاد عدو يجد فيها مطمعا. وكان ذلك الحصار في عام 617؛ أي بعد آخر غزوة غزاها الفرس مصر بنحو 117 عاما. وقد استطاع الفرس في تلك الغزوة السابقة أن يفتحوا مصر السفلى، وغمر أتيهم أرضها جميعا، ولكنه ارتد عاجزا عند أسوار الإسكندرية.
7
وقد قامت هذه الأسوار نفسها منذ ثماني حجج ماثلة بين يدي جيوش «بنوسوس»، فارتدت عنها تلك الكتائب المستميتة وهي خاسئة، كأنما هي أمواج البحر ترتطم بصخور الساحل. وقد أراد الله أن تقوم تلك الأسوار مرة أخرى بعد ربع قرن وهي راسية قوية تحاد جيوش العرب حتى استطالت بها مدة الحصار. فمن الواضح على ذلك أن تلك الأسوار كانت في الوقت الذي نصفه هنا لا تزال على عهدها خطا عظيما من الحصون والآطام ذات بأس ومنعة، ولو أتيح لها جند عاهدوا أنفسهم على الدفاع يدا واحدة لكان في استطاعتها أن تثبت حتى يكل المحاصرون وتنفد قوتهم، ولاستطاع جندها عند ذلك أن يسحقوهم وقد أنهكت قواهم، أو أن يرغموهم على رفع الحصار وترك المدينة، ولا سيما وقد كان البحر من ورائها تأتي منه الأمداد تترى إليها؛ إذ كان الروم لا يزالون سادة البحر إلى ذلك الحين.
ولكن أنى لها ذلك وقد بعد عهدها باجتماع الشمل وتوحيد الكلمة، وصار أهلها أخلاطا مضطربة من قبط وروم وسوريين ويهود، وجماعة من طلاب العلم، وآخرين من اللاجئين أتوا إليها من كل أنحاء الدولة؟ فكان القبط والسوريون يكرهون الروم، وكان اليهود يمقتون أتباع المسيح مقتا لا يسله من قلوبهم الخطر الداهم عليهم جميعا، وكانوا جميعا لا يدركون أن الواجب عليهم أن يجتمعوا من كل جنس أو طبقة أو مذهب يربطهم رباط الاشتراك في الوطن، وهو الوسيلة لا وسيلة غيرها إلى ضم شملهم. ما كانوا ليدركوا معنى لهذا، بل كانوا يسخرون منه ؛ فلم يكن عجيبا مع هذا أن نرى الخيانة تعمل على وقوع المدينة في يد أعدائها.
وكان الفرس في أثناء مدة الحصار يوقعون بما حول المدينة من الريف، ولا سيما بما فيه من الأديرة؛ يشفون بذلك ما في نفوسهم من الغيظ لفشلهم. وقد جاء في الأخبار أنه كان بأرباض الإسكندرية نحو ستمائة من الأديرة لها آطام على شكل أبراج الحمام،
8
وكان الرهبان آمنين وراء هذه الحصون واثقين بمناعتها؛ فلم يلتفتوا إلى اتخاذ الحيطة وإعداد الأمر لسلامتهم، بل دفعهم الاطمئنان إلى الجرأة على محادة عدوهم جهرا، ولكن جاءت إليهم كتيبة من الغرب
9
حيث كان معسكر الفرس، وأحاطت بأسوارهم، وما أسرع أن دكت حصونهم الضعيفة الساذجة، ثم قتل الفرس من فيها من الرجال لم يكد يفلت منهم أحد إلا النزر اليسير ممن دخلوا الجحور والثنايا، ونهب ما في الأديرة جميعه من مال ومتاع، وهدمت الكنائس والأبنية أو أحرقت، وأصبحت خاوية على عروشها، وظلت كذلك أطلاله ماثلة إلى زمن طويل بعد فتح العرب مصر.
ولكن ذلك العدو أخذ فيما أخذ من الغنائم الثمينة كنوزا علمية كانت تملأ مكاتب الأديرة. ولسنا نعلم علم اليقين ماذا كان من أمرها، ولكن لا شك في أن كل تلك المكاتب لم تهلك، بل بقي بعضها. وأكبر ما حدث أن الدير الكبير دير «الهانطون» لم يصل إليه أذى لبعده عن الإسكندرية، وأغلب الظن أن ما كان فيه من الكتب والمنسوخات لم يمسه سوء. ويدلنا على أن الدير نجا من الخراب أن البطريق «سيمون» سنة 694 للميلاد نشأ منه ثم دفن فيه.
10
وكان سيمون هذا سوري المولد، معروفا بضلاعته من علم الفقه المسيحي. ومن هذا نرى أن ذلك الدير بقي على صلته بسوريا، وأنه احتفظ بما عرف عنه من شهرة بالعلم، ويتردد ذكره في صفحات التاريخ بعد هذه الأيام. وكذلك أفلت من الدمار دير آخر، وهو دير «قبريوس»، وهو إلى الشمال الشرقي من الإسكندرية على ساحل البحر.
11
ومن هذا نرى أن تخريب الفرس حول المدينة العظمى كان في حدود ضيقة الرقعة لم يتعدها، وهو أمر غريب سببه أن الفرس كانوا أثناء الحصار بين أمرين؛ إما أنهم كانوا في شغل من حصارهم، وإما أنهم كانوا أقصر همة من أن يبعثوا البعوث بضعة أميال في الصحاري الرملية ليضيقوا على تلك البيوت المنعزلة ومن فيها من الرهبان. ولا بد أن الأديرة التي دمروها ونهبوها - وكانت عدتها كبيرة - كانت كلها على مرأى من معسكرهم، أو تكاد تكون على مرأى منه.
ولا بد لنا هنا أن نخالف «ساويرس» في رواية رواها عن فتح الإسكندرية؛ فقد روى أنه عندما أتت أنباء هدم الأديرة وقتل رهبانها إلى الإسكندرية استولى الرعب على أهلها، ففتحوا أبواب المدينة. وكان «سلار» الفرس، أي قائدهم، قد رأى فيما يرى النائم أن عظيما ظهر له ووعده أن يسلم المدينة إلى الفرس، ثم تقدم إليه أن يأخذ أهل المدينة بشدة لا لين فيها، وألا يغادر من أهلها أحد ينجو من النكال؛ وذلك لأنهم كانوا جميعا من أهل الكفر والنفاق. فأمر «السلار»، أو هو «شاهين»، أن يخرج كل من في المدينة من الرجال ذوي القوة ممن كانوا بين الثامنة عشرة من العمر والخمسين، مظهرا أنه قد أعد لكل منهم قطعتين من الذهب. فلما خرجوا إليه جميعا في صعيد واحد أمر بأسمائهم أن تكتب، ثم أمر جنده أن يفتكوا بهم ويقتلوهم، وكانوا نحو ثمانين ألفا.
هذه روايته ولا يصدقها عقل، ولندع ما جاء فيها من ذكر الرؤيا، وما فيها من تحريض للفرس على جماعة مخالفة من المسيحيين، وإن كنا نستطيع من سياق القصة أن نرى ميل الكاتب «ساويرس» لمذهب المونوفيسيين، وما كان يختلج في قلبه من السرور إذ يفكر في مذبحة تحل بأهل المدينة العظمى، وهم من أتباع المذهب الملكاني، ولكن من ناحية أخرى كان الرهبان الذين هلكوا من «المونوفيسيين» وهم القبط؛ ولذلك كان كل ما كتبه «ساويرس» تظهر منه كراهة شديدة للفرس ومقت لهم؛ فهذه القصة على ذلك لا يمكن أن نتوسع في دلالتها فنقول إنها تدل على اتفاق أيا كان نوعه بين القبط والفرس. وعلى أي حال فإن الفرس، وإن كانوا قساة، كانت شريعة الحرب عندهم لا تبيح لهم أن يقتلوا أهل مدينة سلمت إليهم بغير قتال.
12
ولا شك أنه من المضحك ما جاء في تلك القصة من ذكر الوعد الذي وعده القائد بإعطاء المال، وكذلك كتابة أسماء ثمانين ألفا من الأسماء تمهيدا للقتل. هذا إذا سلمنا أن أبواب المدينة كان من الممكن أن تفتح بغير عهد يستأمن للناس على حياتهم؛ إذن فلندع «ساويرس» وروايته، ولنرجع إلى الديوان «السوري»؛ ففيه رواية أخرى لفتح المدينة أقرب لأن يسيغها العقل.
نعلم أن الترعة التي كانت تأتي بالماء العذب إلى الإسكندرية وتحمل إليها الأقوات، كانت تسير في التواء بإزاء السور الجنوبي، ثم تذهب فجأة إلى الشمال، فتدخل إلى المدينة وتشقها حتى تصل إلى البحر، وكان على كل من منفذيها باب قوي الحصون، عليه آلات شديدة من آلات الحرب. فإذا وقع للمدينة حصار قل نقل الأشياء على الترعة إلى ما وراء المدينة أو امتنع؛ وذلك لأنها تكون عندئذ تحت سلطان العدو، أو على الأقل ما كان منها بعيدا عن مرمى المجانيق التي مع المدافعين في الحصون. ولو اتفق وجود شيء في الترعة عند ذلك من السفن التي تحمل الغلال أو سوى ذلك من الزوارق، لاستولى عليه المحاصرون، ولكن الباب الذي كان يلي البحر كان مفتوحا أبدا لكي تدخل منه السفن الآتية بتجارتها من البحر، ولتدخل منه زوارق صيد السمك الكثيرة التي تأتي كل يوم إلى أسواق المدينة بما تحمل، وكان ذلك الباب على طرف المرفأ، وفيه سفن الحرب الرومانية لا يدافعها مدافع؛ ولهذا كانت حراسته من غير شك مهملة بعض الإهمال.
فوجد الخائن في هذا الباب فرصته؛ إذ تسلل خفية إلى ما وراء الأسوار، وذهب إلى فسطاط قائد الفرس، فأفضى إليه بخطة يستطيع بها أن يفتح المدينة، فاستحسن القائد رأيه واتبعه، فجاء الفرس بعدة من سفن الصيد، وجعلوا فيها الجند في لباس صيادي السمك، وخرجت بهم السفن في ظلام الليل إلى البحر. فلما كان وقت السحر جاءت تلك السفن الصغيرة حتى صارت عند الباب الشمالي، ونطق من فيها بشعار القوم فلم يعترض أحد سبيلهم، ودخلت السفن حتى بلغت القنطرة التي فوق الترعة، وهي التي يتصل بها الطريق الأعظم في المدينة، وعند ذلك أخذ القوم سيوفهم وكان الظلام لا يزال سادلا ستره، ثم نزلوا إلى البر، وساروا في الطريق الأعظم إلى الغرب بغير أن يحدثوا ضجة حتى بلغوا «باب القمر»، ولم يفطن إليهم أحد بفضل تنكرهم. فلما أن صاروا هناك هبطوا على الحراس فجأة، فأخذوهم على غرة وقتلوهم، وكان كل ذلك في وقت قصير، فاستطاعوا أن يفتحوا الأبواب الضخمة قبل أن ينذر القوم بهم. فلما طلع النهار مشرقا على قصور الإسكندرية ومعابدها، كانت جموع «شاهين» تتدفق إليها رافعة ألوية النصر، هاتفة باسم كسرى من رءوس الأسوار.
وجاء في «الديوان السوري» بعد ذلك أن من استطاع النجاة من الناس هرب، وأن خزائن الكنيسة وأموال عظماء الدولة، وكانوا قد جعلوها في السفن حرصا عليها وحذرا من أجلها، قد هبت ريح عاصفة دفعت السفن بها إلى الساحل على مقربة من عسكر الفرس، أي إلى غرب المدينة،
13
فأخذ الفرس ما بالسفن من الذهب والفضة والجوهر، وأرسلوه مع مفاتيح المدينة إلى كسرى. ومن العجيب ألا يرد بالديوان السوري ذكر للمقتلة العظيمة التي ذكرها «ساويرس»، ولكن من أبعد الأشياء أن يكون هذا المؤرخ المصري مخطئا كل الخطأ وهو الذي كان يقيم في مصر ويعرف أخبارها. وإن مقتلة كهذه التي يذكرها المؤرخ المصري تتفق كل الاتفاق مع ما اعتاده الفرس في حربهم إذا ما فتحت مدينة عنوة، لم تسلم عن رضا، ولم يستأمن لأهلها بعهد ولا عقد.
على أنه من الظاهر أن المدينة كانت تتوقع أن ينزل بها ما نزل؛ إذ أنذرها به منذر، ألا وهو اليأس؛ فقد أخذ من جندها عدد كبير ليدافع عن بلاد أخرى من الدولة، أو ليدافع عن بيزنطة ذاتها؛ إذ كان الفرس يفتحون أرضا بعد أرض من بلاد الدولة «ويطئونها كما يطأ الثوار أرض البيدر»؛
14
فكان هذا سببا في إضعاف المدافعين عنها إضعافا جعل المدينة في خطر داهم. وفوق ذلك كان القمح لا يصل إليها من ريف مصر. حقا إن أهل الإسكندرية كانوا يطعمون جزءا صغيرا من القمح الوارد إليها، ولكن تجارة القمح العظيمة كانت تصدر عن الإسكندرية إلى كل جوانب البحر الأبيض المتوسط، فكانت التجارة كلها تتدفق إلى خارج المدينة. فلما انقطع المورد لم يكن من الممكن أن تنقلب الحال، ويصبح واردا ما كان بالأمس صادرا. فلما استطال الزمن على ذلك الحال، وقل ما كان في الخزائن بغير أن يأتي مدد من «هرقل»؛ كان لا بد أن تشتد الحاجة بالناس، ويوقنوا أنهم لا بد أن يسلموا عندما يفتك بهم الجوع. إذا عرفنا هذا لم يكن بعد عجيبا أن يهرب «نيقتاس» حاكم القطر، وهو من نعرف فيه الشجاعة في الحرب والقوة في العمل والولاء والإخلاص لدولته، وقد هرب «نيقتاس» في سفينة إلى القسطنطينية يصحبه «حنا الرحوم»، وذلك «عندما كانت الإسكندرية على وشك التسليم للكفرة الفارسيين»،
15
فبلغت السفينة بهما إلى «رودس» ثم مرض البطريق. ولما أحس بدنو أجله سافر إلى قبرص فنزل بها، ثم مات بعد قليل في الموضع الذي ولد فيه، وهو «أماتوس»، وذلك في 11 نوفمبر سنة 617.
16
إذن لا بد لنا أن نقر أن أهل الإسكندرية كانوا قد ضاع أملهم في النجاة، وكل ما فعله بطرس طالب العلم الغريب الذي دل على عورتهم هو أنه أسرع بهم إلى القضاء المحتوم الذي كان لا بد نازلا بمدينتهم، وأغلب الظن أن ذلك القضاء لم يتقدم إلا زمنا قصيرا. ولسنا نعرف عن ذلك الخائن إلا أنه أتى من إقليم البحرين الواقع في الشمال الشرقي من بلاد العرب، ولسنا نستطيع الوثوق من دينه أكان مسيحيا أم يهوديا أم وثنيا، ولسنا ندري أكان له باعث على خيانته لتلك المدينة العظيمة، التي كانت مقر العلم وآوته إلى أحضانها، سوى خوفه الدنيء على حياته، وسعيه لتخليصها مهما بذل في سبيل ذلك، ولكنا نعرف أن البحرين كانت تحت حكم فارس، وأن أهلها كانوا، كما وصفهم العارفون، خليطا أكثره من الفرس واليهود ،
17
وبقيت كذلك إلى ما بعد العصر الذي نصفه الآن؛ وعلى هذا فإنه من الممكن أن ذلك الطالب قد ذهب إلى خيانته متسترا بستار الإخلاص لدولته. وقد جاء في القصة أن بطرس هذا قرأ يوما في ديوان سجلات المدينة كتابا جاء في آخره: «إذا ما عصفت الحوادث بالإسكندرية من الباب الغربي الذي من قبل البحر، فقد آن أوان سقوطها.» ولا شك أن هذه النبوءة قد وضعت بعد هذا الحادث، ولو أنها تصدق على فتح «نيقتاس» للمدينة في سنة 609، ولكنها على أي حال لا تكشف لنا عن الباعث الذي دفع الخائن إلى عمله ولا عن ديانته، بل الذي يمكن أن نعرفه منها هو أن بطرس كان يعرف أنه كان ينفذ قضاء محتوما على المدينة عندما ذهب إلى الفرس وبايعهم على أن يدلهم على عورتها.
ولعل مفاتيح الإسكندرية قد بعثت إلى كسرى في أول سنة 618. أما أهلها فقد قتل منهم كثيرون عند أول فتح المدينة، ولكن الفرس أبقوا على عدد كبير منهم، أخذ بعضهم سبيا وأرسل إلى بلاد الفرس،
18
وبقي البعض الآخر لم يمسسه سوء. وكان بين الذين نجوا بغير أذى البطريق «أندرونيكوس»، وقد لقي من الرفق على ما يلوح مثلما لقي «مودستوس» في بيت المقدس، وكان ذلك عن أمر ملك الفرس نفسه، ولكن أثر المصائب التي شهدها تحل بقومه، والخراب الذي نزل بهم في جميع أنحاء أرض مصر، لم يزل في قلبه يملؤه حزنا وأسى حتى قضى على حياته.
19
قد رأينا أنه قد أبيح للبطريق أندرونيكوس أن يبقى في الإسكندرية مدة ولايته للدين؛ وذلك لأنه كانت له عترة ذات بأس، وكان ابن عمه كبير «مجلس الإسكندرية» عندما ولي الأمر. وهذا الخبر كبير الدلالة؛ إذ نعلم منه أن بعض القبط كانوا يبلغون المراتب العالية في الدولة حتى في أيام هرقل، ونعلم منه أيضا أن الفرس عندما استقر بهم الأمر في البلاد بعد الفتح استخدموا كبار رجال الدولة السابقة التي أزالوها وحلوا محلها، وسنرى بعد حين أن العرب ساروا على السنة ذاتها غير حائدين عنها شيئا. وليس في الاستطاعة من سبيل غير ذلك كلما غزا جيش أجنبي بلادا لها مدنية تسبق مدنيته، ويرى واجبا عليه أن يدبر أمورها، وهي منظمة تنظيما حسنا في أوضاع جليلة ذات شعب وفروع. ولا نزاع في أن القبط قد اشتركوا في هذا الأمر، وما كان لهم أن يرفضوا ذلك الاشتراك؛ إذ إن الرفض حمق لا مبرر له، ولكن ذلك الاشتراك شيء، وما يعزوه إليهم الكتاب المحدثون عادة شيء آخر؛ فإنهم يعزون إليهم أنهم رحبوا بالفرس ورأوا فيهم رسل الخلاص؛
20
فإن هذه التهمة لا مبرر لها، وهي فوق ذلك قلب للحقيقة ومسخ لها.
إذ يجب أن نذكر أن الفرس جاءوا إلى مصر وأيديهم لا تزال ملطخة بما اقترفوه من النهب والقتل زمنا طويلا، وكان أكثر ضحاياهم من المسيحيين الذين اتحدوا مع القبط، وبعيد أن يعطف الفرس في مصر على مثل من قتلوا في الشام، في حين أن دفاع الإسكندرية ومقاومتها لهم ذلك الزمن الطويل لا بد أن يكون قد أثار حقدهم، ولا سيما وقد كان فيها أولئك اللاجئون الذين أتوا إليها من بيت المقدس؛ فلا شك إذن أن المقتلة كانت لا تمييز فيها لأحد على آخر. غير أن المقريزي
21
يقول إن اليهود اتفقوا مع الفرس كما فعلوا من قبل في فلسطين. وقد جاء في كتابه أن كسرى وجنوده جاءوا إلى مصر فقتلوا طائفة كبيرة من المسيحيين، وأسروا عددا عظيما منهم، وساعدهم اليهود على إهلاك المسيحيين وتخريب كنائسهم.
22
ونص هذه الرواية مثل سائر النصوص مضطرب بعض الاضطراب، ولما كانت لا تفرق بين حرب الشام وحرب مصر، كان لنا أن نقول إن المقصود منها مساعدة اليهود في بيت المقدس وحدها. على أنه قد كان في مصر عدد كبير من اليهود، وكان لهم حي في الإسكندرية، ومن الجائز أن يكون اليهود قد انتهزوا في مصر فرصة جديدة ليساعدوا أعداء الصليب، ولكنا نستبعد أن يكون القبط قد أظهروا شيئا من المودة للكفار الذين كانت أيديهم ملطخة بدماء إخوانهم في الدين في «أنطاكية» و«بيت المقدس»، ولعل بطرس البحريني كان يهوديا، ولعله كان أداة خطة مكر بها اليهود للكيد لأعدائهم. فإذا كان الأمر كذلك كان عمله في الخيانة أقل دناءة وخسة، وكان من السهل على الأفهام إدراكه.
ولكنا لسنا في حاجة إلى القياس والتخمين لكي نظهر براءة القبط مما عزي إليهم؛ فإنه لا شك في أن أكثر من هلك من الرهبان فيما حول الإسكندرية كانوا من القبط، ولو لم يكن لدينا من الأدلة إلا هذه الحقيقة لكانت كافية لدحض افتراء المفترين على القبط بأنهم رحبوا بالفرس، ولكن ليست هذه الحقيقة كل ما لدينا؛ فإنا نعلم أنه بعد فتح الإسكندرية سار قائد جيوش كسرى بجنده صعدا إلى الجنوب بحذاء النيل لكي يفتح الصعيد، وكانت معاملته للقبط واحدة في كل مكان واحدة؛ يحل الموت والخراب حيث حل. ويقول ساويرس إنه لما بلغ مدينة «بشاتي»، وهي «نقيوس»،
23
وشى إليه عدو من أعداء القبط بالرهبان الذين كانوا يعيشون في مغاور الجبال، قائلا إن عندهم مالا كثيرا، وإنهم أهل فساد وظلم، ثم قال له إن كثيرين منهم كانوا مجتمعين عند ذلك في الحصن.
24
فأثرت فيه هذه الوشاية، فحاصر المكان في الليل بجنوده. ولما أصبح الصباح اقتحموه، وأوقعوا بمن فيه من المسيحيين فقتلوهم، ولم ينج منهم أحد.
ولا شك أن الرهبان الذين قتلوا في ذلك المكان أيضا كانوا من القبط، وقد حدث في الصعيد مثل ما حدث في «نقيوس». ولدينا في هذا الموضع رواية رواها من هو أصدق من «ساويرس»، وأقرب منه عهدا بتلك الحوادث، وتكاد كتابته تكون في نفس ذلك العهد الذي يقص علينا نبأه؛ فقد كان بمدينة قفط بالصعيد في وقت غزو الفرس مصر مطران لتلك الأبرشية اسمه «بيزنتيوس»، ومن حسن الحظ قد بقيت ترجمة حياته، وترجمها عن القبطية «المسيو أميلنو».
25
وهذه القصة فيها عدة أمور تسترعي النظر؛ ولهذا لا حاجة بنا إلى الاعتذار عن إيرادها هنا مع شيء من التفصيل.
معلوم أنه كان من المعتاد في كل عام أن ينشر بطريق الإسكندرية كتابا على الناس يبين فيه يوم عيد الفصح. وإن في المتحف البريطاني قطعة من أحد هذه الكتب، وهو حسن الخط مكتوب بحروف مستديرة، ومؤرخ حوالي سنة 577، ويكثر وجود أمثال هذا الكتاب أو قطع منها. ونجد في ترجمة «بيزنتيوس» أنه في عهد غزو الفرس أو قريبا من ذلك جاء كتاب البطريق المعتاد، فكتب «بيزنتيوس» موعظة بعث بها إلى أبرشيته كلها، وقال فيها: «لقد خذلنا الله لما نقترفه من الذنوب، وسلط علينا من الأمم من لا يرحمنا.»
26
وكان قد بلغه نبأ عبدة النار ونزولهم بالديار، وأزعجه ما سمع من قسوتهم، ولم يكن يريد البقاء حيث هو ليكون شهيدا فآثر الهرب. فلما أعد عدته لذلك، وتصدق على الفقراء بما يملك؛ ذهب إلى جبل «جيمي» بقرب المدينة، وكان معه تلميذه المخلص حنا. كان هذا قبل أن يطلع العدو على الصعيد، فلم يكن هروبه في لحظة فزع تملكه على غرة، بل كان تدبير رجل عالم بأنه إن بقي مكانه لم يكن نصيبه سوى الموت، ولم تخامره فكرة الخضوع للفرس والاحتماء بهم، ولم يخطر بباله أن يخطب ودهم؛ فعمله هذا لا يتفق في شيء مع قول من قال إن القبط رحبوا بالفرس.
ولما هرب «بيزنتيوس» وتلميذه حنا إلى الجبل، أخذا معهما مقدارا كبيرا من الخبز وماء النيل. ولما نفد منهما الماء لقيا مشقة عظيمة؛ لأنهما لم يجرآ على الاقتراب من النيل حتى ذهب «بيزنتيوس» تحت جنح الليل وهو حذر يترقب وأخذ الماء. وما زالا في ذلك المخبأ زمنا طويلا يصليان إلى الله نهارا وليلا، ويدعوانه أن ينجي قومهما من أسر تلك الأمم الظالمة، ويفك عنهم غلها. وكان كل ذلك قبل أن يأخذ الفرس مدينته «قفط». فلما أن أدركوها وصارت في يدهم، هرب «بيزنتيوس» موغلا في الصحراء نحو ثلاثة أميال أخرى، فوجد الرفيقان هناك بابا مفتوحا في عرض الجبل فدخلاه، وكان يفضي إلى حجرة مساحتها سبعون قدما مربعا، وكان علوها يناسب سعتها، وكلها نقر في صخر الجبل، تدعمها ست دعائم أو أعمدة، وكانت هذه مدفنا به عدد عظيم من الجثث المحنطة مضطجعة ضجعتها ، مطمئنة في توابيتها.
فعزم «بيزنتيوس» على أن يقيم هناك وحده، وأمر تلميذه حنا أن يذهب عنه، على أن يغدو عليه مرة كل أسبوع بكيل من الدقيق ومقدار من الماء. فلما أزمع حنا السير وجد قطعة من الرق ملفوفة، فناولها للمطران، فلما قرأها وجد بها أسماء من كانوا في ذلك المدفن من الموتى. والاعتقاد الشائع أن هذه الصحيفة كانت كتابتها بلغة مصر القديمة (الهيروغليفية)؛
27
ومن ثم يقولون إن تلك الكتابة كانت لا تزال معروفة إلى القرن السابع على الأقل، ولكن شيئا من ذلك لا يأتي ذكره في الترجمة القبطية (التي نحن بصددها). وعلى كل حال قد جاء في القصة بعد ذلك أنه لما عاد حنا إلى المغارة سمع مولاه يتكلم فأصغى إليه، فألفاه يحدث إحدى الجثث وقد خرجت من تابوتها ترجو منه الشفاعة، قائلة إنها كانت هي وذووها جميعا من اليونانيين الذين كانوا يعبدون الأوثان. وهذه القصة على ما بها من خرافة تدل على أن التحنيط كان لا يزال متبعا إلى القرن الثاني أو الثالث كما يدل عليه ذكر أكفانها، وأنها كانت من «الحرير الخالص الذي تلبسه الملوك»، وكما يدل عليه تحنيط الأصابع مفردة. ولعلنا نستطيع أن نستخلص من ذلك أن الصحيفة كانت كتابتها بالحروف اليونانية.
28
نرجع الآن إلى قصتنا؛ فإن الجثة بعد أن أتمت كلامها عادت إلى تابوتها، والذي يؤسف له أنه لا يرد بعد ذلك ذكر للفرس وما فعلوه بعد أخذ «قفط»، ولا كم من الزمن أقاموا في الصعيد. وقد عاد «بيزنتيوس» آخر الأمر إلى شعبه، ولما مات دفن في الكنيسة في قرية «بسنتي» بعد أن قاموا الليل على جنازته بالصلاة المسنونة، وقد أوصى وهو على فراش موته بكل ما عنده من الكتب إلى صديقه «موسى»، وهو الذي خلفه مطرانا على الأبرشية وكتب ترجمة حياته. وجلي أن كلا المطرانين كان على شيء من العلم، ولكنهما كانا مثل سائر أمثالهما من كتاب القبط لا ينصرفان إلا إلى قصص تافهة خرافية تذكر ما كان على أيدي القديسين من الكرامات العجيبة، فلا يحلو لهم إلا ذكر المعجزات وخوارق المألوف، ولا يذكرون حادثة حقيقية إلا عرضا أو سهوا، وإن كانت مما يرتج له العالم من حوادث وقعت تحت أنظارهم، وهم يعلمون أنها حوادث يتوقف عليها مصير بلادهم.
على أننا نستطيع أن نستخلص أمرين من تلك القصة؛ الأول: أن الفرس بلغوا في فتوحهم أبعد أطراف وادي النيل حتى أسوان. والثاني: أن المصريين القبط لم يرحبوا بهم أو يروا فيهم الخلاص، بل كانوا يرونهم بعين الجزع والمقت، وحق لهم أن يفعلوا ذلك.
وكانت كتابة قصة «بيزنتيوس» في القرن السابع. وإليك صحيفة أخرى في المعنى ذاته تاريخها بعد تاريخ القصة الآنفة، ولكنها في القرن نفسه، وهي تصف ما قاساه القبط من الفرس وصفا أدق وأكثر وضوحا، وهذه الصحيفة هي ترجمة حياة ظهرت حديثا
29
للولي القبطي المعروف «الأنبا شنودة».
30
وقد أورد فيها الكاتب ذكر الغزو الفارسي وجعله في صورة نبوءة، ولكنه كتبها ولا يزال في الأحياء جماعة من الشيوخ أدركوا الحوادث التي يذكرها، وها هي الكلمة: «سيأتي الفرس إلى مصر يسفكون فيها الدماء، ويسلبون أموال المصريين، ويسبون أبناءهم يبيعونهم بالذهب؛ فإنهم قوم ظالمون معتدون، وستنزل المصائب على أيديهم بمصر، يغصبون الكنائس ما بها من آنية مقدسة، ويشربون الخمر في المحراب لا يبالون، ويهتكون أعراض النساء على مرأى من رجالهن، وسيبلغ الشر أعظمه والشقاء قصاراه، وسيهلك ثلث من يبقى من الناس في بؤس وعذاب، وسيبقى الفرس في مصر حينا من الدهر ثم يخرجون منها.»
ولسنا نطمع في دليل أوضح من هذا ولا أبلغ دلالة؛ فهو يهدم كل ما زعم «شارب»؛ إذ زعم أن القبط فرحوا بالفرس، كما أنه يهدم ما ذهب إليه من أن سبب ذلك الفرح الموهوم هو صلة نسب وقرابة زعم أنها كانت بين المصريين وجنود الفرس. وإليك ما قاله «ساويرس» مجملا وصفه لقائد الفرس، قال: «قد اقترف ذلك «السلار» كثيرا من الظلم والقسوة؛ لأنه كان لا يعرف الله، وإن الوقت ليضيق عن ذكر كل ما ارتكبه.» وقد ظل التاريخ صامتا لا يذكر شيئا عن غزو الفرس لمصر حتى عرفت كلمة «ساويرس» الأخيرة التي اقتبسناها، ثم ظهرت بعد ذلك الصحيفتان اللتان تخلفتا عن ذلك العصر نفسه أو قريبا منه، وعند ذلك تجلت الحقيقة. غير أن صمت التاريخ اتخذ أساسا بنيت عليه قصة قوامها الظن والحدس، فيها حط من شأن القبط لا مبرر له، فلنشهد الآن انهيار ذلك البناء.
بقي الفرس سادة البلاد عشر سنين أو اثنتي عشرة سنة، ولعلهم قضوا ثلاث سنوات
31
يمهدون لسلطانهم في طول البلاد وعرضها في مصر و«بنطابوليس»، ولكن لا يرد ذكر لمقاومة عنيفة، أو لقتال استطالت به المدة، اللهم إلا عند الإسكندرية. وإن مضي هذه المدة هو أكبر علة لاضطراب ترتيب الحوادث في هذه الفترة وقلة الضبط في تواريخها، وكان الفرس في أثناء القتال يظهرون قسوة عنيفة. فلما أن خبت سورتهم واستقر أمرهم، صار حكمهم أبعد شيء عن أن يكون ظالما. فلما أن أخرج جند الروم أو من بقي منهم من وادي النيل، وفروا في البحر، استقر القبط على شيء من الاطمئنان، وخضعوا مرة أخرى لسيد جديد بعد زوال سلطان السيد القديم عنهم. وقد كان هذا شأن تاريخهم السياسي من أقدم الأزمان أن تتبدل عليهم السادة وتتعاقب.
وما هو إلا أن عاد السلم حتى أمنت الكنيسة المصرية، واستطاعت أن تداوي بعض ما أصابها من الجروح بعد ما عانته من السلب والتخريب، وبعد أن كادت آثارها تمحى في بعض المواضع. على أن «أندرونيكوس» لم يقم بشيء في سبيل إعادة بناء الأديرة المخربة. وأغلب الظن أن الفرس فرضوا على الكنائس جزية تؤديها، أو لعلهم على الأقل استصفوا ما كان للكنائس الملكانية الطريدة من أوقاف وأرزاق. وأما الأبنية الأهلية فقد لقيت من الفرس رفقا لم يرفقوا مثله في مكان آخر؛ فقد قدمنا أنهم كانوا في الشام يمنون على المدائن والناس في أثناء الحرب كلها إذا هم سلموا إليهم أمانا، وأما إذا كانت مقاومة فقد كانت عادتهم أن ينهبوا ما فتحوه عنوة، فيسلبوا منه كل ما استطاعوا حمله من تحف أو كنوز، ثم كانوا فوق ذلك يهدمون البناء نفسه كي يأخذوا ما فيه من العمد البديعة، والإطارات الجميلة، والمرمر الثمين، ويرسلوه إلى الملك الأعظم يحلي به قصرا من قصوره. وأما مصر فقد حماها بعدها الشاسع من مثل هذا التخريب الشنيع؛ لأن الروم كانوا لا يزالون سادة البحار، وكان بمصر السفلى عدد لا حصر له من الترع لا قناطر عليها، وكان بين مصر والشام شقة واسعة من صحراء ذات رمال، فكان حمل ما ثقل من الأشياء من قطر إلى آخر أمرا عسيرا فوق الطاقة، وكذلك نعرف أدلة تدل صراحة على أن الأبنية العامة الشامخة بالإسكندرية لم يصبها أذى من الفرس في أكثر الأحوال، على خلاف ما حدث للأديرة التي في ظاهر أسوار المدينة. وفي الحق أن أثر هؤلاء الغزاة في البناء كان أعظم من أثرهم في التدمير في تلك العاصمة؛ إذ بنوا بها قصرا عظيما بقي معروفا إلى زمن بعيد بعد ذلك باسم قصر الفرس.
32
وأكبر ظننا أن أخبار تدميرهم وتخريبهم للمواضع الأخرى مبالغ فيها؛ فمثلا يقول «جبون» إنهم محوا من الوجود مدينتي «قيرين» و«برقة»، في حين أن العرب وجدوا هاتين المدينتين بعد سنين من ذلك الوقت، وكانتا جديرتين بفتح جديد، بل إن هاتين المدينتين في هذا الوقت الذي نصفه لم تذهبا وتنمحيا، بل إنا لا نستطيع أن نفسر قوله هذا بأنهما نزعتا إلى الأبد من الدولة الرومانية؛ فإن ذلك لم يكن، وليس في الأخبار ما يبرر أن حظ هاتين المدينتين كان غير حظ مصر؛ فإنها جميعا دخلت في حكم كسرى، وبقيت على ذلك حينا من الدهر، ثم قدر لها أن تعود إلى حكم هرقل قبل أن تدخل في الإسلام وتصير إلى الأبد في حكمه.
33
وإنا لا نعرف عن حكم الفرس في مصر إلا قليلا، غير أنا نعلم أن هؤلاء الفاتحين لم يكونوا من الصلابة في أمر دينهم بحيث يرغمون المغلوبين على عبادة النار،
34
وكذلك نعلم أنه بعد أن استقر لهم الأمر ساروا على سنة التسامح في أمور الدين، وكانت تلك سنتهم في فلسطين وبلاد العرب؛ فقد رأينا أن كسرى سمح للمطران «مودستوس» أن يجمع المال ليعيد بناء كنائس بيت المقدس، ثم أباح لبطريق القبط أن يبقى في الإسكندرية حتى موته، وألا ينازعه منازع في رئاسة الدين. وكذلك يظهر لنا أن انتخاب خليفته «بنيامين» تم في سلام واطمئنان، وأنه قضى أول سني ولايته مستظلا بحكم الفرس. وكانت تلك السنين هادئة مطمئنة إذا قيست بسائر مدة ولايته الطويلة المليئة بعواصف الحدثان. وكما أن طرق الإسكندرية وأبنيتها العامة بقيت على عهدها من الفخامة والشموخ لم يعتورها فساد على يد الفرس، كذلك قد بقيت تلك «المدينة العظمى» على عهدها مقرا للعلوم لم ينطفئ نورها، وإن اعتراه شيء من الضعف.
الفصل الثامن
الفن والأدب
قلما تخلف عن هذا العصر أثر من آثار الأدب، وإن كان ما كتب عنه كثيرا فوق ما يتوقعه الإنسان.
1
ويقول بعضهم إن حنا «فيلوبونوس» كان عند ذلك لا يزال حيا في الإسكندرية، ولكن ذلك غير صحيح.
2
على أن أثر مذهبه - وإن شئت قلت أثر اعتزاله وانشقاقه - كان لا يزال باقيا، حتى لقد رأى البطريق «سرجيوس» أن الأمر جدير بعنايته، فشرع يكتب في نقض آراء حنا وتفنيدها مشتركا في ذلك مع «جورج البيسيدي».
3
ولم يكن حنا هذا بصاحب الرأي الطريف المبتكر، ولكنه كان عالما ضليعا بفنون كثيرة من العلم، ولا تزال بعض مؤلفاته باقية، وهي حواش على كتاب أرسطو. وفي ذلك الوقت كتب قس من الإسكندرية اسمه هارون رسائل في علم الطب باللغة السريانية بقيت معروفة يرجع إليها العرب، كما قال أبو الفرج.
4
وكان أطباء الإسكندرية معروفين مشهودا لهم زمنا طويلا، وكانت مدرسة الطب في تلك المدينة كعبة للطلاب يقصدونها من كل أنحاء الدولة. وقد جاء في كتاب زكريا المتليني عن وصفه للقرن السادس أن طبيب الإمبراطور بازيليكوس كان من أهل الإسكندرية. وجاء في موضع آخر في وصف «سرجيوس
5
طبيب ريزاينا الأكبر» أنه كان يطلع على كثير من كتب الإغريق، وكان فوق ذلك فقيها في الدين وعالما في الطب في الإسكندرية، وكان يجيد السريانية قراءة وكلاما .
6
ولعلنا نفهم من هذا الوصف أنه قد كان ثمة اتصال خاص بين لغة السريان ودراسة الطب، وأنه لا يبعد أن أعظم كتب الطب في القرنين السادس والسابع كانت باللغة السريانية، ولا شك أن تلك اللغة كانت ذائعة بين الناس، وأن آدابها كانت دائما تدرس في الإسكندرية حتى قبل أن تفد جموع العلماء إلى مصر من سوريا عند غزو الفرس لها.
ومن العجيب أن «هارون» و«سرجيوس» كلاهما كان فقيها في الدين وعالما في الطب في وقت واحد، وكذلك البطريق أوتيكيوس (سعيد بن بطريق). وقد قام أكبر الأدلة على أنه قد ازدهرت في ذلك الوقت مدرسة مستقلة من مدارس الفقه؛ فنسمع أن جماعة من العلماء السوريين كانوا قبيل غزو الفرس مصر يراجعون الترجمة السريانية للإنجيل، ويترجمون إلى السريانية كتاب التوراة السبعينية من جديد، وكان أكبر من اشترك في هذا العمل «توما الهركلي» و«بولص التلوي».
7
وقد قامت الجماعة بعملها في أكثر الأوقات في الدير المعروف دير «الهانطون». ولسنا في حاجة لأن نبرهن على أن ذلك العهد نشط إلى دراسة الكتاب المقدس نشاطا كبيرا، ولكن «أجاتياس» يحدثنا أحاديث مدهشة عن الهوة السحيقة من التضليل والكذب التي قد تهوي إليها المناظرات الدينية؛ فإنه يحدثنا عن حاكم من كبار حكام الدولة أنه جمع أربعة عشر كاتبا أو ناسخا يعملون في تحوير ما كتبه الآباء، ولا سيما «قيريل»؛ حتى يستطيع أن يدعم المذهب الذي ينتمي إليه بما شاء من أكاذيب يعزوها إلى أكبر حجج الدين فيما ينشره من الكتب. وإنا لنرجو أن تكون هذه الأكاذيب قليلة الحدوث، ولكنها كتبت في أوائل القرن السابع، حين كان الخلاف المذهبي على أشده لا يتورع أصحابه عن الكذب ومخالفة الفضائل في سبيله، ولم تكن دور الكتب في دير «الهانطون» وحده، بل كان لكل دير مكتبته وقصاده من أجل العلم. ولعل الدير السرياني
8
أو الدير السوري الذي لا يزال إلى اليوم في صحراء وادي النطرون، قد نشأ في ذلك الوقت عندما جاء إلى مصر كثير من السوريين وعلمائهم هاربين من خطر حرب الفرس. وكان الرهبان والزهاد في صوامعهم في كل مكان في الصحاري والجبال بعيدين عن العاصمة وما فيها من حياة العلم، يكتبون باللغة القبطية رسائل في خلافاتهم وتراجم لحياة بطارقتهم، ولكنهم لم يكتبوا من حوادث التاريخ إلا قليلا.
لم يبق مما كتب في ذلك الوقت من التاريخ الصحيح إلا شيء يسير؛ فقد بقيت بعض أخبار قيمة كتبها «تيوفيلا كت سيموكاتا». على أنه قلما يذكر الإسكندرية وإن كان من أبنائها، في حين أن الكاتب المجهول الذي ألف «ديوان بسكال» أو «الديوان الإسكندري» قد خلف لنا صحيفة يصف فيها عصره، لها قيمة جليلة، وهي جديرة بكل عناية، وكتب «حنا النقيوسي» ديوانه في أواخر القرن السابع، ولكنه كان من غير شك يأخذ عما سبقه من المؤلفات التي لم يبق منها شيء حتى الاسم.
وهذه الأسماء التي ذكرناها تدلنا على أنه قد كان في ذلك العصر درس وبحث في التاريخ والفلسفة وفقه الدين والطب، ولكنها مع ذلك قليلة العدد لا تكفي للدلالة على ما كان بالإسكندرية من نشاط أهل العلم في مختلف الفنون؛ فقد ضاعت أكثر مؤلفات ذلك العصر في أثناء عواصف الفتوح التي اجتاحت مصر في النصف الأول من القرن السابع. على أنه قد بقي منها ما يشهد للإسكندرية بأنها كانت جديرة بأن تكون مقر الآداب في العالم أجمع، ومقصد طلاب العلم، وكان لا يزال بها أثر يزدهر من العلم القديم، وإن كان أكثر العلم فيها عند ذلك خاصا بالدين. وقد ألفت رسائل في الأخلاق المسيحية أو المثل الأعلى المسيحي قصد بها أن تكون قائمة على أساس مذاهب أفلاطون وأرسطو. وكما أن «بولص السيلنتياري» كتب مدحة يذكر فيها فضائل «القديسة صوفيا» في شعر هومري
9
من ذي الستة المقاطع، كذلك رأى «صفرونيوس» وهو في الإسكندرية أنه لا عار عليه في أن يكتب قصيدة يبث فيها شوقه إلى الأرض المقدسة في صورة شعر غزلي على نمط تشبيب الشاعر الإغريقي «أناكريون».
10
وقد اتفق أن بقي في كتب «حنا مسكوس» شيء من الوصف الشائق للحياة في الإسكندرية في ذلك العهد، على أن هذا الوصف الذي بقي قليل لا يكفي لأن يملأ صحيفة كبيرة من الرقاع التي كانت تستعمل للكتابة، وقد كتبه الكاتب عرضا بغير أن يقصد به شيئا، غير أنه مع ذلك يصور لنا صورة عجيبة. وكان «حنا مسكوس» هذا سوري المولد ولسانه لسان الإغريق، وقد طاف في مصر بضع سنين قرب آخر القرن السادس مع صديقه وتلميذه «صفرونيوس»، وهو دمشقي الموطن، وقضيا مدة طويلة معا في أديرة «الثيبائيد»، وهو صعيد مصر. ولما رجعا إلى وطنهما حمل حنا تلميذه «صفرونيوس» على أن يترهب. ويقال إنهما طردا من الشام في سنة 605 في أثناء حروب «فوكاس» فذهبا إلى الإسكندرية، وقضيا مدة أخرى نحو ثماني سنين أو عشر في القراءة والكتابة، وكانا بين حين وحين يزوران الأديرة المجاورة للإسكندرية وأديرة الصحراء والواحة الكبرى، وكان كلاهما صديقا ل «حنا الرحوم»، على أنه قد كان أقل منهما علما، وقد هربا مثله من الإسكندرية في وقت غزو الفرس، حتى لقد قيل إنهما صحباه إلى قبرص، وإن «صفرونيوس» ألقى خطبة على جنازته، ولكن الأدلة تنقض هذه الرواية. ومن المحقق أنهما ساحا في الجزائر الإغريقية، ورحلا بعد ذلك إلى روما، وهناك أعاد «حنا مسكوس» قراءة كتابه، ونقح فيه التنقيح الأخير. ولما وافاه أجله أعطاه إلى تلميذه صفرونيوس لينشره. فلما رجع الأمن حوالي سنة 620، وأبيح للمسيحيين أن يعودوا إلى التعبد على دينهم تحت حكم الفرس؛ عاد «صفرونيوس» إلى فلسطين، ونشر بعد حين جزءا من كتاب أستاذه، وهو الجزء الباقي إلى اليوم، واسمه «مسارح الروح».
11
وهذا الكتاب على ما فيه من قصص شفاء الأمراض بالمعجزات، ومن الأحلام، وأمثال ذلك مما لا قيمة له عند المؤرخ، يشتمل على أخبار قيمة ينشرح لها الصدر إذا ما استطاع الباحث أن يستخرجها منه بشق النفس. والكتاب مع ذلك فيه شيء من فوضى علمية واستطراد غير منظم يجعله شهي المقرأ، ويخلع لذة على المواضع التي تدعو فيه إلى الملال والسأم. وسنرى فيما بعد بعض ما جاء به عن وصف إقليم الإسكندرية ، ولكن لا بد لنا من أن نذكر هنا صفة تظهر في كل صفحة من صفحاته، ألا وهي حب العلم حبا شديدا؛ فقد كان الصديقان لا يستقر لهما قرار في طلبهما للعلم. ويدل على ذلك تنقلهما في الأقطار، وإن كان بعض رحلاتهما إنما قصدا فيه القيام بخدمات للكنيسة.
12
فبينا كانا في الإسكندرية يحدثان مطران «دارنه» أو هي «دارنيس» على ساحل البحر في ليبيا، إذا هما مع رئيس الدير «تيودور الحكيم» أو مع «زويلوس القارئ». وكان «تيودور» و«زويلوس» كلاهما نادرة في العلم والخلق، وكانا فقيرين فقرا مدقعا؛ فقد ورد عنهما أنهما لم يكن لأحدهما من حطام هذه الدنيا إلا رداؤه وبعض الكتب. وكان «تيودور» عالما بالفلسفة، في حين أن «زويلوس» كان مفسرا للكتب المخطوطة،
13
ويوضحها بالرسم. وقد وجد الصديقان غير ذلك رئيس دير قريب من الإسكندرية، وكان شيخا جليلا قضى في الرهبانية ثمانين عاما،
14
وكان يحب الناس، ولكنه كان فوق ذلك متصفا بخصلة أخرى قلما اتصف بها أحد، وهي حب الحيوان؛ فكان كل يوم يطعم طير الجو، والنمل صغاره وكباره، حتى الكلاب التي كانت تسرح حول الدير. وإذا كنا قد وصفنا «تيودور» و«زويلوس» بأنهما كانا لا يملكان إلا شيئا واحدا احتفظا به وهو الكتب، فقد كان هذا الشيخ الذي يحب الحيوان لا يبقي على شيء؛ فلم يكن عنده درهم ولا رداء، بل لم يكن عنده كتاب؛ إذ كان يعطي الفقراء وأهل الحاجة كل ما يملك.
15
ولكن أرعى موضع للنظر في كتاب «حنا مسكوس» قطعة غير كاملة إذا قرأها الإنسان استزاد منها فلم يجد منها زيادة، وهي تصف صلة الصاحبين بكزماس العالم،
16
وكانت صلة وثيقة العرى، وكان حنا إذا وصف شيئا استعمل صيغة المثنى في وصفه؛ يقصد نفسه وصاحبه «صفرونيوس» الذي كان شريكه في أسفاره ومباحثه جميعا. وهذه القطعة عظيمة الشأن؛ فلنا العذر إذا نحن أوردنا هنا شيئا يشبه نصها.
قال حنا: «ولن نقول عن «كزماس العالم» كلمة ننقلها عما يقوله الناس، بل سنكتب ما خبرناه وشهدناه بأعيننا. كان رجلا لا كلفة فيه، زاهدا طاهرا، وكان هينا لينا مؤلفا كريما يعطف على الفقراء. وقد انتفعنا به انتفاعا كبيرا؛ إذ فاض علينا من علمه ورأيه.
17
وكانت عنده فوق ذلك «خير مكتبة في الإسكندرية، وكان يعير من كتبها في سخاء لمن يحب أن يقرأ».
18
وكان فقيرا فقرا شديدا؛ فلم يكن في بيته من الأثاث إلا فراشه ومنضدة، على أن الكتب كانت تملؤه. وكان يبيح لكل من شاء أن يدخل مكتبته، ومن أراد من القارئين كتابا طلبه وقرأه هناك. وكنت أزور «كزماس» كل يوم، ولست أذكر إلا الحق إذا قلت إني ما دخلت بيته يوما إلا وجدته مكبا على القراءة أو الكتابة، يرد على اليهود أو يجادلهم. وكان لا يحب أن يترك مكتبته؛ فكان كثيرا ما يبعثني لأجادل بعض اليهود بما جاء في الكتب التي كتبها.
وقد تجرأت يوما على أن أسأله سؤالا فقلت: «أتتفضل علي بأن تخبرني كم من الزمن بقيت منعزلا في مكانك هذا؟» فأمسك ولم يرد علي حرفا، فقلت له عند ذلك: «عزمت عليك بالله إلا ما قلت لي جواب مسألتي.» فتردد أولا ثم قال: «بقيت هنا ثلاثا وثلاثين سنة.» ولما أن ألحفت عليه بالسؤال قال لي إنه قد تعلم أمورا ثلاثة مما قرأ، وهي ألا يضحك، ولا يحلف، ولا يكذب.»
وهذه صورة ولا شك بديعة لعالم فقير في الإسكندرية جعل بيته مرتادا لطالبي الكتب ومحبيها،
19
وهي صورة تجعل القارئ يستزيد، ولكن لا يجد فيها ما يشفي شوقه. ويرجع ذلك إلى أمرين؛ الأول: أنها لا تذكر شيئا عن نوع الكتب التي كانت في المكتبة أو أنواعها، ولا عن عددها. والثاني: أنه يسوءنا كثيرا أن «حنا مسكوس» و«صفرونيوس» لا يذكران شيئا ما عن المكتبة العامة الكبرى بالإسكندرية، وقد طبق ذكرها الخافقين، مع ما كانا عليه من حب القراءة والعلم وعظيم العناية بأمر الكتب وجامعيها. فلسنا ندري أكانت تلك المكتبة في أيامهما موجودة أم غير موجودة، وقد كانا قاب قوسين أو أدنى من إبانة ذلك الأمر؛ فكانا يستطيعان بكلمة يقولانها أن يجليا سره الذي ما زال مكنونا يضل فيه الباحث، ولكنهما يوليان عنه في صمت وينصرفان.
ولا شك أن سكوتهما في نفسه متى قرن إلى صمت غيرهم من الكتاب، وهم كثر، له دلالة في الأفهام، ولكن ليس هذا مقام القول في الوقت الذي ضاعت فيه تلك المكتبة العظيمة، وسيأتي مقامه في موضع آخر من هذا الكتاب. وأما هنا فحسبنا أن نظهر الأسف على أننا إذا قرأنا كتاب «حنا مسكوس» «مسارح الروح»، أو إذا قرأنا ما بين أيدينا من كتب صفرونيوس الضخمة؛ لا نجد في أي موضع منها إشارة واحدة نعرف منها أكانت تلك المكتبة لم تزل إلى أيامهما باقية في السرابيوم أم لم تكن.
ولكن كل شيء يذكر كتب الإسكندرية في هذا الوقت أو قريبا منه له في بحثنا هذا قيمة عظمى، ولو كان قطعة من دليل أو نتفة من خبر؛ وعلى ذلك فقد يكون لنا العذر إذا نحن أوردنا ذكر مجموعة أخرى من الكتب، وهي مجموعة مطران «أميدو» السوري «مورو باركستانت» في النصف الأول من القرن السادس. قيل في وصفه إنه كان «فصيحا يتكلم اليونانية»، ولكنه «نفي إلى «بطرة» بعد أن أقام في مقر رئاسته للدين مدة قصيرة، ثم نفي بعد ذلك إلى الإسكندرية فأقام بها حينا، وجمع مكتبة تحوي كثيرا من الكتب القيمة، يجد فيها من يرغب في العلم من أهل البحث والفهم فوائد جليلة. وقد نقلت هذه الكتب بعد موته إلى خزانة كنيسة «أميدو»، وما زال يتعمق في القراءة وهو في الإسكندرية حتى لحقه السبات.» ومن هذه النبذة الهامة التي جاءت في كتاب «زكريا المتليني»
20
يمكننا أن نستخلص أمرين؛ الأول: أن الإسكندرية كانت إلى ذلك الوقت سوقا رائجة لمن أراد أن يجمع الكتب. والثاني: أن إصدار الكتب إلى البلاد الأخرى كان مباحا.
على أن إقبال أهل العلم في الإسكندرية لم يكن على آداب الإغريق وفقه الدين وحدهما؛ فقد كانت مدينة بطليموس وإقليدس لا تزال مشهورة بخدمتها لعلم الفلك، معروفة بمهارة من فيها من علماء الرياضة وعلم الحيل،
21
وكان فيها من لا يزال يمارس التنجيم. ولم يخل ذلك من فائدة للعلم؛ لأن هؤلاء المنجمين كانوا على شيء من العلم بالنجوم، وكان الملوك وحكام البلاد يرسلون من كل أقطار العالم إلى رهبان الصحاري لينبئوهم بما في ضمير الغيب لهم، وكانوا في ذلك يعتمدون على علم الرهبان بالكواكب أكثر من اعتمادهم على ربانيتهم، ولم يخل هؤلاء المنجمون من التأثير في أمور السياسة. وكان أكبر علماء الفلك في ذلك الوقت «إسطفن الإسكندري»، ولا يزال كتابه في علم الفلك باقيا، وهو معروف أيضا بدرايته بالتنجيم، ولو صح أنه تنبأ بمجيء دولة الإسلام
22
لكان من المؤكد أن كثيرين من سرعان أهل وطنه صدقوا ما قاله منذ سمعوه، وداخلهم خوف خلع أفئدتهم ووهن من قوتهم عندما جاء وقت النضال والبلاء، ولكن «إسطفن» كان فذا في الرجال، ويلقبونه ب «حكيم العالم» و«علامة الزمان»، وليست درايته بالتنجيم لتزيد في قدره إلا قليلا. وكان علم تقويم البلدان من فروع العلم المعروفة في ذلك الوقت؛ فقد زادت معرفة الناس بالبحار الشرقية بفضل رحلات الكشف التي قام بها «كزماس» المعروف ب «البحار الهندي»، وكان تاجرا من أهل الإسكندرية جريئا على المخاطر، قام بسياحات علمية طويلة حول بلاد العرب والهند، دفعه إليها حبه للأسفار والاطلاع على مجاهل البلاد أكثر مما دفعه إليها حب المال والربح، وقد مات قبل ذلك الوقت الذي نصفه ببضع سنين، غير أن ما كتبه كان لا يزال فيه باقيا في أيدي الناس يعجبون به، ولكن من سوء حظنا أن أكثر ما كتبه وأعظمه قيمة ضاع ولم يصل إلى أيدينا.
23
وإذا حق لنا أن نقول إن الآثار الأدبية كانت لم تزل باقية يعتز بها في الإسكندرية، فإنه يحق لنا أكثر من ذلك أن نقول إن الفنون كانت بها زاهية مزدهرة؛ فقد كان بنيان المدينة يأخذ بالألباب بعظمته ورونقه؛ من أسوار منيفة، وحصون منيعة، وقصور براقة، وكنائس فخمة، وطرق ذات عمد مرصوصة. وكانت مهارة البنائين على عهدها لم تضمحل ولم تضعف عما عليه في أيام «جستنيان»؛ إذ اتخذ من أهل الإسكندرية ذلك البناء الذي أقام الساحة الكبرى بالقسطنطينية، بها ألف عمود وعمود، ولا تزال إلى الآن باقية، ورءوس الأعمدة في هذه الساحة يرجع إليها الفضل كما يقول الأستاذ «فريمن» في الانفصال عن قيود الماضي انفصالا تاما، وتمهيد الطريق للبناء الجليل الذي أقامه «أنتيميوس»، ألا وهو بناء القديسة صوفيا.
24
وكان حجر السماق الأحمر والأخضر الذي استعمل في تحلية هذا البناء يؤتى به من مصر محمولا في النيل،
25
وكانت مصر منذ أيام الفراعنة شهيرة بما فيها من المرمر البديع، وكانت حلية الكنائس والقصور في جميع بلاد العالم من هذا الحجر الثمين، وكانت سوقه في الإسكندرية، وبقيت هناك حتى قضي عليها في أيام الفتح العربي.
وكان فن التصوير من أتباع فن البناء يستخدم في تجميل الجدران في داخل البناء، كما كان من وسائل ذلك التجميل نقوش الفسيفساء ذات الألوان، وصور الفسيفساء
26
الزجاجية، وأفاريز المرمر فوق الجدران، وتغطية الأرض بالرخام. وقد احتفظ القبط زمنا طويلا وهم تحت حكم العرب بالدراية في هذه الفنون؛ فنون البناء، وصناعة فسيفساء الزجاج، وصناعة خاصة بالمرمر كان يطلق عليها اسم «الفن الإسكندري»
27
تمييزا لها. وكانت أسوار العاصمة الجديدة «القاهرة» وما فيها من مساجد بديعة، من صناعة المصريين في بنائها وزخرفها، وما كان نبوغهم في هذه الصناعة وأساليبهم فيها إلا ما ورثوه كابرا عن كابر في الفن عن الإسكندرية القديمة.
ولا ننسى فن تفسير الكتب وإيضاحها بالرسم، وقد رأينا أن «سيموكاتا» يذكر صديقا له كان «مفسرا»، وأن «حنا مسكوس» يصف «زويلوس» بأنه كان ممن يعالج هذا الفن. والحقيقة أن فن الكتابة المزخرفة ورسم الصور الصغيرة في الكتب كان شائعا بالغا حده من الإتقان في هذا العصر في كل بلاد الشرق، وكان خير المخطوطات إذ ذاك يتخذ من الرق، يدهن بلون أرجواني، ويكتب عليه بحروف من الذهب، وكانت أمثال هذه الكتب تتخذ لمكتبة الإمبراطور. وإن بين أيدينا خطابا خطيرا أرسله أكبر مطارنة الإسكندرية، وهو «تيوناس»، إلى رجل اسمه «لوقيانوس»، وهو الوصيف الأكبر للإمبراطور وأمين خزانة كتبه. ولعل هذا موضع صالح لذكره وإن كانت كتابته في سنة 290 للميلاد. وقد جاء في أول ذلك الخطاب وصف لما ينبغي أن يسير عليه الكتاب في دواوين حسابهم، وما في عهدهم من الخلع والحلى، ووصف لطريق إثبات ما في الخزائن من آنية الذهب والفضة والبلور وقماقم المر وغير ذلك من تحف القصر، وجاء فيه بعد ذلك أن المكتبة أثمن ما في القصر، وأنه يجب على المسيحي ألا يترفع عن مطالعة كتب الأدب الدنيوي، وأنه يجب على أمين خزانة الكتب أن يكون ملما بكل ما فيها، وأن يرتبها على نظام ثابت، ويجعل لها ثبتا تدون فيه أسماؤها، وعليه أن يستوثق من أمر الكتب، وأن النسخ التي عنده منها صحيحة غير محرفة، وعليه أن يعيد كتابة النسخ وتزيينها بالصور إذا هي بليت. وجاء في آخر خطاب «تيوناس» هذا أنه ليس من الضروري أن تكون «كل» الكتب منسوخة بحروف من ذهب على رق أرجواني
28
إلا إذا أمر الإمبراطور بذلك أمرا. وهذا الخطاب يدلنا على الأقل على أن كبير المطارنة كان له علم بأمور مكتبة عظيمة جليلة. وقد ازدادت صناعة إيضاح الكتب بالرسم، وانتشرت في أثناء القرون الثلاثة التي تلت كتابة هذا الخطاب، ولم تنقص شيئا، ولم تتبدل تبدلا كبيرا في الوقت الذي نكتب عنه عما كانت عليه في وقت كتابة الخطاب. وكان أكثر إيضاح الكتب في مصر عند ذلك يقوم به الرهبان في الأديرة، وذلك نظير ما حدث في أوروبا فيما بعد. وقد كانت أعظم المواضع التي تخرج هذا الفن القسطنطينية والإسكندرية. على أنه قد كان من الرهبان في مواضع أخرى من يقضون أعمارهم في كتابة الكتب القيمة وتحلية صفحاتها بأبدع أنواع الزخرف وأجمل الألوان،
29
ومن تلك المواضع ما كان في مصر، ومنها ما كان في آسيا الصغرى أو الشام أو بلاد الفرس.
وأما النحت في هذا العصر فلا نعرف عنه إلا القليل؛ فلا نعلم عنه إلا أنه كان لا يزال من المعتاد أن تجعل تماثيل للإمبراطور الحاكم في العاصمة وفي أكبر مدائن الريف؛ وعلى ذلك فلم يكن هذا الفن مضيعا كل التضييع.
30
وكانت المدرسة البطليموسية في هذا الفن أولى مدارس العالم في ذلك العصر، وإن في بعض ما صنعته لجمالا كأنك به عين جمال صناعة القدماء ورونقه؛ فقد بقيت آثار الصناعة حتى في العصور المسيحية، ومن أمثال ذلك التمثال الجليل الضخم لأحد الأباطرة من حجر السماق الأحمر، ومقره الآن دار الآثار المصرية بالقاهرة.
31
على أنه لا شك في أنه ما أتى القرن السادس حتى كانت صناعة النحت قد اضمحلت، ولكن الصناعة البيزنطية الخالصة، صناعة نحت العاج، بلغت وقتئذ قصارى الكمال، ترى بها دقة الصناعة وإبداع الفن.
32
وكذلك كانت صناعة الذهب وتطعيم المعدن؛ فقد برعت مدرسة الإسكندرية فيها جميعا وبرزت فيها. وإذا كانت هذه الصناعات تمت بأصلها إلى صناع مصر القديمة، فإنها بقيت إلى ما بعد فتح الإسكندرية بزمن طويل، وقد عادت الحياة إليها في القرون الوسطى، وكانت عند ذلك النشور بارعة، ولم يخب نورها، بل لا تزال باقية إلى أيامنا هذه.
وكان بالإسكندرية عدا ما ذكرنا صناعات زاهية مزدهرة، نذكر منها صناعة الورق وعمل الزجاج والمنسوجات وبناء السفن، فكان في مصر السفلى عدد عظيم من غياض فسيحة تنبت البردي؛ ذلك النبات الطويل الحسن، وكان الورق يتخذ من لبابه يشق شرائح تجعل منها صحائف بالضغط، ثم تصقل بآلة من العاج، وكانت الصحائف بعد ذلك يوصل بعضها ببعض فتكون لفائف يسهل استعمالها، وكانت مقادير عظيمة من البردي تصدر من مصر من مراسي الإسكندرية المزدحمة. ولسنا ندري متى ضعف أمر هذه التجارة، ولا الأسباب التي أدت إلى القضاء على هذا النبات في مصر.
33
وأما صناعة الزجاج فقد بقيت معروفة ذائعة الصيت زمنا طويلا في الإسكندرية وصحراء النطرون. وقد قال سترابو إن صناع الزجاج في مصر كانت لهم أسرار يحفظونها، ولا سيما في معامل «ديوسبوليس»، وإنهم كانوا يقلدون الجواهر في صناعاتهم ويعملون قماقم المر. وكان الزجاج من بين الأشياء التي فرضها «أغسطس»
34
على مصر ترسل عينا ضمن الجزية السنوية. ولا تزال في متحف الإسكندرية أمثال بديعة من منتجات هذه الصناعة. ولا خلاف في أن هذه الصناعة أسلمها القبط بعضهم لبعض جيلا بعد جيل حتى العصور الوسطى، وكان آخر ما أخرجته تلك الصناعة المصابيح المطعمة الفاخرة التي كانت تزين الكنائس والمساجد، وهي اليوم مفخرة المتاحف التي تجمع آثار العصور الوسطى. أما صناعة الخزف فلا نعرف على وجه البت في أي وقت بدأ أمرها في الظهور، ولكن كان ذلك لا بد في عصر قديم؛ فقد ذكر سائح فارسي
35
جاء إلى الفسطاط في سنة 1047 للميلاد أمر صناعة الزجاج الرقيق، وذكر سوى ذلك الزجاج المزخرف الذي وجده يصنع هناك، قال عنه: «وكان رقيقا شفافا، حتى إن الإنسان ليرى من وراء الآنية يد من يمسكها.» وقد ذكر أيضا الأواني اللامعة المختلفة الألوان التي تشبه نسيج الحرير المعروف باسم «بوقليمون»، وهو الذي يتغير لونه كلما تغير موقع الضوء من سطحه. وهذه الشهادات ذات قيمة عظمى؛ إذ تدل دلالة قاطعة على ما بلغته صناعة الخزاف والزجاج من التقدم في القاهرة في القرن الحادي عشر. ولا شك في أن الصناعة الإسبانية المغربية التي جاءت بعد ذلك وذاع ذكرها وشاع، ترجع بأصلها إلى صناعة القاهرة.
وأما المنسوجات فقد كانت لها تجارة رائجة، وكانت متعددة الأنواع والأصناف؛ فكان الكتاب الدقيق لا يزال ينسج، ولعله كان أدق خيطا وصنعة مما كانت تخرجه مناسج مصر القديمة، وفوق ذلك قد صار الحرير منذ حكم «جستنيان» أكثر شيوعا بين الناس،
36
وكان تخرج على أيدي النساجين بدائع من الحرير والكتان تحليها زركشة تأخذ بالألباب، وقد كشفت حديثا بقايا كثيرة من منسوجات ذلك العصر أو ما هو قريب منه، وجدت في أخميم بالصعيد، واسمها القديم «بانوبولس»، وهي محفوظة اليوم في مجموعة «سوث كنزنجتون» بإنجلترا وفي مجموعات أخرى، وكل هذه المنسوجات من الكتان، وهي أبسطة منسوجة. وأما أنماطها ورسومها فمختلفة؛ فبعضها يشبه في رسمه المنسوجات القديمة، وبعضها عليه أثر واضح من المسيحية، وقسم منها عليه أثر ظاهر من أنماط الفرس؛ فإن مدة إقامة الفرس بمصر، وهي تلك السنون العشر أو الاثنتا عشرة، لا بد قد أثرت فيها الرسوم الفارسية في الصناع، فجعلتهم يخرجون منسوجاتهم على مثالها. والشبه عظيم بين مجموعة من ورقة البردي في فينا تنسب إلى «تيودور جراف» وبين مجموعة هذه المنسوجات؛ فمجموعة الأوراق التي تختلف تواريخها بين سنة 487 وسنة 909 للميلاد فيها لغات شتى؛ فاليونانية والقبطية والفارسية والساسانية والعبرية والعربية، ومجموعة المنسوجات التي ترجع إلى نحو هذه العصور تنطبع فيها صور ما مر على مصر من صروف الدهر المختلفة وغير الحادثات السياسية كما تنطبع صورة في مرآة.
37
ومن أهم الأمور أن نتذكر أن مادة صنوف المنسوجات ورسومها وألوانها تكاد تكون واحدة، سواء في ذلك ما وجد في صقارة أو الفيوم أو الصعيد. وهذه حقيقة تدلنا على اشتراك النساجين في الأنماط وتشابههم في الأذواق أكثر مما تدلنا على شدة محافظتهم على القديم وتمسكهم به؛ فكان ما جد من طرق الصناعة ورسومها يتنقل سريعا في نهر النيل، وهو المحجة العظمى، ذاهبا إلى طائفة بعد طائفة من الصناع في البلاد المنتشرة في ريف مصر، وكان ما تخرجه المناسج يحمل إلى الأسواق الكبرى في منف والإسكندرية، أو كان يحمل في الصحراء مرحلة قصيرة حتى يبلغ ميناء «بيرينيقة» على البحر الأحمر، ومن ثم ينقل في السفن إلى البلاد الأخرى. وكانت منسوجات الكتان والستائر ذات الصور - التي تتخلل نسيجها خيوط من الذهب، وتوشيها النقوش البديعة من التطريز في ألوان جميلة - كانت كلها من صناعة الصانع القبطي. وإنا كلما أمعنا في درس تاريخ مصر، سواء منه ما كان في العصر البيزنطي أو العصر العربي، زاد يقيننا بأن القبط كانوا أصحاب الفضل في بقاء آثار الصناعة حية ماثلة في البلاد، وذلك في كل شعبة من شعبها؛ في صياغة الذهب، وتطعيم المعادن، والزخرفة بالميناء، وصناعة الزجاج، وغير ذلك من صناعات الإنشاء أو التجميل.
على أنه لا بد لنا أن نتدارك خطأ قد يقع فيه من يتصور أن المهارة في الصنعة وحسن الاختيار والبصر كانا وقفا على القبط فاقوا فيهما كل من عداهم من صناع الدولة البيزنطية أو أرمينيا وأشور وفارس، فإن ذلك لم يكن، والحق أنه قد كان بكل بلاد الشرق صناعة فائقة تخرج من المنسوجات والمطرزات وآنية الذهب والفضة والجواهر البديعة الصنع. ولقد كانت مصر تصنع الطنافس الجميلة، ولكنا لا نقدر أن نقول إنها كانت تضارع ما تخرجه بلاد الفرس من طنافسها البديعة.
38
وكذلك كان الحال في بعض الرسوم التي توضح الكتب؛ فقد جاء بعض بدائعها من صناعة فارس والعراق كما جاء من صناعة بيزنطة. وكانت أكبر المصابغ التي يصبغ فيها الحرير الأرجواني الذي يصنع منه برد الملك في مدينة بصرى بالشام، وهي المدينة التي فتحها الفرس ثم العرب من بعدهم. وقد رأينا فيما سلف أن كسرى لم يكن من الملوك الهمج أو أشباههم، بل كان رجلا مهذبا عالما، وكانت فنون الفرس في عهد الساسانيين قائمة على آثار القدماء من الأشوريين والبابليين، وكانت تضارع فنون الدولة البيزنطية في الدقة وحسن الانسجام.
وكانت فوق ذلك ذات أثر أبلغ من أثر الروم في صناعة العرب ونشأة مذهبها في الرسم والنقش، وهو المذهب الذي اشتهرت به دمشق في العصور الوسطى.
ولعل أكبر صناعات الإسكندرية كانت صناعة بناء السفن؛ فإن الإسكندرية كانت أكبر أسواق العالم، وأكثر ثغوره ازدحاما وحركة، وكانت بها تجارة عظيمة في القمح والكتان والورق والزجاج وغير ذلك من صنوف ما تخرجه البلاد، وكانت تحمل إليها مقادير عظيمة من الذهب والعاج من بلاد النوبة وأثيوبيا، وكانت فوق ذلك أنواع البهار والحرير والفضة والجواهر وغيرها تأتي من بحار الهند والصين إلى البحر الأحمر، ومن القلزم (وهي السويس)، فتحمل في الترعة إلى «منفيس»، ومنها تنحدر في نهر النيل إلى الإسكندرية، حيث كانت تبعث إلى أطراف البحر الأبيض المتوسط. ومثل هذه التجارة العظيمة لا بد لها من عدد كبير من السفن، وكانت مصر منذ الأزمنة القديمة خلوا من موارد الخشب الذي تصنع منه السفن، ومع ذلك قد كانت الأخشاب تشترى من بلاد الشام وغيرها لبناء السفن في الإسكندرية؛ إذ كان بناؤها هناك في مقر التجارة التي تحتاج إليها أعود بالربح وأجدى على التجار، وكانت مصر فوق كل ذلك تنبت نوعا من التيل يليق كل اللياقة لعمل الحبال وأدوات السفن.
39
وقد رأينا فيما سلف أن إحدى سفن الغلال التي كانت للكنيسة في الإسكندرية كانت تحمل عشرين ألف مد (كل مد خمس الإردب)، ولم يذكر أحد أن حمل هذه السفينة كان فذا، وأكبر الظن أن تلك السفن التجارية كانت أكبر كثيرا مما اعتاد الناس أن يظنوا فيها، وكذلك كان حال السفن الحربية. وقد حدث بعد سنين عدة من هذا الوقت عندما أصبحت مصر في ملك العرب أن أمر معاوية الزعيم العربي في الشام ببناء عدد من السفن الحربية في الإسكندرية وسواها من المواني التي في حكم الدولة العربية، وذلك في وقت لم يكن فيه بمراسي الإسكندرية أحد من بنائي السفن الذين هم من أصل بيزنطي محض؛ إذ كانوا لا بد قد خرجوا منها جميعا. ويقول «سبيوس» إن السفن كانت على نوعين؛ أحدهما يمكن أن نسميه «البوارج»، والآخر «الطرادات». وكانت البارجة تحمل ألف رجل، في حين أن السفن الصغرى كانت تحمل كل منها مائة رجل،
40
وكانت تجعل للسير السريع واللف حول السفن الكبرى. ويذكر ذلك المؤرخ وصفا مسهبا عظيم القيمة لما كان في سفن الحرب من الآلات والسلاح؛ فكان بها عدد القذف «مجانيق وآلات رمي الحجارة»، وكان في بعضها صروح عالية فوق ظهرها، حتى إذا ما جاءت السفن بحذاء أسوار محصنة استطاع المهاجمون أن يكونوا هم والمدافعون على علو سواء، وأمكنهم أن يثبوا من تلك الصروح إلى الأسوار، أو أن يقيموا قنطرة على الفضاء القليل الذي بينهما ويعبروا عليها إلى حصون الأسوار.
وأعظم شأنا من هذا ما جاء في كتب «سبيوس» من الوصف الصريح لما شهده من تلك السفن الكبرى، وأنها كانت مجهزة ب «آلات تقذف النار»، وهي آلات ترمي بالنار المهلكة المعروفة ب «النار الإغريقية»، وكانت مزيجا قويا من مواد سريعة الالتهاب، وكانت تشتعل اشتعالا شديدا لا يمكن إطفاؤه، ولعلها كانت فوق ذلك ذات قوة على النسف والتمزيق، وكانت لذلك تحدث تخريبا كبيرا وخوفا شديدا، ولكن أكبر ما يسترعي النظر فيما جاء في كتاب «سبيوس» من ذلك الوصف أنه يقول: إن السفن التي بنيت في مصر بعد الفتح العربي بأمر العرب كانت مجهزة بالمجانيق لقذف المواد الملتهبة. وهي المواد التي قيل إن تجهيزها كان إلى القرن السابع على الأقل سرا مكنونا اختص به أهل بيزنطة. وقد جرت العادة أن يقولوا إن أول من اخترع النار الإغريقية رجل اسمه «قلينيكوس»، وهو مهندس في مدينة «هليوبوليس»، ويقولون في تسرع إن «هليوبوليس» المقصودة هي التي بالشام، وليست هي المدينة القديمة الشهيرة بمصر. أما المؤرخ «جبون» فإنه يعتمد على ما جاء في كتاب «قدرينوس»، ويقول إن «قلينيكوس» كان مصريا، ولكنه يزعم خطأ أن «هليوبوليس» كانت عند ذلك أطلالا بالية.
41
وإننا لا يمكن أن نتصور أنه كان من الممكن أن تبنى سفن في الإسكندرية بعد فتح العرب لمصر بما لا يزيد إلا قليلا على عشرين سنة، ثم أن تجهز بتلك الآلات التي تقذف النار الإغريقية، اللهم إلا إذا كان اختراع مزيج تلك النار وعمل آلاتها أصله في مصر ذاتها.
ومهما كان من أمر هذه النار، فإنه لا شك على كل حال في أن صناعة بناء السفن كانت عظيمة في الإسكندرية في النصف الأول من القرن السابع، وأنها لم تضمحل عندما انتهى أمر الدولة البيزنطية في مصر. وفي هذا ما يدل على أن الصانع القبطي في هذه الصناعة وفي غيرها من الصناعات الكبرى في وادي النيل كان مستقلا بنفسه بغير إرشاد ولا تسيير من الروم، إذا لم نقل إنه كان في الحقيقة الصانع المعلم.
قد ألجأنا هذا الفصل المجمل في كلامنا على الفنون والآداب في الإسكندرية حوالي وقت غزو الفرس لمصر إلى أن نخوض في تاريخ ما سبقه وما جاء بعده من العصور، ولكنا قصدنا إلى ذلك قصدا لأمرين؛ أولهما: أن نبين على وجه الإجمال والتقريب ما كانت عليه المدنية المادية في هذا العصر. وثانيهما: أن ندل على أن سير تلك المدنية كان متصلا، ولم يقطعه على الأقل فتح الفرس للبلاد؛ فإن جيوش كسرى لم تسبب أذى كبيرا للتحف الكبرى في العاصمة، سواء كان ذلك بنيانا أو علما؛ فإن غزاة الفرس لم يكونوا هم الذين دمروا مكاتب الإسكندرية إذا كانت لم تزل إلى ذلك الوقت باقية، وكانت المنارة الكبرى منارة «فاروس»، إحدى عجائب الدنيا السبع، لا تزال إلى ذلك الوقت ماثلة مشرفة فيما بين المدينة والبحر، تكلل هامتها سحب من الدخان في النهار، ولهب من النيران بالليل. ولم يهدم من أبنية الإسكندرية ما اشتهرت به المدينة من المعابد القديمة وساحات العمد الفسيحة والقصور التي لا تقع تحت حصر، بل إن الكنائس ذاتها التي كانت في داخل أسوار المدينة لم يمسسها أذى يستحق الذكر، وكان المصلون يزدحمون في الكنيسة الكبرى كنيسة «القيصريون»، أو في كنيسة القديس «مرقص»، حيث كان رفات «رسول مصر»
42
لا تزال في مقرها يعلوها المذبح المنيف.
الفصل التاسع
جهاد أصحاب الصليب للفرس
بلغت الحال بهرقل مبلغا سيئا، وهوى ملكه حتى صار لا يتعدى أسوار عاصمته؛ فكانت جموع التتار أو الهون وما إليها من قبائل الهمج تضرب فيما يلي قسطنطينية من الغرب، وذلك من ناحية القارة. وقد كانت تلك الجموع من قبل تتنقل هناك لا يقف أحد في سبيلها، حتى جاءت عند ذلك تدب حول أبواب المدينة ذاتها، وكانت الجيوش الفارسية تقتحم آسيا الصغرى وتجتاح ما في طريقها، حتى فتحت «خلقيدونية» على الساحل الآسيوي للبوسفور تجاه القسطنطينية،
1
وذلك بعد أن بسطت يدها على فلسطين والشام ومصر، وخيبت عند ذلك الآمال التي أشرقت على الناس عند تولية هرقل، أو علتها سحابة داكنة؛ إذ رأوا أو خيل إليهم أنه قد ذهبت عن ذلك العاهل همته الشماء التي مهدت له سبيل العرش، وحل محلها الفتور واليأس، وكان أول شيء فعله بعد استيلائه على الملك أن بعث إلى كسرى يتوسل إليه أن يصالحه، فما كان نصيبه من ذلك إلا الدفع والرفض
2
بازدراء.
والظاهر أن هرقل خارت نفسه وضاع منه الأمل في الخلاص منذ عرف أن مصر قد انفصلت عن دولته، وضاع ما كان يأتي من تلك الأرض الغنية من الجزية من أموال وقمح، ورأى أن خزانته خاوية من المال والغلال، وأن حوله أعداء ضارية تحصره وتهدد أسواره، ولم يكن دونها من حماة إلا جند خائر الهمة منفرط النظام، وسولت له نفسه أن يهرب ناجيا. وفي ذلك ما يعزز رأي من يقول إنه كان يحس أن لا قبل له بحمل أمور تلك الدولة وهمومها، وإن وقع المصائب قد صدع نفسه فذهب بما فيها من الشهامة والهمة، وإنه قد انخلع قلبه وتحطم منه ما كان صلبا. وقد ثبت عند الناس أنه قد وطد العزم على أن ينضو التاج ويعود إلى موطنه في أفريقيا. ولو صح ذلك لحق للناس أن يذكروا رد فوكاس عليه إذ قال: «وهل أنت من يحكم خيرا من هذا؟» على أن الأمر فيه ما يدعو إلى الظن أن هرقل إنما كان يريد نقل مقر الحكومة إلى قرطاجنة؛ حتى يقدر أن يجهز نفسه في متسع من الوقت والمجال، قاصدا أن يعود بعد ذلك ليسترد أرض دولته في آسيا.
ومهما يكن من الأمر فقد سافرت سفينة تحمل الأموال والتحف التي كان يريد حفظها قاصدة قرطاجنة. فلما بلغت «بنطابوليس» نزلت بها كارثة فغرقت. وعند ذلك علم «سرجيوس» بطريق القسطنطينية بما عزم عليه هرقل، فأحفظه ذلك، وحال بين الإمبراطور وبين إتمام ما كان ينوي. وليس لنا من سبيل إلا الحدس لمعرفة ما كان بينهما؛ فلا ندري بأية لهجة كلمه، ولا بأية قوة أثر فيه فجعله ينصاع لرأيه، وينزل عن عزمه الأول، ولكن المحقق عندنا هو أن البطريق نفخ في الإمبراطور روحا جديدا، وجعله يقسم له على المذبح الأكبر في الكنيسة الكبرى أن يؤدي أمانته، وأن يقاتل في سبيل تخليص الدولة من أعداء الصليب.
3
ولا شك أنه قد طرأ على الإمبراطور منذ ذلك الحين تغير مشهود، ولا ندري سبب ذلك التغير الذي أحدث أول حرب صليبية كبرى؛ أكان سببه لسان «سرجيوس» وبلاغته في الموعظة، أم كان ما شهده تحت القبة الكبرى في كنيسة «أيا صوفيا» مما يثير النفس، أم كان بارقة من الأمل لمعت له من تغير في حال عدوه، أم كان السبب كل ذلك، وقد اجتمع وصحبه نهوض من وهدة اليأس التي تردى فيها؟ وكان ذلك أمرا طبيعيا في رجل مثله كان له عقل راجح يحكمه مزاج غلبت عليه الأعصاب. أما الناس فقد رأوا منه على الأقل رجلا ينضو عن نفسه الضعف والخمول كما تنضو الأفعى عنها أديمها، وعاد إلى ما كان عليه من خلق الزعيم القوي، وأظهر من شيم الملوك ما هو جدير بولاء الناس وخضوعهم، وأصبح وليس في نفسه إلا أن يجمع كل ما عنده من الموارد ويتجهز للحرب مع الفرس.
ومع ذلك فقد اتخذ هرقل الحيطة في أعماله؛ فبينما كان يستعد للحرب عول على أن يفاوض قائد الفرس في أمر الصلح،
4
فزاره بنفسه في مدينة «خلقيدونية». وقد نصح الناصحون للإمبراطور أن يوفد رسلا إلى كسرى يطلب منه الصلح، وقالوا إنه لا بد يجيبه إلى ذلك، فأرسل ثلاثة من خاصته، وبعث معهم كتابا لا يزال باقيا إلى اليوم، وأرسل معهم هدايا ذات قيمة، وأدى الرسل أمانتهم، وأفضوا بالكتاب إلى الملك الأعظم، فقبل منهم الهدايا، ولكنه أجاب على الكتاب ردا قاطعا جاهما إذ قال: «قل لمولاك إن دولة الروم من أرضي، وما هو إلا عاص ثائر وعبد آبق، ولن أمنحه سلاما حتى يترك عبادة الصليب ويعبد الشمس.»
5
فأحدثت تلك السبة المقصودة في رده هذا هزة عنيفة أيقظت نفوس الروم من رقدتها، وأظهرت لهم من جديد أن تلك الحرب كانت دينية، فثارت حفيظة القوم وتملكتهم الحماسة، فوجد الإمبراطور فيهم عند ذلك ما شاء لتمام خطته الجديدة. وقد قيل إن هرقل عندما أرسل رسله إلى كسرى قد بعثت إلى أعدائه من الهمج ليهادنهم إلى حين،
6
فأمن بذلك أن يأتيه العدو من ورائه من ناحية الأرض المتصلة بالعاصمة. وقد روي أنه اتفق فيما بعد مع قبيلة من قبائل الترك في شمال بلاد الفرس على أن يمده شيخها بأربعين ألفا من خيله، وأن يجزيه نظير ذلك بأشياء، منها أن يزوجه بأخته «أودوقيا». ولكن هذا العهد لم ينفذ لموت شيخ القبيلة الذي اتفق معه. على أنه من أشق الأشياء أن نجد الدليل القاطع على وجود السلام في غرب العاصمة؛
7
فإن قبائل الآفار كانت لا تزال تجوس خلال الديار في سنة 622 أو سنة 623 تخرب فيها، وكادوا يوقعون بهرقل نفسه ثم يأخذون العاصمة بمكيدة دنيئة دبروها، ثم جاء جيش من الآفار عدته ثلاثون ألفا في سنة 626، وحاصر المدينة حليفا للفرس الذين كانوا في مدينة «خلقيدونية»، وكان قائدهم عند ذلك على ما يلوح هو «شهر-ورز» الذي قدم منذ قليل؛ وعلى ذلك لم يكن السلم بين الروم والآفار سلما صحيحا، ولم يدم طويلا، وأكبر الظن أن هرقل كان على بينة من أمر العهد الذي كان بينه وبين الآفار عالما بقدره الحقيقي، موقنا أن سلامة عاصمته أثناء غيابه إنما تكون بقوة حصونها وسهر السفن الحربية على سلامتها. وكان إقبال الناس على الحرب عندما ندبهم إليها عظيما، فاستطاع أن يجمع جيشا كبيرا ويجهزه، وبلغت عدته مع من اجتمع إليه فيما بعد مائة وعشرين ألفا. وكانت خطته أن يبدأ أول شيء فيختار ميدانا يستطيع أن يدرب فيه جنوده، ويعودهم النظام، ويعلمهم حركات الحرب واستعمال السلاح. وفي أثناء ذلك يجمع في خزائنه الذخائر والمؤن الكثيرة. فإذا ما تم له ذلك، وأصبح جيشه صالحا للقتال، خرج قاصدا إلى قلب بلاد الفرس ليطعنها فيه؛ ولهذا عزم على أن ينقل جيشه إلى خليج «أيسوس» في الركن الشمالي الشرقي من البحر الأبيض المتوسط، وأن يجعل «قليقيا» مقره. وكانت تلك منه جرأة عظيمة ساعده عليها أنه كان يملك ناصية البحر لا منازع له فيه، وأن وراءه من السفن عددا جد عظيم.
وإنه ليتبين من هذا أكبر خطأ وقع فيه الفرس؛ فإنهم لو كانوا أعقبوا انتصارهم الأول في البر بتعلم حرب البحر والانتصار فيه لما استطاع أحد أن يدفعهم عن ملك دولة الروم.
8
وقد كان من حسن حظ المدنية المسيحية أن الفرس لم يكونوا من أهل البحار، ولم يعرفوا عند ذلك مقدار حاجتهم إلى ملك البحر إذا هم شاءوا أن يتم لهم النصر، وأن يبقوا على ما فتحوه. وقد جاء في كتاب «سبيوس» أن كسرى عندما بعث رده الشنيع إلى هرقل أمر جنده أن يعبروا إلى «بيزنطة»، فجهزوا عددا كبيرا من السفن، وأعدوا عدتهم للحرب في البحر. فلما سار أسطول الفرس قابلتهم سفن الروم الكبيرة، فصدمتهم صدمة انهزموا لها هزيمة قبيحة، ومات منهم أربعة آلاف رجل،
9
وتحطمت سفنهم كلها، ووقع في نفسهم الفشل «فلم يجرءوا بعد على مثل هذا العمل»، وظلوا مقيمين نحوا من عشر سنوات لا ينتفعون بما في يدهم من ثغور البحر، أمثال «خلقيدونية» وميناء الإسكندرية العظيمة، وما إليها من مواني الشام ومواني بلاد المغرب في «ليبيا» و«بنطابوليس»، وكانوا يستطيعون لو شاءوا أن يجمعوا في هذه المواضع سفنهم ويعدوها للحرب، فيسيطروا بها على بلاد البحر الأبيض المتوسط؛ فقد كانوا يستطيعون أن يجهزوا من الإسكندرية وحدها أسطولا به عدته ورجاله يناجزون به أساطيل الروم، وينابذونه على سواء في أمل النصر، ولكن الفرس كانوا جنودا اعتادوا حرب البر، فلم يفطنوا إلى قيمة البحر والسيادة فيه، ولم يتعلموا من الحوادث درسا تعلمته جمهورية الروم القديمة بعد لأي، ولكنها منذ لقنته برعت فيه، واستفادت منه أثناء حربها مع قرطاجنة، وهو الدرس الذي تلقنته العرب فيما بعد سريعا في فطنة وذكاء قبل أن ينتهي ذلك القرن السابع؛ وعلى ذلك فقد ظلت جنود الفرس مرابطة بالشاطئ ثابتة عليه، وكان أثرها في الحرب ضئيلا لا ترزأ عدوها بالهجوم إلا قليلا. فرأى هرقل بعد قليل أنه يستطيع أن يتركها حيث هي لا يعبأ بها، فكان الروم إلى ما بعد عشر سنوات من فتح الفرس مدينة «خلقيدونية» يسيرون بسفنهم آمنين، لا يخشون شيئا في المضيق بين جنود الفرس على ضفة وجنود الهون على الضفة الأخرى.
10
وقبل أن يبدأ هرقل رحلته حول آسيا الصغرى أعد العدة لكي يجهز ما يلزم لها من النفقة، وذلك بأن اقترض من الكنائس كل ما تستطيع إقراضه من كنوز عظيمة من آنية الذهب والفضة ثم سكها نقودا. وكانت تلك وسيلة سيئة فيها كثير من الإسراف أمد بها خزائن الدولة، ولكن لعله لم يكن دونه من وسيلة سواها. فلما أن تم الجهاز استخلف هرقل على الحكم ولده، وجعل عليه وصيين، وهما البطريق «سرجيوس» والنبيل «بونوس»، ثم انتعل نعلا أسود، ودخل الكنيسة الكبرى، وخر ساجدا يصلي لله يسأله المعونة والبركة فيما هو مقدم عليه.
11
وكان ممن شهد صلاة الإمبراطور رجل اسمه «جورج البيسيدي»، وكان شماس الكنيسة وسادنها، فقال: «أسأل الله أن تصبغ نعلك في دماء عدوك حتى يصبح نعلك الأسود وقد احمر لونه.» وتلك لعمري دعوة تقى نغتفرها لشاعر الملك،
12
لا لقسيس الجيش وإمامه؛ إذ يظهر أن «جورج» هذا الذي ذكرناه قد سار مع الجيش شاعرا وقسيسا في وقت واحد، وبدأ هرقل رحلته في يوم الاثنين يوم عيد الفصح لسنة 622،
13
فسارت سفنه من العاصمة نحو الجنوب، فلقيت في سبيلها عاصفة تكشف هرقل فيها عن نفس لها ثبات القائد ورباطة جأشه، وقوة النوتي وصبره على مقابلة الأخطار، ثم سارت السفن تشق حيازيمها الماء حتى بلغت مرساها بغير أن تنزل بها نازلة، وهبط من فيها من الجند إلى البر، وأقاموا معسكرا في مدينة «أيسوس»، وحلت منهم جماعة في شعب «بيلي»، وهو على الحد الفاصل بين الشام و«قليقيا».
14
وليس قصدنا أن نصف ما كان من الحوادث في مدة السنوات الست التي كان هرقل يشن فيها الغارة على بلاد الفرس؛ فقد كانت جنوده مظفرة منذ بدأ القتال، واستطاع أن يجعل ممن معه من الجند - ولم يكن فيهم كبير أمل في مبدأ أمرهم - جيشا جليلا، فكان كمن اتخذ من مادة خسيسة سيفا حساما، ثم جعله في يده يبطش به في عدوه بطش بطل مغوار بارع في القتال، وكان هرقل ذا أيد وقوة، نجدا هيكلا، ماهرا في نزال القرين، تملأ قلبه الغيرة، ويثور به إيمان قوي بأنه فارس الصليب، وعليه أمانة يؤديها في نصرته، ويؤثر أن يشارك جنده في تحمل المشاق، وكانت له في الجيش هيبة يملك أمره وزمامه؛ فإذا اختط خطة كانت سريعة موفقة، وإذا طرأ طارئ كان رابط الجأش مالكا أمر نفسه؛ ولهذا وذاك مما بدا من صفاته بين الناس المثل الأعلى للزعيم، واستطاع أن يغلب عدوه في موطن بعد موطن، وينتصر انتصارا لا مثيل له.
وكانت غزوة «قليقيا» كأنها الوتد يشق قلب الأرض التي كان الفرس يملكونها عند ذاك فيما بين النيل والبوسفور. وفي السنة التالية أرسل بعث آخر إلى «طرابزون»، فكان كأنه وتد آخر أرسل ليلاقي أخاه آتيا من شمال آسيا الصغرى، فكان دفع هذين البعثين عظيما، ثم توالت الوقعات، فاضطر الفرس أن يدعوا جيوشهم من الإسكندرية و«خلقيدونية» لتنصرهم. ولا ندري متى كان ذلك، ولكن المؤرخين مجمعون على أن فتح كلا المدينتين كان في وقت واحد، وتخليتهما كذلك في وقت واحد، ويختلفون بعض الاختلاف في مدة حلول الفرس بهما، فيقول المكثر إنها كانت في كلا الحالين اثنتي عشرة سنة، ويقول المقلل عشر سنوات. ولن نخطئ الصواب خطأ بعيدا إذا نحن جعلنا تاريخ جلاء الفرس عن ضفاف البوسفور والنيل كليهما في أول سنة 627
15
للميلاد.
وتكللت أعمال الحرب بفتح «دستجرد» في فبراير سنة 628، وهي مدينة على ثمانين ميلا من المدائن، وهي «أقتيسبون» نحو الشمال. وفي الرابع والعشرين من ذلك الشهر فر كسرى هاربا هربا مهينا، ثم قبض عليه وسجن، ولقي على يد خلفه «شيرويه» عذابا شديدا وذلا، ثم قتله بعد أيام من ذلك. وأحرق قصر كسرى فلم يبق منه شيء، وذهب طعمة للحريق كل ما به من التحف والكنوز
16
التي لم يستطع نقلها، وأطلق من كان في السجون من أسرى مصر والشام وهم كثيرون، وفيهم «زكريا» بطريق بيت المقدس، وأعيد الصندوق الذي كان به الصليب المقدس لم يمسسه سوء إلى هرقل،
17
وانتهى القتال إلى صلح بين دولتي الروم والفرس. وهكذا انتهت تلك الحرب الصليبية الكبرى بنصر عجيب قل مثله في التاريخ فيما يثيره في النفوس.
وجاءت البشرى يحملها رسل الإمبراطور بانتهاء الحرب والنصر في يوم عيد العنصرة الذي كان في الخامس عشر من شهر مايو من السنة ذاتها، وقرئت من منبر كنيسة أيا صوفيا.
18
وكان لهذا النصر وقع كبير في نفوس الكتاب في ذلك العصر، ولا شك أنه قد أقيم من أجله ما اعتادوا إقامته في ذلك المكان العظيم في مواسمهم الجليلة وحوادثهم الكبرى، من احتفال باهر وزينة بالغة.
19
ولكن الإمبراطور اضطر إلى البقاء حينا في بلاد الشرق كي يتم عمله في القضاء على عدوه ونشر السلام على بلاده. فلما أن خرجت جنود الفرس الباقية في حصون الشام وآسيا الصغرى على بكرة أبيها، وعادت إلى بلادها تحت حراسة جنوده، وعاد البطريق «زكريا» إلى مقره في بيت المقدس؛ عاد هرقل إلى وطنه بعد أن غاب عنه ست سنوات قضاها في نضال وقتال، ودخل القسطنطينية مظفرا منصورا يحمل معه الصليب المقدس الذي خلصه ممن لا يعبدون الله.
الفصل العاشر
إعلاء الصليب
في السنة التالية، وهي سنة 629، سار الإمبراطور يقصد الحج إلى بيت المقدس في أول الربيع، وأراد عند ذلك أن يعيد الصليب إلى محله، وكان في هذه الأثناء مودعا في كنيسة أيا صوفيا.
وقد ذكر التاريخ حادثتين في رحلته هذه؛ الأولى: أن بعض المؤرخين يذكرون أنه قد أتى عند ذلك رسول إلى حمص
1 (ويقول بعضهم إلى أذاسة) من قبل النبي محمد، عليه الصلاة والسلام،
2
بكتاب يدعو فيه هرقل إلى الإسلام. ولعل هذه الحادثة لم تقع عند ذلك، بل كانت قبل ذلك في حياة الملك الأعظم «كسرى». وأما الحادثة الثانية فهي أن الإمبراطور عندما بلغ طبرية أرسل إليه يهودها وفدا معهم الهدايا العظيمة يطلبون منه عهدا يضمن لهم السلامة؛ فقد ذكروا ما أتوا من الجرائر في المسيحيين، وخشوا أن يقتاد الإمبراطور منهم، ولكنه من عليهم بالعهد، وكان من حرص اليهود وحيطتهم أن أخذوا منه بذلك العهد كتابا.
وسار الإمبراطور بعد ذلك في سبيله إلى أن لاحت له المدينة المقدسة عن بعد. ومن السهل أن تتصور سير موكبه في خيل تلمع عدتها؛ من حديد يبرق،
3
وألوية على الخيل تخفق، ومن رماة بالنبال، وكماة في يد كل رمحه، وعليه درعه، وقد احتقب كنانته، وفي وسطهم سار هرقل في خاصته،
4
وهم جميعا قطعة تتلألأ من الذهب وزاهي الألوان، حتى إذا ما اقترب من المدينة خرج إليه موكب من القسوس والرهبان، وعلى رأسهم «مودستوس»، يحملون الأناجيل والشموع والمجامر، كما كانت عادتهم في احتفالاتهم، وجاءت من ورائهم جموع كبيرة من الأهلين. وهكذا سار حتى بلغ الباب الذهبي
5
في الجانب الشرقي من المدينة، وكان في انتظاره هناك البطريق «زكريا»، فسلم عليه وأظهر الخضوع، ثم أخذ يعنفه على فخامة ملبسه، وأمره أن يخلع رداءه الأرجواني، ويطرح ما عليه من الذهب حتى يقترب من المواضع الطاهرة بما يليق بها من الخضوع والخشوع. وسار الإمبراطور المظفر بعد ذلك في لباس الحاج المنيب إلى ربه، وكان يرى أينما ولى وجهه آثار الخراب الذي جره الفرس على البلاد منذ أربعة عشر عاما، ثم شكر «مودستوس» على ما بذله في سبيل الإصلاح والعمارة، ولا سيما إعادته بناء كنيسة القيامة وكنيسة الرأس وكنيسة قسطنطين، ثم كان بعد ذلك الاحتفال الأكبر المشهور باسم «إعلاء الصليب»، ولا تزال ذكراه إلى اليوم تحييها الكنيستان الشرقية والغربية كلتاهما في يوم 14 سبتمبر.
وتروى قصة عن الصليب المقدس أنه بقي محفوظا في صندوقه تحليه الجواهر، ولم تقع عليه نظرة نجسة من أعين الكفار في مدة وقوعه في يد الفرس، حتى إن كسرى نفسه لم يجرؤ على أن يدير مفتاح ذلك الكنز الطاهر أو يكشف غطاءه. وأكبر الظن أن الصليب لم تدركه يد التدمير لأمرين؛ أولهما: أن الملك كان يخشاه ويحترمه مع أنه كان غير مسيحي، وكانت خشيته ناشئة من وهم خرافي. وثاني الأمرين: أن الصليب كان له في نفسه قيمة لما فيه من الذهب والجوهر الذي يحيط به، وكان كسرى يحب جمع التحف وآثار الفن. وعلى أي حال قد أرجع الصليب إلى كنيسة القيامة، ووضع فيها على المذبح في احتفال باهر فخم.
وليس من الوهم أن نرى في هذا الاحتفال الباهر بإعادة الصليب أعلى ما بلغه الإمبراطور من المجد في حياته؛ فقد أدرك عند ذلك قصارى السلطان والهيبة، وطبق ذكره الآفاق. ولعله أحس عند ذلك أنه قد أدى أمانته وأتم أمره؛ فقد قضى من قبل عشر سنين كان فيها مخذولا ذليلا، يهوي به خور عجيب في النفس، وهوت معه دولته حتى رغمت، وضاعت منها قطعة بعد قطعة لا تحتمل أن تلمسها جيوش الهمج حتى تتداعى، فلم يبق منها إلا أسوار العاصمة وما يليها من شريحة صغيرة من البحر تفصل بينها وبين جموع العدو الضاربة حولها، ثم نهض كما ينهض الحالم من سباته، فأعجب العالم بما أظهر من مضاء في العزيمة، وقوة في الجهاد، ومن حماسة ثائرة، ورأي في الحرب باهر، ومن سرعة في بت الرأي، وهيبة تخضع لها الرجال. وتلك لعمري صفات جعلته سيد قواد عصره لا يدانيه مدان. وسارت الجيوش التي جمعها تحت لوائه يهديها بهدي عقله الراجح، فغلبت الفرس وكانوا من قبل مغلوبين، وأزاحت نيرهم عن الدولة من ضفاف البوسفور إلى شواطئ «نهر الرس»، ومن ثم إلى الأردن فالنيل. وفوق هذا وذاك استطاع أن يحفظ المسيحية من خطر كاد يدهمها من الوثنية؛ إذ كانت على وشك أن تجتاحها، وأرجع من ملك الوثنيين أعز رمز لدين المسيح؛ فكان إرجاع الصليب إلى مشهده في المدينة المقدسة بمثابة الخاتم ضم الإمبراطور المظفر إلى الغازي الموفق في جهاده في سبيل الدين؛ فقد خلص دولة الروم وحفظ دين المسيح بعد أن كانا على شفا جرف هار من الضياع والدمار.
غير أنه منذ ذلك الوقت أخذ حظه يتعثر، وخلقه يهن ويضمحل. وكان أول ما أمر به في أمور السياسة أن نكل باليهود تنكيلا فظيعا انتقاما منهم، وكان الناس والقسوس كلاهما يتسابق بالوشاية إلى الإمبراطور بهذا الشعب، وإيغار صدره منهم، يتهمونهم بأشنع من تهم الفرس، وأنهم كانوا أشد منهم فتكا بالمسيحيين، وأفظع منهم جرما في تدمير الكنائس وإحراقها. ولسنا ندري لعل تلك التهمة كانت صحيحة أو في شيء كثير من الصحة؛ فإنه لأمر ما قد بادر اليهود إلى أخذ عهد من الإمبراطور يؤمنهم، وإنهم ولا شك كانوا عند ذلك يحملون للمسيحيين عداوة أشد مما كانوا يحملون لجيرانهم من أهل الوثنية. على أن هرقل لم يسارع إلى الأمر، بل كان غير راغب في الإقدام على نقض عهده، فقال له قائل: إنه إنما أعطى العهد قبل أن يعلم بحقيقة ما كان منهم، وإنه ما كان ليحفظ عهدا مع قوم خدعوه عنه، وإنه لو كان قد علم بما فعله اليهود من فتك بالمسيحيين بالسيف والنار لما تردد في أن يقسو عليهم ويشتد في حكمهم، إلى غير ذلك من الأقوال. وما زالوا به حتى أزالوه عن رأيه؛ إما بعلو ضجيجهم، وإما بالتماس الحجج لإحلاله من عهده. ولعل كلا الأمرين قد اجتمع على ذلك؛ فأمر أن يجلى اليهود عن بيت المقدس، ويمنعوا أن يعودوا بعد ذلك إلى ما بعد أسوار المدينة بثلاثة أميال. ولكن ذلك النفي لم يكن أشد عقوبة نزلت بهم؛ فإنه يلوح لنا أن هرقل قد أجاب المسيحيين من رعيته إلى كل ما طلبوه من الانتقام، وهناك وقعت في اليهود مقتلة تشبه أن تكون عامة.
6
ولكن البطريق ومطارنته أرادوا أن يزيلوا وساوس الإمبراطور، وأن يطيبوا نفسه، ويطمئنوا نفوسهم إلى ما كان، فبعثوا إلى المدائن جميعها كتبا يأمرون فيها أن يصوم الناس أسبوعا، وأن تكون تلك سنة أبد الدهر. وما زالت تلك السنة باقية إلى يومنا هذا؛ فإن أول أسبوع من الصوم الكبير عند القبط لا يزال اسمه «صوم هرقل». ويمكن أن نقول إن القبط قد اشتركوا في تلك المقتلة لما كان بهم من ذحل وموجدة على اليهود منذ أيام فتح الفرس للإسكندرية.
والظاهر أن الإمبراطور قضى الشتاء في بيت المقدس. ويمكننا أن نستنتج من تاريخ الصيام المذكور أن مقتلة اليهود كانت في أول العام الذي بعده؛ أي عام 630. وقد مات في ذاك الشتاء البطريق «زكريا»،
7
وولي مكانه على عرش البطرقة «مودستوس» عن رضا من الملك والناس جميعا.
ولسنا ندري أي البطريقين كان صاحب الرأي في مقتلة اليهود التي لطخت ذكر هرقل، ولا شك في أن كليهما قد رضي عنها وأقرها، ولكن الإمبراطور عندما أزمع السير إلى عاصمته استصحب «مودستوس» ليساعده على إقرار أمور الكنيسة، وإعادتها إلى سابق عهدها بعد أن رجعت بلاد الشام إلى دولة الروم، وليعمل على رد الكنائس التي كان كسرى قد جعلها للنسطوريين
8
والمونوفيسيين، وإرجاعها إلى أصحاب مذهب الدولة (الأرثوذكس). وكان مما قصد إليه الإمبراطور من صحبة البطريق أن يساعد كذلك في التماس الوسيلة لجمع مذاهب الدولة المنتضلة وتوحيدها. وكان هذا من أعز ما يتمناه الإمبراطور، وقد بدا له الأمر ممكنا إذ كان عند ذلك بطل المسيحية وناصرها.
ولكن «مودستوس» توفي في شتاء سنة 630-631، ولم يل إلا تسعة أشهر؛
9
فلم يجد هرقل بعده بين المطارنة من يوافق رأيه في أمر الكنيسة كل الموافقة؛ ولهذا ترك مكان البطريق شاغرا. ولم يكن أحد ليستطيع أن يزيله عن رأيه، وهو التوفيق بين اليعاقبة والملكانيين، وهما حزبا الكنيسة؛ أولهما حزب الخوارج، والثاني حزب الجماعة. وكان سرجيوس القسطنطيني يرى الملك في التوفيق، فاعتز ذلك الرأي به وهو الرجل الذي عرف بالقوة والإقدام. وكان سوري المولد، وهو صاحب صورة التوفيق التي أقرها هرقل. وكانت تلك الصورة تقضي بأن يمتنع الناس عن الخوض في الكلام عن كنه طبيعة «السيد المسيح»، وعما إذا كانت له صفة واحدة أم صفتان، ولكن عليهم أن يشهدوا أن له إرادة واحدة أو قضاء واحدا. وكان الإمبراطور منذ سنة 623 عندما كان في أرمينيا قد اتفق مع «بولص» زعيم الدين، وكان أثر ذلك الاتفاق أن توحدت الكنيستان؛ كنيسة الدولة وكنيسة أرمينيا. وبعد أربع سنوات من ذلك زار «اللازيين»، ودعا «قيرس» مطران «فاسيس» إلى مذهبه الجديد، فوجد منه قبولا. وفي ذلك الوقت عرض رياسة الدين في أنطاكية على «أثناسيوس»، على شرط أن يقر ما أقره مجمع «خلقيدونية»، وأن يأخذ بتأويل الموحدين (المونوثيليتيين). والظاهر أن الرؤساء الثلاثة اجتمعوا بالإمبراطور في «هيرابولس»، وكانت نتيجة مناظرتهم في ذلك الاجتماع أن أقروا شرط التوفيق إقرارا كاملا. وكان المتوقع عند ذلك أن يسود السلام الكنيسة، وترتق فتوقها المتسعة.
ولعل هذا الوفاق كان في صدر عام 631،
10
وأعقبته ولاية «قيرس» بطرقة الدين في الإسكندرية. وقد أمره الإمبراطور أن يجمع المذهبين القبطي والملكاني في المذهب الموفق الذي ابتدعته حكمة المجلس الإمبراطوري. وكانت خطة الإمبراطور إلى ذلك الوقت موفقة توفيقا أعظم مما توقعه أحد، وجاءت إليه الأنباء من مصر في أول الأمر مبشرة بالنجاح؛ فقد وصف «قيرس» نجاحه وصفا بليغا، حتى لكان يخيل إلى الناس أن هرقل قد بدأ باسترجاع دولته وجمع شملها، بعد أن نزعها الفرس من يده ومزقوها كل ممزق، ثم ثنى بعد ذلك بالحلم الذي كان يتمنى تحقيقه في حياته، وكاد يتم له الأمر كما يشتهي. فانتصر في القتال نصرا عظيما، فغلب الكفار، وحمى منهم المسيحية. وإنه ليكون نصرا أعظم لو استطاع أن يحل السلام والوئام على الكنيسة، وأن يزيل ما فيها من مواضع الخلاف،
11
ويربط بين المسيحيين فيجعلهم إخوانا في دين واحد. وكان الصليب الذي استرجعه من العدو رمزا ماثلا أمام عينيه؛ فلا عجب إذا لاح له فوقه ذلك الخيال الذي لاح لعيني سلفه العظيم، وهو «فز إما بالموت وإما بالحياة»؛ (22 ⋆ )
فقد كان الصليب أداة نصره في الحرب، وكان يستلهم من الصليب وحيه وإلهامه في أمور الدولة بعد أن ساد السلام.
الفصل الحادي عشر
دعوة النبي محمد (عليه الصلاة والسلام)
ما أكثر عجائب التاريخ وعبره! ولكن قلما حدث فيه من العجائب ما هو أكثر عدا أو أعجب أمرا مما كان في عهد هرقل، وقد اتفق عندما بدأ هرقل عهد ولايته أمر الإمبراطورية أن بدأ النبي محمد دعوته وأخذ في نشرها، وذلك في سنة 610،
1
وقد كان مقدورا أن تكون دعوة النبي أكبر ما يصدم هرقل ويهدم ما بناه. وقد لاقى كل من هذين العظيمين في أول حياته تخذيلا عظيما وأخطارا جمة صحبته نحوا من اثنتي عشرة سنة، ثم خرج كل منهما من هذه المحن وقد قويت نفسه، واستعدت للعمل العظيم الذي كانت مقبلة عليه. في سنة 622 سار هرقل في سريته إلى قليقيا، فضرب أول ضربة في سبيل استنقاذ الصليب المقدس وإعادته إلى الدولة الرومانية من الفرس. وفي هذه السنة عينها هاجر النبي من مكة إلى المدينة، وبدأ بذلك عصر الجهاد في سبيل تخليص بيت الله الحرام وفتح بلاد العرب لدعوة الإسلام، فكان هذا الحدث مبدأ التاريخ الإسلامي أبد الدهر.
وليست هذه كل وجوه الاتفاق؛ فإن النبي والملك كليهما صحبه نصر لا تكاد تثلمه هزيمة مدة ست سنين
2
بعد سنة 622. وكان النبي يرقب بلهف حوادث القتال الطويل بين الروم والفرس، وكان قد آلمه نصر الفرس في مبدأ الأمر في سنتي 614 و615؛ لأن ذلك كان انتصارا لعبدة الأوثان على قوم من أهل الكتاب. فلما رجع النصر إلى الروم - وما كان أعجب ذلك - واستطاع هرقل أن يمحق سلطان الفرس بعد حرب ضروس استمرت ست سنوات، بعث ذلك في النبي آمالا كبيرة لغزو الطائفتين والتغلب عليهما وقد تضعضعت قوة الغالب منهما والمغلوب، ورأى أن الله قد مهد بذلك للإسلام طريق النصر والفتح؛ ولهذا نستطيع أن نقول إن الساعة التي بلغ فيها هرقل أعلى ذروة مجده كانت ساعة البشرى العظيمة للنبي (عليه الصلاة والسلام).
وكان النبي قبل ذلك رأى أنه قد آن له أن يرسل إلى أمراء العالم يدعوهم للدخول في الدين الجديد، فبعث كتبا إليهم في سنة 627،
3
وختمها بخاتمه على ما جرت عليه عادة أهل الشرق، وكان نقش ذلك الخاتم «محمد رسول الله»، وكانت الكتب جميعها تدعو إلى الدخول في الإسلام والشهادة بأن محمدا عبد الله ورسوله. وأرسلت تلك الكتب إلى أمراء اليمن وعمان
4
واليمامة والبحرين، وإلى الحارث «ابن أبي شمر الغساني» أمير العرب على حدود الشام، وإلى «جورج»، وسمي «المقوقس» في الكتاب خطأ، وهو حاكم الإسكندرية ونائب الملك في مصر،
5
وإلى نجاشي الحبشة، وإلى كسرى ملك الفرس، وإلى هرقل قيصر الروم.
6
فأما أمراء العرب، فقد رد اثنان منهما ردا حسنا وأسلما، وهما أمير «اليمامة» وأمير «البحرين». وأما أمير اليمن وعمان فقد ردا ردا فاحشا،
7
فدعا عليهما النبي. وأما النجاشي فقد أجاب جوابا حسنا ولم يبعد، ولكنه لم يسلم. ولعل هذا موضع لأن نقول إن الحبشة هي البلاد التي لم يفتحها الإسلام دون كل البلاد التي أرسل النبي إليها الرسل. وأما «عظيم القبط»
8
فقد وعد أن يرى لنفسه رأيا في الأمر، وأكرم الرسول وهو «حاطب بن أبي بلتعة اللخمي»، وبعث معه هدية عظيمة كان فيها جاريتان «مارية» و«شيرين»، وبغلة سماها النبي «دلدل». ويزعم بعضهم خطأ أنها كانت أول بغلة عرفت في بلاد العرب.
9
وكذلك كان بين ما أهدى حمار اسمه «نفور»،
10
ومقدار من المال.
11
فأما «مارية» فقد أسلمت وتزوجها النبي، عليه الصلاة والسلام، وأحبها، وماتت سنة 636، فلم تشهد فتح مصر وخضوعها للعرب.
وأما رد كسرى فقد كان على طريقة أخرى؛ إذ شق كتاب النبي ومزقه وهو غضبان قد تولى كبره، وكتب إلى بازان
12
عامله على إقليم «حمير» يأمره: «ابعث إلي برأس هذا الرجل الذي بالحجاز.»
13
فقال النبي عندما بلغه ما فعله كسرى بكتابه: «مزق ملكه.» فكانت نبوءة ودعوة عليه، وما مضى بعد ذلك إلا زمن قصير حتى تحققت.
14
أما ما كان من أمر هرقل فلسنا ندري ما كان يدور بنفسه إذ هو خارج من مواكب الاحتفال عند مقدمه إلى عاصمة ملكه بعد فتوحه في آسيا، أو عندما كان يسير وفي ركابه الظفر يشق بلاد الشام نحو بيت المقدس حاملا معه الصليب الأعظم؛ أكان عند ذلك يذكر ما وقع له وهو في معسكره منذ حين، إذ طلع عليه جماعة من فرسان البدو وعليهم رئيسهم «دحية بن خليفة» الكلبي يحمل إليه كتاب النبي؟ لا شك أن الإمبراطور قد سمع بما أجاب به من قبل ملك الفرس، ولعله كان عند ذلك قد أتاه نبأ مقتل رسول النبي في مؤتة،
15
ولكنه مع ذلك أرسل ردا حسنا، حتى إن بعض مؤرخي العرب خلق من ذلك قصة منمقة سخيفة عجيبة يذكر بها إسلام هرقل، ولم يكن شيء أبعد من ذلك الأمر عنه. وماذا عسى كان يدفعه إلى تصديق ما أتى به زعيم عربي لم يعرفه، وذلك في حين كان ملكا سيد الكتائب الكثيرة التي عركتها الحرب فأصبحت ضارية صعبة المراس.
وعلى ذلك فقد سار هرقل في سبيله، ولم يعكر شيء صفاءه، ولم يعر أمر تلك الرسالة اهتماما، ولكن فيما كان هرقل يسير في موكبه من الباب الذهبي بين الطرق المتعرجة قاصدا إلى الكنيسة القائمة على جبل الزيتون ليقيم بها الصليب الذي استنقذه، وفيما كانت الناس في بيت المقدس يبكون مما في نفوسهم من سورة قد غلبت عليهم جميعا، حتى لقد بكى من كانوا منهم ينشدون أناشيد النصر؛
16
كانت سرية من ثلاثة آلاف فارس أرسلها النبي تسير في الصحراء إلى مؤتة لتثأر لرسوله الذي قتل. ومن ذلك الحين بدأت الحرب مع الدولة الرومانية، فلم تنته حتى كانت سنة 1453، وفيها سلمت القسطنطينية للإسلام، ونقش اسم النبي العربي حيث هو اليوم على جدران الكنيسة الكبرى كنيسة «أيا صوفيا». وقد جاءت جنود الدولة فالتحمت بجيش العرب يقوده زيد بن حارثة قرب «مؤتة»، وكانت صدمة القتال عنيفة، فقتل أكثر القادة حتى ولي القيادة خالد بن الوليد، واستطاع بما له من مهارة فائقة في الحرب ورأي سديد أن يحفظ المسلمين من القتل، وقد سمي من ذلك الحين بسيف الله، فانحاز بمن بقي منهم، وسار إلى المدينة في أسف شديد، ولكن النبي تلقاهم ولم تفلل الهزيمة من عزمه. وما أتى آخر شهر أكتوبر حتى جهز عمرو بن العاص في سرية صغيرة وبعثه إلى أكناف الشام، وانتظر كي يتم نشر الدعوة في بلاد العرب ثم يخرج إلى من حوله فيناجزهم في حرب عظيمة. وقد تم له فتح مكة ثم انتصر في حنين، فسار ذكره وسادت هيبته بعد ذلك كل ربوع بلاد العرب.
ثم أخذ في إعداد جيش، وجاهر بأنه لغزو فلسطين، يدفعه إيمانه وما في قلبه من شعور قوي بأمانته إلى الاستهانة بما قد يلقى من العقبات، ولكن كثيرا من أصحابه استصعبوا الأمر، فدل ذلك على أن إيمانهم لم يعصمهم من هيبة هرقل. وكان يحب أن يجتمع عنده مائة ألف رجل مجهزين بالعدد، ولكن لم يجتمع إليه إلا ثلاثون ألفا، وتخلف عنه المنافقون والمعذرون الذين ادعوا المرض هربا. وسار في هذا الجمع إلى «تبوك»، وهي في نصف الطريق إلى مؤتة، فأقام بها عشرة أيام ولم يلق كيدا. ولعل ربيئته قد حملت إليه من الأخبار ما جعله لا يتقدم إلى الشمال إلى أبعد من ذلك، أو لعله عاد لقلة الزاد والماء معه؛ فإنه قد عاد إلى المدينة وقضى بها عاما يعد جيشا لغزوة جديدة. وفي أثناء مقامه في «تبوك» عقد عهودا مع كثير من أمراء العرب، وأرسل خالدا في أربعمائة فارس إلى أمير «دومة» النصراني، فنزل عليه على غرة منه وأسره، ثم أسلم ذلك الأمير، وأخذ منه النبي أرضه ومدينته وحصنه وثلاثة آلاف من الإبل وأربعمائة درع.
17
وعلى كل حال فإن غزوة «تبوك» وإن لم يصل النبي منها إلى غرضه من لقاء الروم لم تؤخر سير الإسلام؛ فقد تتابع أمراء العرب إلا قليلا منهم على الدخول في الإسلام، وشهد ذلك العام دخول الناس جميعا تحت لوائه؛ ومن ثم سمي «عام الوفود». وكانوا جميعا يتبعونه ويرونه سيدا وقائدا ورسولا من عند الله، بعضهم يرى ذلك صدقا عن عقيدة وإيمان، وبعضهم يتراءى ذلك خوفا ونفاقا. وفي عام 632
18
حج النبي إلى مكة حجة الوداع، وقام بين المؤمنين لا يحصرهم عد، وعلمهم شعائر الحج إلى الكعبة التي أصبحت بيتهم الحرام بعد أن كانت معبد الأوثان، وقرر شعائر الحج التي لا تزال متبعة إلى اليوم. وبعد شهرين من منصرفه من الحج أخذ يدعو العرب إلى غزو الروم، وجعل قيادة الجيش إلى أسامة ابن مولاه زيد الذي قتل في وقعة «مؤتة»، ولكنه مرض بعد ثلاثة أيام من عقده لأسامة على الجيش، وكان مرضه بالحمى، وتوفي من مرضه ذاك بعد قليل.
على أن وفاة النبي لم تضعف الإسلام، بل شدت ساعده؛ فإنه اهتز حينا، ولكنه كان راسخ الأساس؛ فلم تكن تلك الهزة التي جاءته من داخل جزيرة العرب لتحدث فيه أثرا. وقد مات النبي بعد أن أتم ما تاقت إليه نفسه في حياته، وإن لم يكن ذلك في الوقت الذي كان فيه على ذروة النصر والقوة، فكان في ذلك على غير ما كان عليه هرقل عند موته. وكان النبي لا يشعر عند موته بما يعكر صفاءه من أنه أخفق، أو أنه قد مضى عزه وتقادم العهد على نصره، بل إنه لو أتيح له أن يطلع على الغيب لعرف أنه قد ألف بين قومه وألبهم، فأصبحوا وقد خلفهم قوة ذات بأس في الدين وذات أثر في السياسة، وأنها ستفتح العالم بعد وفاته.
وكانت بلاد العرب قد صارت يدا واحدة قبل موت النبي، وقد انقطع بسقوط كسرى ما كان بين الفرس واليمن وجنوب أرض العرب من علاقة السلطان، في حين أن هرقل لم يعمل على تقوية سلطانه وتحديده في شمال الجزيرة، بل تركه كما هو ظلا غير حقيقي من الهيبة. ولا شك في أن جل نصارى العرب كانوا على المذهب «المونوفيسي»، وأنهم لذلك كانوا لا يثقون برأي الإمبراطور في السياسة، على أنهم كانوا ضعفاء لا يستطيعون دفع أعداء الدولة.
19
وإذا كان ثم شيء يتم به جمع جزيرة العرب لتصبح يدا واحدة تحت سلطان واحد، فقد قام به أبو بكر خليفة رسول الله وقد بايعه الناس بعد النبي؛ ففي سنة واحدة أرسل «أسامة» في بعث إلى الشام، وكان موفقا منصورا، وأرسل خالدا ذلك القائد الشهم المغوار، فقضى على مسيلمة الكذاب الذي ادعى النبوة في بلاد اليمن. وكان النبي قد أوصى وهو على فراش الموت ألا يبقى في بلاد العرب إلا دين الإسلام. والظاهر أن ذلك تم بلا تريث ولا مهل؛ فقد أخرج المسيحيون من الجزيرة ولم يبق منهم فيها أثر، وكذلك قضي على ما كان عندهم من العلوم والفنون والآداب.
20
وليست لدينا صورة كاملة عن الفنون في بلاد العرب إذ ذاك، ولكنا نستطيع أن نعرف شيئا عن تقدمها مما يروى لنا من وصف كنيسة صنعاء، وهي التي نالها المسلمون بالأذى وهدموها، وهي من بناء «أبرهة الأشرم» عامل ملك الحبشة على بلاد اليمن، وذلك بعد منتصف القرن السادس بقليل. ويروى أن الملك كان شديد العناية بأمر بنائها وزخرفتها، فكان يقضي الوقت كله نهارا وليلا فيها، وكانت تشبه كنائس الروم في رسمها؛ فكانت الأعمدة العالية من المرمر الثمين تفصل ما بين وسطها وجناحيها، وكان ما فوق الأعمدة من القباب وأعالي الجدران يزينه زخرف بديع من فسيفساء الذهب والألوان، وتحليها الصور. وأما أسفل الجدران فقد كان يغطيها إفريز من المرمر، وكذلك كانت الأرض، وكان المرمر من ألوان مختلفة منسقة تنسيقا جميلا. وكان المحراب يفصله حاجز من آبنوس مطعم بالعاج بديع النقش، وكانت نقوش الذهب والفضة تغطي البناء من داخله. وكانت الأبواب تغطيها صفائح من الذهب مساميرها من الفضة، أو صفائح من الفضة عليها مسامير كبيرة من الذهب. وأما الأبواب التي كانت تفضي إلى المحاريب الثلاثة فقد كانت تغطيها صفائح كبيرة من الذهب عليها حلية من الجواهر، وكان على كل صفيحة من تلك صليب بارز من الذهب والجوهر، في وسطه شكل خزامي من حجر أحمر، وتحيط به زهور زخرفية من الذهب والجواهر، أو من الميناء المختلفة الألوان. تلك كانت الكنيسة العظمى التي ساعد «جستنيان» «أبرهة» في بنائها.
21
ولم تكن كنيسة «أيا صوفيا» ذاتها بأغلى زينة ولا أبدع في الصناعة منها.
ولعل هذا الوصف المجمل يحمل إلينا صورة من المدنية التي وجدها الإسلام في بلاد العرب، غير أن العرب كانوا عند ذلك لم يقبلوا على الصناعات والفنون، ولم ينم لهم ذوق فيها؛ ولذلك لم يدرك المسلمون من تلك الثروة العظيمة ومن ذلك الجمال البارع إلا أنها كانت للغنيمة إذا كانت مما يغنم، أو للتحطيم إن كانت صورا أو دمى. ولسنا نعرف على وجه البت في أي وقت كان هدم هذه الكنيسة وسواها من أبنية النصارى. ويقول «ريت» إنه إن بقي في جزيرة العرب أحد من النصارى في سنة 632
22
فإنه لم يبق بها إلا قليل، ولم تكن الأبنية وقتئذ لتترك كما هي أو تتخذ مساجد للمسلمين، كما حدث في غير ذلك الوقت وفي البلاد الأخرى؛ لأن الإسلام كان في أول أمره شديد الوطأة على الدين المسيحي، وآثاره يمحوها ويعفي أثرها، كما كان قبل ذلك يوقع باليهود وعبدة الأوثان. ولا شك أن المسلمين كرهوا ما في كنائس النصارى من كثرة الصور والرسوم المنقوشة بالألوان، فحق لهم بعض الحق أن يخلطوا بين المسيحية وعبادة الأوثان. ومهما يكن من ذلك الأمر فقد أصبح المسلمون جميعا في جميع بلاد العرب، وقبلتهم الكعبة، وإمامهم القرآن، قد ضمهم دين واحد وحكم واحد في عبادة إله واحد، سواء أكانوا قبل ذلك نصارى أو يهودا من الفرس أو السودان أو العرب.
وكانت دولة العرب التي قامت عند ذلك دولة حلفاء عدة يضمها حكم جمهوري، وذهبت مكة بزعامتها. وقد رأى «أبو بكر» وزعماء المسلمين ما رآه النبي من قبل، وذلك أنهم إذا شاءوا أن يحفظوا على الدولة تماسكها، ويتموا عليها اتحادها؛ فلا بد لهم أن يبعثوا البعوث لغزو ما يليهم من البلاد. وكانت بلاد فلسطين للعرب بلادا موعودة، كما كانت تلك الأرض موعودة لليهود، أرضا تفيض لبنا وعسلا، وكان حب القتال غريزة في العرب، وقد زادهم توقدا إيمانهم بأن عليهم واجبا دينيا يؤدونه؛ فاجتمعت لهم صفتان ما اجتمعتا في قوم إلا صار بأسهم شديدا، فلما اجتمعتا للعرب أصبحوا ولا يكاد شيء يقف في سبيلهم.
وكتب أبو بكر إلى رؤساء القبائل من العرب لانتداب الناس إلى المدينة ليخرجوا للقتال، وقال لهم إنه بعث إليهم ليخبرهم أنه قد عزم على أن يرسل المؤمنين إلى بلاد الشام لينزعوها من أيدي الكافرين، وأنه يعلمهم أن الجهاد في الدين طاعة لأمر الله.
23
فما هو إلا قليل حتى اجتمع لديه جيش عظيم، ثم عقد عليه ليزيد بن أبي سفيان، وكان عمرو بن العاص على قسم منه.
24
وكان عمله هذا جرأة عظيمة؛ فإنه حاد دولتي الفرس والروم، وأغزى العرب بلادهما، ولكن الأمر كان أهون في الحقيقة مما يلوح للناس؛ فإنه من الخطأ أن نتصور أن العرب قبل الإسلام كانوا كلهم يعبدون الأوثان، كما أنه من الخطأ أن نتصورهم جميعا في عزلة عن العالم تفصلهم عنه مفازات الصحارى، ويعيشون في أرضهم لا يعرفهم أحد، ثم جاء الإسلام فقوى جموعهم على اقتحام الفيافي، والخروج إلى أمم العالم يغزونها؛ فليس شيء أبعد من هذا عن الحقيقة. ولا شك في أن ضعف أسدي الروم والفرس وما كان بين النصارى من الشحناء والبغضاء، وما انبعث في نفوس العرب من الإيمان، وما كان فيهم من حب الفيء والغنيمة في هذه الحياة، وما كانوا يأملونه من نعيم الآخرة، لا شك في أن ذلك كله كان عاملا قويا على فوز غزاة العرب في غزواتهم، ولكن لعله قد كان أكبر من كل ذلك أثرا في فوزهم أنهم كانوا يمتون بصلات وشيجة من قرابة الجنس إلى طائفة كبيرة من أهل البلاد التي غزوها؛ فقد كان العرب منذ الأزمنة الغابرة ينزحون إلى ما يلي بلاد الفرس والشام، وإلى ما بعد الحد الفاصل من الإقليمين من الشرق، فيقيمون بتلك الأرض أحيانا، ويضربون في أنحائها أحيانا أخرى، وينتجعون بلاد الدولتين فيجوسون خلالها التماسا للتجارة، أو يشنون عليها الغارة.
25
وكان بعض هذه القبائل العربية يدين لهرقل بطاعة لا تتعدى اسم الطاعة، وعلى مثل تلك الحال كان بعضهم مع كسرى، على حين كان بعضهم معتزلا لا إلى هؤلاء ولا إلى أولئك، وكانوا جميعا لا يحجمون عن نصرة أي الدولتين بسيوفهم إذا تبين لهم وجه النفع معها.
26
وكانت طلائع جيوش هرقل من العرب، في حين أن منهم قوما كانوا يغيرون على آسيا الصغرى، وهم قوم «طوال الشعر» ذكرهم «جورج البيسيدي».
27
وكان أول نصر لهرقل يوم انتصر على هؤلاء، وقيل إن جل جيش الروم في «مؤتة» كان من العرب، وكانت منهم كتيبة خيل بارعة مع كسرى تساعده على فتح الشام ومصر.
فوجد الإسلام على ذلك بين هؤلاء العرب الضاربين على التخوم عدة عظيمة من رجال الحرب شبيهين بما كان من بلاد العرب ذاتها من جنده. فما كان على المسلمين إلا أن يدخلوا هؤلاء العرب في الإسلام، ويشعروا قلوبهم عقيدتهم، ويثيروا فيهم روحه، فيصبحوا لهم عيبة ومسلحة. ولم يكن الأمر في أوله بالهين؛ فقد كان أكثر هؤلاء العرب نصارى،
28
وكان كثير منهم يقاتلون مستميتين في سبيل دولة الروم ودين المسيح،
29
غير أنه قد كان منهم من آثر علاقة الجنس، أو كان غير حريص على دين لم يفقه فيه، في حين أنه قد كانت منهم طائفة انحازت على حذر، فلم تكن مع هؤلاء ولا مع أولئك، متربصة حتى يتبين لها لمن الغلبة، فتكون مع الظافر وهي آمنة. ومهما يكن من الأمر فقد كانت صلة الجنس تجعل رجحان الميل إلى المسلمين.
ولعلنا نجد عذرا إذا نحن سقنا بعد ذلك رأيا آخر نمهد به مجملين؛ وذلك أن فوز المسلمين كان له سبب آخر، ألا وهو ما حل بالمسيحيين من الخذلان والوهن، وهو يعدل في شدته ما كان عند المسلمين من إيمان وقوة. قال «قدرينوس»: «على حين كانت الكنيسة تحتوشها الملوك ومن لا يخشون الله من القسوس، خرج من الصحراء عملاق ليعاقبنا على ذنوبنا.» هذه كلماته التي ذكر فيها نشأة الإسلام، وهي كلمات قليلة، ولكنها تدل على أن المسيحيين كانوا يشعرون أن محمدا كان رسولا من الله، أو هو على الأقل سوط من الله أرسله عليهم، وهذا شعور يظهر على لسان كثير ممن كتب من المسيحيين في ذلك الوقت، أمثال «سبيوس» الأرمني.
30
وإنه لأمر معروف أنه إذا نزلت بقوم نازلة من هزيمة قالوا إن ما أصابهم كان عقابا على ذنوبهم. وإن من فكر وجد أن هذا القول لم يخطئ الصواب ولم يبعد عن الحقيقة، ولكن يلوح لنا أن في قول هؤلاء الكتاب شيئا من الحزن المبرح أكثر مما نراه في مثل هذه الأحوال؛ فإنهم يحسون أن النصارى قد وزنوا والعرب في كفتين، فرجح العرب وشالت كفتهم، وأن المسيحيين قد أصبحوا غير جديرين بأن يكونوا دون غيرهم هداة الناس إلى سبيل الله. وليس من العسير أن ندرك كيف قوي الإسلام بما وقع في قلوب المسيحيين من هذا الخوف وتوقع البلاء؛ فقد كان قسوسهم وجندهم في ذلك سواء، وقد كان «لوقا» الذي أسلم مدينة حلب للعرب ممتلئ القلب بما كان يبشر به قسيس من أنه كان محتوما أن يفتح العرب البلاد، وكان «بازل» الذي أسلم مدينة صور قد أخذ عن الراهب «بحيرى» ما جعله يترك الروم ويوصي أهل الدولة الرومانية
31
بدين الإسلام. وهاتان الروايتان قد جاءتا عن طريق العرب ، وقد تكونان هما وأمثالهما أقاصيص وهمية لا حقيقة لها، ولكنها تدل على أمر واحد لا شك فيه ولا يكذبه التاريخ، وذلك أنه قد شاعت نبوءة بين بعض المسيحيين فارتجفت لها أفئدتهم، وهي أن الإسلام حق، وأن نصره محقق.
الفصل الثاني عشر
فتح العرب للشام
لما انقضى مقام هرقل في بيت المقدس وعاد أدراجه إلى الشمال في «فلسطين»، لم يكن بعد قد بدا له ما في الإسلام من خطر عليه، وقد كان النبي (عليه الصلاة والسلام) عند ذلك قد فاز ونشر الإسلام في جزيرة العرب، وبلغ ظل الإسلام أكناف الدولة الرومانية، ولكن الإمبراطور لم ير في ذلك إلا ما اعتادت الدولة أن تصمد له من غارات أهل الصحراء، وكان هذا أمرا مألوفا؛ فإنه لو أدرك عند ذلك حقيقة ما في ثنايا الإسلام من الخطر لكان قد سارع إلى منازلته، ولعله كان يستطيع أن يقضي على دولة العرب في أول نشأتها ويمحو أثر الإسلام
1
من التاريخ، لو كان اتخذ الحيطة وأعد العدة قبل فوات وقتها، وكانت قوة عقله تمكنه من ذلك، وعنده موارد المال لا تزال مع ما نزل بها من ضعف كافية لما كان دونه.
ولكن قضى الله أن ذلك لا يكون؛ فإن واجبه كان يناديه أن يسرع بالسير من الجنوب، وكان قلبه مهموما بأمر البلاد التي في أكناف الدولة حريصا على تنظيمها حسب نصوص المعاهدة مع الفرس، وكذلك كان عليه أن يدبر أمر الأموال وأمر الحكم في كل البلاد الشرقية التي اضطربت أمورها في سنوات الحرب الست، وكان فوق كل ذلك يحب أن ينفذ ما اختمر في ذهنه منذ زمن طويل من أمر الديانة المسيحية وتوحيد مذاهبها، حتى يقوم التوحيد على الوفاق لا على الجبر والاضطرار. وكان يظن أن زعماء الكنيسة يستطيعون أن يخلقوا صورة جديدة من المذاهب تخلب الألباب وتسحرها. فإذا ما تم له صهر مذاهب الخارجين وأهل الشقاق والخلاف، وأخرج منها مذهبا خالصا مصفى لا يدخل إليه الخلاف من بين يديه ولا من خلفه؛ كانت عند المسيحيين قوة لا تقف دونها قوة أعداء الدولة والصليب!
وسار الإمبراطور عند منصرفه من بيت المقدس إلى جزيرة ما بين النهرين،
2
وكان طريقه عن دمشق فحمص فمدينة «بيرويه» فهيرابولس فأذاسة، وكانت «أذاسة» موطن آبائه، وكانت موطن القديس «أفريم» أبي الكنيسة «السورية»،
3
وكذلك كانت مشهد اليعاقبة (المونوفيسيين)؛ لأنها كانت مقر «يعقوبوس بارودايوس»، وكان ذلك المذهب هو السائد في الأديرة المجاورة وعدتها ثلاثمائة، وفي معظم بلاد أرمينيا والشام ومصر، وكانت أذاسة فوق كل ذلك موضعا ذا خطر عظيم في السياسة لوقوعها بين دجلة والفرات، وقربها من بلاد الأرمن والفرس وسوريا، فلم يكن بلد أصلح منها لما عزم عليه الإمبراطور من الأمور.
وحوادث هذه المدة ذات عقد يتعذر على المرء أن يحلها؛ فإنه قد يستبين خيطا منها في ديوان من الدواوين، وبضعة خيوط أخرى في ديوان سواه، ولكن تلك الخيوط لا صلة بينها؛ ولذلك يصعب على الإنسان مهما أوتي من الصبر والأناة أن يسويها ويجمع بينها. وعلى كل حال فإنا نستخلص أنه في سنة 631 ذهب الإمبراطور إلى «هيرابولس»، وبدأ فيها تحقيق ما كان يرجو إنفاذه من توحيد الكنيسة، واختار «أثناسيوس» رئيسا لأساقفة «أنطاكية»، وجعل «قيرس» رئيسا لأساقفة الإسكندرية. غير أنه أخطأ خطأ كبيرا في اختيار «قيرس» هذا، وسنصف بعد قليل سيره إلى مصر، ونرى أي نكبة حلت في تلك البلاد بما كان الإمبراطور يسعى لتحقيقه من الآمال؛ فإنه لقي مقاومة ومخالفة من كل جانب، فخالفه الزعيم الملكاني «صفرونيوس» وشيعته، وخالفه كذلك كل القبط قسوسهم وعامتهم، وسنرى بعد ذلك كيف انقلب «قيرس» فقلب للقبط ظهر المجن، وحارب مذهبهم؛ إذ رأى أنه لم يستطع أن يدخلهم بالحسنى في المذهب المونوفيسي، وشرع يحملهم على الخروج من مذهبهم جبرا واضطرارا بالعسف والاضطهاد.
وكان الأمر في بلاد الشام على ما كان عليه في مصر؛ إذ أخفق سعي الإمبراطور هناك، فأراد حمل الناس على ما أراد بالاضطهاد، فكان «قيرس» بعسفه واضطهاده يهدم ما بناه هرقل بحروبه وفتوحه، ويمهد السبيل للإسلام في مصر، على حين كان الاضطهاد في الشام يمهد السبيل له هناك . غير أن الأمر في بلاد الشام لم يبلغ من الشدة ما بلغه في مصر؛ فقد كان «أثناسيوس» صاحب كياسة وأناة، وكان «قيرس» خلوا منهما، وكان لوجود الإمبراطور نفسه في الشام أثر في تخفيف حدة الخلاف ومنع الخروج،
4 ( ⋆ ) ولكن لم يمض كبير زمن حتى ظهر الضرر المحقق الناشئ من سعي الإمبراطور في أمر الكنيسة. وقد توسل الحبر القدير «صفرونيوس» إلى «قيرس» توسلا حارا ليعدل عن عسفه، فلم يجده ذلك شيئا، فسافر إلى القسطنطينية لكي يخاطب البطريق «سرجيوس» في ذلك الشأن، وكان «سرجيوس» من خير من ولي أمر الكنيسة الشرقية وأوضحهم عقلا، ولكنه كان صاحب المذهب المونوثيلي الذي أراد به التقريب بين المذاهب، ولم يكن ليستطيع إنكار ذلك المذهب، وحاول أن يقنع «صفرونيوس» أو يستميله بكل ما أوتي من قوة في الحجة، وبلاغة في الخطاب، وخلابة في الخلق، ولكنه لم يفلح، وعاد «صفرونيوس» إلى الشام آسفا كئيبا.
ولعله ذهب بعد ذلك إلى «هرقل» ليبذل معه من الجهد مثلما بذل مع «قيرس» و«سرجيوس»، ولكن لا يذكر التاريخ حدوث ذلك اللقاء بينهما. أما نحن فنرى أنه لا بد أن يكون قد حدث ذلك اللقاء؛ فهو يتفق مع سائر ما نعرف من الحوادث، وبغير حدوثه لا يمكن أن نفسر العلة التي من أجلها اختار «هرقل» «صفرونيوس» ليكون كبير أساقفة «بيت المقدس»، وقد بقي ذلك المنصب شاغرا منذ مات «مودستوس» في سفره إلى الشمال مع الإمبراطور. ومهما يكن من الأمر فإنه من المحقق أن «صفرونيوس» لم يخفف من وطأة عداوته للمذهب المحدث مذهب الوفاق، وكان من أول ما قام به بعد ولايته أنه جمع رجال الكنيسة، وقال فيهم كلمة طعن فيها بدعة الإمبراطور، وندد بها في غير حيطة ولا هوادة، وحكم بالخروج على البطارقة الذين اتبعوها؛
5
لأن «صفرونيوس» لما قبل أن يلي إمرة الدين في بيت المقدس كان يظن من غير شك أن الإمبراطور سيعدل عن بدعة «المذهب المونوثيلي»، ويعود إلى مذهب السنة «الأرثوذكسي»، في حين أن الإمبراطور كان يظن أنه سيستميل «صفرونيوس» باختياره للولاية الدينية كما استمال «أثناسيوس» من قبل. ولعل هذه كانت أشأم زلة زلها «هرقل» لا تفوقها إلا زلته الأولى وهي اختيار «قيرس»، وليس من المبالغة أن نقول إنها تكاد تكون السبب في ضياع فلسطين، كما كان اختيار «قيرس» سببا في ضياع مصر.
إنه من الممكن أن نلتمس لهرقل العذر في زلاته هذه إذا نحن ذكرنا أنه إنما اقتحمها اقتحاما وهو يقصد إلى غاية سامية ويدفعه باعث نبيل، ولكن على أي حال قد أدى الأمر في مصر والشام إلى أن الإمبراطور عندما أخفق في سعيه عمد إلى التضييق على معارضيه تضييقا مرا، ولم تبق إلا خطورة واحدة بين هذا التضييق وبين الاضطهاد، ولم تكن نفسه الوثابة لتتردد في أمرها وقد جرح الفشل عزتها فأثارها. قال أبو الفرج: «ولما شكا الناس إلى هرقل لم يجب جوابا؛ ولهذا أنجانا الله المنتقم من الروم على يد العرب، فعظمت نعمته لدينا أن أخرجنا من ظلم الروم، وخلصنا من كراهتهم الشديدة وعداوتهم المرة.
6
على أن كنائسنا لم ترجع إلينا؛ لأن العرب أبقوا كل طائفة من المسيحيين على ما كان في يدها عند فتحهم للبلاد.» وإنه لمن المحزن أن يقرأ الإنسان مثل هذا الترحيب من قوم مسيحيين بحكم العرب، وزعمهم أن ذلك كان تخليصا لهم ساقه الله إليهم ليخرجهم به من حكم إخوان لهم في المسيحية، ولكن ذلك يظهر بجلاء قاطع أن سعي الإمبراطور في توحيد طوائف الكنيسة كان سعيا باطلا غير ممكن، وأنه لا شك جر عليه الدمار والوبال.
بقي علينا أن نذكر الزلة الثالثة الكبرى، وقد سبق أن أشرنا إليها، وهي مقتلة اليهود، وكانت تلك أولى زلاته من الوجهة التاريخية، وكانت كذلك أول ما جنى منه الثمر الوبيل؛ فإنه بعد احتفال إعلاء الصليب في بيت المقدس بزمن يسير أمر بنفي اليهود أو قتلهم، فأتى بعضهم نبأ ذلك، فهرب من استطاع إلى الصحراء فيما بعد نهر الأردن، وتربصوا هناك الدوائر بأعدائهم، وكانت قلوبهم تتقد بنار الغيظ وطلب الثأر وهم على تربصهم هذا، حتى لاحت لهم أعلام الإسلام وهي طالعة، فرحبوا بهذه الجموع التي جاءت تطلب قتال الدولة الرومانية.
وفيما كانت السحب الدكناء تتعالى بعضها فوق بعض على أفق الدولة، كانت أعمال هرقل قد طبقت شهرتها الخافقين، وجعل الملوك من أقاصي الأرض في الشرق والغرب من الهند ومن فرنسا
7
يرسلون إليه الرسل والهدايا الثمينة وآيات الإعجاب، ولكن الإمبراطور ما لبث أن عرف أن القضاء يسخر منه؛ فإنه ما كادت تمثل بين يديه آيات خضوع العالم وإعجابه حتى كان العرب يقرعون أبواب الشام قرعا عنيفا، وحتى كان ابنه من صلبه «أثالاريك» يكيد له مشتركا مع ابن أخته «تيودور» وجماعة من الأرمن يريدون خلعه ثم قتله، وقد فشا أمر المتآمرين، أفشاه أحدهم، وكان عقاب المجرمين أن قطعت أنوفهم وأيديهم
8
اليمنى، إلا من نم عليهم؛ فإنه جوزي بحكم أخف وطأة، وهو النفي؛ وذلك لأنه لم يوافقهم على أمر قتل هرقل.
9
ويلوح لنا أنه قد حدث بعد هذا وبعد سفر هرقل إلى أذاسة أن اجتمع اليهود في تلك المدينة. وقد روى «سبيوس» أن قبائل اليهود الاثنتي عشرة كان لكل منها من ينطق بلسانها في ذلك الاجتماع. ورأى اليهود أن المدينة خالية من الجنود؛ فإن جنود الفرس خرجوا منها ولم تحل محلهم مسلحة من الرومان، فأغلقوا أبواب المدينة، وأصلحوا حصونها، وحادوا الإمبراطور وجنوده. فحاصرهم هرقل، ولم يلبثوا أن نزلوا على حكمه، فمن عليهم ولم يشتط في شرطه، بل سمح لليهود أن يعودوا آمنين إلى موطنهم، ولكنهم لم يطيعوا، بل ذهبوا إلى الصحراء، واتفقوا مع جند الإسلام، وصاروا لهم أدلاء في تلك البلاد.
10
ولا بد أن ذلك كان في سنة 634، حين كان العرب قد دخلوا بلاد الفرس بقيادة خالد بن الوليد.
فلما اتفق اليهود مع العرب طلب إلى هرقل أن يعيد أرض المعاد إلى أبناء إبراهيم، وهدد أنه إن لم يفعل أخذوا منه تراثهم وزيادة، ولم يكن لهذا الطلب إلا رد واحد وهو الحرب، وهزم الروم بقيادة «تيودور» في «جبته»، وأعقب ذلك انهزامهم الأكبر عند «اليرموك» في أول سبتمبر سنة 634، وقد مات أبو بكر قبل ذلك في شهر يوليو، وولي الأمر بعده الخليفة عمر بن الخطاب، وكان العرب قد فتحوا «بصرى»، وجاءوا بعد اليرموك إلى دمشق، وهي العاصمة القديمة لبلاد الشام، فحاصرها خالد حتى أسلمها لهم حاكمها «منصور» على عهد ضمن لأهلها سلامتهم وما يملكون، وأبقى في أيديهم كنائسهم لا ينازعهم فيها منازع، وكان هذا في سنة 635. وقد روى أحد المؤرخين
11 «أن جميع المطارنة والبطارقة في كل البلاد لعنوا «منصورا» هذا لأنه ساعد المسلمين». وكان هرقل قبل تسليم المدينة قد أرسل جيشا عظيما بقيادة أخيه «تيودور»، وكان جيشه أكبر عددا من جيش المسلمين، فقاتل خالدا أشد قتال، وظل النصر مترددا بين الفريقين حتى انتهى الأمر بفوز المسلمين، وانهزمت جيوش الروم فلم يبق لها أثر. وجاءت أنباء الهزيمة إلى هرقل وهو في أنطاكية،
12
فعرف أن الأمر قد انفلت من يده، وأن الله قد خذل الإمبراطورية، وأصبح غالب الفرس الوثنيين وقد غلبه العرب الذين لا يتبعون دين المسيح.
13
ومما زاد ألمه شدة علمه أنه ارتكب خطيئة بزواجه من ابنة أخته «مرتينه»، وأن جسمه آخذ في الاعتلال والانحلال. ولسنا نجد تفسيرا غير هذا نبين به سبب قعوده وتهاونه؛ فقد كان من قبل رجلا تلقاه أبدا في الصدر كلما ثارت الحرب ودعاه الناس لائذين بسطوته في القتال ودرايته بكل أموره. ولو لاقاه خالد بن الوليد «سيف الله» منذ ست سنوات للقي فيه قرنا كفيئا، ولكان في حربه أغزر حيلة وأبرع مكيدة، ولصمد لشجاعة قواد العرب البدوية فزلزلها وأوقع بها، ولكنه في ذلك الوقت الذي جاء فيه العرب لم يتحرك ولم يقد جيشا ليلقاهم به؛ فكأن يده كانت عند ذلك مغلولة، وكأن عقله كان مفلوجا. وقد جمع كبار قومه في حفل حافل في كنيسة أنطاكية يستشيرهم فيما يعمل، فقام شيخ أشيب وقال: «إن الروم يعذبون اليوم لعصيانهم كتاب الله، وتطاحنهم فيما بينهم وتخاذلهم، ولما يرتكبونه من الربا والقسوة، وكان حتما عليهم أن يؤخذوا بذنوبهم.» فكان قوله هذا فصل الخطاب، فأحس الإمبراطور من نفسه بضعف الجسم ووهن العقل، ورأى الحظ يتعثر به، وعرف أن مقامه بالشام قد أصبح لا غناء فيه، فرحل عنها إلى القسطنطينية في البحر في شهر سبتمبر من سنة 636،
14
وقال إذ هو راحل: «وداعا يا بلاد الشام، وداعا ما أطول أمده!» وإن في تلك القالة المعروفة التي قالها لرنة من الأسى، وكأننا بها تحمل ما كان يدور في نفسه من أن مجده الغابر ونصره الباهر قد انتهيا بعد بالخذلان والعار، وإنه إذ يقولها ليودع عزه وسطوته. وإن ذلك ليذكرنا بنابليون وما أحس به من الألم، إذ هو على ظهر السفينة (بلريفون) ينظر إلى وطنه فرنسا نظرته الأخيرة.
15
والحق أن فيما بين ذينك القائدين العظيمين لشبها من وجوه عدة في اضمحلال جسمهما وضياع قوتيهما على القتال، ولكن نابليون ظل إلى آخر مواقعه وهو ملك يقود جيوشه، في حين أن هرقل أضاع قواه سدى في نضال لا فائدة فيه أراد به توحيد الكنيسة، فلم يستطع أن يجمع ما بقي من قوى الدولة، أو يقود جندها إذا ما أزفت ساعة الخطر واشتدت الأزمة؛ فبقي من شدته ثلاث سنين خبت فيها آماله وذوت قوته وصوح نشاطه، وعلا أمر الإسلام تحت بصره وسمعه ولم يتحرك لمقاومته، فما زال الإسلام يعلو حتى طوى دولته تحت ظله.
ويذهب معظم المؤرخين مذهب مؤرخي اليونان، أو لعلهم أخطئوا تأويل ما قصدوه في رواياتهم، فيقولون إن هرقل صحا بغتة من سباته، واندفع إلى بيت المقدس لا يلوي على شيء لكي ينجي الصليب المقدس من أيدي أعدائه.
16
وليس ثمة ما يدل على تلك الرحلة إلا ما روي من أن هرقل حمل معه الصليب وهو عائد إلى القسطنطينية. ولا شك في أنه فعل ذلك، غير أنه لم ينقذه بأن ذهب إلى بيت المقدس، ولا يمكن أن نتخذ من قول «قدرينوس» وأمثاله ممن يسوقون القول جزافا لا يتحرون فيه الدقة دليلا يقوم لحظة واحدة في وجه رواية «سبيوس»، وهي رواية واضحة دقيقة؛ فإن «سبيوس» يقول إن العرب بعد وقعة اليرموك جازوا نهر الأردن، وكانت هيبتهم تسبقهم فتقع في قلوب أهل تلك البلاد، فكانوا يذعنون لهم خاضعين، وقال: «وفي تلك الليلة (يقصد الليلة التي أعقبت بلوغ أنباء قدوم العرب إليهم) أخذ أهل بيت المقدس الصليب الأعظم وكل ما كان في الكنائس من الآنية، وجعلوا كل ذلك عند الساحل، ثم وضعوها في سفينة، وبعثوا بها إلى دار الملك بالقسطنطينية.» ولم يذكر في روايته كلمة واحدة عن هرقل، ولكن لا شك أن تلك السفينة التي كانت تحمل الكنوز المقدسة سارت إلى الشمال ولحقت بالإمبراطور، وكان لحوقها به إما في بعض الثغور التي مر بها في طريقه إلى عاصمته إذا كان سفره بحرا، وإما لحقته بقصره في «هيبيريا» على مقربة من خلقيدونية، وكان قد أقام بها مدة من الزمن وهو في اضطراب ومرض
17
يفتت عليه الأكباد. فلما سار إلى العاصمة حمل معه الصليب فأعاده إلى كنيسة القديسة صوفيا. وكان الناس قد فرحوا من قبل أشد الفرح بذلك الصليب، ورحبوا بمقدمه ظافرا، ورأوا فيه سر نجاح هرقل، ثم عاد إليهم بعد ذلك والحزن مخيم على الناس، وهم يرون في عودته إليهم رمزا لإخفاق مليكهم وخيبته. ويقيننا أن الأقدار لم تسخر من هرقل سخرا أقطع حدا ولا أمر مذاقا من هذا على كثرة ما أنزلته به من النكبات.
إذن تتضح لنا الحقيقة، وهي أن الصليب لم ينزع نزعا من يد صاحبه البطريق صفرونيوس، بل إنه أرسله مختارا مع سائر تحف الكنيسة، نزل عنها للإمبراطور لكي يحفظها عنده، ولم تكن ثمة وسيلة لحفظها غير هذه؛ فقد كان بالإسكندرية عدوه قيرس لا يزال على ولايته، وكانت مصر فوق ذلك قريبة العهد بغزو الفرس، وكان يتهددها الخطر من فتح العرب، ولكن القسطنطينية صمدت لكل عواصف الحدثان في الحروب الماضية، ولم يستطع عدو أن ينال منها؛ فكانت على ذلك هي البلد الذي لا يقهر، فوق أنها كانت عاصمة الدولة.
وإذا صح أن إرسال الصليب والتحف كان عملا يقصد به صفرونيوس أن يدل على ولائه لهرقل، لكان ذلك آخر ما قدمه له في حياته من الولاء؛ فإن مدينة بيت المقدس كانت عند ذلك يحاصرها خالد، ثم جاء له أبو عبيدة بعد بضعة أيام ممدا، وكان بالمدينة شيء كثير من المئونة، وكانت أسوارها قد أصلحت وحصنت بعد خروج الفرس منها. فلما جاء العرب إليها ظلوا حولها عدة أشهر يحيطون بأسوارها، ويرامون جندها بالسهام، ويقاتلون من خرج إليهم منهم، ولكنهم لم يستطيعوا أن يرزءوها إلا يسيرا؛ لأنهم كانوا لا عهد لهم بالحصار في حروبهم، ولم تكن لهم عدة لصدع الأسوار، ولم يستغرق الفرس في فتحها من قبل أكثر من ثمانية عشر يوما، وأما عند ذلك فقد ظل خالد بن الوليد نفسه مقيما حولها وهو يحرق الأرم غيظا لا يستطيع شيئا إذ يتطلع إلى حصونها وآطامها. وقد اختلف الرواة في مدة حصاره، والظاهر أنها استطالت مدة الشتاء كله؛ شتاء سنة 636-637، ولعلها كانت أطول من ذلك، ولكن لم يكن عند أحد شك في نهاية الأمر؛ فإن العرب إن عجزوا عن فتح المدينة عنوة بالهجوم، فإن أهل المدينة لم تكن لهم قوة على رفع حصارهم عنها، ولم تأت من قبل الرومان أنباء تجعلهم يؤملون في النجدة، بل كانت الأنباء تترى بالمصائب والنكبات، فحل في قلوب أهل بيت المقدس من الخيبة واليأس مثل ما حل من قبل في قلب هرقل.
فلما أن صار الأمر إلى ذلك فاوض البطريق الشيخ صفرونيوس
18
قواد العرب من فوق الأسوار. ولعله كان يحس عند ذلك أن المدينة لن تستطيع المقاومة بعد ذلك طويلا؛ لنفاد المئونة وقرب وقوع المجاعة بها. واتفق على أن يسلم المدينة على شرط أن يأتي الخليفة عمر بنفسه ليكتب عهدها.
ولا حاجة بنا أن نعيد هنا القصة المعروفة قصة مجيء عمر إلى الشام على جمل، وكان أشعث أغبر خشن الملبس والهيئة، حتى اقتحمته عيون مترفي الروم، ثم ختم العهد وزار الأماكن المقدسة يصحبه صفرونيوس، فالتفت ذلك البطريق إلى أصحابه، وقال لهم باللغة اليونانية: «حقا إن هذا هو الرجس الآتي من القفر الذي ذكره النبي دانيال.» وكانت هذه آخر مقولة وردت عن ذلك البطريق «صاحب اللسان المعسول في الدفاع عن الدين».
19
وقد شهد مرة ثانية في آخر حياته أسر بلاد صهيون، وكان حزنه وألمه لذلك الأسر الأخير سببا في الإسراع به إلى قبره.
الفصل الثالث عشر
الاضطهاد الأعظم للقبط على يد قيرس
قد وصفنا فيما مضى ما كان من أمر الإمبراطور منذ يوم احتفاله بالنصر في بيت المقدس وقد بلغ ذروة مجده، إلى أن ودع أنطاكية وقد أصبح ذلك العاهل الكبير ولا حول له ولا قوة، ضعيف العقل، واهي القوة، غرق في غمرات الخيبة والحزن، ثم رأينا سحابة ترتفع على أفق فلسطين من الجنوب، ثم تعلو شيئا فشيئا كما يعلو المارد في قصص العرب، فإذا بشبح الإسلام
1
قد صار هيكلا ضخما يزيد على الأيام نماء، ثم يناضل دولة الروم في الشام حتى ينضلها، وتصير إليه دمشق ثم بيت المقدس. وقد ألممنا إلمامة خفيفة بالأسباب التي اجتمعت على إحداث هذا التغيير الذي عجب منه العالم، وقد كان وصفنا لهذه الحوادث قصيرا، وكان لا بد لنا منه إذ أردنا أن نعرف حقيقة الحوادث التي كان لمصر فيها أثر كبير، ولكن ذلك الوصف مع ذلك قد شط بنا عن حوادث وادي النيل شططا بعيدا، وما أحرانا أن نعود الآن إلى تلك البلاد لنصف ما كان فيها من الحوادث منذ أول الحرب التي بقيت ثائرة مدة ست سنوات، وكانت نهايتها موت كسرى. وليس لدينا من أخبار هذه المدة إلا النزر اليسير، وهذا ما نأسف له، والقليل الذي لدينا منها غير واضح؛ فنحن مضطرون إلى أن نتلمس طريقنا فيما دوننا منها، مهتدين ما استطعنا بهدي نورها الضئيل.
كان القليل الذي نجا من التدمير من الأديرة في جوار الإسكندرية «دير قبريوس»، وكان في وسط بستان من النخيل على مقربة من شاطئ البحر في الشمال الشرقي من المدينة، ومن الأبنية التي نهبها الفرس.
2
وكان في ذلك الدير شاب اسمه «بنيامين»، من سلالة أسرة قبطية موسرة من قرية فرشوط في البحيرة، وقد جاء إليه وترهب فيه على يد رئيسه الشيخ «تيوناس»، فجد في تحصيل العلم، وكان ذكي الفؤاد . فما كان إلا قليل حتى نبغ وبذ معلميه في العلم والتقوى، وكانت عادته أن يقوم الليل في العبادة في كنيسة الدير. ويروى في القصص أنه كان يوما في قيامه فسمع صوتا يناديه أنه سيكون راعي أتباع المسيح. فلما سمع «تيوناس» مقولته أمره أن يحذر الوقوع في حبائل الشيطان، ثم قال له ينصحه إن مثل هذا الأمر لم يقع له ولا لأحد من إخوانه في مدة خمسين سنة قضاها في دير «قبريوس». على أنه مع ذلك صحبه إلى الإسكندرية، ومثل به بين يدي البطريق القبطي «أندرونيكوس»، فأعجب البطريق بما كان عليه «بنيامين» من القدرة وقوة النفس، واستبقاه في المدينة معه، وعاد «تيوناس» إلى الدير وحده، ثم دخل بنيامين بعد ذلك في زمرة القسوس، وبقي مع البطريق، وكان أمينه وصاحب ثقته، «وساعده في أمور الكنيسة وتصريف أحوال ولاية الدين».
وكان دخول «بنيامين» إلى دير «قبريوس» قرب عيد الميلاد من سنة 621، ولم يبق في خدمة البطريق «أندرونيكوس» إلا شهور ثم مات البطريق، وأوصى أن يكون هو خليفته. وقيل إن «بنيامين» كان إذ ذاك شابا، ولعله كان في السنة الخامسة والثلاثين من عمره،
3
ولكن رداء البطارقة ألقي على عاتقه في حفله المرسوم في كنيسة القديس مرقص.
وقد رأينا فيما سلف أن «أندرونيكوس» لم يخلعه فتح الفرس من ولايته، في حين أن «حنا الرحوم» بطريق الملكانيين هرب عند ذلك، ومات في هربه ذاك في جزيرة قبرص، وكان خليفة «حنا» على ولاية أمر المذهب الملكاني اسمه «جورج»، ولكن سلطان الروم كان عند ذلك قد ذهب عن مصر، وليس لدينا دليل كاف يدلنا على أن استخلاف «جورج» على ولاية المذهب الملكاني وقع قبل سنة 621، وأقل من ذلك ما لدينا من الأدلة على تعيين الوقت الذي ذهب فيه ذلك البطريق إلى الإسكندرية
4
وأنفذ فيها أمر ولايته، بل إنا نشك في أنه جاء إلى مصر حقيقة وحل بها؛ فإنه كان لا يرجو ترحابا لا من القبط ولا من الفرس، ولم يكن في مجيئه إلى مصر من فائدة إلا إذا عاد جيش الروم إليها فأرجع فيها أمر الدولة وأقر فيها مذهب الملكانية، ثم دارت الدائرة وجلا الفرس عن مصر في أول سنة 627، وذلك عندما أزمتهم الهزائم على يد هرقل. وقد ذكر في التاريخ أن حكم الروم عاد إلى مصر في تلك الفترة التي بين ذلك التاريخ وبين الوقت الذي ولي فيه «قيرس» على مصر؛ فمن الجائز أن يكون البطريق «جورج» قد دخل الإسكندرية في ذلك العام سنة 627، وبقي بها كما يظهر من كتاب «حنا النقيوسي» حتى حل محله «قيرس» نفسه وصار بطريقا بدله، ولكن أغلب الظن في رأينا أن دخول «جورج» إلى الإسكندرية لم يكن عند ذلك، بل كان بعده بزمن؛ وذلك لأنه لما وقفت رحى القتال بين الروم والفرس فرغت بعض كتائب الروم شيئا فشيئا من مشاغلها، واستطاع الروم أن يعيدوا الجند إلى مصر، ولكن من البعيد أن يكون وقوع ذلك قبل سنة 629 بزمن طويل. ولعل جورج لم يبلغ الإسكندرية إلا في ذلك العام، ولعله لم يبق في ولايته إلا سنة أو سنتين؛ لأنه مات بعد ذلك أو عزل. فإذا كان الأمر كذلك سهل علينا أن ندرك السبب الذي من أجله كان ذكره فيما تخلف من أخبار الكنيسة غير واضح، وكانت أحواله غير جلية.
5
عندما مات «أندرونيكوس» كبير أساقفة القبط في أواخر سنة 622 أو أوائل سنة 623، كان حكم الفرس في مصر غير مزعزع لا يخشى عليه من شيء، لا من قبل هرقل ولا من كرة الدولة الرومانية على يديه. حقا لا يشك إلا قليلا في أن ذلك البطريق قد سمع قبل موته أنباء سفر هرقل في رحلته الأولى في البحر، ومروره برودس ذاهبا إلى «قليقيا»، وأكبر الظن كذلك أن أهل الإسكندرية كانوا عند ذلك يرددون فيما بينهم ما سمعوه من قوافل العرب عن ظهور النبي في مكة، ولكن ما كان لأحد أن يذهب به الظن ويحمله الخيال - ولو كان ظنانا بعيد الخيال - إلى أنه لن تمر عشرون سنة حتى يكون الفرس قد أخرجوا من مصر إذ يجليهم الروم عنها ، ثم يعود الروم بعد ذلك فيقهر سلطانهم وتخبو نيرانهم، وينمحي أثرهم على يد الكتائب الشعثاء من جنود الإسلام.
وقد وافق اختيار «بنيامين» لولاية الدين هوى في قلوب الناس؛ فإننا إن شككنا في حكمته وحسن رأيه في آخر أمره، لا يمكن أن ننكر أنه كان حبيبا إلى الناس عزيزا عليهم، وأنه قد بقي على محبة الناس له وإجلالهم إياه لم ينقص من ذلك شيء على تغير الأحوال وتقلب الصروف. وكانت مدة ولايته أكثر عهد في تاريخ القبط تقلبا وأعظمه حوادث، لكنه لم يتساهل في أمر الدين، ولم يغض عن رذيلة في الخلق، فشرع منذ أول أمره يأخذ قسوسه بالشدة إذا هم جازوا حدود الحمى في حياتهم، وما كان أكثر من يفعل ذلك منهم، ثم جعل يقضي على السوء الذي حل في مواضع كثيرة ولم يستطع الأساقفة أن يتلافوه؛ إذ منعتهم من ذلك ضجة الحرب ومشاغلها. وقد زار بابليون
6
مرة قبل ولايته، فلما ولي البطرقة أرسل كتابا إلى أساقفته قال لهم فيه: «لقد رأيت في مقامي في حلوان وبابليون جماعة من أهل العناد والكبر، وكانوا قسوسا أو شمامسة، وما أشد ما كرهت نفسي أفعالهم، وإني باعث بكتابي هذا إلى الأساقفة جميعا آمرهم أن ينظروا مرة في كل شهر في أمر كل من عندهم ممن لم تمض عليه عشر سنوات في زمرة أهل الدين.»
قال صاحب الديوان: «وقد دل بخطابه هذا على أنه كان كبير الأساقفة حقا.» ثم ظهر أمره بعد ذلك ظهورا أجلى وأوضح عندما نفى من الدين جماعة من رجال الكنيسة في إقليم بابليون، وقد أعقب كتابه بزيارة. وجاء في الأخبار أنه في أثناء زيارته تلك سار راجلا من بابليون «يصحبه «أبامينا» أسقف حصن بابليون، و«بليهيو» أسقف حلوان، وجمع كثير من الناس»، وذهب إلى رجل اشتهر بالعصيان ليحاسبه على ما أجرم، ودعا عليه فأرسل الله على داره نارا من السماء، وكان الناس يتلقونه أفواجا أينما سار لينالوا من بركته.
وبقي على حاله هذه يطهر الكنيسة ويجزي المسيء من أهلها ، فعرف الناس في كل البلاد أن دونهم رجلا يعتد به. ولا شك في أنه عمل على إعادة وحدة الكنيسة القبطية، وعلى أن يعيد إليها اطمئنانها واستقرارها بعد أن زعزعتها حوادث السياسة في ذلك الوقت أو كادت تهدمها. وقضى بنيامين أربع سنين أو خمسا
7
في سلام تحت ظل الفرس في الإسكندرية، وهناك رأى «شاهين» وقد دعاه سيده «كسرى» ليعمل إذا استطاع على مداركة أمره، ثم رأى بعد ذلك جنود الفرس تجلو عن مصر عندما غلب هرقل ملكهم وقهره. ولسنا ندري كيف كان نظره إلى هؤلاء الكفرة وقد رآهم يحملون الرماح ويتنكبون القسي وهم خارجون من الباب الشرقي للمدينة العظمى، ولا ما دار بنفسه وهو يتوقع عودة الروم بعد ذلك.
وأكبر الظن أن أكثر الفرس خرجوا من مصر في أول سنة 627،
8
وأن البعض القليل منهم قد بقي في مسالح متفرقة إلى سنة 628، وخرجوا بعد ذلك عندما تم الصلح مع هرقل، وعاد في ذلك الوقت سجناء المصريين إلى ديارهم قافلين من «دستجرد» وما إليها من مدائن آسيا. ولعل هرقل قد أرسل جيشا بعد أن دخل القسطنطينية ظافرا منصورا، أرسله في البحر في شتاء سنة 628-629 ليحتل مصر ويعيد أمر الدولة الرومانية من فلسطين إلى بلاد «بنطابوليس».
وإنا لا يسعنا إلا أن نقر بأن هرقل إنما كان من أحسن الناس قصدا عندما بعث قيرس الذي كان أسقف «فاسيس» في بلاد القوقاز وولاه رياسة الدين في الإسكندرية، ولكن عمله هذا كان خطأ كبيرا، وكان له أسوأ العواقب؛ فقد كان المسيحيون جميعا قد اتفقوا اتفاقا عجيبا عندما رأوا حرب هرقل وجهاده مع الفرس ذلك الجهاد المدهش، وكانوا يرقبونه وأنفاسهم خاشعة في الصدور من عظم ما كان في نفوسهم. فلما أن هزم الكفار وخلص بيت المقدس منهم وعلا أمر الصليب، فرح المسيحيون بالنصر على اختلاف نحلهم من قبط وملكانيين، وكذلك أظهروا سرورهم جميعا بما حل باليهود من النقمة، واشتركوا كلهم فيما أمرهم به زعماؤهم من التوبة تكفيرا عن ذنبهم هذا، فكانت تلك الساعة فرصة من ذهب لو اغتنموها لأدت إلى وفاق دائم ووئام حق. وقد فطن هرقل إلى هذا، وكان يعرف تعلق أهل ذلك العصر بأن يكون لهم شعار يحفظونه ومقولة يقولونها، غير أنه لم يفطن إلى أن مذهبه الذي حاول به التوفيق قد يأباه أهل مصر، ولم يعرف أن أهل مصر إذا أبوا ذلك المذهب كان شر الطرق إلى ضمهم إلى الجماعة أن يرغمهم عليه ويقذف به في حلوقهم؛ إذ قد كرهوا مرارة مذاقه منذ ذاقوه. وعلى أي حال قد كانت هذه خطته في مصر والشام، وكان من رأي ذلك العصر أن أمور الدين والعقيدة مما ينبغي للدولة أن تقوم عليه ويصدر الناس فيه عن أمرها، ولم يكن الإمبراطور في هذا الشأن أحكم رأيا من أهل عصره، فعقد النية على أن يظهر المذهب الذي ابتدعه رؤساء الدين الثلاثة في دولته على كل ما عداه من المذاهب المخالفة له، متوسلا إلى غرضه هذا بكل الوسائل حسنها وقبيحها.
ولكنه مع عزمه هذا كان كمن يسعى إلى المصائب سعيا؛ وذلك أنه اختار «قيرس» دون سواه إذ كان ذلك الرجل نحسا أنكد النقيبة، أخفق الإمبراطور بشؤمه في سعيه لتوحيد المذاهب في مصر، ثم عسف في الحكم حتى صار اسمه مفزعا للقبط كريها عندهم مدة عشر سنين أمعن فيها ما استطاع في اضطهاد مذهبهم، حتى استحال بعد أن يبقى في القبط ولاء لدولة الروم، وكان ظالما أساء في حكمه حتى كره الناس دولته، ومهد السبيل بذلك إلى فتح العرب للبلاد، وكان فوق كل ذلك خائنا، فإذا ما اشتد الكرب وجد الجد أسلم البلاد إلى أعدائها. كان هذا هو الرجل الذي ذاع سوءه وقبح ذكره، وهو المعروف فيما بعد في تاريخ مصر باسم «المقوقس». وقد بقي ذلك الحاكم في التاريخ سرا خفيا استعصى على المؤرخين أن يعرفوا اسمه أو قومه، ولكن قد أصبح اليوم من الثابت أنه هو قيرس دون سواه.
9
والظاهر أن «بنيامين» لم يستشره أحد في رأي القبط وما ينتظر منهم أن يفعلوا لقاء ما يراد إدخاله من البدعة الجديدة عليهم ، وكان خطأ فاحشا ألا يستشيره أحد في ذلك؛ فإن المذهب الجديد كان محتوما عليه ألا يلقى في مصر نجاحا. فما هو إلا أن جاء «قيرس» إلى الإسكندرية في خريف سنة 631 حتى هرب البطريق القبطي.
10
وقد جاء في إحدى القصص أن ملكا أتى «بنيامين» في نومه، فأنذره أن يهرب مما هو لا بد واقع من العسف. وهذا يدل على الأقل على أن ذلك البطريق كان قد عقد النية على أن يرفض ما جاء به «قيرس» قبل أن يفضي به إليه، وعرف ما سيكون وراء ذلك من الآثار، وكان عزمه ذاك غير مزعزع، سواء أكان عارفا بحقيقة ما جاء به «قيرس» أم كان غير عارف بها. ففي الحق قد رأى القبط في مقدم «قيرس» إيذانا لهم بحرب يثيرها الروم على عقيدتهم. وقد دبر «بنيامين» أمور الكنيسة قبل أن يغادر ولايتها، وجمع جمعا من القسوس والرعية، وألقى فيهم خطابا «يحضهم فيه على أن يثبتوا على عقيدتهم حتى يوافيهم الموت»، ثم كتب إلى أساقفته جميعا يأمرهم بالهجرة إلى الجبال والصحاري ليتواروا فيها حتى يرفع الله عنهم غضبه، وأنبأهم أن البلاد سيحل بها وبال، وأنهم سيلقون العسف والظلم عشر سنين ثم يرفع ذلك عنهم.
هذا ما بعث به في خطابه إليهم. ولما أنفذه سافر من الإسكندرية خفية تحت جنح الليل لا يصحبه إلا رفيقان، وخرج من المدينة من الباب الغربي، وسار يمشي إلى مريوط، ومن ثم ذهب إلى «المنى»،
11
وهي قرية في واحة عند مفترق الطريقين طريق الإسكندرية ووادي النطرون وطريق الطرانة وبرقة. ولا بد قد كانت تلك القرية عند ذلك مدينة عظيمة؛ فإنها بقيت إلى ما بعد ذلك بقرون، وكان المسافر في الصحراء والقفار إذا طلع عليها عجب من عظيم كنائسها وفخم بنيانها.
12
ولا شك أن البطريق دخل يصلي في الكنيسة العظمى بها كنيسة «القديس مينا»، واستراح قليلا بها ثم مضى في سبيله إلى جبل اسمه برنوج،
13
وأصبح عند ذلك قريبا من أديرة وادي النطرون، ولكنه رآها مقفرة لا يكاد يكون فيها أحد؛ فإن تلك الأديرة لم تعد إلى ما كانت عليه بعدما حل بها من التخريب منذ ثلاثين عاما،
14
وكان البدو لا يبيحون لأحد أن يعيد بناء كنائسها، ولا أن يقيم بها عدد كبير، فلم يكن فيها مقام للبطريق، وكان يحس فوق ذلك أنه ما زال على مقربة من العاصمة، فلا هو بآمن على نفسه، ولا هو مقيم بين ظهراني قومه ليدافع عنهم وينصرهم. فرأى أن يسير إلى الأهرام، ثم تركها وصعد إلى صعيد مصر سائرا على جانب الصحراء، وما زال حتى بلغ مدينة قوص،
15
ولاذ هناك بدير صغير بالصحراء غير بعيد عن تلك المدينة، وقد ظل هذا الدير مشهورا بمقامه فيه مدة قرون بعد ذلك.
وكان هرب «بنيامين» في نفس الوقت الذي جاء فيه «قيرس» إلى الإسكندرية أو قريبا منه، ولم نجد كلمة واحدة في خبر من الأخبار تدل على أن «قيرس» سعى مرة إلى أن يتقرب إلى بطريق القبط أو يتفق معه؛ فالظاهر أن مجيئه إلى مصر قد شرد قسوس القبط فزعين، وقد صار بطريقا من قبل الدولة الرومانية في الإسكندرية، وزاد سلطانه بأن صار واليا إلى حكومة مصر من قبل الإمبراطور.
16
ولا شك أن قبض «قيرس» على رياسة سلطتي الدنيا والدين معا هو الذي زعزع أمر بنيامين؛ فإن ذلك جعله يوشك أن يكون ذا سلطان مطلق. ولما قدم قيرس في أول الأمر تظاهر بأنه إنما جاء مسالما، وجعل يبين للناس كنه المذهب الجديد (المونوثيلي)، وهو المذهب الذي كان الإمبراطور يطمع أن يزيل به ما أحدثه مجلس خلقيدونية من الشقاق بين الناس. فكان عليه أن يستميل إلى المذهب الجديد أقباط مصر أولا وأتباع المذهب الملكاني ثانيا، ولكن الظاهر أن مذهبه لم يلق منذ أول أمره توفيقا؛ فقد أساء هو بيانه وإيضاحه، وأساء الناس فهمه، وتلقوه لقاء سيئا. فأما أتباع المذهب الملكاني فقد رأى كثير منهم أن المذهب الجديد نقض تام لمذهب خلقيدونية، وأما القبط فإن من سمع منهم بالبدعة الجديدة قال إن المذهب الجديد ما دام قد سلم بأن الله له إرادة واحدة وفعل واحد، فإنه لا بد له أن يسلم بأن له كذلك طبيعة واحدة؛ وعلى ذلك فإن «قيرس» إنما جاء في الحقيقة مسلما بالمذهب (المونوفيسي).
ولما أراد قيرس أن يزيل ما علق بالأفهام من الخطأ جمع مجلسا في الإسكندرية، وطرح عليه الأمر ليتناظر المجتمعون فيه وليتناقشوا في مسائله، وفي ذلك المجلس جاء صاحبنا «صفرونيوس»، وكان قد عاد إلى مصر وصار زعيم المعارضين من الملكانيين، واجتهد جهده أن يثني «قيرس» عما عزم عليه من البدعة تارة بالحجة وطورا بالتوسل والرجاء، وقيل إن «قيرس» أجابه جوابا لينا،
17
وطلب إليه أن يرجع إلى البطريق الأكبر «سرجيوس» بالقسطنطينية ليزيل ما في نفسه من الشكوك، ولكن «صفرونيوس» لم ينثن، وانتهى المجلس إلى إقرار البدعة، ووسم من لا يقبلها بتسع سمات شائنة. والظاهر أن «قيرس» لم يكن أثناء ذلك على ما ينبغي أن يكون عليه والي السلطان من الكياسة والرحمة، وقد جاء يدعو إلى السلم والوفاق؛ فإنه كان لا يلقى من يقاومه إلا بقوة من العزيمة تدعمها قوة السلطان، في حين أن مثل تلك المشكلات الدينية في مصر لم يكن لها أن تحل إلا بالدهاء وحسن الاحتيال. على أن الذنب في الإخفاق كان ذنب كلا الفريقين؛ فقد كان «قيرس» عاتيا متكبرا، في حين كان القبط على شيء من العناد وقلة البصر، وذلك إذا نحن سلمنا بأن «قيرس» قد أوضح لهم المذهب الجديد وبين كنهه لهم؛ فإنه لم يكن ثم فرق كبير بين مذهب القبط (المونوفيسي) والمذهب الجديد (المونوثيلي) لو طرح كلاهما أمام أعين عامة الناس. حقا يجب علينا ألا ننسى أنه لا تزال إلى اليوم بين المسيحيين فرق وشيع، وكثيرا ما يكون بينها شديد العداوة وكبير الخلاف مع انعدام ما يوجب ذلك في حقيقة الأمر، ولكن القبط في ذلك الوقت قد ارتكبوا خطأ كبيرا برفضهم ما عرض عليهم من أمر توحيد المذاهب، وكان خطؤهم ذاك سببا في مصائب عظيمة تحل بهم.
وقد يرى البعض أن المذهب الجديد كان بدعة وضلالة، ولم يكن من المتيسر نشره ، ولكن مهما يكن حكمنا على هذا المذهب الذي ابتدعه هرقل وبطارقته الشرقيون الثلاثة، ومهما تكن صورته التي أطلع القبط عليها، وسواء كانوا على الحق أو على الباطل، فإنهم تلقوه بكراهة شديدة بادئ ذي بدء، فلم يطيقوا أن يخطر ببال أحد أن يغير ذرة من أصول عقيدته أو لفظا من شعار مذهبه، وعدوا ذلك خيانة لدينهم واستقلالهم بأمره، وقد كان استقلالهم في أمور الدين أكبر ما تتعلق به نفوسهم؛ فإنهم لم يعرفوا الاستقلال القومي قط،
18
ولعلهم لم يحلموا يوما بمثل ذلك الأمل، وأما الاستقلال في أمر الدين فقد ناضلوا من أجله، وجاهدوا في سبيله، لم ينثنوا عن ذلك في وقت من الأوقات منذ مجلس خلقيدونية، وكانوا حريصين على بلوغ ذلك الغرض لا تغفل عنه قلوبهم، ولا يحجمون عن بذل كل شيء في سبيله مهما عظم. ذلك هو سر حوادث تاريخهم جميعا.
ولما رأى «قيرس» أنه لم يستطع أن يستميل القبط بالخداع، ولا أن يحملهم على ما أراد برميهم بالكفر واللعنة، لجأ إلى ما هو أشد من ذلك. ولا نقدر أن ننكر أن هرقل كان شريكه فيما لجأ إليه من العسف، ولكن الإمبراطور حاول مرة أخرى بعد ذلك أن يصل إلى غرضه من توحيد المذاهب؛ فإن سرجيوس لما رأى أن الناس لم يقبلوا المذهب القائل بأن لله إرادة واحدة وفعلا واحدا ينفذها به، اقترح أن يقر الناس بأن الله له إرادة واحدة، وأما المسألة الأخرى وهي نفاذ تلك الإرادة بالفعل، وهل ذلك الفعل واحد أو مزدوج، فيرجئ القول فيها ويمنع الناس أن يخوضوا في مناظراتها، ثم أرسل إلى الباب في روما وهو «هونوريوس» فأخذ منه إقرارا لهذا الحل، وإن شئت فقل إنه لم يكن حلا ولكنه كان هروبا وتخلصا من المشكلة، ثم جعل ذلك في رسالة رسمية، وبعث بها إلى جميع جهات العالم الشرقي، وتقدم إلى الناس أن يعتقدوه ويتبعوه، وأمر البطريق سرجيوس حنا قائد الشرطة أن يحمل صورة من الأمر إلى «قيرس»، وأرسل معه هدية
19
صليبا له قدر عظيم من القداسة ، ولكن أثر تلك الرسالة لم يكن سوى أن زاد المعارضة والرفض، ورأى الإمبراطور أن «صفرونيوس» عدو لسعيه
20
لا يفل حده ولا تخور همته، وقد كان حاول من قبل أن يستميله أو يسكت لسانه بأن اختاره بطريق بيت المقدس، فلم يغنه ذلك شيئا. وأما القبط فقد وجدوا أن الصيغة الثانية للمذهب الجديد إذا كان فيها ما يخالف الصيغة الأولى فهي أشد منها وأكره مذاقا.
وإنه لمن أبعد الأمور أن تكون الصيغة الأولى للمذهب، أو الرسالة التي بعثت فيها الصيغة الثانية له، قد بلغت أقباط مصر في غير الإسكندرية؛ فإن ما تخلف من أخبار القبط لا أثر فيه لذكر صيغة المذهب الجديد، أو أن شيئا مثل ذلك عرض عليهم. ولعل هذا أدعى ما في الأمر للحزن والأسى؛ إذ لا يذكر في ذلك العصر كله في أثناء الاضطهاد إلا شيء واحد، وهو أن الروم كانوا يخيرون الناس بين قبول مذهب خلقيدونية بنصه - وهو كتاب «ليو» - وبين الجلد أو الموت، ولم يكن في عقول مؤرخي القبط إلا هذا الاعتقاد يدونونه في دواوينهم، فيلوح من ذلك أن قيرس أحس بإخفاقه في سعيه من مبدأ الأمر، وكان يود أن يحمل القبط على المذهب الذي تقرر مهما تكلف في سبيل ذلك، فلم يعبأ بعد بما أدخله الإمبراطور على هذا المذهب من التهذيب، بل كان يعرض على الناس أحد أمرين لا تعقيد فيهما، وهما قبول الدخول في الجماعة أو الاضطهاد.
وكانت البلاد كلها عند ذلك تحت يد «قيرس» المقوقس يصرفها كيف شاء، وكان جيش الرومان مرة أخرى يملك مصر، فكانت طرق الإسكندرية البراقة تتجاوب جوانبها بأصداء الكتائب البيزنطية إذ تسير فيها، وعادت جنود الروم إلى الأسوار العظيمة أسوار المدينة وآطامها، ووضعت عليها آلات حربها، وبعثت المسالح إلى مدينة الفرما (بلوز)، وهي ثغر الطريق الآتية من فلسطين إلى مصر، وإلى بلاد مصر السفلى مثل أثريب ونقيوس، وكذلك إلى الحصن العظيم حصن «بابليون» بقرب ممفيس؛ ومن ثم عاد سلطان الروم، فانتشر على بلاد الفيوم ووادي النيل حتى بلغ الحدود من الجنوب عند أسوان في أسفل الجنادل، وكانت كل تلك الجنود والكتائب عند أمر «قيرس» ماثلة لإنفاذ أمره إذا ما دعاها. ولم يتحرك القبط بطبيعة الحال عندما عاد جند الروم إلى البلاد، ولكنهم وجدوا بعد قليل أن حكم الفرس إن لم يكن مما يحب ويرغب فيه، فإن حكم الروم الجديد لم يكن حدثا يحمدونه ويفرحون من أجله؛ فقد وجدوا فيه أنواع العقاب وصنوف العذاب، فكأنهم وقد خرجوا من حكم الفرس إلى حكم الروم قد رفع عنهم التعذيب بالسياط ليحل بهم تعذيب آخر من لسع العقارب؛ إذ بينا كان غزاة الفرس بعد أن استقر بهم الأمر في البلاد لا يحولون على الأقل بين القبط وبين التدين بما يشاءون من الدين، جاء «قيرس» المقوقس وصمم على أن يحرمهم تلك الميزة الكبرى وينزعها من أيديهم.
وابتدأ الاضطهاد الأعظم عند ذلك. ويتفق المؤرخون جميعا على أنه بقي مدة عشر سنوات؛ أي إنه بقي كل مدة ولاية قيرس رياسة الدين؛ فإن أكبر الظن أن مجمع الإسكندرية كان في شهر أكتوبر من سنة 631، وقد بدأ عهد الاضطهاد بعد ذلك بشهر واحد أو بشهرين. ولا يشك أحد في فظاعة ذلك الاضطهاد وشناعته؛ فقد جاء في كتاب «ساويرس»: «لقد كانت هذه السنين هي المدة التي حكم فيها هرقل والمقوقس بلاد مصر، ففتن في أثنائها كثير من الناس لما نالهم من عسف الاضطهاد والظلم، ومن شدة العذاب الذي كان يوقعه هرقل بهم لكي يحولهم على رغمهم عن مذهبهم إلى مذهب خلقيدونية؛ فكان يعذب بعضهم ويعد البعض أحسن الجزاء، ويمكر بالبعض ويخدعهم.» وقد جاء في ترجمة حياة البطريق القبطي «إسحاق»،
21
وكانت كتابتها سنة 695، أنه في شبابه لقي قسا اسمه يوسف كان ممن شهروا بين يدي «قيرس» وجلد جلدا كثيرا لأنه شهد شهادة الحق. وكذلك كان أخو «بنيامين» ممن عذبوا ثم قتل غرقا، وكان تعذيبه بأن أوقدت المشاعل وسلطت نيرانها على جسمه، فأخذ يحترق «حتى سال دهنه جانبيه إلى الأرض»،
22
ولكنه لم يتزعزع عن إيمانه، فخلعت أسنانه ثم وضع في كيس مملوء من رمل، وحمل في البحر حتى صار على قيد سبع غلوات من الشاطئ، ثم عرضوا عليه الحياة إذا هو آمن بما أقره مجلس «خلقيدونية»، فعلوا ذلك ثلاثا وهو يرفض في كل مرة، فرموا به في البحر فمات غرقا. وقال الكاتب الذي كتب ترجمة حياة بنيامين: «ولكنهم بفعلهم هذا لم يقهروا «ميناس» الذي مات شهيدا، بل قد غلبهم هو بصبر الإيمان المسيحي.»
وإليك دليلا آخر جاء في ترجمة حياة صمويل «القلموني»،
23
وقد كتبت تلك الترجمة في أيام «قيرس»، وجاء فيها وصف جلي لما فعله «قيرس» نفسه من الأفاعيل في هذا الاضطهاد؛ ولهذا كان لنا العذر إذا نحن نقلنا هنا بعض ما جاء فيها في شيء من الإفاضة. تصف القصة أن البطريق «قيرس» جاء إلى الدير فوجده خلاء ممن فيه إلا من خازنه، فقبض عليه وجلده وأخذ يسأله، فقال له الخازن: «لقد جمع صمويل الزاهد رهبان الدير وخطب فيهم فأطال، ووصفك بالكفر، وبأنك يهودي من أتباع «خلقيدونية» ولا تؤمن بالله، وبأنك لست أهلا لأن تقيم الصلاة، ولا أن يعاملك المؤمنون. فلما سمع الرهبان قوله هذا هربوا قبل مقدمك.» فلما سمع الكافر الفاسق ما قاله الخازن ثار ثائره وعض شفتيه من الغيط، وسب الخازن والدير ورهبانه، ومضى عنه. قال كاتب الترجمة: «ولم يعد للدير بعد ذلك إلى يومنا هذا.»
24
فلما ذهب رجع الإخوان إلى ديرهم آمنين. وأما الكاوخيوس (المقوقس) ذلك البطريق الدعي فقد ذهب إلى الفيوم والغيظ يأكل قلبه، ودعا هناك أصحابه وأتباعه، وأمرهم أن يأتوا له بالعابد «الأبا صمويل» مكتوف اليدين من خلاف، وأن يضعوا في عنقه طوقا من الحديد، وأن يدفعوا به كما يدفع باللصوص. فذهبوا إلى الدير الذي كان فيه وقبضوا عليه.
وذهب صمويل مستبشرا في صحبة الله وهو يقول: «سأمنح إن شاء الله اليوم الشهادة بأن يسفك دمي في سبيل المسيح.» ثم جعل يسب المقوقس لا يخشى شيئا. وأدخله الجنود عليه، فلما رأى المقوقس ذلك الولي أمر جنده أن يضربوه حتى سال دمه كما يسيل الماء، ثم قال له : «صمويل أيها الزاهد الشقي! من ذا أقامك رئيسا للدير وأمرك أن تعلم الرهبان أن يسبوني ومذهبي؟» فقال له العابد (الأبا صمويل): «إن البر في طاعة الله وطاعة وليه البطريق «بنيامين»، وليس في طاعتك والدخول في مذهبك الشيطاني يا سلالة الطاغوت، ويا أيها المسيخ الدجال!» فأمر «قيرس» جنده أن يضربوه على فمه، وقال: «لقد غرك يا صمويل أن رهبانك يجلونك ويعلون من شأن زهدك؛ ولهذا تجرأت وقويت نفسك، ولكني سأشعرك أثر سبابك للعظماء؛ إذ سولت له نفسك ألا تؤدي لي ما يجب عليك أن تؤديه لعظيم رجال الدين وكبير جباة المال في أرض مصر.» فأجابه صمويل: «لقد كان إبليس من قبل كبيرا على الملائكة، ولكن كبره وكفره فسقا به عن أمر ربه، وهكذا أنت أيها الخادع «الخلقيدوني»؛ فإن مذهبك مذموم، وإنك أشد لعنة من الشيطان وجنوده.» فلما سمع المقوقس ذلك امتلأ قلبه بالغيظ على ذلك الولي، وأومأ إلى الجند أن يقتلوه. وقصارى القول أن ذلك الكافر أراد أن يقتل الولي، ولكن حاكم الفيوم خلصه من يديه، فلما رأى قيرس أن صمويل نجا منه أمر به أن يطرد من جبل نكلون.
25
وقد جاء مثل هذا الخبر في الترجمة الأثيوبية لحياة «الأبا صمويل»، وقد جاء فيها ذكر رجل اسمه «مكسميانوس»، وأنه أتى إلى دير صمويل في الصحراء ومعه مائتا جندي، وأنه أعطاه كتابا يؤمر فيه بالإيمان بمذهب خلقيدونية،
26
فمزقه صمويل ورمى به من باب الكنيسة وهو يقول: «ليس لنا من رئيس إلا بنيامين، ولعنة الله على ذلك الكتاب الكافر الذي جاء من الإمبراطور الروماني، ولعنة الله على مجمع خلقيدونية وكل من آمن بما أقره!» فضرب صمويل حتى ظن أنه مات ثم غودر، ولكنه عاد إلى نفسه، وسار إلى القلمون حيث عاد لمحادته لقيرس وما أعقبها كما أسلفنا وصفه.
27
وإذا كان مثل هذا العسف يجري في الصحاري، فما بالنا بما كان يحدث للقبط في بلاد مصر السفلى والصعيد؟ فلقد كان حظ من يأبى منهم أن يتخلى عن عقيدته أو ينازع قيرس في أمره أن يجلد ويعذب، أو يلقى به في السجن، أو يلقى الموت، فكانت تقام أساقفة للملكانية في كل بلد من مصر حتى أنصنا
28
من بلاد الصعيد، في حين كان قسوس القبط يقتلون أو يشردون في أنحاء الأرض يلتمسون فيها ملاذا. وكان السعي حثيثا غير منقطع وراء بنيامين، ولكن لم يعثر عليه في مكان. وقد جاء في كتاب «ساويرس» أنه كان يتنقل من دير محصن إلى آخر، وجاء في ترجمة حياة شنودة
29
ما يفهم منه أن بنيامين لجأ إلى دير الأنبا شنودة، وهو الدير العظيم المعروف بالدير الأبيض، على أن هذه الرواية تختلف عما تواتر من الأخبار عن أنه إنما لاذ بدير في الصحراء قريب من «قوص»، ولعل الدير الأبيض كان مع قوة حصونه ومنعة أسواره العظيمة غير كفيل بحماية بنيامين مدة طويلة لقربه من النيل، في حين أنه كان يستطيع أن يجد ملاذا آمنا لا تصل إليه أيدي أعدائه في جبال صحراء قوص، وما بها من المغاور الكثيرة والكنائس المنقورة في الصخور.
وليس من العجيب أن يفتتن كثيرون ممن لم يستطيعوا الهجرة والهرب وأن يخضعوا لما شاء قيرس منهم؛ فقد كان حكمه حكم إرهاب. وإذا كان القبط لم تخمد نفوسهم فما كان لشعب بأجمعه أن يستشهد في سبيل الدين؛ فدخل جماعة من الأساقفة في المذهب الجديد مذهب عدوهم، ومن هؤلاء أسقف «نقيوس»
30
واسمه «قيرس»، وأسقف الفيوم «فكتور»، ولا شك أن عدواهم انتقلت إلى سواهم. أما من لم يستطع الهرب من الناس والخروج إلى الصحراء، وكان مع ذلك غير راض عن ترك مذهبه، فقد لجأ إلى التقية، وأظهر غير ما يبطن، حتى لقد بقيت في الإسكندرية ذاتها بقية من القبط في سني الاضطهاد العشر، مع أنهم لم يكن لهم بها إمام من مذهبهم اللهم إلا قس واحد من أهل مريوط اسمه «أجاثو»، وكان كل يوم يخاطر بحياته في سبيل دينه؛ فكان يخفي نفسه في لباس نجار، ويسير في أنحاء المدينة في النهار يحمل على ظهره كيسا قد وضع فيه آلاته وعدته، فإذا ما جاء الليل ذهب إلى الكنيسة كي يقيم شعائر العبادة لإخوانه القبط. وقد صار هذا القس فيما بعد أكبر أصدقاء بنيامين، وخلفه بعد موته على ولاية الدين.
وروي أن دير «مطرة»، ويسمى بدير «السفونية»، نجح في مقاومة «قيرس»، وكان ذلك الدير في الإسكندرية أو قريبا منها، وكان السبب في أنه بقي على عهده لم يتغير أن كل رهبانه كانوا مصريين خلصا ليس فيهم غريب واحد.
31
والظاهر أن المصريين سعوا مرة إلى التخلص من «قيرس» مع ما كانوا عليه من الصبر والاحتمال الطويل؛ فقد أثار حفيظتهم ما رأوه من فعله؛ إذ تارة ينهب أواني كنائسهم الثمينة لا يرقب فيها إلا ولا ذمة، وتارة يضربهم أو يسجنهم. فاجتمع أتباع الطريقة «الجايانية» في كنيسة «دفاشير» بقرب مريوط، وتآمروا على قتل ذلك الظالم، ولكن سمع بهذا الاجتماع «ضابط» روماني اسمه «أودوقيانوس»، وهو أخو «دومنتيانوس»، وكان عدوا شديد العداوة للقبط، فأرسل جندا وأمرهم أن يذهبوا إلى المتآمرين فيقتلوهم، فكان ذلك، وقتل الجنود بعضهم وجرحوا منهم البعض بسهامهم، وقطعوا أيدي طائفة منهم بغير أن يسمعوا منهم شهادة أو يقوموا معهم بشيء يشبه القضاء؛ وبذلك قضى على المكيدة ونجا قيرس من الخطر.
32
وقد أوردنا هذه القصص جميعها لكي ندل بها دلالة واضحة على شدة الاضطهاد وعنفه. وإنه ليخيل إلى الإنسان أنه من المستبعد أن يبقى مثل هذا الاضطهاد عشر سنوات، ولكن هذا هو الحق الذي لا مراء فيه؛ فقد جاء في ديوان «حنا النقيوسي» ما يأتي: «وظل قيرس إلى ما بعد موت هرقل عندما عاد إلى مصر (وذلك في سنة 641 بعد نفيه من البلاد أو غيابه عنها فترة) لم يذهب عنه حقده على عباد الله، ولم يمتنع عن اضطهادهم، بل زاد قسوة على قسوة.» وقد جاء مثل هذا القول في كتاب «ساويرس» إذ قال: «فكان هرقل كأنما هو ذئب ضار يفتك بالقطيع ولا يشبع نهمه، وما كان ذلك القطيع إلا طائفة «التيودوسيين».»
33
ولكن ما كان الاضطهاد إلا ليزيد من استطاعوا مقاومته إيمانا إلى إيمانهم، بدل أن يفتنهم عنه ويقضي عليه. فكانت الشدائد تتوالى بمذهب القبط، والمصائب تفتك بأصحابه، ولكنه ظل قويا لم تلن قناته، وبقي أكثر الناس على إيمانهم ثابتين أقوياء، ولكن حد ذلك البطش كان قد بلغ نفوسهم فثلمها، وجعل الداء ينخر في جراحهم مدة ظلم تلك السنوات العشر وظلامها، فكان ذلك سببا في ضياع كل أمل في عودة السلام والوفاق بين الطائفتين المتنازعتين؛ إذ استفحل الأمر، واستمر مرير العداوة والكراهة لسلطان الدولة البيزنطية ودينها جميعا.
وليت شعري ماذا كان يدور بنفوس أهل مصر إذ ذاك، وبأي عين كانوا ينظرون إلى تلك الحركة العظيمة التي ثارت في بلاد العرب، فما زالت حتى قرعت بلاد الشام وهزت مدائنها هزا. إنا نقول، وإن قولنا لمما يشرف القبط، إننا لا نجد أقل دليل يبعثنا على الظن أنهم نظروا إلى تلك الحركة نظرة الميل والرضا. على أنهم لا بد قد بلغهم أن المسلمين يدعون للمسيحيين أمور دينهم، وفعلهم قد خطر بقلوبهم عند ذلك أن الخضوع للمسلمين قد يخفف من الآلام التي نغصت عليهم حياتهم، وأن نير المسلمين قد يكون أخف حملا من نير الملك الأصيل في دين المسيح وهو هرقل. لا شك في أنهم قد كرهوا دين الإسلام، وتدل على ذلك كل صفحة من صفحات تاريخهم، ولكن سيف «قيرس» قطع آخر ما كان يربطهم إلى الدولة الرومانية من أسباب الولاء؛ وذلك لكثرة ما لاقوه في مدة السنوات العشر من الظلم الذي نزل بهم إلى حضيض من الشقاء لا أمل معه، فرأوا في مجيء المسلمين نازلة أرسلها الله لينتقم لهم بها من ظالميهم.
وهكذا دفع سوء الحكم خير بلاد الدولة الإمبراطورية إلى مأزق ما أضيقه. ولسنا نستطيع أن نعرف جناية من هذه؛ أهي جناية هرقل وقد أطاعه المقوقس فيما أمر به من الشر، أم هي جناية المقوقس وقد عصى سيده وخان أمانته؟ فمن الجلي أن هرقل كان يقصد في مبدأ أمره إلى قصد نبيل، فما كان أعظم أن يخلع على الكنيسة من السلام مثلما خلع على الدولة، ولكنه لم يعرف ثبات الناس على أديانهم وحرصهم عليها، ولم يعرف أن الدين كان متغلغلا في أعمق فجاج الدولة، وأنه إذا شاء أن ينزعه منها بالقوة كان في ذلك أشد الخطر على حياتها. وكذلك كان اختياره لمن ينفذ له أغراضه غير موفق؛ فقد أرسل إلى مصر رجلا ليعيد السلام فإذا به ظالم عات، وأرسل كلمة يقصد بها نشر السلام فلم يؤدها الرسول أو لم يسمع بها الناس. وأما الاضطهاد فلا شك في أنه قد وافق عليه وأقره، ولكنه قد يكون أقره بعد أن لم يجد عنه محيصا، في حين أن قيرس لجأ إلى العسف بادئ ذي بدء ولم يلجأ إلى وسيلة سواه. ومهما يكن من شيء فقد كان رأي الإمبراطور في القضاء على اختلاف المذاهب بأمر يأمر به، رأيا بعث به الخيال والوهم؛ فقد ظن أنه يستطيع بكلمة سحر يقولها أن يهدئ العواصف الثائرة من الخلاف في المذاهب، فما كان منه إلا أن زاد العاصفة شدة، ولم يستطع الصبر على الخيبة، ولم يرض أن يدع الأمور إلى الزمن ويلزم جانب الاعتدال، فعزم على أن يسعى للسلام بخوض حرب دينية في مصر والشام، فكان بعمله هذا يمهد السبيل في القطرين لمطلع جنود الإسلام.
الفصل الرابع عشر
مسير العرب إلى مصر
الظاهر أنه بعد أن سلم البطريق «صفرونيوس» الشيخ مدينة بيت المقدس، سار عمر بن الخطاب الخليفة وعمرو بن العاص القائد وذهبا كلاهما نحو الشمال، وقد أرسل عمرو مددا للعرب المحاصرين لقيصرية،
1
وأما عمر فقد أقام في دمشق. ولعل عمرا قد أفضى إليه برأيه في فتح مصر منذ كانا في بيت المقدس، ولكن الخليفة رأى أن وقت ذلك الفتح لم يحن بعد. فلما ظهر العرب وانتهت الحرب أو كادت، عاد عمرو إلى عرض رأيه، وجعل يبين للخليفة ما كانت عليه مصر من الغنى، وما كان عليه فتحها من السهولة، وقال له إنه ليس في البلاد ما هو أقل منها قوة
2
ولا أعظم منها غنى وثروة، ثم قال إن «أريطيون» حاكم الروم على بيت المقدس - وكان قد هرب من المدينة قبل تسليمها إليهم - قد لاذ بمصر، وإنه كان يجمع فيها جنود الدولة، وإن على العرب ألا يضيعوا الوقت، بل أن يوقعوا به قبل أن يستفحل الأمر،
3
وإن مصر بعد ذلك تكون قوة للمسلمين إذا هم ملكوها. وكان اجتماع القائد بالخليفة في «الجابية»
4
بقرب دمشق، وذلك في خريف سنة 630 للميلاد، وكان العرب لا يزالون على حصار مدينة قيصرية.
وقد رأى عمر أن فتح مصر فيه خير للمسلمين، ولكنه ظن أن عمرا يقلل من شأن ما يلقاه من الصعوبة في فتحها، وكان في ذلك الوقت لا يستطيع أن يضعف جند الشام بأن يبعث منهم جيشا كافيا لفتح مصر. فلما طلب منه عمرو أن يسير إلى مصر بجيش من 3500 أو 4000 رجل وعده أمير المؤمنين أن يفكر في الأمر؛ فإنه كان لم يستقر على رأي في ذلك، ثم عاد عمرو بن العاص إلى قيصرية وكان قسطنطين بن هرقل قائد الجند بها، فبعث الخليفة وراءه بكتاب مع «شريك بن عبدة»
5
يقول له فيه إنه قد رضي بغزو مصر، وتقدم إليه أن يجعل الأمر سرا، وأن يسير بجنده إلى الجنوب سيرا هينا. فسار عمرو بن العاص في الليل في جيش صغير من الخيل، ولم يحدث له حدث حتى صار عند الحدود بين مصر وفلسطين، وسار بعد ذلك حتى صار عند رفح،
6
وهي على مرحلة واحدة من العريش بأرض مصر، فأتت عند ذلك رسل تحث المطي تحمل رسالة من الخليفة.
انظر وصف هذه الأماكن فيما الخليفة لا بد قد عاد إلى شكه في الأمر خاشيا من الإقدام والمضي فيما عزم عليه. وقد كان الخليفة كلم عثمان وأفضى إليه بما يرى من المخاطر في تلك الغزاة، فأجابه عثمان قائلا إن تلك الغزاة كانت عظيمة الخطر، وزاد على ذلك أن قال إن عمرو بن العاص فيه جرأة وتهور، وإنه لا بد يقتحم بالناس المخاطر ويرمي بهم إلى الهلكة. فخشي عمر بن الخطاب خشية عظيمة، وعزم على أن يأمر ابن العاص بالرجوع إذا كان ذلك ممكنا، ولكنه أحس أن جيش العرب إذا دخل مصر كانت عودته عنها خذلانا وسبة للمسلمين؛ إذ يكون ذلك بمثابة الفرار من العدو؛ وعلى ذلك أرسل كتابه وتقدم فيه إلى عمرو بن العاص أن يعود إذا كان بعد في فلسطين، فإذا كان قد دخل أرض مصر فليسر على بركة الله، ووعده أن يدعو الله له بالنصر وأن يرسل له الأمداد.
7
أما عمرو فقد كان بدأ أمره، ولم يكن بالرجل الذي ينقض ما بدأ فيه، وعرف أن ذلك الكتاب الذي لحق به لم يأته بالرضا عما هو فيه؛ ولهذا لم يأخذه من الرسول حتى عبر مهبط السيل الذي ربما كان الحد بين أرض مصر وفلسطين، وبلغ بسيره الوادي الصغير الذي عند العريش، وهناك أتى له بالكتاب فقرأه، ثم سأل من حوله: «أنحن في مصر أم في الشام؟» فقيل له: «نحن في مصر.» فقرأ على الناس كتاب الخليفة ثم قال: «إذن نسير في سبيلنا كما يأمرنا أمير المؤمنين.»
8
ولا شك في أن عمرا لقي من الناس الجواب الذي كان يرغب فيه.
ولنا هنا ملاحظة غريبة، وهي أن العريش وإن كانت تعد عادة من بلاد مصر لا يخلو أمرها من الشك،
9
غير أن سياق القول يدل على أنها كانت خلوا من جيش الروم مع أنها كانت مدينة ذات حصون، وكانت أسوارها لا تزال منها بقية ماثلة بإزاء البحر إلى القرن الثالث عشر، وكذلك كانت أطلال الكنيستين العظيمتين القديمتين. وكان يقال في ذلك الوقت إن أجود أنواع المرمر وأعظم العمد التي في القاهرة كانت تأتي من العريش،
10
وما أعجب هذا! وقد روى بعض المؤرخين أن سور مصر العظيم كان يبدأ من هناك ويتجه إلى القلزم (وهي السويس)، ثم يتجه مع شاطئ النيل الشرقي إلى الجنوب حتى الجنادل الأولى. ويقال إن من بنى ذلك السور هو «سيزوستريس»، وقد سماه العرب «سور العجوز»، ولكنه كان قد تهدم منذ زمن طويل، حتى إنه لم يعق سير الجند في القرن السابع، وقد بقيت من أطلاله إلى اليوم قطع عند جبل الطير وفي مواضع أخرى في مصر.
11
وقد أقام جيش العرب الصغير عيد الأضحى في العاشر من ذي الحجة من عام 18 للهجرة، وهو اليوم الثاني عشر من ديسمبر سنة 639
12
للميلاد، وهو عيد القربان وعيد الحج عند المسلمين، وكان الاحتفال غير خال من الجد والرونق بين هؤلاء العرب الذين كانوا يسيرون مع زعيمهم العظيم تربطهم به روابط النسب والولاء، وذلك مع ما كانوا عليه من قلة - إذ كانوا لا يعدون أن يكونوا كتيبة من جند الصحراء - ومع عظيم ما جاءوا له؛ إذ جاءوا لفتح بلاد الفراعنة. وكان أكثر من مع عمرو من الجند من قبيلة «عك»، وإن كان الكندي يقول إن ثلث الناس كانوا من «غافق».
13
ويروي ابن دقماق أنه قد كان مع جيش العرب جماعة ممن أسلم من الروم، وقد سماهم في كتابه، وقال أيضا إنه قد كان مع جيش العرب جماعة ممن أسلم من الفرس الذين كانوا باليمن، ولعل هؤلاء جاءوا فيما بعد مع الأمداد التي بعث بها الخليفة إلى مصر.
14
والآن فلننصرف إلى عمرو نفسه، فأي رجل كان هو بين الرجال؟ لقد جاء في الأخبار كثير من أقواله وذكر صفاته، وإذا نحن أردنا أن نكتب تاريخ فتح العرب لمصر كان لزاما علينا أن نكتب شيئا عن قائد ذلك الفتح. كان عمرو بن العاص في نحو الخامسة والأربعين من عمره في وقت غزو مصر،
15
وكان قصير القامة وقوي البنية، مرن الأعضاء، تعود جسمه احتمال المشقة. وقد ساعده ذلك على أن يبرز في أفانين الفروسية والضرب بالسيف، وهي الفنون التي اعتاد أهل الفروسية في الغرب أن يقرنوها باسم العرب.
16
وكان عريض الصدر بعيد ما بين المنكبين، له عينان سوداوان ثاقبتان سريعتا التأثر، سواء أكان ذلك في حال الغضب أم في حال السرور، وفوقهما حاجبان غزيران، ودون ذلك فم واسع، وكان وجهه ينم عن القوة في غير شدة، وتلوح عليه لائحة البشر والأنس، وكان يخضب لحيته بالسواد. هذا كل ما رواه لنا المؤرخون من وصف مظهره، ولعل وصفه بأنه تمتام كان وصفا غير صحيح . حقا إن أبا المحاسن روى
17
عن عمرو ذلك العيب، وقال إنه العيب الوحيد فيه، ولكنه كان معروفا بسرعة رده وحدة ذهنه في الإجابة المسكتة، كما كان معروفا بطول خطبه وبلاغتها؛ فالظاهر من ذلك أن من وصفه بأنه تمتام كان واهما، ولعل ذلك الوهم كان أثر خلط وسوء فهم؛ فقد روي
18
عن عمر بن الخطاب أنه سمع مرة رجلا يتلجلج في الكلام، فقال: «أشهد أن خالق هذا وخالق عمرو بن العاص واحد.» وليس معنى هذا أن عمرا كان تمتاما، بل يقصد بذلك القول أن الله تعالى خلق الأبكم والمفصح كليهما، وذلك مثل ما روي عن عمرو بن العاص نفسه إذ أحرج صدره أحد الجهلاء يوما فقال يعرض به: «إنه كذلك من مخلوقات الله تعالى.» ولكن قول عمر بن الخطاب قد أخرجه جماعة من كتاب العرب عن معناه، وأولوه بأن المقصود منه أن عمرا كان يتلجلج في كلامه، ولو قصد عمر بن الخطاب ذلك لكان قوله لا معنى له، وفيه اعتداء على عمرو، وذلك لا يتفق مع مكانة عمرو في قومه وما عرف عنه من الفصاحة في الكلام. ولو كان متصفا بذلك العيب لما اختاره النبي - عليه الصلاة والسلام - من أول إسلامه وجعله من كبار قواده، بل وما استطاع أن يكون يوما ما زعيما عظيما بين الناس. وبعد، فإن عمرا كان فوق ذلك كله إماما يؤم الناس في صلاتهم، وظل كذلك إلى آخر أيامه، وإن الشرع الإسلامي ينص على أنه لا يصح للتمتام أن يصلي بالناس؛
19
وعلى ذلك يكون ما روي من أن عمرا كان متصفا بذلك العيب خبرا غير جدير بالتصديق.
وأما سائر صفاته فقد جاء من أخباره وأقواله ما يدل عليها وعلى حوادث حياته؛ فقد كان من قريش، ونسبه معروف،
20
وكان إسلامه في السنة السابعة أو الثامنة للهجرة، ويروى عن إسلامه خبر أو اثنان، فقد سئل مرة:
21 «ما عاقك عن الإسلام تلك المدة الطويلة مع رجحان عقلك؟» فأجاب: إنه كان في أول أمره يخشى سوء رأي مشيخته، فلما كبر وميز أخذ نفسه بالهوادة في معارضة النبي. وقد أرسلت إليه قريش واحدا من قومها يسأله عن إسلامه، فجعل عمرو يسائل من جاء يسأله فقال له: «أي الناس على دين الحق؛ أهم العرب أم الفرس أم الروم؟» فقيل له: «بل العرب.» فقال: «أنحن أكثر منهم مالا أم هم أكثر منا؟» فقيل له: «بل هم.» فقال له: «فأي فضل إذن للعرب على الفرس والروم إذا لم تكن ثم حياة في الآخرة؛ فإنهم قد ذهبوا بخير هذه الحياة الدنيا جميعا.» ثم قال عمرو إنه قد أسلم وآمن بالنبي واليوم الآخر وبالعقاب والثواب بعد الموت، وعزم على ترك الباطل؛ أي دين العرب القديم. وقيل إن عمرا أسلم منذ كان في الحبشة، وإن إسلامه كان على يدي جعفر بن أبي طالب.
وروي في الخبر أن عمرا قال مرة للنبي: «يا رسول الله، إني أبايعك على أن يغفر لي ما مضى من ذنبي.» فقال له النبي: «إن الإسلام والهجرة
22
يجبان ما كان قبلهما.» فكان عمرو لا يرفع عينه من وجه النبي عرفانا منه لصنيعه، وكان يقول: «والله ما كنت أملأ عيني منه أو أنظر إلى وجهه، ما أردت إلا رأيت الحياء في وجهه.»
23
وكان النبي - عليه الصلاة والسلام - يرى في عمرو رأيا حسنا، وقد قال فيه يوما: إنه من خير المسلمين وأكثرهم ثقة.
24
وقال فيه أيضا: إنه من «صالحي قريش». وكان يحبه لحسن رأيه ولشجاعته، وكان لعمرو أخ من أبيه اسمه هشام قتل يوم اليرموك، وقد سئل عمرو عنه فقال: «حسبكم أن أقول إن أمه أم حرملة عمة عمر بن الخطاب وأمي عنزية، وكان أحب إلى أبي مني، وبصر الوالد بولده ما قد علمتم، وأسلم قبلي، واستبقنا إلى الله فاستشهد يوم اليرموك وبقيت بعده.»
وكان أكبر ما امتاز به عمرو أن النبي نفسه عقد له على بعض سراياه، وقال له عند ذلك إنه قد أمره على الناس ودعا له بالسلامة والغنيمة، فقال عمرو عند ذلك إنه لم يسلم للمال بل أسلم لوجه الله، فقال له النبي: إن المال الحلال خير ما يرزأ المؤمن. وأكبر الظن أن عمرو بن العاص لم ينس تلك الحكمة فيما بعد، وكان على قيادة كتيبة من الكتائب في يوم السلاسل، فأرسل يستمد النبي، فأرسل إليه مائتي رجل فيهم أبو بكر وعمر وعليهم أبو عبيدة بن الجراح، فلما أقبلوا عليه قال عمرو: «أنا أميركم وأنتم لي مدد.» فقال أبو عبيدة: «لا، بل أنا أمير على من معي، وأنت أمير على من معك.» فأبى عمرو هذا، فقال أبو عبيدة: «لقد قال لي رسول الله
صلى الله عليه وسلم
لا تختلفا، وإنك إن عصيتني أطعتك.» فقال عمرو: «فإني آبى أن أطيعك.» فسلم عليه أبو عبيدة عند ذلك بالإمارة، ووقف وراءه في الصلاة.
وقد عقد النبي لعمرو بعد وقعة السلاسل على عمان، فظل عليها حتى لحق النبي بربه. وبعد سنة أو سنتين من ذلك جعله أبو بكر أحد القواد الذين سيرهم إلى الشام، وفي تلك الحرب نما أمره وذاع اسمه في معرفته بمكيدة الحرب والشجاعة. وقد آلمه تقديم أبي عبيدة عليه إذ أمره عمر في أول خلافته، ولكن لعل أجلى ما جاء في وصفه ما قاله هو عن نفسه دفاعا عندما سمع أن بعض الناس يعذل معاوية على تقديمه إياه.
25
قال: إنني من تمثل يوم صفين بقول من قال:
إذا زاغت الأبصار حولي رأيتني
وطرفي ثبيت لم يكل ولم يغض
وأغمضت عيني منذ خابوا ولم يكن
عن الموت يوم الروع ما كان من غمضي
وقد علمتم أنني الكرار في الحرب، وأنني الصبور على غير الدهر، لا أنام عن طلب، كأنما أنا الأفعى عند أصل الشجرة. ولعمري لست بالواني أو الضعيف، بل أنا مثل الحية الصماء لا شفاء لمن عضته، ولا يرقد من لسعته. وإني ما ضربت إلا فريت، ولا يخبو ما شببت. عرفني أصحابي يوم الهرير أنني أشدهم قلبا، وأثبتهم يدا، أحمي اللواء وأذود عن الحمى، فكأني وشانئي عند قول القائل:
وهل عجب إن كان فرعي عسجدا
إذا كنت لا أرضى مفاخرة العشب
وإن مثل هذا القول ليظهر الرجل في اعتداده بنفسه ومعرفته لمقدارها. ولا شك في أن عمرا قد أظهر شيئا من قلة التعفف في الخلاف الذي أعقب يوم صفين؛ فقد روى الذهبي أنه هتك ما كان معاوية يتستر به من النفاق والادعاء في أيام وقعة صفين، إذ قال: «يا معاوية أحرقت قلبي بقصصك. أترى أننا خالفنا عليا لفضل منا عليه؟ لا والله إن هي إلا الدنيا نتكالب عليها. وايم الله لتقطعن لي قطعة من دنياك أو لأنابذنك.» ولا يسع المطلع على ما كان منه في أمر التحكيم إلا أن يرى في عمله خيانة وخدعة لأبي موسى، فكان أبو موسى كلما صلى قرن دعاءه بلعن عمرو، وقد قال له مرة: «ما مثلك يا عمرو إلا كمثل الكلب، إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث.» فقال له عمرو: «وما مثلك أنت إلا كمثل الحمار يحمل أسفارا.»
26
وقال ابن الحجر إن أحد أصحاب عمرو قال عنه: «ما رأيت رجلا يعرف كلام الله معرفته، ولا رجلا أكرم نفسا ولا أشبه سرا بعلانية منه.» وقال رجل اسمه جابر:
27 «لم أر رجلا أقرأ لكتاب الله من عمر، وصحبت معاوية فما رأيت رجلا أحلم منه، وصحبت عمرو بن العاص فما رأيت رجلا أبين ظرفا ولا أكرم جليسا.» وإنا موردون هنا خبرا أو اثنين من أخباره لندل بهما على كرم نفسه وصراحته وحبه لجمال النسق؛
28
فقد لامه بعضهم مرة على أنه يركب بغلة هرمة قبيحة المنظر، فقال له: «لا ملل عندي لدابتي ما حملتني، ولا لامرأتي ما أحسنت عشرتي، ولا لصديقي ما حفظ سري.»
29
وقيل إنه وقع مرة بينه وبين المغيرة بن شعبة كلام، فاغتاظ المغيرة وسبه، فقال عمرو وقد ثارت ثائرته: «يا آل هصيص! أيسبني ابن شعبة؟!» فقال عبد الله ابنه وكان قريبا: «إنا لله! دعوت بدعوى القبائل وقد نهي عنها.» فقبل الوالد تأنيب ابنه، وأعتق ثلاثين رقبة يكفر بها عن ذلك. وسمع يوما وهو أصغر من ذلك سنا إذ كان بالمدينة خطبة من خطب زياد، فلما رأى بلاغتها قال: «لله در هذا الغلام! لو كان من قريش لساق العرب بعصاه.»
30
ولو أردنا لأتينا بغير هذه الأخبار، ولكن حسبنا ما أوردناه منها؛ ففيه الدلالة على ما كان عليه عمرو بين الرجال. فإذا نحن قرنا بعض خلاله إلى بعض رأينا أنه كان قوي الجسم ذكي العقل، تجيش نفسه فتدفعه، وله قوة من عزمه كالحديد إذا عزم، وكان شجاعا لا ينكل، ولكنه كان يؤثر الأناة، ويعلم أن الرأي أول والشجاعة في المحل الثاني، وكان في أمر الدين والعبادات على تقى وصلاح. وإذا كانت مطامع هذه الدنيا غررت به في بعض أيامه وعصفت بقلبه، فقد بقي فيما عدا ذلك شريفا نبيل النفس. وكان في العلم على ما كان عليه أهل عصره، وعرف بين العرب بأنه من أحدهم ذهنا
31
ومن أكملهم عقلا. وكان يحب الغناء حبا جما ويقبل عليه، ويطرب للشعر. وكان خطيبا بليغا، وله خيال خصب. فاجتمعت فيه صفات المحارب، والشاعر، وجواب الآفاق، والرجل الصالح. فكان واضح الباطن والظاهر، نبيل المقاصد والفعال، وكان محببا مؤلفا، يملك قلوب الناس ويستهوي أفئدتهم، شأنه في ذلك شأن عظماء الرجال الذين يخلب حبهم أفئدة الناس، فإذا إعجابهم ولاء وإخلاص.
هذه صفة القائد الذي جاء في فرسان أربعة آلاف بايعوا أنفسهم على نزع مصر من يد القياصرة.
الفصل الخامس عشر
أول الحرب
نذر أهل مصر بغزوة العرب، وسمع المقوقس (قيرس) بسير هؤلاء الأعداء أولي البأس، وكان قبل ذلك قد أعد شيئا من وسائل الدفاع؛ فحفر خندقا حول حصن بابليون العظيم بقرب ممفيس، وزاد في تحصين الحصون الأخرى، ورمم أسوار كثير من المدائن التي كانت غزوة الفرس هدمت منها.
1
وليس من الصدق قول القائل إن «قيرس» اشترى العرب فصرفهم عنه بجزية وعدهم بها، وقد قال هذا الخبر أو أشار إليه المؤرخ «تيوفانز».
2
وإنه من سوء الحظ أن مؤرخي اليونان يتخبطون في ظلمة، لا يصفون حقيقة ما كان من الحوادث في ذلك العصر، ولا يعرفون ما كان منها أولا وما كان منها بعد.
وأضل من «تيوفانز» المؤرخ «نيقفوروس»،
3
وأبعد من كلا الاثنين عن الحق «الديوان الشرقي»؛
4
فإنهم جميعا لم يفحصوا الحوادث التي يصفونها، ولم يدركوا حقيقتها، فلا فائدة فيها؛ لأنها تخلط في التواريخ خلطا فاحشا، وتقلب الحقائق وتمسخها، بل إنها قد أضلت كل من اهتدى بنورها من الكتاب المحدثين، وقذفت بهم في المجاهل.
5
وحسبنا في هذا المقام أن نقول إنه ليس ثمة كلمة صدق واحدة فيما رواه هؤلاء اليونانيون عن دفع المقوقس غزوة العرب بجزية من المال يعطيهم إياها، ولا يرد لفظ واحد يشير إلى هذا الأمر في كتاب كتبه أحد أهل الشرق، سواء أكان فارسيا أم سريانيا أم قبطيا أم من العرب، اللهم إلا «ساويرس» وقد نقل عن «الديوان الشرقي». والقصة كلها قائمة على خطأ وقع فيه مؤرخو اليونان؛ فهي صورة مشوهة ممسوخة مما وقع بعد ذلك بزمن طويل، وسيأتي ذكر ذلك في حينه. ولم يكن لنا بد من أن نبدأ بدحض هذا القول، وإذ فعلنا ذلك فلنمض في سبيلنا من وصف مسير عمرو في الصحراء.
غادر العرب العريش وما حولها من بساتين النخيل وساروا في الطريق إلى الغرب بعيدين عن البحر؛ فإن الطريق بعد العريش تسلك قطعة من الصحراء تتخللها بعض عيون وقرى، وهي الطريق القديمة المؤدية إلى مصر، شهدت من قدم مصر قبل أن يلوح فجر العمران، كما شهدت مقدم إبراهيم ويعقوب ويوسف وقمبيز والإسكندر وكليوبترا
6
وأسرة المسيح، ثم وطئتها جيوش الفرس في غزوتها منذ حين، وكانت فوق ذلك في كل الأوقات طريق التجار وأهل الأسفار والحاج تتردد عليها القوافل بين آسيا وأفريقيا، وقبل أن تبلغ الطريق مدينة الفرما ببضعة أميال تنحدر إلى الشمال الغربي فتقتحم الكثبان، وهي التلال المتنقلة من الرمال، ولم يلق العرب أحدا من جنود الروم حتى اقتربوا من المدينة.
ومدينة «بلوز» اسمها بالقبطية «برمون»، ويسميها العرب «الفرما»، وكانت على نهد من الأرض على نحو ميل ونصف من البحر، وكان لها مرفأ لعله كان متصلا بالمدينة بخليج من البحر، وكان فرع من النيل اسمه الفرع «البلوزي» يهوي إلى البحر بقربها. وكانت مدينة قديمة قوية الحصون، بها كثير من آثار المصريين القدماء كما كان بها كنائس وأديرة.
7
وكان لها شأن كبير؛ إذ كانت مفتاح مصر من الشرق تشرف على طريق القادم من الصحراء، وتملك ناصية البحر، ويجري إليها فرع من النيل يؤدي إلى مصر السفلى. ومع كل ذلك، فالظاهر أنها لم تكن منيعة؛ فإن الفرس وقد كانوا مبرزين في فنون الحصار لم يعانوا مشقة كبرى في فتحها، ولعلهم دكوا أسوارها وخربوا من حصونها كما خربوا كنائسها، ولكن الروم نذروا بمجيء العرب منذ زمن، ولقد كان في استطاعتهم إذا شاءوا أن يرمموا ما تهدم من أسوارها.
ولم يكن عند العرب الذين جاءوا مع عمرو شيء من عدة الحصار، ولم يكن لهم علم بطرقه، وما كانوا ليستولوا على المدينة إلا بالمهاجمة وفتح الأبواب، أو بالصبر عليها إلى أن يضطر الجوع أهلها أن ينزلوا إليهم. وليس لنا علم بعدد جندها، ولكن من الواضح أن العرب كانوا فئة قليلة، فما كانوا ليقدروا على حصارها من كل جوانبها، فكانت مسلحتها تهبط إليهم بين حين وحين لقتالهم، واستمرت الحرب متقطعة مدة شهر، ويقول أحد المؤرخين
8
بل شهرين، ثم خرج إليهم جنودها مرة ليقاتلوهم، ولما عادوا لائذين إلى مدينتهم تبعهم العرب فملكوا الباب قبل أن يقتحموه، وكان أول من اقتحم المدينة من العرب «أسميقع بن وعلة السبائي».
9
وقد روى المقريزي وأبو المحاسن أن قبط الفرما ساعدوا العرب أثناء الحصار، ولكن ذلك غير صحيح، ولعل هذا رجوع إلى القصة القديمة التي تعزو إلى القبط ظلما مساعدتهم للفرس، ولم يرد ذكر لهذه المساعدة في كل ما كتب قبل القرن الرابع عشر، ولعل ما ذكرناه من ذكر أخذها عنوة يكفي لتفنيد هذا الزعم. ولو ساعد القبط العرب لما أحرق هؤلاء السفن وهدموا الحصن،
10
ولما فعلوا ما فعله الفرس من قبلهم من تخريب الكنائس الباقية في الفرما.
11
ولنا فوق ذلك دليل آخر على كذب هذا الزعم، وهو ما قاله «حنا النقيوسي»
12
في ديوانه، وكان حنا من الأحياء قرب ذلك العهد. قال: إن القبط لم يساعدوا المسلمين إلا بعد أن استولوا على الفيوم وإقليمها. ولسنا ندري على التحقيق في أي وقت كان هذا، ولكن من الجلي أنه لم يكن إلا بعد فتح حصن «بابليون»، ولم تكن تلك المساعدة إلا مساعدة قليلة لا تعدو بعض الأمور.
فلما ملك العرب الفرما صار في أيديهم معقل يؤمن لهم الطريق المؤدية إلى بلادهم، ويضمن لهم سبيل الرجوع إذا نزلت بهم هزيمة. وقد فطنوا بعد فتح الفرما إلى ما هم مقبلون عليه من الأمر الخطير إذا أتيح لهم فتح حصن بابليون والإسكندرية العظيمة، ولا بد أن يكون عمرو قد أدرك أنه لن يستطيع شيئا إذا لم يوافه عمر بن الخطاب بما وعده من الأمداد، وكان يعرف أن الأمداد لن تستطيع أن تخلص إليه إلا عن طريق الفرما.
13
ولم يكن معه من الجند من يقدر على أن يخلفه في المدينة ليحرسها؛ وعلى ذلك لم يكن له بد من هدم أسوارها وحصونها حتى لا يستفيد بها العدو لو عاد إلى تملكها. ولسنا ندري ما كان يصنعه الروم في هذه الأثناء، فأغلب الظن أن «قيرس» كان موقنا أن المسلمين لا بد لهم أن يسيروا إلى مصر بعد أن تخلص لهم الشام، وأن الأمر واقع لا محالة؛ فكان الحزم يقضي عليه أن يقيم الأرصاد والربط في الصحراء، حتى أكناف العريش على الأقل، حتى يأتيه العلم بمسير القوم إليه في حينه، ليستطيع التعبية ويسير للقائهم بمن معه جميعا عند الفرما. ولو أرسل الروم عشرة آلاف من جندهم ليقاتلوا عمرا أثناء سيره، أو جمعوا ذلك الجيش تحت حصن المدينة؛ لما عجزوا أن يهزموا تلك الفئة القليلة من أعدائهم العرب. على أن ذلك لو حدث لما حال بين المسلمين وبين فتح البلاد أمدا طويلا، ولكن الروم لم يصنعوا من ذلك شيئا، بل اعتمدوا على من في المدينة من الجند في أمر الدفاع عنها. وقد يقال إن العرب قد بغتوهم في أول الأمر، وإنهم لم ينذروا بمسيرهم عند ذلك، ولكن الروم لم يتحركوا في أثناء الحصار وقد لبث شهرا، فلم يبعثوا أحدا لنجدة المدينة أو تخليصها؛ فكان قعودهم عن الفرما وإسلامهم لها أول ما ارتكبوه من خطل في تلك الحرب، وقد كانوا يستطيعون اتقاء هذا؛ وعلى ذلك يصح لنا أن نقول إن ذلك القعود أول ما ارتكبه «قيرس» من خيانته العظمى لدولته، فلعله كان عند ذلك قد عول على أن يعمل على فصل بطرقة الإسكندرية وشقها عن القسطنطينية بالاتفاق مع العرب وإعانتهم على دولته، ولسنا نجد غير هذا الرأي ما نفسر به مسلكه، ولا سيما ما وقع منه بعد ذلك.
كان عند ذلك قد مضى نصف شهر يناير من عام 640 للميلاد، وذلك العام الميلادي يكاد يتفق مع سنة
14
19 من الهجرة، ثم سار عمرو في سبيله، ولم ينقص عدد جيشه؛ إذ لحق به من البدو من عوض عليه الذين قتلوا في المناجزة الأخيرة أو لقد زاد عليهم، وقد لحق به هؤلاء البدويون حبا في القتال وطمعا في الغنيمة.
15
وسار من السبخة التي حول الفرما إلى أرض تليها يغطيها رمل قد خالطه الصدف الأبيض، حتى بلغ مدينة «مجدول» القديمة،
16
وهي في الجنوب الغربي من الفرما، ومن ثم سار إلى موضع يقع على قناة السويس مكانه الآن «القنطرة»، وفي ذلك الموضع تصير الأرض فدفدا صلبا يغطيه المدر، تعترضه مواضع ينبت فيها العشب، أو غياض من ماء أجاج ينبت فيها القصب والغاب. وقد لزم العرب جانب الصحراء، ولعلهم قصدوا إلى مدينة الصالحية، مخالفين في ذلك أكثر من عداهم من فاتحي مصر؛ فإن قمبيز مثلا سلك طريقا أخرى؛ إذ ضرب إلى الغرب من بعد الفرما إلى «سنهور» و«تانيس»، ومن ثم إلى «بوباستيس» في مصر السفلى.
17
ولكن في وقت غزو العرب كانت مياه بحيرة المنزلة قد طغت على ما حولها، فأصبحت الطريق من هناك صعبة المسالك، وكان جيش عمرو كله من الفرسان، ولم يكن عندهم شيء من وسائل بناء القناطر على الترع والأنهار، ثم سار عمرو من الصالحية أو «القصاصين» إلى الجنوب، فاجتاز تلال وادي الطميلات
18
في موضع قريب من مكان اشتهر اليوم بوقعة كانت فيه، وهي وقعة التل الكبير. فلما خرج من الوادي لم يبق دونه إلا سير هين حتى يبلغ بلبيس.
وقد بدا من الروم في ذلك الموضع شيء من المقاومة، وكانت طلائعهم قد خرجت ترقب قدوم العرب من الصحراء، ولكنها لم تحاول إلا مناوشة ليس فيها كبير قتال. والظاهر أن قصة بعث المقوقس باثنين من الأساقفة، وهما أبو مريام (أو أبو مرتام) وأبو مريم، لمفاوضة العرب لم تكن سوى قصة بعث بها الوهم؛
19
فلم يكن بين الأساقفة أحد بتلك الأسماء، ولعل تلك القصة لم تنشأ إلا من الخطأ العظيم الذي وقع فيه مؤرخو العرب عندما قرءوا أخبار هذه الحوادث، وقد اختلطت فيها حوادث التاريخ بالخرافات اختلاطا فاحشا، ومسخها النساخون عند نقلهم منها لم يتحروا فيها الدقة، ولكننا مع ذلك نستطيع أن نقول إنه قد جاءت جماعة عليها أحد الأساقفة، وإنهم فاوضوا عمرا في ذلك الوقت. ويقول الطبري فوق هذا إن عمرا طلب إلى القبط أن يساعدوا المسلمين لما كان بينهم وبين العرب من قرابة في النسب؛ إذ تجمعهم «هاجر»، ولكن القبط قالوا إن هذه قرابة ما أبعدها. فأمهلهم عمرو أربعة أيام ليأتوا إليه بما استقروا عليه، ولكن ما كان قائد الروم لينظر في مثل هذا القول. ولعل ذلك القائد الذي يسميه العرب أرطبون، وصحة اسمه «أريطيون»، هو نفسه حاكم بيت المقدس،
20
وكان قد هرب إلى مصر كما رأينا قبيل تسليم المدينة لعمر بن الخطاب. وقد عزم أريطيون قائد جيش الروم على أن يناجز العرب، فلم يشعروا في اليوم الثاني بعد المفاوضة إلا وقد بيتهم بياتا شديدا، ولكن الدائرة دارت عليه فهزم وتمزق جيشه.
21
غير أن العرب لبثوا عند بلبيس مدة شهر جدث في أثنائه قتال كثير، وقتل من العرب فيه عدد ليس بالقليل، ويقال إن الروم خسروا ألف قتيل وثلاثة آلاف أسير.
22
وصار عمرو بعد ذلك على مسيرة يوم من مفترق فرعي النيل، فمر بمدينة «هليوبوليس» سائرا على جانب الصحراء، ثم هبط إلى قرية على النيل اسمها «أم دنين»، وكانت إلى الشمال من حصن «بابليون »، وموقعها اليوم في قلب «القاهرة».
23
ولكن جيش الروم كان عند ذلك قد تنبه إلى الخطر، وما كان ليرضى أن تقع تلك القرية في يد الغزاة، وهي موضع حصين يجاوره مرفأ على النيل فيه سفن كثيرة، وفي ذلك ما فيه من القيمة في الحرب. وكان أمير الجيوش الرومانية في مصر واسمه «تيودور» رجلا نكولا عاجزا في الحرب، ولم يتبين له إلا عند ذلك أن تلك الحرب لم تكن غارة من غارات البدو، بل كانت حربا مخطرة. ولعل «قيرس» المقوقس حاكم مصر وبطريق الإسكندرية الإمبراطوري أسرع عند ذلك مع «تيودور» إلى حصن بابليون، وجمعا فيه جندا ليعبئا فيه جيشا لحرب العرب، وكانت في أم دنين مسلحة قوية؛ ولهذا كان في استطاعة الجيش الرومي الأكبر الذي في الحصن أن يهبط في أي وقت شاء إلى العرب، ثم يعود إذا شاء إلى حصنه آمنا وراء أسواره العظيمة، ومضت على ذلك أسابيع عدة في مناوشة وقتال خفيف لم يؤذ الروم أذى كبيرا، ولكنه قلل من عدة المسلمين بمن كان يقتل منهم، ولا سيما وقد أجهضهم القتال من قبل حتى صاروا في قلة لا تستطيع إتمام ما جاءت له من الفتح.
والحق أن عمرا كان عند ذلك في حرج مخطر، وكان قد أرسل يتجسس البلاد، وعرف أنه لن يستطيع أن يفتح حصن «بابليون»، أو أن يحاصره بمن بقي معه من الناس، بل رأى أنه لن يستطيع فتح مدينة مصر، وكانت متصلة بالحصن تكاد تحيط بجوانبه. وكان المسلمون قد جاءوا إلى مصر راغبين في القتال واثقين في شجاعتهم وحسن بلائهم في الحروب، غير أنه لم يلقوا فوزا متصلا في جميع المواقف الأخيرة كما كانوا يتوقعون. وكان عمر بن الخطاب قد وعدهم بالأمداد، فأرسل عمرو إليه يستحثه على إرسالها، ولكنها أبطأت عنه، وكان كل يوم من أيام إبطائها غنما لأعدائه، حتى أصبحت كفتا الحرب مترددتين، وخيل إلى الناس أن النصر في إحداهما لا يدري أحد أيتهما ترجح.
24
ولكن ذلك الخطر ما كان ليرد القائد العربي عن قصده ، فلم تكن من شيمته أن ييئس أو يفر. فلما رأى أنه لن يستطيع فتح حصن بابليون بمن معه وهو ما كان يرمي إليه، عزم على أن يسير إلى وجه آخر كان فيه من الجرأة، ولم يكن ذلك سوى إقليم الفيوم، وهو إقليم خصب على نحو خمسين ميلا إلى الجنوب في الجانب الغربي للنيل، وهو العدوة القصوى، ولم يكن له على ذلك بد من أخذ «أم دنين» ولو لوقت ما، فعول على أن يفعل ذلك مهما لقي في سبيله. ولسنا نعلم كيف أخذ ذلك الموضع، ولكنا نعلم أنه كلف من معه من الناس مشقة كبرى. نعلم ذلك من قصة تروى عن ذلك العصر؛
25
إذ قيل إن عمرا رأى جماعة يخيمون في القتال، فجعل يذمرهم ويحثهم، فقال له رجل منهم: «إنا لم نكن «حجارة»
26
أو حديدا.» فقال له عمرو: «اسكت فما أنت إلا كلب!» فقال الرجل: «إذن فأنت أمير الكلاب.» فكان جوابه هذا باعثا على ضحك من حوله، وأعرض عنه عمرو فلم يجازه على ذلك.
ولكن مهما كان من أمر القتال وشدته، فقد أتم العرب ما قصدوا إليه وأخذوا «أم دنين»، فملكوا بذلك منزلا على النيل جعلوا فيه مسلحة منهم، واستطاع عمرو أن يأخذ من السفن ما يكفي بقية جنده لاجتياز النهر.
27
الفصل السادس عشر
وقعة هليوبوليس
سار عمرو بمن معه إلى الجنوب بعد أن عبروا النهر سالمين، وكان سيرهم بجوار المزارع حتى بلغوا «ممفيس»، وكانت تلك المدينة القديمة قد اضمحل أمرها منذ بناء الإسكندرية، ولم يبق منها اليوم باق، على أنها كانت في وقت غزوة العرب لا تزال أطلالها ماثلة في الموضع الذي كانت فيه عاصمة لدولة الفراعنة، وكانت فيها مساكن عدة لا تزال آهلة، وكانت في الجانب الآخر من النيل مدينة نما أمرها وزاد سكانها، حتى لقد كان يطلق عليها اسم ممفيس
1
أحيانا، وتلك هي مدينة مصر، وكان أكثرها إلى جنوب حصن بابليون. ولعل العرب رأوا عند ذلك لأول مرة وهم في الجانب الغربي للنيل مدينة مصر واضحة، تشرف عليها صروح حصن بابليون سامقة فوق ماء النهر من وراء جزيرة الروضة. وإن نفسا كنفس عمرو لا بد أن تكون قد ثارت بها سورة الشجون؛ إذ يرى عن يمينه الأهرام، وعن يساره نهر النيل وحصن بابليون، وحوله أطلال ممفيس. وأما من كان معه من الناس فأكبر الظن أنهم ما كانوا إلا غزاة البادية يسيرون بين آجام النخيل لا يعبئون إلا قليلا بما حولهم من آثار الحضارة الغابرة، ولا يلتفون إلى ما دونهم من بناء الروم أو البيزنطيين.
وأما سيرهم فليس لدينا علم بين بوصفه. وكان حاكم مدينة بيوم (الفيوم) اسمه «دومنتيانوس»، وأما حاكم الإقليم فاسمه «تيودوسيوس»، وكان عند ذلك مع حاكم الإسكندرية «أنستاسيوس» في بعض بلاد مصر السفلى بقرب «نقيوس»، ووكل أمر الدفاع عن الإقليم إلى «حنا»
2
قائد كتيبة «الخفر»، وهي كتيبة من أهل البلاد، وكان تحت إمرته رجل آخر اسمه «حنا الماروسي». وقد وضع الجنود عند ثغور الفيوم التي يدخل إلى الإقليم منها، وحرست حراسة حسنة، وأقام الروم ربيئة لهم في حجر اللاهون
3
ليرصد العدو ويعرف أخباره ومسيره، ويحمل أنباء ذلك إلى «حنا» وكان مقيما قرب شاطئ النهر، ثم أرسلت سرية من الفرسان والرماة إلى العرب لتحول بينهم وبين السير. ويلوح لنا أن جنود العرب لم يقووا على أن يخلصوا ممن لاقاهم من الروم، فعدلوا إلى جانب الصحراء وجعلوا يستاقون ما لاقوا من النعم، فأخذوا منها عددا عظيما، وما زالوا كذلك حتى بلغوا مدينة اسمها البهنسا، ففتحوها عنوة، وقتلوا من وجدوا بها من رجال ونسوة وأطفال،
4
ثم سمع عمرو بأن «حنا» كان يسير وراءه في قلة خمسين من فرسانه يرقبون سيره، فبعد به عمن وراءه من جنده ثم كر عليه مباغتا. فلما رأى «حنا» ذلك وأن الخطر محدق به، أراد أن يعود سريعا إلى عسكره في «أبويط»،
5
وهي واقعة على النيل على مسافة قليلة من موضعه، فكان يسير بجنوده في الليل ويكمنون بالنهار في النخيل والآجام، ولكن عمرا علم بمكمنه؛ إذ دله عليه أحد شيوخ البدو،
6
فحاصره ومن معه، وقتلهم فلم يدع منهم أحدا؛ فقتل في ذلك «حنا» قائد الكتيبة ووكيله؛ لأن العرب لم يتخذوا منهم أسرى.
فلما بلغ القائد «تيودور» نبأ هذه النكبة بكى وأعول، ثم هب بعد ضياع الوقت، فحشد من دونه من الجنود، وبعث بهم صعدا في النهر إلى جزيرة «الكيون»، ثم أسرع «أنستاسيوس» و«تيودوسيوس» بالعودة من «نقيوس» إلى حصن «بابليون» ليساعدوا من به، وأرسلوا من الحصن سرية جعلوا عليها قائدا اسمه «ليونتيوس» إمدادا للعسكر في «أبويط». فلما بلغ «ليونتيوس» مضرب العسكر في «أبويط» وجد المصريين حيال العرب، ووجد أن «تيودور» قد لاذ بجنوده في مدينة الفيوم، يخرج منها بين حين وحين فيهوي إلى العرب في البهنسا يقاتلهم. وكان «ليونتيوس» رجلا سمينا خاملا لا علم له بالحرب، فخيل إليه أن العرب لن يلبثوا أن يهزموا ويخرجوا من ذلك الإقليم؛ ولهذا خلف نصف جنده مع «تيودور» وعاد بالنصف الآخر إلى حصن «بابليون» ليروي لأولي الأمر فيه ما شهده.
ولا شك أن العرب لم يستطيعوا فتح مدينة الفيوم، وأنهم عادوا أدراجهم إلى الشمال منحدرين مع النهر، وكان «تيودور» قد أمر بالبحث عن جثة «حنا» وكانت قد ألقيت في النهر، فانتشلها الناس في شبكة، ثم حنطت ووضعت على سرير، وحملت في النيل إلى حصن «بابليون» تحيط بها آيات الحزن، ومن ثم بعثوا بها إلى هرقل.
7
وقد حزن الإمبراطور لهزيمة «حنا» وقتله حزنا شديدا، وبعث إلى القائد «تيودور» يظهر له موجدته وغضبه عليه، فعرف ذلك القائد أن الإمبراطور لم يغضب عليه إلا أن وشى به «تيودوسيوس» و«أنستاسيوس»، وأبلغا الإمبراطور عنه أنه السبب في قتل «حنا»؛ ومن ثم وقعت في نفسه عداوة شديدة لهذين الرجلين.
ولكن العرب لم يعودوا من الفيوم منذ أحسوا بالفشل وحده؛ فلعمري لقد يكون ابن العاص أتم في غزوته تلك أكثر مما كان يطمع فيه؛ فقد أخرج جيشه من مأزق وقع فيه عند «أم دنين»، وانتقل به إلى موضع أكثر أمنا، ولقي في غزوته فوزا كثيرا ونصرا في مواطن عدة وإن لم يحرز انتصارا عظيما، وشغل جنده مدة فقطع عليهم مدة الانتظار؛ إذ جاءته الأمداد بعد ذلك بعد أن طال إبطاؤها عليه، فلما بلغه نبأ مجيئها عاد أدراجه بالمسلمين ليلقوها. أما «تيودور» فإنه جاء كذلك إلى الشمال مع جنوده إلى حصن «بابليون»، وقد اجتمع به الجند من كل جهات مصر فأصبح فيه جيش عظيم.
وكان أول مسير عمرو إلى الفيوم نحو أول شهر مايو، وقضى في غزوته بضعة أسابيع أضاعها الروم ضياعا، بل خسروا فيها خسارة كبرى، وغنم العرب فيها غنما عظيما. ولعل قدوم أمداد المسلمين التي بعث بها عمر بن الخطاب كان في السادس من شهر يونيو.
8
والتقى الجميع قريبا من هليوبوليس، وكان الأمير على المدد الزبير بن العوام، ابن عمة النبي وصاحبه، وأحد رجال الشورى الستة، وكان معه أربعة آلاف رجل، ثم جاء في عقبه كتيبتان كل منهما من أربعة آلاف رجل، فكان جميع من جاء من الأمداد اثني عشر ألفا.
9
وقد علم الروم أن النيل يعلو في مجراه العميق في وسط الصيف؛ ولهذا أرادوا أن يناجزوا المسلمين بمن اجتمع منهم قبل أن يفيض النهر، ولكنهم عجزوا كل العجز عن أن يحولوا دون اجتماع جيوش المسلمين المتفرقة، مع أنهم كانوا يملكون حصن بابليون، وكان نهر النيل في يدهم، وعادوا إلى مسلحة «أم دنين» فملكوها. فلو كان عندهم علم بالحرب وحزم في الرأي لاستطاعوا أن يمنعوا عمرا من العبور إلى الجانب الشرقي، فكانوا يجعلونه بذلك في معزل عمن جاء يمده، ولعلهم كانوا يستطيعون بذلك القضاء عليه.
ولكنهم لم يفعلوا ذلك مع كل ما كان لديهم من ميزة عليه، واستطاع عمرو أن يعبر النهر إما عنوة وإما على غرة منهم، وأغلب الظن أنه عبر النهر في موضع أسفل من موضع «أم دنين» إلى الشمال منها؛ لأن ترعة «تراجان» كانت عند ذلك مطمومة منذ أهمل أمر حفرها وكريها، ولم تكن لتعوق سير العرب حتى في وقت فيض النيل. وكان عمرو قد علم بأن أمداد المسلمين سائرة في طائفتين ميممة شطر «عين شمس»، وهي «هليوبوليس»، وعلم أن مقامه في الجانب الغربي مخطر.
10
والحق أنه فزع خوفا من أن يفطن الروم إلى الأمر فيحولوا بينه وبين الاتصال بالمدد الذي جاء به الزبير، ولكن «تيودور» ضيع الفرصة على عادته، فلم يضرب الضربة القاضية، واستطاع عمرو أن يسير للقاء المدد ويبلغ عسكر المسلمين في هليوبوليس وقد امتلأت قلوب أصحابه عزة وبشرا بما وفقوا إليه من الفوز في غزوتهم.
كانت هليوبوليس في الأزمنة القديمة إحدى مدن مصر الكبرى، واسمها «أون»،
11
ويتردد ذلك الاسم في قصص موسى، وكان لا يزال باقيا يطلقه القبط عليها في القرن السابع، ويفيد ذلك الاسم معنى «مدينة الشمس». ولا شك أن اليونان أخذوا ذلك المعنى فجعلوا اسمها عندهم «هليوبوليس»، وقد احتفظ العرب كذلك بذلك المعنى فجعلوا اسم الموضع «عين شمس».
12
وكانت هذه المدينة معروفة بعظمة آثارها، كما كانت معروفة بأنها قبلة لأهل العلم وكعبة للدين. ولما زارها «سترابو» قبل ذلك الوقت بستة قرون كان الناس هناك يدلونه على المواضع التي كان أفلاطون يتلقى فيها العلم من قبل. على أن الزمن عند ذلك كان قد غير المدينة، وجرت صروفه وحروبه وحصاراته ذيل العفاء على أكثر معابدها وتماثيلها. فلما أتى العرب لم يكن باقيا من مجدها القديم إلا قليل من أسوار مهدمة، وتماثيل ل «أبي الهول» قد دفن نصفها تحت الثرى، وعمود واحد مما يعرف ب «المسلة»، ولا يزال باقيا إلى اليوم ذكرى من ذلك العالم الغابر.
وكانت المدينة على نهد من الأرض، يحيط بها قديما سور غليظ لا يزال أثر منه باقيا إلى اليوم.
13
ولم يكن لها خطر في الحرب في ذلك الوقت، ولكنها كانت تستطيع المدافعة، وكان فيها ماء كثير، وتصلح لإمداد الجيش بالمئونة؛ ولهذا اتخذها عمرو مقرا، وجعل يتجهز منها لما هو مقبل عليه من القتال. وقد وصفنا فيما سلف من قولنا مقدم «تيودور» إلى حصن بابليون، وأنه جعل يحشد فيه الجنود من بلدان مصر السفلى، ولكن لعله ما أتم حشد الجيش الذي كان يستطيع به قتال العرب والخروج به إلى عين شمس حتى كانت الأمداد التي بعث بها عمر بن الخطاب قد بلغت عمرو بن العاص، فأصبح بها أميرا على جيش عدته خمسة عشر ألفا، من بينهم طائفة من أكبر فرسان الإسلام وشجعانه.
14
ولسنا نعرف عدد الجيش الذي حشده الروم إلا بالظن والحدس، وقد عرفوا حق المعرفة ما كان عليه عدوهم من الشجاعة؛ فقد سمع قبطي مرة وهو يقول: ما أعجب أمر هؤلاء العرب؛ فإنهم أتوا إلى مصر في قلة من الناس يريدون لقاء الروم في كتائبهم العظيمة! فأجابه آخر من القبط: إن هؤلاء قوم لا يتوجهون إلى أحد إلا ظهروا عليه حتى يقتلوا عن آخرهم.
15
وتروى قصة أخرى، وهي أن الروم كانوا لا يقدمون على القتال، ويقولون: ما لنا من حيلة في قوم غلبوا كسرى وهزموا قيصر في بلاد الشام. على أن هذه القصص قد جاءت عن طريق العرب، وإنا نشك كثيرا في صحة القصة الأخيرة؛ فإن الروم كانوا أكثر عددا، وإن جيوشهم التي كانت على قدم القتال لم تكن أقل من عشرين ألفا عدا من كان في الحصون.
كانت خطة عمرو أن يجعل الروم يخرجون إليه، فيقاتلونه في السهل وهم بعيدون عن حصن بابليون، فلما أحس «تيودور» من نفسه القوة جعل يناجز العرب، وسار إليهم بجيوشه نحو «هليوبوليس»، وكانت على مسافة ستة أميال أو سبعة من عسكر العرب، وكان على الخيل «تيودوسيوس» و«أنستاسيوس»، ولكن أكثر الجمع كانوا رجالة، بعضهم رماة وبعضهم يحملون الرماح، وكانت ربيئة العرب قد أسرعت فحملت إلى عمرو ما عزم عليه الروم، فاستطاع أن يوجه جنوده إلى مواضعها ويعبئهم للقتال، فسار هو من هليوبوليس مع أكثر الجمع من العرب للقاء الروم، ولكنه أرسل تحت الليل كتيبتين؛ إحداهما إلى «أم دنين»، والأخرى وعليها خارجة بن حذافة إلى مكان واقع إلى الشرق، ولعله كان في ثنية الجبل
16
بقرب الموضع الذي فيه اليوم قلعة القاهرة؛ فكان سير الروم على ذلك بين هذين الكمينين من العرب. وكان عمرو قد أمرهما أن يهبطا على جانب جيش الروم ومؤخرته إذا ما سنحت لهما الفرصة.
17
وخرج الروم بين البساتين والأديرة التي كانت إلى الشمال الشرقي من الحصن وانتشروا في السهل،
18
وكان ذلك في الصباح الباكر، ولم يكن عندهم علم بمكيدة عمرو، بل رأوا أنه كان يسير إليهم في جمعه آتيا من هليوبوليس، ثم حدث اللقاء بعد ذلك، ولعله كان في مكان وسط بين معسكري الروم والعرب عند الموضع الذي اسمه اليوم «العباسية». وكانت كل من الطائفتين موقنة بأن ذلك اليوم سيكون يوم الفصل في أمر مصر؛ فكانت كل تقاتل قتال المستميت. فلما حمي وطيس القتال وعض الناس على النواجذ، أقبلت كتيبة خارجة تهوي من مكمنها في الجبل، كأنما هي عاصفة تجتاح مؤخرة الروم. فلما رأى الروم أنهم قد أخذوا بين جيشين من عدوهم، وقع الفشل في صفوفهم، واتجهوا بعض الاتجاه إلى يسارهم نحو «أم دنين»، فلقيهم الكمين الآخر، فظنوا أنه جيش عربي ثالث؛ فانتثر نظامهم، وحلت بهم الهزيمة، ففروا لا يلوون على شيء يطلبون النجاة من سيوف العرب وهي تلمع كأن وميضها وميض البرق. فاستطاع الأقل منهم أن يبلغ الحصن برا فيلوذ به، وكثير منهم ساقهم الفزع إلى النهر، فنزلوا في السفن وعادوا إلى الحصن، ولكن طائفة كبيرة هلكت، واستولى العرب بعد انتصارهم على «أم دنين» مرة أخرى. وقد قتل في الوقعة كل من كان بها من الجنود إلا ثلاثمائة، ولاذ كل من نجا من الروم بحصن «بابليون» وأغلقوا عليهم الأبواب، ولكنهم منذ علموا بما أصاب إخوانهم الروم من القتل حملهم الخوف على أن يتركوا الحصن، فساروا في النهر إلى «نقيوس».
وليس في الأخبار ما يذكر عدد القتل من الجانبين، ولكن من المعروف أن أمير الجيش «تيودور» والحاكمين «تيودوسيوس» و«أنستاسيوس» لم يقتلوا. على أنه قد بقي من الروم فئة لا بأس بها اجتمع إليها من كان في الحصن في أثناء القتال، فصارت منهم جميعا مسلحة قوية تستطيع الدفاع عنه، ولكن النصر أفاد العرب فوائد جمة؛ فقد أصبحت مدينة مصر في قبضة يدهم بغير قتال، وكانت من قبل يحميها الجيش الذي في الحصن،
19
وأصبحوا يملكون ناصية شاطئ النهر من ناحيتي الحصن من أعلاه ومن أسفله، ونقلوا عسكرهم من هليوبوليس فضربوه في شمال الحصن وشرقه بين البساتين والكنائس، وذلك هو الموضع الذي صار يعرف بالفسطاط فيما بعد. وقد صار جيش العرب بعد ذلك النصر كافيا لحصار «بابليون» لا يعوقه عائق من التضييق عليه، بعد أن قضى على جيش الروم فلم تبق منه إلا الفلول التي لاذت بالحصن أو هامت على وجهها في بلاد مصر السفلى. ولما بلغت أنباء نصر العرب إلى الفيوم غادرها من بها من المسالح، فخرج «دومنتيانوس» عندما علم بذلك من المدينة في الليل، وسار إلى «أبويط»، ثم نزل في النهر بجنوده، وجد هاربا إلى «نقيوس»، ولم يخبر أهل «أبويط» بما كان منه من ترك الفيوم لأعدائه لا دافع عنها أحد. ولما بلغ نبأ «دومنتيانوس» وهربه إلى عمرو بن العاص بعث كتيبة من جنده عبروا النهر، وفتحوا مدينتي «الفيوم» و«أبويط»، وأحدثوا في أهلها مقتلة عظيمة، وأصبح ذلك الإقليم تحت الحكم الإسلامي منذ ذلك الحين.
ولما قضى عمرو بذلك على كل من وقف له من الفيوم، وخلص له أمرها، أرسل جنوده إلى موضع اسمه «دلاص»،
20
رآه أصلح المواضع للنزول من النهر إلى ذلك الإقليم، وأصبح العرب بذلك إلى حين سادة النهر، وكان هذا أثرا عظيما من آثار النصر. غير أن الروم كانوا لا يزالون يملكون جزيرة الروضة، وهي جزيرة ذات حصون تتصل بحصن بابليون، تسير بينهما السفن والقوارب، وبقيت الأسفار على ذلك في النهر على عادتها يكاد لا يعوقها عائق؛ لأن العرب لم يكونوا من أهل البحار؛ إذ لم يحذقوا بعد تسيير السفن، وكانوا في شغل بما هم فيه من القتال والفتح في الأرض. وعاد عمرو فأمر جرائد الخيل بالعودة إليه،
21
وكان أنفذهم يجوسون خلال البلاد بعد وقعة عين شمس، ثم أمر «أبا قيرس»
22
حاكم دلاص أن يمد المسلمين الذين كانوا بالفيوم بالسفن لينتقلوا فيها من الجانب الغربي إلى الجانب الشرقي. وكان يقصد بذلك أن يفتح كل إقليم مصر، وهو الإقليم الذي كان يلي مفترق فرعي نهر النيل.
ولعل وقعة عين شمس كانت في النصف من شهر يوليو سنة 640، وقضى العرب في فتح الفيوم نحو أسبوعين؛ وعلى ذلك لم يبدأ فتح مصر السفلى قبل شهر أغسطس، وكان عمرو يطمع أن يبسط يده إلى هناك قبل أن يحول فيض النيل بينه وبين ذلك. وأما ما كان من أمر «جورج» حاكم إقليم مصر، فإما أن يكون قد وقع في الأسر عند فتح مدينة مصر، وإما أنه أذعن للعرب وخضع لأمرهم. فالحق أن الرهبة من العرب أخذت عند ذلك بقلوب الناس في كل البلاد، ولا سيما ما كان منها على كثب من سيوفهم، اللهم إلا المواضع ذات الحصون.
غير أن مصر السفلى كانت تشقها الترع الكثيرة، وكان بعض هذه الترع لا يمكن اجتيازه خوضا، فجاء الأمر إلى «جورج» أن يقيم قنطرة على الترعة عند قليوب، وقال حنا النقيوسي: «وأخذ الناس يساعدون المسلمين.»
23
وإنه لمن سوء الحظ أن قول الأسقف هنا ليس بالواضح البين، غير أنا إذا قرنا ذلك القول مع سائر ما جاء في ديوانه رأينا أن معناه لا يزيد على أن الناس قاموا بتلك المساعدة إذ أمروا بها؛ أي إنها لم تكن مساعدة الراغب المختار، بل عمل المجبر المضطر. وفي الحق أنا لو أمعنا النظر لرأينا في قول الأسقف نفسه ما يدل على ذلك دلالة واضحة؛ فإنه بعد أن قال إن العرب فتحوا المدينتين الكبيريين «أثريب» و«منوف»، وملكوا ريفهما، وبسطوا سلطانهم على إقليم مصر كله، قال: «إنهم لم يكفهم هذا، بل أمر عمرو أن يؤتى بالحكام من الروم مجموعة أيديهم في الأصفاد وأرجلهم في القيود، ثم أخذ من الناس أموالا عظيمة، وضاعف عليهم الجزية، وأمرهم أن يأتوا له بالأعلاف لخيله، وظلمهم ظلما كثيرا.» وليس من العجيب أنه بمثل هذه الشدة قضى على كل مقاومة، وجعل الناس لا يعصون له أمرا، ولكنا لا نجد كلمة واحدة تدل على أنه قد كان بين أهل مصر من كان لمجيء المسلمين في قلوبهم إلا وقع الخوف والرعب.
على أن مدينة «نقيوس » - وكانت على الفرع الغربي للنيل - بقيت بنجوة من العرب بعد أن أخذوا «أثريب» و«منوف»؛ وذلك لأنها كانت ذات حصون قوية وأسوار منيعة، فما كانت لتؤخذ حتى يحاصرها العرب حصارا تاما، ولم يستطع العرب ذلك عندئذ؛ إذ كانوا لا يملكون العدة للحصار ولا يتسع لهم الوقت له؛ وعلى ذلك بقيت «نقيوس» كأنها حلقة تصل من كانوا في حصن «بابليون» بمن كانوا في الإسكندرية، غير أن كبار الروم الذين كانوا فيها لم يستطيعوا البقاء بها عندما جاءتهم أنباء فتوح العرب وفوزهم، فهاجروا إلى العاصمة، ولم يغادروا في المدينة إلا «دومنتيانوس» في قلة من الناس للدفاع عنها، وبعثوا إلى «داريس» في سمنود يأمرونه أن يحفظ ما عنده من البلاد التي بين فرعي النيل، وعند ذلك زاد الخوف وذعر الناس، وغلب الرعب على كل بلاد مصر، فأخذ الخلق يفدون أفواجا من كل حدب إلى الإسكندرية تاركين أرضهم وبيوتهم وما فيها من زرع وضرع ومتاع؛ وبذلك خرج أهل مصر من عهدة المقوقس (قيرس) واضطهاده الذي عصف بهم عشر سنين إلى عهد آخر من الخوف والفزع.
ولكن عمرا لم يكن عند ذلك ليستطيع أن يسير إلى الشمال في أثر تلك الأفواج الهاربة؛ فإن النيل كان آخذا في مده يعلو به الماء علوا سريعا في أواخر شهر أغسطس، فأصبحت البلاد لا يمكن السير فيها، وكان فوق ذلك لا يريد أن يخلف وراءه ذلك الحصن العظيم حصن «بابليون» بغير ردء من جنوده يدرأ عنه، وإذا هو شاء أن يجعل من جنوده ردءا كان لا بد له أن يخلف جانبا عظيما من جيشه؛ فلا يبقى له بعد ذلك من الناس من يقدر بهم على فتح الإسكندرية، فلم يكن له مفر من أن يعمد بعد ذلك إلى فتح حصن «بابليون».
الفصل السابع عشر
حصن بابليون
بقي من حصن بابليون إلى نحو أوائل القرن العشرين ما يدل على ما كانت عليه هيئته وعظمة خطره، وكان الفضل للقبط في حفظ تلك البقية؛ إذ اجتمعت لهم كنائس عدة فيه منذ أول عهد المسيحية ؛ لأنهم وجدوا وراء أسواره منعة لهم في أيام المحنة والشدة، وكانت كل أسوار الحصن للقبط إلا ما كان منها للملكانيين، وهو موضع كنيسة «مار جرجس»، وإلا ما كان منها لليهود وهو موضع بيعتهم. والظاهر أن المسلمين لم يحفلوا بالمحافظة على ذلك الأثر مع ما كان له من الخطر في أيام فتحهم ومع كثرة ما كتبه مؤرخوهم عنه.
ولكنه خرب تخريبا يرثى له منذ احتلال الإنجليز لمصر؛ إذ شعر أهله عند ذلك بالاطمئنان والأمن؛ فقد أصبح الأمر مستقرا لا حاجة معه إلى الأسوار المنيعة، وصار القبط واليونان واليهود وكأنهم يتبارون في هدم أسواره كلما بدا لهم فتح باب في ناحية أو إقامة بناء في جانب منه. فإذا نحن قلنا إن السنين الثمانية عشرة الأخيرة قد شهدت من تهديمه أكثر مما شهدته القرون الثمانية عشرة التي قبلها، لم يكن في قولنا شيء من المبالغة.
فلما أن انتهى الأمر إلى ذلك، وحدث الضرر الذي كان يخشى؛ تدخلت الحكومة وبسطت حمايتها على ما بقي منه، ولكن ما أقل ما قد بقي منه!
وموضع ذلك القصر المتهدم فيما يسمى «مصر القديمة»،
1
وكان باقيا من الأسوار ثلاثة جوانب لم يكد يمسسها أذى منذ بضع سنين، ولكن لم يبق منها اليوم إلا قطع من جانبين اثنين، وأما الثالث فقد شوه ومسخ مسخا. وكان سمك أسواره ثماني عشرة قدما، وكان بناؤها من الآجر والحجارة؛ طبقة من هذه وطبقة من تلك. وكان محيط الأسوار على شكل مربع غير منتظم، ولكنا لا نستطيع البت في أمر سعته ومساحته حتى تكشف جدران الجانب الرابع، وهو الجانب الذي لم يبق منه أثر. ويتخلل كلا من الجانبين الجنوبي والشرقي من أسوار الحصن أربعة أبراج بارزة، بينها مسافات غير متساوية، وكانت ثلاثة من هذه الأبراج الأربعة التي إلى الجنوب لا تزال ظاهرة إلى عهد قريب، وأما الآن فإن أحدها قد تهدم واندثر ولم يبق إلا اثنان، ونستطيع أن نرى بينهما الباب العظيم القديم الذي كشف مما كان علاه من الأقذار والأتربة إلى نحو ثلاثين قدما.
2
وأما الجانب الغربي فلم تكن به بروج، ونستطيع أن ندرك علة ذلك متى عرفنا أنه في وقت بناء الحصن كان ماء النيل يجري تحت أسواره فكانت السفن ترسو تحتها، وقد بقيت الحال كذلك إلى أيام فتح العرب. وكان للحصن باب آخر في تجاه النهر، ولعله كان بين الصرحين العظيمين المستديرين اللذين بقيا إلى عهد قريب، لم يبلغ منهما التهدم مبلغا كبيرا إلا فيما انتابهما في المدة الأخيرة من التغير. وأما اليوم فقد بقي من أحدهما أثر، في حين لم يبق من الآخر شيء تراه العين؛ لأنه دخل في بناء مربع أقامه أبناء العرب في العصر الحديث. وكان كل صرح من هذين الصرحين دائريا يبلغ قطره نحو مائة قدم، وكان في داخله دائرة أخرى من البناء، وتقطع ما بين الدائرتين الخارجة والداخلة جدران من البناء تقسم الصرح إلى ثمانية أقسام، كان في كل منها سلم حجري صاعد إلى أعلى البناء. وأما علو الأسوار فكان على وجه الإجمال نحو ستين قدما كما أظهره الحفر الحديث، ولكن الحصن كله مطمور اليوم إلى نحو ثلاثين قدما فيما تخلف حوله من أثر العصور المتتالية عليه. وأما الصروح فكانت أعلى من ذلك؛ فكان الصاعد إلى أعلاها يشرف على منظر عظيم يبلغ مداه إلى المقطم من الشرق، وإلى الجيزة والأهرام وصحراء لوبيا من الغرب، وإلى قطع كبيرة من نهر النيل من الشمال والجنوب، وكان الناظر من هناك في وقت غزوة العرب، وذلك قبل أن تبنى القاهرة، لا يقف شيء دون بصره حتى يبلغ مدينة عين شمس.
3
وكان بين الصرحين الكبيرين سور ساتر ينفذ منه الباب الذي ذكرناه آنفا، ولكن ذلك الباب ليس هو الذي يكثر مؤرخو العرب من وصفه ويقرنونه باسم المقوقس؛ فإن الباب الذي يقصدونه هو الجنوبي، وهو الذي نراه اليوم ماثلا، وأما ذلك الباب بين الصرحين فقد تهدم أو طمر في الأرض فلم يبق اليوم له أثر. وهذه حقيقة أصبحت ثابتة لا ريب فيها؛ لأن البحث الحديث قد أظهر أمرا عجيبا، وهو أن النيل نفسه أو فرعا قصيرا منه كان في وقت الفتح يبلغ إلى الباب الأكبر الجنوبي (وهو ما يسميه العرب بالباب الغربي)،
4
وإلى مرسى السفن الذي كانت ترسو عليه السفن الرومانية، وكان لذلك المرسى درج يهبط منه إلى الماء كلما تغير علو النهر. وإن وجود هذا المرسى إلى اليوم لدليل على دقة وصف مؤرخي العرب في بعض الأحيان لما يرون. ولعل ذلك كان حال الباب الذي كان بين الصرحين المستديرين اللذين كانا تجاه جزيرة الروضة، ولكن من الثابت أن ذلك الباب الجنوبي - باب كنيسة المعلقة - هو الذي يرد ذكره في أخبار مؤرخي العرب ويسمونه «الباب الحديدي»، وتدل على هذا أدلة كثيرة: (أولها) أن البحث قد كشف عن المرسى الذي كان هناك في النهر عند ذلك، و(ثانيها) أن الباب الذي لا يزال باقيا إلى اليوم فيه مجرى عميق منقور في البناء كانت جوانب الباب تجري فيه إذ يدلى من عل، وكان ذلك الباب إما مصنوعا من الحديد أو عليه غطاء من صفائح الحديد، و(ثالثها) أن المقريزي
5
ينص على أن الباب الحديدي هو الباب الغربي (الذي نسميه نحن في كتابنا هذا بالباب الجنوبي)، في حين أن ابن دقماق
6 - وكان يعيش في عصر المقريزي - يقول إن الباب الغربي هو الباب الذي يلي كنيسة المعلقة.
ومن أغرب ما يذكر هنا أن ذلك الباب الحديدي الذي يلي المرسى القديم كان إلى سنة 1400 للميلاد لا يزال مدخل الحصن الذي يلجه الناس منه، وكان السوق الذي يسمونه «السوق الكبير» واقعا إلى جوار ذلك الباب، وكانت هناك طريق تنفذ من ذلك الباب مما يلي كنيسة المعلقة، ثم تسلك الحصن كله حتى تخرج من أسواره من باب في الشمال في تجاه جامع عمرو. وكان إلى جوار ذلك الباب الحديدي كذلك مخفر بنائه، ولعله كان ذلك البناء الروماني المنفصل عن الحصن، وقد بقيت للآن منه بقية صغيرة. ومع أن عبارة ابن دقماق يفهم منها أن الحصن كانت له أبواب عدة أخرى، فإنه لا يذكر إلا بابا آخر، وهو في الجانب الغربي، ولعله كان الباب بين الصرحين. وما دام الأمر كما وصفنا، فإنه يكون من الثابت أن السور الغربي كان على النيل، وأن السفن كانت تبلغ الباب الحديدي، ولكن النهر في هذه الأيام قد بعد بعدا كبيرا عن أسوار الحصن، وعلت الأرض حوله فطمرت نصف أسواره، فذلك النصف من الأسوار قد بقي تحت الأرض محفوظا إلى اليوم لم تعصف به يد الهدم، ولعله ينكشف يوما مما علاه فيظهر للعين.
وكانت جزيرة الروضة كذلك ذات حصون ومنعة في ذلك العصر، وكانت تزيد في قوة حصن بابليون وخطره الحربي بأنها كانت في وسط النهر تملك زمامه. ويظهر من قول ابن دقماق
7
أن العرب غزوا تلك الجزيرة في أثناء حصارهم لحصن بابليون، فلما خرج الروم من هناك هدم عمرو بعض أسوارها وحصونها، فبقيت مجردة عاطلة حتى أعاد ابن طولون بناء أسوارها في عام 876 ليجعلها مقرا لخزائنه وقصره الخاص. وكانت تلك الجزيرة تتخذ لغرض آخر، فكان يسميها العرب في العصور المتأخرة «جزيرة دار الصناعة»، وقد بني مقياس النيل في الطرف الجنوبي منها في سنة 716 للميلاد بدل مقياس قديم كان في حصن بابليون.
وكان الإقليم الذي إلى شرق الحصن في وقت الفتح مزارع فسيحة، وكانت إلى شماله الحدائق وحوائط الكرم، وفيما يليها إلى الجبل الشرقي كنائس وأديرة متصلة إلى الموضع الذي به اليوم جامع ابن طولون وقلعة الكبش. وقد بقيت بعض هذه الكنائس وتلك الأديرة إلى اليوم، بعضها داخل سور القاهرة وبعضها خارجه، مع أن الملك الناصر بن قلاوون
8
هدم أكثرها في القرن الرابع عشر.
وأما منشأ بناء الحصن فقد ذهبنا فيه إلى رأي
9
ظهرت صحته فيما بعد عندما نشر ديوان «حنا النقيوسي»، وذلك الرأي هو أن أول من بناه الإمبراطور الروماني «تراجان» في العام المتمم للمائة من الميلاد. وقد جاء في ديوان حنا أن اليهود ثاروا بالإسكندرية مرة، فأرسل إليهم «تراجان» جيشا عظيما وجعل أميره «مرقيوس تربو»، ثم جاء بنفسه إلى مصر، وبنى بها حصنا، وجعل فيه قلعة منيعة قوية، وجعل فيها ماء كثيرا .
10
ولعل هذه الكلمة الأخيرة يقصد بها ما حفره من الآبار عند الصرح المستدير وفي مواضع أخرى من الحصن، ثم قال بعد ذلك إن أصل ذلك الحصن كان بناء أقامه «بختنصر» وسماه باسم عاصمة ملكه «بابليون»، وذلك عندما غزا مصر، فأقام تراجان أسوار الحصن على أساسه وزاد في بنائه.
11
وعلى كل حال فلا شك في أن البناء القائم اليوم بناء روماني، ولا نظن أن تراجان جعل بناءه على نسق كان في ذلك الموضع من قبل.
على أنه من المحقق أنه قد كان في تلك الجهة حصن قديم؛ فقد جاء سترابو
12
إلى مصر قبل عهد تراجان بنحو مائة وثلاثين عاما، وقد ذكر أنه رأى حصنا قويا على نهد من الصخر، وقال إن السبب في تسميته أن جماعة من أسرى بابل كانت مقيمة فيه. وقال تيودور
13
إن ملك مصر «سيزوستريس» جاء بجماعة من أسرى البابليين وأنزلهم في قصر، فأطلقوا على القصر اسم المدينة التي جاءوا منها. ويقول المؤرخ «يوسفوس»
14
إن الحصن لم يبن إلا في أيام غزوة الفرس في حكم الملك قمبيز. وقال «ابن بطريق»
15
إن «آخوس»، وهو «أرتخشيارش أوخوس»، هو الذي بنى الحصن. وإذن نستطيع أن نقول إنه قد كان على مقربة من موضع الحصن القائم في الوقت الحاضر حصن قديم كانوا يطلقون عليه اسم «بابليون» مدة قرون طويلة قبل أيام تراجان، ولكنا بينا في موضع آخر
16
أن ذلك الحصن القديم كان على نهد صخري كما قال سترابو، وكان ذلك إلى الجنوب من الموضع الذي به الحصن اليوم (ولا يزال ذلك النهد الصخري إلى اليوم ماثلا يرى). ولعل ذلك النهد الصخري وما جاوره كان داخلا في مدينة مصر في وقت غزوة العرب، وكانت مصر إذ ذاك تتصل شمالا بموضع الحصن الروماني، ولعلها كانت تتصل بما بعد ذلك. وكان حول الحصن خندق أعاد المقوقس (قيرس) حفره، واتخذ عليه قنطرة متحركة.
17
وإنا نظن أنه كان لا يزال بمدينة مصر في ذلك الوقت كثير من مباني المصريين القدماء؛ فإن الباحثين اليوم يعثرون في كثير من الأحياء على حجارة كبيرة وعليها نقوش بالخط الهيروغليفي.
وقد سبب اسم «بابليون» ارتباكا كبيرا لكتاب العرب، وبقي ذلك الاسم إلى اليوم، ولكنه لا يطلق على الحصن نفسه، فاسمه الآن «قصر الشمع»، بل يطلق على دير صغير على مسافة قليلة من الحصن نحو الجنوب، وهو «دير بابليون»، وكان اسم الحصن باللغة القبطية في وقت الفتح «بابلون-آن-خيمى»، ومعناه «بابليون مصر»؛
18
فكان من السهل تحريفه في اللغة العربية؛ لأن أول جزء منه «باب»، ويمكن أن يفهم أن الجزء الثاني منه مضاف إلى الأول، وقد سبقت الإشارة إلى هذا.
19
وليس من السهل أن نعرف أصل تسميته بقصر الشمع في اللغة العربية؛ فقد يكون لفظ «الشمع» تحريفا للكلمة القبطية «خيمى»، ولكن قد نصت الأخبار على أنه قد كان في حصن «بابليون» القديم هيكل للنار، وأنه قد بني هيكل آخر مثله في صرح من الصروح بالحصن الروماني، وذلك في مدة تملك الفرس للبلاد في القرن السابع. ونجد في كتاب ياقوت ذكر «قبة الدخان».
20
ولعل منشأ ذلك أن الصروح العالية كانت تتخذ في وقت الحروب مراقب تبعث منها الإشارات، فلعله قد جعل على أحد الصرحين أو عليهما معا منائر توقد فيها النيران للإشارة، فنشأ من ذلك اسم قصر الشمع.
21
ومهما يكن من أمر العرب وتحريفهم لاسم الحصن، فقد ظل كتاب أوروبا في القرون الوسطى يطلقون على ذلك الموضع اسم «بابليون»، وليس اسم مصر، وحفظوا تلك التسمية إلى ما بعد بناء القاهرة، فصاروا يطلقون على مدينة مصر اسم «بابليون»، ويسمون حاكمها «سلطان بابليون».
22
وبعد، فلنا كلمة أخرى؛ فإنه لم يرد لنا إلا القليل من أخبار ما كان في داخل الحصن من البناء في وقت حصار عمرو له، ولكنا نعرف أنه قد كان به مقياس للنيل بقيت آثاره إلى أيام المقريزي،
23
وكذلك نعرف أن بعض ما بقي به إلى اليوم من الكنائس كان عند ذلك قائما تصلي فيه جنود الروم، نضرب لذلك مثل الكنيسة الكبرى كنيسة «أبو سرجة»، ولعل منها كذلك كنيسة «المعلقة» نراها اليوم بعد أن مضى عليها من الدهر ثلاثة عشر قرنا.
24
الفصل الثامن عشر
حصار حصن بابليون وفتحه
عاد عمرو منذ أول شهر سبتمبر إلى حصن بابليون، وجهز نفسه لكي يضيق عليه الحصار، وكان ذلك الحصن منيعا على أعدائه، ولا بد أن تطول بهم مدة حصاره؛ إذ كانوا لا علم لهم بحيل الحصار، وليس معهم من عدته شيء، في حين أنه كان حصنا تحيط به أسوار عظيمة وصروح عالية يحيط بها من ورائها نهر النيل؛ إذ كان الخندق الذي حولها عند ذلك مليئا بالماء، وكان العرب قد غنموا بعض آلة الحرب في غزاة الفيوم ومن حصن تراجان في منوف، ولكنهم كانوا لا خبرة لهم بأمرها، ولا علم عندهم بطرق إصلاحها إذا هي اعتراها الفساد؛ ولهذا لم يضروا بها مسلحة الحصن إلا ضررا يسيرا،
1
مع أنه قد كان دونهم نهد من الأرض على نحو مائتي ياردة (ثلاثمائة ذراع) إلى جنوب الحصن، وهو موضع إذا وضعوا عليه آلة الحصار كان فيه رجحان لهم وقوة.
وقد قلنا فيما سبق إن الحصن كان على كل جانب النهر يتجه إليه بأطول جوانبه، تحف به المياه في وقت الفيض، وكان الباب الحديدي تجاه الخندق والمرسى في الجهة الجنوبية من الحصن، وكان في تجاهه جزيرة الروضة يتصل طرفها الجنوبي بالحصن بجسر من السفن، ولا سيما في أيام السلام. ولسنا ندري إذا كان ذلك الجسر قد ترك في إبان الحرب على ما كان عليه من قبل، ولكنا على يقين من أن القناطر فوق الخندق بقيت مشدودة إلى جانب الباب الحديدي في مأمن من الخطر، وأن السفن كانت تمضي بين الحصن والجزيرة بغير عائق؛ فإن عمرا لم يستطع بعد أن يملك زمام النهر مع كل ما كان من انتصاره؛ لأن أتيه الهدار لا يقوى عليه من هم أخبر من العرب بتسيير السفن. ولو أتى عمرو إلى الحصن من جانب النهر لاستاقت مياهه السفن التي أتى فيها، أو لأغرقها من في الحصن من رماة المنجنيق.
ولا خلاف بين مؤرخي العرب أجمعين في أن المقوقس (وهو البطريق قيرس) كان بالحصن
2
عند ابتداء الحصار، وكان تيودور كذلك بالحصن قبل وقعة عين شمس. ولا ندري إذا كان قد حضر الوقعة بنفسه أم لم يحضرها، ولعله كان هناك ثم لحق بالهاربين بعد الهزيمة ولاذ بالإسكندرية؛ وعلى ذلك كان «قيرس» القائد الأكبر في الحصن، وهو خليفة هرقل على مصر، ولكن القائد الذي كان يدبر أمر الجنود هو من يسميه العرب «الأعيرج»
3
ولعل ذلك تحريف منهم لاسم «جورج»، ولو كان الأمر كذلك لكان هذا الرجل خلاف الحاكم «جورج» الذي أمره عمرو أن يقيم له جسرا على ترعة قليوب. وكان في الحصن قائد آخر بقي فيه طول مدة الحصار، وهو «أودقيانوس» أخو «دومنتيانوس».
4
ولعل كل الجنود التي كانت تحت إمرة جورج تبلغ الخمسة آلاف أو الستة آلاف لا يمكن أن تزيد على ذلك كثيرا. وكان بالحصن كثير من الأزواد والذخائر من كل نوع، وكان قد اجتمع به عدد عظيم من غير الجند من أهل مدينة مصر والأديرة المجاورة، ولكن أغلب الظن أن هؤلاء أخرجوا عن طريق النهر ليوسعوا على الجنود. ويجدر بنا هنا أن نذكر أن كل الكنائس التي كانت في داخل الحصن كانت تؤمها قسوس على المذهب «الخلقيدوني» أو الملكاني، ولم يبح لأحد هناك أن يتعبد على غير ذلك المذهب؛ فإن قيرس كان لا يزال على عهده العدو الأكبر لمذهب القبط، وبقي على ذلك إلى آخر أمره، وإن في وجوده بالحصن لأقوى دليل إذا احتاج الأمر إلى دليل على أنه لم يبق بالحصن من القبط إلا من أزالهم الاضطهاد عن عقيدتهم، بل إن الروم أساءوا الظن ببعض هؤلاء، فوضعوهم في السجن وأنزلوا بهم فيه نكالا فظيعا كما سنرى فيما بعد.
ومن ذلك نعرف أن مؤرخي العرب ومن قال قولهم إنما يمسخون الحقيقة ويقلبونها قلبا؛ إذ يقولون إن جند الحصن أو كل من كان به كانوا من القبط؛ فإن القبط لم يكونوا في شيء من القتال ولا الجيوش، وكان الاضطهاد في مدة السنوات العشر قد شطر مذهبهم وفرقهم، فكان منهم من ذهبوا أفرادا وجماعات فهربوا إلى الجبال والكهوف، أو أووا إلى الصحراء، أو لاذوا بالأديرة الحصينة في الصعيد. وأما أقباط مصر السفلى وبابليون والإسكندرية فقد اضطروا إلى الدخول في مذهب الدولة، ولم يغن عنهم شيئا ما كان في قلوبهم من كره لما دخلوا فيه. وقد كتب مؤرخو العرب بعد الفتح بقرون، فكانوا يذكرون جيوش المصريين وقواد المصريين لا يميزون بين القبط والروم، فكثرت من ذلك زلاتهم وعظم خلطهم؛ فعلينا أن نبين هنا بيانا لا شك فيه أنه لم يكن في ذلك الوقت شيء اسمه القبط في ميدان النضال، ولم تكن منهم طائفة لها يد فيه، بل كان القبط إذ ذاك بمنجاة عنه قد أذلهم «قيرس» وأرغم أنوفهم؛ فليس من الحق في شيء أن يقول قائل إن القبط كانوا يستطيعون أن يجتمعوا على أمر أو ينزلوا إلى القتال أو يصالحوا العرب.
وكان حريا بقيرس عند ذلك أن يدرك كيف خذل مصر وأضعفها عن لقاء أعدائها، مهما كان في قلبه من عوامل الضغن على القبط؛ فقد أدى عسفه إلى شيء يظنه من يراه توحيدا لمذاهب الدين، وما هو كذلك؛ فإنه بعسفه قد قطع أسباب المودة بين الحكام والرعية قطعا، فما كان له أن يتوقع من القبط خيرا، بل كان خير ما يقع منهم له أن يعتزلوا جاهمين فينظروا إلى نضال بين طائفتين كلاهما غريب عنهم كريه في أعينهم. لقد كان أمر الروم يضعف، وقوة جيوشهم تخور، وأملهم في النصر وتخليص مصر يخبو شيئا فشيئا. أكان هذا ما قصده «قيرس» وسعى إليه؟
كان المقوقس آمنا إلى حين في قصره المنيع تحيط به مياه النيل، وكانت مجانيق الروم أقوى أثرا مما كان يرميه المسلمون إلى الحصن من حجارة وسهام، ولكن ما كانت تلك الحال لتبقى؛ فإن الماء في الخندق كان لا بد له أن يهبط بعد حين. وقد أدى صبر العرب وشدة بأسهم في القتال إلى خور في عزيمة من بالحصن واختلاف في رأيهم؛ فما مضى شهر من الحصار حتى جمع «قيرس» من وثق بهم من رءوس الحرس، ودعا معهم أسقف بابليون الملكاني، واستشارهم سرا في الأمر، وبسط لهم رأيه، وكان ذلك في أوائل شهر أكتوبر سنة 640، وقال لهم إن الدبرة في الحرب كانت عليهم؛ إذ قضى أعداؤهم على أكبر جيوشهم، ثم أتوا لحصارهم بما لا قبل لهم به من قوم أكثر منهم عددا وأشد في الحرب بأسا. وقال إنه لا يتوقع أن يأتي إليهم مدد يرفع عنهم الحصر قبل مضي أشهر. وإذا كان الحصن يستطيع المقاومة والصبر، وهو أمر لا شك فيه، فإن عقبى الحرب كانت كذلك لا شك فيها، وما كانت تلك العقبى إلا وبالا عليهم. ومنذ كان الأمر كذلك كان خيرا لهم أن يفدوا أنفسهم بالمال فيعطوا أعداءهم مقدارا منه ليرحلوا عنهم، فإذا هم استطاعوا ذلك وأمكنهم أن يبعدوا العرب عن البلاد بمال يبذلونه لهم كان في ذلك كل الخير؛ إذ يخلصون مصر فتعود إلى دولة الروم. وجعل قيرس يفتلهم في الذروة والغارب بمثل هذه الحجج يسوقها في بيانه الخالب الذي عرف به، حتى تبعه من اجتمع عنده من القوم، فاتفقوا على أن يمضوا في الأمر إذا استطاعوا كما شاء قيرس منهم، ولكنهم رأوا من الحزم ألا يزعجوا أهل الحصن من الجنود وممن كان رأيهم المضي في الحرب إلى أن يفنوا، فاستقر رأيهم على أن يذهب قيرس وأصحابه تحت ستار الليل إلى جزيرة الروضة بغير أن يحس بهم أحد، ويبعثوا إلى قائد العرب بما أرادوا فيفاوضوه ولم يطلع على الأمر مطلع.
5
تم الأمر بعد ذلك على أبلغ الكتمان، ففتح الباب الحديدي المفضي إلى النيل، واستقل الخارجون السفن من هناك، فعبروا إلى الجزيرة ونزلوا في الموضع الذي أنشئت فيه فيما بعد دار الصناعة. ولعل «جورج» قائد حرس الحصن كان معهم في تدبيرهم هذا، ولكنه قد بقي في الحصن حتى إذا ما نذر أحد بخروج قيرس وفشا خبر خيانته في الناس كان هو هناك ليخمد الخبر ويقضي على ما يشاع.
6
وقد أمر قيرس أن ترفع قناطر الحصن حتى يأمن خروج الناس منه إذا هم علموا بخروجه وذعروا من أجله. ولما بلغ جزيرة الروضة
7
أرسل إلى عمرو جماعة كان منهم أسقف «بابليون»، فلقيهم عمرو وأكرمهم، فأدوا رسالتهم فقالوا:
8 «إنكم قوم قد ولجتم في بلادنا، وألححتم على قتالنا، وطال مقامكم في أرضنا، وإنما أنتم عصبة يسيرة، وقد أظلتكم الروم، وجهزوا إليكم ومعهم من العدة والسلاح، وقد أحاط بكم هذا النيل، وإنما أنتم أسارى في أيدينا، فابعثوا إلينا رجالا منكم نسمع من كلامهم؛ فلعله أن يأتي الأمر فيما بيننا وبينكم على ما تحبون ونحب، وينقطع عنا وعنكم القتال قبل أن تغشاكم جموع الروم فلا ينفعنا الكلام ولا نقدر عليه، ولعلكم أن تندموا إن كان الأمر مخالفا لطلبتكم.»
9
فلم يبعث عمرو جواب ما أتوا به، وحبس الرسل عنده يومين حتى يروا حال المسلمين؛ إذ أبيح لهم أن يسيروا في العسكر ويروا ما فيه، ثم بعث عمرو برده مع الرسل وقال: «ليس بيني وبينكم إلا إحدى ثلاث خصال: إما أن دخلتم في الإسلام فكنتم إخواننا وكان لكم ما لنا، وإن أبيتم فأعطيتم الجزية عن يد وأنتم صاغرون، وإما أن جاهدناكم بالصبر والقتال حتى يحكم الله بيننا وهو أحكم الحاكمين.»
ففرح قيرس لعودة الرسل؛ إذ كان قد خاف عندما حبسهم عمرو، وجعل يقول لأصحابه أترون أن العرب يقتلون الرسل ويستحلون ذلك في دينهم؟ ولما جاء الرسل جاءوا وقد وقع في نفوسهم ما عند العرب من بساطة وإيمان، فقالوا: «رأينا قوما الموت أحب إلى أحدهم من الحياة، والتواضع أحب إلى أحدهم من الرفعة، ليس لأحدهم في الدنيا رغبة ولا نهمة، إنما جلوسهم على التراب، وأكلهم على ركبهم، وأميرهم كواحد منهم، ما يعرف رفيعهم من وضيعهم، ولا السيد منهم من العبد، وإذا حضرت الصلاة لم يتخلف عنها منهم أحد، يغسلون أطرافهم بالماء، ويخشعون في صلاتهم.»
10
وقد رأى قيرس مع ما اشترطه العرب من الشروط التي لا هوادة فيها ولا مفاوضة أن يبدأ في ذلك الوقت بعقد الصلح؛ إذ كان العرب تحصرهم مياه النيل قبل أن يهبط النهر ويستطيعوا السير والانتقال فيجوسوا خلال البلاد ، فأرسل إلى عمرو أن يبعث إليه جماعة من ذوي الرأي ليعاملهم ويتداعى معهم إلى ما عساه يكون فيه صلح، فبعث عمرو عشرة نفر أحدهم عبادة بن الصامت، وكان عبادة أسود شديدا، وأمره أن يكون متكلم القوم، ولا يجيب الروم إلى شيء دعوه إليه إلا إلى إحدى هذه الخصال الثلاث.
فركب العرب السفن إلى الروضة، فلما دخل عبادة على المقوقس هابه وقال: «نحوا عني ذلك الأسود، وقدموا غيره يكلمني.»
11
فقال العرب جميعا: «إن هذا الأسود أفضلنا رأيا وعلما، وهو سيدنا وخيرنا والمقدم علينا، وإنما نرجع جميعا إلى قوله ورأيه، وقد أمره الأمير دوننا بما أمره، وأمرنا ألا نخالف رأيه وقوله.» ثم قالوا، فكان قولهم عجيبا عند المقوقس: «إن الأسود والأبيض سواء عندهم لا يفضل أحد أحدا إلا بفضله وعقله وليس بلونه.» فقال المقوقس الرقيق لعبادة أن يتكلم برفق حتى لا يزعجه، فقال له عبادة: «إن فيمن خلفت من أصحابي ألف رجل أسود كلهم أشد سوادا مني
12 ... وإني ما أهاب مائة رجل من عدوي لو استقبلوني جميعا، وكذلك أصحابي، وذلك إنما رغبتنا وهمتنا في الجهاد في الله واتباع رضوانه، وليس غزونا عدونا ممن حارب الله لرغبة في دنيا ولا طلب للاستكثار منها ... لأن غاية أحدنا من الدنيا أكلة يأكلها يسد بها جوعه لليله ونهاره، وشملة يلتحفها ... لأن نعيم الدنيا ليس بنعيم، ورخاءها ليس برخاء، إنما النعيم والرخاء في الآخرة.»
13
فوقع هذا القول في نفس المقوقس، وقال لأصحابه: «هل سمعتم مثل كلام هذا الرجل؟! ... إن هذا وأصحابه قد أخرجهم الله لخراب الأرض.» ثم أقبل على عبادة فقال: «أيها الرجل الصالح، قد سمعت مقالتك وما ذكرت عنك وعن أصحابك، ولعمري ما بلغتم ما بلغتم وما ظهرتم على من ظهرتم عليه إلا لحبهم الدنيا ورغبتهم فيها، وقد توجه إلينا لقتالكم من جمع الروم لا يحصى عدده؛ قوم معروفون بالنجدة والشدة، ما يبالي أحدهم من لقي ولا من قاتل، وإنا لنعلم أنكم لن تقدروا عليهم ولن تطيقوهم لضعفكم وقلتكم
14 ... ونحن تطيب أنفسنا أن نصالحكم على أن نفرض لكل رجل منكم دينارين دينارين، ولأميركم مائة دينار، ولخليفتكم ألف دينار، فتقبضونها وتنصرفون إلى بلادكم ...»
فقال عبادة: «يا هذا لا تغرن نفسك ولا أصحابك. أما ما تخوفنا به من جمع الروم وعددهم وكثرتهم وأنا لا نقوى عليهم، فلعمري ما كان هذا بالذي تخوفنا به ... وإن كان ما قلتم حقا فذلك والله أرغب ما يكون في قتالهم وأشد لحرصنا عليهم؛ لأن ذلك أعذر لنا عند ربنا إذا قدمنا عليه إن قتلنا عن آخرنا كان أمكن لنا في رضوانه وجنته، وما شيء أقر لأعيننا ولا أحب لنا من ذلك، وإنا منكم حينئذ لعلى إحدى الحسنيين؛ إما أن تعظم لنا بذلك غنيمة الدنيا إن ظفرنا بكم، أو غنيمة الآخرة إن ظفرتم بنا، ولأنها أحب الخصلتين إلينا بعد الاجتهاد منا، وإن الله عز وجل قال لنا في كتابه:
كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله والله مع الصابرين ، وما منا رجل إلا وهو يدعو ربه صباحا ومساء أن يرزقه الشهادة، وألا يرده إلى بلده ولا إلى أرضه ولا إلى أهله وولده، وليس لأحد منا هم فيما خلفه، وقد استودع كل واحد منا ربه أهله وولده، وإنما همنا ما أمامنا ... فانظر الذي تريد فبينه لنا؛ فليس بيننا وبينك خصلة نقبلها منك ولا نجيبك إليها إلا خصلة من ثلاث، فاختر أيتها شئت، ولا تطمع نفسك في الباطل؛ بذلك أمرني الأمير، وبها أمره أمير المؤمنين، وهو عهد رسول الله
صلى الله عليه وسلم
من قبل إلينا ... إلخ.»
15
فأراد «قيرس» أن يستنزله عن شيء أو أن يجعله يقبل شيئا مما عرضه عليه فلم يقدر على شيء، بل وقع قوله على آذان صماء لما يقول، وقال عبادة يرد عليه بعد أن نفد صبره ورفع يديه إلى السماء: «لا ورب هذه السماء ورب هذه الأرض ورب كل شيء، ما لكم عندنا من خصلة غيرها، فاختاروا لأنفسكم.»
16
فاجتمع عند ذلك المقوقس بأصحابه، فقالوا: «أما الأمر الأول فلا نجيب إليه أبدا، فلن نترك دين المسيح إلى دين لا نعرفه .» وبذلك أبوا شرط الإسلام، فلم يبق إلا الجزية عن يد وصغار أو الحرب. قالوا: «فإنا إذا أذعنا للمسلمين ودفعنا الجزية لم نعد أن نكون عبيدا، وللموت خير من هذا.» فقال عبادة لهم: إنهم إن دفعوا الجزية كانوا آمنين على أنفسهم وأموالهم وذراريهم، مسلطين في بلادهم على ما في أيديهم وما يتوارثونه فيما بينهم، وحفظت لهم كنائسهم لا يتعرض لهم أحد في أمور دينهم. فلما قال عبادة ما قال مالت نفس المقوقس (قيرس) إلى الإذعان؛ فقد كان وقع في قلبه أن المسلمين لا بد منتصرون، فذهب ذلك بجرأته وقوة نفسه، ولكن المسيحيين لم يكونوا جميعا على ما كان عليه بطريق الإسكندرية الرومي. ويلوح لنا أن «جورج» قائد جنود الحصن أتى عند ذلك فلحق بالمجتمعين، ولقي المقوقس من أصحابه عزما شديدا على القتال، ورفض ما كان يراه من الإذعان. وهنا ينسدل ستار على الحوادث، كما يحدث في كثير من الأحيان، في تاريخ هذا العصر، فلم يبق لنا إلا أن نتلمس ما كان ونتحسس أخباره من وراء ذلك الستار.
17
ويظهر لنا أن كبار الروم عندما اختلف رأيهم على قبول شروط العرب أو رفضها طلبوا أن يهادنهم العرب شهرا ليروا فيه رأيه، فأجابهم عمرو جوابا قاطعا؛ إذ قال إنه لن يمهلهم أكثر من أيام ثلاثة. غير أن عمل المقوقس لم يلبث أن ذاع بين الناس، فلما رجع أصحابه إلى الحصن عائدين من الروضة إذا بالناس قد ثار ثائرهم على المقوقس، وأبى جند الإمبراطور إلا القتال، وظهر أمر الذين كانوا يأبون الإذعان، واستقر الأمر على هذا سريعا، فما انتهت أيام الهدنة الثلاثة حتى أخذ أهل الحصن يتجهزون للخروج إلى المحاصرين يناجزونهم، ولم يبعثوا ردا إلى عمرو. وفيما كان عمرو في اليوم الرابع بعد انتهاء الهدنة يفكر فيما يصنع، إذا بالروم قد خرجوا إليه فوق قناطرهم، فأخذوا جنود المسلمين على غرة. غير أن تلك البغتة لم تذهل العرب، فأسرعوا إلى سلاحهم وقاتلوا الروم قتالا شديدا، وقاتل الروم يومئذ مستبسلين. غير أن العرب تواردوا إليهم منذ نذروا بهم فتكاثروا عليهم، فما استطاعوا إلا أن يتراجعوا حتى دخلوا إلى الحصن بعد أن قتلت منهم مقتلة عظيمة.
أما المقوقس فإنه ما زال رأيه من الإذعان والتسليم للعرب مستقرا في قلبه، وكان مشئوما مشترك العقل، فرأى في انهزام الروم فرصة له؛ إذ إن من عصوه ونبذوا رأيه احتكموا إلى السيف، وحاربوا مستبسلين كما ينبغي لجنود الروم أن يحاربوا، وأخذوا عدوهم على غرة، ولكن ذلك لم يغنهم شيئا، بل أخذتهم سيوف عدوهم. ورأى المقوقس وهو خليفة الإمبراطور على مصر أن النصر على هؤلاء العرب لن يتأتى له، وزادته تلك الهزيمة الجديدة يقينا أنه لن يستطيع طرد العدو من البلاد، ثم رأى من كانوا يعصون رأيه وينادون بالقتال قد ضعفت نفوسهم، فلم يلق منهم بعد عصيانا، وأذعنوا له مرغمين جاهمين، على أن يعيد الكرة على عمرو فيبعث إليه في أمر الصلح. وإنه لمن العجيب أن شروط عمرو لم تتبدل، ولا يستطيع قائل أن يقول إن العرب كانوا يبدلون شرطهم، ولم يفعلوا ذلك في أول الحرب ولا في آخرها، وكانت الخصلة التي اختارها الروم هي الجزية والإذعان، فعقد الصلح على أن يبعث به إلى الإمبراطور، فإذا أقره نفذ، وأخذ قيرس على نفسه أن يبعث به إلى هرقل، واتفق الروم والعرب على أن تبقى الجيوش حيث هي إلى أن يجيء رد هرقل، ولا سيما الحصن؛ فقد اتفقنا على أن يبقى مع الروم إلى أن يقر هرقل الصلح.
سافر المقوقس عند ذلك مسرعا في النهر حتى بلغ الإسكندرية، وبادر بأن بعث إلى الإمبراطور كتبا يبين فيها ما كان منه، ويعتذر عنه بأن الحاجة ألجأته إليه من صلح العرب، ويسأله أن يقر الصلح حتى يكفي مصر شر الحرب ووبالها. وليس بعجيب أن يكون هرقل قد حار في أمر تلك الكتب التي جاءته من المقوقس؛ فإنها لا تبين إذا كان الصلح خاصا بحصن بابليون، أو أنه كان صلحا على ترك بلاد مصر جميعها حتى الإسكندرية للعرب، ولا تبين هل يبقى العرب في البلاد بعد أخذ الجزية أو يرحلون عنها. فهل كان معنى ذلك الصلح نزع مصر من دولة الروم وإسلامها لأعداء المسيحية؟ لقد كان الإمبراطور منذ شهور يلوم قواده، ولا سيما «قيرس» خليفته على مصر؛ لأنهم فرطوا في الأمر، حتى استطاعت فئة قليلة من العرب أن ترفع ألويتها في مصر وتغلب جيوش الدولة وتحادها. فإذا به وقد بعث إليه بصلح ليس يدري هل معناه رشوة العدو بمال يأخذه على أن يخرج عن تلك البلاد، أم معناه إسلامها له فيبقى ذلك العدو سيد الأرض يجبي له خراجها ويتنعم بقمحها وبخيراتها؟ عجب الإمبراطور ولم يدر ما الذي أدى إلى ذلك الإذعان، وعزم على أن يدعو (قيرس) المقوقس ليحاسبه على ما كان منه في مصر.
فبعث إليه رسالة يأمره فيها بأن يأتي إليه على عجل. ولعل ذلك كان في وسط نوفمبر، ولم تكن الرسالة مما يطمئن إليه القلب. ولعل المقوقس قد أحس بما أجرم، وخشي العاقبة منذ جهز في نفسه ما يقوله لمولاه إذا هو حاسبه، فلم يكن لأحد سواه علم بما أدى من أمانته وما اختان منها، ولا بما اتبع من أوامر مولاه بنصها أو بالمقصود منها، وما عصاه فيها في مدة ولايته في تلك السنين العشر سني العسف والاضطهاد، ولكن شيئا واحدا لم يخف عن أحد، وذلك أنه قد جاء إلى مصر يقصد إلى قصد ديني فلم يوفق فيه، بل أخفق إخفاقا وبيلا، وجر إخفاقه هذا على حال مصر السياسية نكبة جليلة وخطبا عظيما، ولا بد أن يكون ذلك الرجل قد أحس بأن إسراعه إلى اليأس من أمر الروم وإقباله على مفاوضة العدو - لا، بل سعيه إلى ذلك سعيا حثيثا - كل ذلك وصمه بمظنة السوء، وجلله بشبهة الخيانة، وما كان ليستطيع النجاة من مثل هذا الفكر مهما صور لنفسه من حسن قصده، ومهما خادعها بتزويق نيته وتزيينها. لا بد أن يكون قلب ذلك الرجل قد جاش بمثل هذه الأمور عندما بلغ حضرة الإمبراطور في القسطنطينية. ولقي الإمبراطور وما كان أهوله من لقاء؛ إذ لم يكن له بد من أن يقر بأنه رضي بأن يلقي أموال مصر إلى العرب.
18
على أنه مع ذلك جعل يدافع عن فعله، ولعل ذلك كان خداعا وتصنعا، فقال إن العرب قد يحملون على الخروج بعد من مصر، وإن الجزية التي دفعتها إليهم يسهل عليه أن يجبي مقدارها من متاجر الإسكندرية وبضائعها، فيعوض ذلك ما خسرته خزائن الدولة. وأما فيما سوى ذلك فقد كان المقوقس لا يرى موضعا للأمان؛ إذ كان العرب قوما لا يشبهون سائر الناس في شيء؛ فهم عند قولهم لا يعبئون بأمر من أمور هذه الحياة الدنيا ولا متاعها، لا يطلبون منها إلا لقمة يسدون بها رمقهم وشملة يسترون بها أبدانهم؛ فهم «قوم الموت»، يرون ربحا في أن يقتلوا؛ لأنهم يرون في ذلك الشهادة التي ينالون بها الجنة، في حين أن الروم يحبون متاع الحياة الدنيا ويحرصون عليه، وقال للإمبراطور: لو رأيت هؤلاء العرب وبلاءهم في القتال لعرفت أنهم قوم لا يغلبون. فليس لنا من سبيل خير من الصلح مع عمرو قبل أن يفتح حصن بابليون عنوة، وتصبح البلاد غنيمة له.
بمثل هذه الأقوال أدلى المقوقس بحجته، وقد جاء في كتاب «نيقفوروس» أن الإمبراطور قبل أن يبعث إلى «قيرس» ليسير إليه كان قد وجه إليه «مارينوس» ليشترك معه في الرأي لعلهما يجدان سبيلا على العرب، وجاء فيه أيضا أن «قيرس» عندما بعث إلى الإمبراطور يعرض عليه دفع الجزية طلب إليه أن يزوج عمرو بن العاص من «أودوقيا» أو إحدى بناته الأخرى، فإذا هو رضي بذلك تنصر ابن العاص. وتلك لعمري قصة لا تصدق؛ فما هي إلا عودة ضالة إلى قصة سابقة قيلت منذ سنين، ألا وهي قصة تزويج «أودوقيا» لملك الخزر، فما كان «قيرس» ليجهل ما كان عليه المسلمون في إسلامهم من ثبات لا زعزعة به، واعتقاد لا هوادة فيه. وإن قصة يقال فيها إن عمرو بن العاص يتنصر لهي قصة ضل فيها الوهم ضلالا بعيدا، وليس ثمة أثر لمثل هذا الخبر في كتاب آخر كائنا ما كان، ولكن هرقل ثار ثائره بغير أن يعرض عليه المقوقس أمر ابنته وتزويجها. وما كان في حاجة إلى مثل هذا ليتقد غضبه؛ فقد دهاه ما كان من أمر جنده، وعظم غيظه أن ينهزم منهم مائة ألف ليس أمامهم من العرب إلا اثنا عشر ألفا. فاتهم المقوقس - ولا بأس أن نسميه بهذا الاسم حتى في عاصمة الروم - اتهمه بأنه خان الدولة وتخلى للعرب عنها، ثم حكم عليه بأنه مرتكب مجرم، وما كان دونه إلا الموت جزاء ذنبه، ثم شرع يقرعه ويؤنبه على ما كان منه قائلا إنه لم يكن أكثر غناء من بعض فلاحي مصر، ونعته بالجبن والكفر، وأسلمه إلى حاكم المدينة، فشهره وأوقع به المهانة،
19
ثم نفاه من بلاده طريدا.
ولا بد أن رفض الإمبراطور للصلح كان في هذه الأثناء قد بلغ العرب وهم في حصار الحصن قرب نهاية عام 640، وانتهى بذلك أمر الهدنة وعاد القتال، وعض الفريقان على النواجذ من الأضراس. وكان النيل عند ذلك يهبط سريعا، وهبطت معه المياه التي في الخندق، وكلما هبطت خبت معها آمال من في الحصن إن لم تخب شجاعتهم. فلما فرغ الخندق من مائه استعاض الروم عنه بأن رموا في قاعه حسك الحديد، وجعلوا ذلك الحسك كثيفا عند مدخل أبواب الحصن. ولا بد قد كان المسلمون لقاء ذلك يسعون إلى طم الخندق وهدم جوانبه فيه حتى ينفذوا منه. غير أننا لا نعلم إلا قليلا مما كان في أثناء ذلك الحصار، فلا نجد غير ذكر الترامي بالآلات والضرب بالدبابات، وخروج جنود الحصن إلى العرب وهجوم العرب على من بالحصن، ولكن من الجلي أن العرب كانوا لا علم لهم بفنون الحصار وآلاته؛ ولذلك كان أثر حصارهم في الحصن ضئيلا بطيئا. ولسنا ندري، لعل حصارهم وإن كانوا ضيقوا به على الحصن من جانب البر لم يكن ذا أثر من جانب النهر، ولكن يلوح لنا أن العرب لقوا شيئا من المساعدة في ذلك الحصار من جماعة لعلهم من أهل الفيوم بعد فتحها، وكانوا أحابيش من الحزبين الأخضر والأزرق؛
20
فكانت عصبة من الحزب الأخضر يقودها «ميناس»، وأخرى من الأزرق يقودها «كزماس بن صمويل»، تعبران النهر ليلا إلى الروضة فتنهبان فيها، أو تهبطان على ما قد يكون بالنهر من سفن الروم أثناء عبورها إلى الحصن أو رسوها إلى جانب الباب الحديدي، فكانت هذه الغزوات تؤذي مصلحة الحصن أذى كبيرا، وتنقص من هيبة الروم وسلطانهم في النهر.
ولم يكن حصار المسلمين من جانب البر نفسه على ما ينبغي من الحذر واليقظة؛ فقد خرج مرة جماعة من حرس الحصن ففاجئوا عبادة والزبير
21
في صلاتهما، فوثب الرجلان إلى فرسيهما وحملا على الروم. فلما رأى الروم أن العدو لاحق بهم جعلوا يلقون مناطقهم وحليتهم ليشغلوه بذلك عن طلبهم، وعدوهم لا يلتفت إليها حتى دخلوا الحصن، وأصيب عبادة إصابة خفيفة من حجر رمي به من فوق الحصن.
22
فرجع القائدان المسلمان، ولكنهما لم يلتفتا إلى ما ألقاه الروم، بل عادا إلى موضعهما فأتما صلاتهما، وخرج الروم إلى متاعهم يجمعونه.
وقد روى الواقدي رواية عن قتال في موضع آخر، قال: إن المسلمين كانوا في يوم جمعة قد اجتمعوا للصلاة، وسار بينهم عمرو بن العاص يحرضهم على القتال، فرآهم ربيئة الروم، وحمل إلى قومه في الحصن خبر اجتماعهم. فلما انتهى عمرو من خطبته نزل عن منصته الساذجة التي كان قائما يخطب عليها، وأم المسلمين في الصلاة، وفيما هم كذلك هبط عليهم جنود الروم بغتة وهم عزل ليس معهم السلاح، فأوقعوا بهم.
23
ولما مضى الشتاء قل خروج الروم من الحصن وقتالهم للمسلمين، في حين كثر هجوم المسلمين على الحصن وزاد شدة، واشتدت وطأة الحراسة والقتال على الروم، وخارت قواهم عن الدفاع. على أن حصونهم ما زالت على عهدها لم يصدع الحصار منها إلا قليلا، ثم فتك المرض بأهل الحصن
24
فقل عددهم، ولم يأتهم المدد، يتطلع حراسهم وهم فوق صروحهم إلى ما حولهم من الآفاق فلا يجدون أثرا يلوح من رماح الروم ودروعهم طالعا من بين قباب الأديرة البيضاء التي تملأ السهل في شمال الحصن، وكان النهر عند ذلك قد هبط وجفت الأرض ، وإذا كان ثم أمل في قدوم جيش من الروم لإمداد الحصن فقد كان ذلك وقته وتلك فرصته.
ولعل ذلك هو الوقت الذي بلغ عمرا أن الروم قد أعدوا جيشا في مصر السفلى بين فرعي النيل وجعلوا عليه «تيودور»، فلم يقم عمرو حتى يقبل عليه العدو، بل ترك من جيشه جماعة تكون ردءا عند الحصن، ثم سار على الفرع الشرقي للنيل، وعبر النهر عند أثريب، وتوجه نحو سمنود. فبعث «تيودور» باثنين من قواده ليدافعا عن المدينة، فاتصلا بجنودهما بمن كان في المدينة من الحرس، غير أن هؤلاء لم يرضوا أن يتبعوا الروم في قتال العرب، والتقى الجمعان مع هذا على كثب من سمنود، ودارت الدائرة على المسلمين وعلى من كان معهم ممن أسلم من النصارى، وقتل من هؤلاء وأولئك خلق كثير، ورأى عمرو أنه لن يستطيع أن يصيب البلاد الشمالية بشيء كبير؛ إذ كانت تحميها الخنادق والترع دون جرائد الخيل العربية، فعاد أدراجه إلى بوصير وجعل حولها الحصون، ثم رمم حصون «أثريب» و«منوف»، وجعل فيها مسالح من المسلمين، ثم عاد إلى حصار الحصن، ولكن «تيودور» لم يستطع أن يستفيد شيئا من وراء انتصاره في ذلك القتال، ولم يقدر على أن يبعث من جنده إمدادا يبلغ الحصن أو يقترب منه.
25
ولعل عجز «تيودور» وقعوده عن مواصلة الحرب كانا عن خيانة أصحابه وتركهم له. ولسنا ندري ما كان حال الجند الذين كانوا حرسا في المدائن، فلا نعلم كم كان منهم من القبط وكم كان من الروم، بل إن المؤرخين ينسون أمرا فلا يذكرون عنه شيئا، وذلك أن الروم لا بد قد امتزجوا بالمصريين في مدة القرون التي أقاموا فيها بمصر، واختلطت دماؤهم، وتقاربت أسباب التواصل بينهم، وكان القبط يكرهون الدولة، ولهم في ذلك كل العذر، وكان بعض الروم لم يتغلغل الولاء لدولتهم في قلوبهم، فكانوا لا يتورعون عن مساعدة العرب إذا ما رأوا في ذلك نفعا لأنفسهم، يفعلون ذلك حتى ولو لم يدفعهم دافع من اختلاف في الدين مع قومهم. وإنا موردون هنا خبرين من أخبار أمثال هؤلاء وقعا في هذا الحين؛ فالأولى قصة قائد اسمه «كلاجي»، لحق بالمسلمين وغادر قومه، فسعى «تيودور» حتى لقيه، وجعل يثنيه عما هو فيه بالحجة الدامغة حتى حمله على الرجوع، وكان قد ترك زوجته وأمه رهينتين في الإسكندرية فافتداهما، واشترى عفو «تيودور» عنه بمبلغ من المال، ثم تسلل بجنوده تحت الليل من بين عسكر المسلمين ولحق ب «تيودور»، فأرسله إلى «نقيوس» ممدا لمن فيها من الجند مع القائد «دومنتيانوس». وأما الخبر الآخر فقصة الخائن التائب «سبنديس»؛
26
فإنه مثل «كلاجي» تسلل من عسكر المسلمين في الليل وسار إلى دمياط، وكان عليها قائد اسمه «حنا»، فأرسله حنا إلى نائب الحاكم بالإسكندرية وبعث معه بكتاب، وقد أقر «سبنديس» بذنبه والدموع تنحدر من مآقيه، وقال: «لقد كان مني ما كان منذ ألحق حنا بي العار بأن ضرب وجهي ولم يرع حرمة سني، فلحقت بالعرب بعد أن كنت خادم الدولة الأمين.» وفي هذا ما يدل على ما كانت عليه أسباب الوطنية من الوهن، وما كان عليه القوم من الضعف في أمر دينهم.
ومر اليوم بعد اليوم ولا شيء يبشر أهل الحصن، ولا كتاب يدخل إلى قلوبهم الرجاء. فلم تبلغهم إلا أنباء سوء وشؤم؛ فقد بلغهم نبأ غضب هرقل على المقوقس، ونقضه لأمر الصلح، وحكمه عليه بالنفي، ولكن لم يبعث الإمبراطور أحدا من جنوده الذين كان بهم معجبا، ولم تغن عن الحصن شيئا أوامره التي بعث بها إلى قواده. غير أن الناس ما زالوا يعللون النفس بالآمال إلى أن سمعوا يوما تكبيرا عاليا في عسكر المسلمين، وذلك في أوائل شهر مارس سنة 641، فلما استطلعوا الأمر عرفوا أن هرقل قد مات؛ فخارت عند ذلك نفوسهم، ولم يكن ذلك لأنهم صوروا لأنفسهم ما لا بد أن يعقب موته من الاضطراب في الدولة، بل لأنهم قد ذهب عنهم ملكهم الشيخ وكان باسلا في الحرب، فكان في ذهابه عنهم ذهاب لأمرهم وخور في عزيمتهم. وقد قال أحد مؤرخي العرب: «فكسر الله الروم بموته.»
27
وحسبنا بقوله هذا دليلا على ما أحدثه موته من الأثر في جند مصر. وأما العرب فقد زادهم نبأ موته شدة وجرأة، وضاعف من همتهم في فتح الحصن.
ولكن قد بقي الحصن بعد ذلك شهرا لا يسلم، فلما أبطأ الفتح قيل إن الزبير وهب الله نفسه، وأقبل مع جماعة يقودهم لفتح الحصن بعد أن أعد لذلك الأمر عدته. وكان الخندق قد طم جزء منه استعدادا للهجوم، ولم يعق العرب عن ذلك دفاع أهل الحصن، وكانوا يفتك بهم المرض، ويقعد بهم اليأس، ولكن ساعة الهجوم بقيت سرا. فلما جاء وقتها أقبل العرب سراعا تحت جنح الليل،
28
ووضع الزبير سلما على السور ولم يفطن إليه أحد،
29
فما شعروا إلا والبطل العربي على رأس الحصن يكبر وسيفه في يده، وتحامل الناس إليه من داخل الحصن، غير أن السهام أمطرتهم من العرب في خارجه، واستطاع بذلك أصحاب الزبير أن يصلوا إليه فوق السلم ويطئوا الأسوار بأقدامهم. والظاهر أن الروم كانوا يتوقعون هجوم العرب من ذلك الجانب، فبنوا حائطا تعترض الممشى فوق السور من جانبي ذلك الموضع، فلما جاء العرب الذين صعدوا إلى الحصن وأناموا من كان هناك من حرسه وملكوا رأسه، ألفوا طريقهم مسدودة يعترضها ذلك الحائط، فلم يجدوا سبيلا إلى السلم ليهبطوا منه إلى قلب الحصن، ورأوا أنفسهم قد بلغوا رأس الأسوار ثم لا سبيل لهم وراء ذلك، وكانت تلك فرصة للمدافعين، ولو كان في قلوبهم بقية من القوة لاستطاعوا أن يرموهم بسهامهم فيردوا ذلك النفر أو يقضوا عليهم، ولكنهم ما كانوا ليفعلوا شيئا من ذلك وقد بلغت أرواحهم التراقي، فاجتمع كبارهم على عجل في أول الصباح الباكر فسألوا عمرا الصلح، وعرض «جورج» قائد الجند في الحصن أن يسلم على أن يأمن كل من هناك من الجند على أنفسهم. فقبل عمرو منهم الصلح، وخالفه الزبير خلافا شديدا في ذلك، وقال له إنه كان على وشك أن يفتح الحصن عنوة، وقال: «لو صبرت قليلا لنزلت من السور إلى داخل الحصن، ولكان الأمر على ما نشتهي.» ولكن عمرا لم يلتفت إلى ما قاله، وكتب عهد الصلح على أن يخرج الجند من الحصن في ثلاثة أيام، فينزلوا بالنهر، ويحملوا ما يلزم لهم من القوت لبضعة أيام، وأما الحصن وما فيه من الذخائر وآلات الحرب فيأخذ العرب كل ذلك،
30
ويدفع أهل المدينة للمسلمين الجزاء.
وكانت حملة العرب الأخيرة على الحصن في يوم الجمعة السابق لعيد الفصح، وذلك في السادس من أبريل سنة 641، وكان خروج الروم منه في يوم الاثنين، وهو عيد الفصح.
31
وفي مدة تلك الأيام الثلاثة جمع الروم السفن من جزيرة الروضة، ووضعوا فيها المئونة، وأخذوا في التجهز للهبوط في النيل إلى مصر السفلى. ولقد كان أشد لحزن جيش المسيحيين أن آخر يوم لهم في الحصن هو يوم الفصح (يوم القيامة)، وكأننا بهم وقد اجتمعوا في الكنائس قبل أن يخرجوا والحزن سائد عليهم والذل ضارب فيهم لما أصابهم من الهزيمة على يد المسلمين. ويجدر بنا أن نذكر هنا أن كبار الروم لم يتعظوا بما كان، ولم ترق قلوبهم لما نزل بهم من ذهاب أمر المسيحيين في مصر، ولم تقع في نفوسهم حرمة ليوم الفصح الذي خرجوا فيه، فبقيت في صدورهم العداوة والشحناء الذهبية لم يذهب منها شيء. وقد ذكرنا من قبل أنهم سجنوا في أول الحصار كثيرا من القبط الذين كانوا في الحصن؛ وذلك لأنهم أبوا أن يتركوا دينهم، أو لأنهم رابهم منهم أمر. فلما جاء يوم الفصح الذي كان فيه الخروج من الحصن، جعله الروم يوم وقعة ونقمة من هؤلاء المسجونين التعساء، فسحبوهم من سجونهم، وضربوهم بالسياط، وقطع الجند أيديهم، أمرهم بذلك كبيرهم «أودوقيانوس». ولا عجب مع هذا أن نجد الأسقف المصري يسبهم في ديوانه حانقا، ويسميهم «أعداء المسيح الذين دنسوا الدين برجس بدعهم، وفتنوا الناس عن إيمانهم فتنة شديدة لم يأت بمثلها عبدة الأوثان ولا الهمج، وعصوا المسيح وأذلوا أتباعه. فلم يكن في الناس من أتى بمثل سيئاتهم ولو كانوا من عبدة الأوثان.»
32
ويصف الأسقف المصري أنين أولئك الأسرى الذين مثل بهم وبكاءهم؛ إذ يساقون مطرودين من الحصن يشيعهم السباب. وإنه ليس بغريب مع ذلك من مثل الأسقف المصري أن يقول إن فتح الحصن للمسلمين لم يكن إلا عقاب الله على ما فعله الروم من الأفاعيل في القبط، ولو أن مثل هذا القول ليس مما يصح في الأذهان. على أن ذلك الأمر له معنى؛ إذ يدل على ما كان بين شيعتي المذهبين المسيحيين من عداوة لا تحل عقدتها، بقيت في قلوبهم لم تخب ولم تخمد نارها، مع ما ظهر من ثمار اختلافهم وعواقب تخاذلهم من فوز الإسلام وعلو أمره.
الفصل التاسع عشر
السير إلى الإسكندرية
انتهى حصار بابليون في اليوم التاسع من أبريل سنة 641 بعد أن لبث سبعة أشهر، وهذا أمر قد ورد جليا في أخبار العرب. على أن جل مؤرخيهم إن لم يكونوا كلهم يخلطون الصلح الأخير الذي سلمت به الروم الحصن بعد أن نفي المقوقس من مصر، بالصلح الذي حدث قبل ذلك في أوان الفيضان بعد بدء الحصار ببضعة أسابيع، وهو الذي عقده المقوقس ولم يقره الإمبراطور. وإنا نستطيع أن نتبين أصل ذلك الخطأ بعد أن انكشف لنا التاريخ الحقيقي، كما نستطيع أن نتبين ما نشأ عن ذلك الخطأ من خلط آخر لم يكن أقل منه شأنا. فليس في التاريخ مواضع وقع عليها خلاف أشد مما وقع في أمر مصر، وهل كان فتحها عنوة أو صلحا. ويقصد هؤلاء الكتاب بلفظ مصر أحيانا كل البلاد، وأحيانا حصن بابليون. وقد أوضحنا فيما سلف أن الحصن يمكن الاختلاف فيه؛ فقد وقع فيه حادثان؛ أحدهما فتح بالقوة؛ فإن الزبير علاه، وكان ذلك سببا في تخذيل الروم وتسليمهم؛ وأما الآخر فإن الفتح لم يكن كله عنوة، بل إن حملة الزبير إنما أدت إلى أن يسلم أهل الحصن ويصالحوا. على أن قصارى الأمر لم يكن غير تسليم عن أمان وصلح، وقد بين الصلح للروم شرط الخروج؛ وعلى ذلك فلا مناص لنا من أن نفند قول من يقول إن العرب فتكوا بمن كان في الحصن، فما ذلك إلا حديث خرافة أساسه قول من قال إن الحصن أخذ عنوة.
1
ولكن الصلح الذي أبرم عند بابليون لم يكن إلا عهدا حربيا، ولم يكن عقدا سياسيا؛ فقد رضي فيه عمرو بأن يشتري الحصن ويدفع ثمنا له تأمين من كانوا فيه، وخروجهم منه بغير أن يسلموا أو يدفعوا الجزية، وإنما دفع الجزية من بقي من أهل المدينة. وإذ كان ذلك العهد لا يمس إلا مدينة مصر والحصن، فقد كانت الجزية قليلة ومؤقتة، فقال مؤرخ إنها كانت دينارا لكل من جنود العرب ولباسا،
2
وكانوا في أشد الحاجة إليه. وهذا القول يتفق مع ما أورده مؤرخ آخر إذ قال:
3
إنه قد بقي في مصر بعد فتح الحصن جماعة كبيرة من جنود القبط. فلما رأى هؤلاء ما كان عليه العرب من الرثاثة قالوا: «ما أرث العرب وأهون عليهم أنفسهم! ما رأينا مثلنا دان لهم.»
4
فلما سمع عمرو مقالتهم دعا جماعة من كبارهم إلى وليمة فنحر جزورا،
5
وصنع لهم المرق بالماء والملح، وجعل ذلك أمامهم، وقد جلس القبط إلى جانب العرب، فجعل العرب ينهشون اللحم نهشا، حتى بشع القبط ذلك وعادوا بغير أن يأكلوا. فلما كان اليوم الثاني أمر عمرو قوامه أن يأتوا بألوان الطعام في مصر، وأن يهيئوا منها وليمة عظيمة، ففعلوا ذلك، وجاء أهل مصر فجلسوا إلى ذلك الطعام وأصابوا منه، فلما فرغوا من أكلهم قال عمرو للقبط:
6 «إنني أرعى لكم من العهد ما تستوجبه القرابة بيننا، وقد علمت أنكم ترون في أنفسكم أمرا تريدون به الخروج، فخشيت أن تهلكوا، فأريتكم كيف كان العرب في بلادهم وطعامهم من لحم الجزر، ثم حالهم بعد ذلك في أرضكم وقد رأوا ما فيها من ألوان الطعام الذي قد رأيتم. فهل تظنون أنهم يسلمون هذا البلد ويعودون إلى ما كانوا فيه؟ إنهم يسلمون قبل ذلك حياتهم ويقاتلونكم على ذلك أشد القتال، فلا تلقوا بأنفسكم إلى التهلكة، وادخلوا في الإسلام، أو ادفعوا الجزية وانصرفوا إلى قراكم.»
7
وهذه القصة عجيبة؛ إذ إنها تظهر جانبا آخر من الخلق يختلف عما سمعناه من قول عبادة بن الصامت من احتقار هذه الحياة ونعيمها، وهو القول الذي عجب له قيرس وردده. ولتلك القصة شأن آخر؛ وذلك أنها تدل دلالة واضحة على أن بعض القبط أخذوا عند ذلك يختارون الإسلام ويفضلون الدخول فيه على دفع الجزية؛ فقد رأى هؤلاء أن الإسلام يجعل لهم ما للمسلمين وعليهم ما على المسلمين، ويساويهم بالفاتحين في شرف محلهم، ويجعلهم إخوانهم في كل شيء، يسهم لهم في الفيء، ولا يفرض عليهم الجزاء. فكان في ذلك باعث قوي لكثير منهم على الدخول في الإسلام، لا سيما وقد طحن المقوقس عقيدتهم طحنا، وحطم يقينهم باضطهاده. وكذلك دخل في الإسلام كثير من الروم، بعضهم جنود وبعضهم ممن حل في مصر منهم، وفي هؤلاء يقول حنا النقيوسي: «قوم ارتدوا عن دينهم المسيحي ودخلوا في دين البهائم.» وكان هؤلاء المسلمة يتظاهرون بأنهم من أشد الناس في أمر الدين، يدفعهم ذلك إلى مساعدة إخوانهم العرب المسلمين على استصفاء أموال المسيحيين الذين أخرجتهم الحرب من ديارهم، وصاروا يستبيحون لعنهم، ويصمونهم بأنهم «أعداء الله».
8
ولكن هؤلاء الذين أسلموا لم يكونوا إلا قليلا، وبقي جمهور القبط على دينهم يزدرون الذين خرجوا من نصرانيتهم، وينفرون من ذلك الدين الجديد الذي دخلوا فيه، وهذا ظاهر في قول الأسقف المصري «حنا». ويجدر بنا أن نعيد هنا ما سبق لنا قوله، وذلك أن القبط في ذلك العصر لم يكن لهم زعيم يأتمرون بأمره، ولا جماعة يلزمونها؛ فلم تكن بهم قدرة على أن يتعاونوا على أمرهم، فكان الرجل منهم يرى لنفسه، وكانت الطائفة منهم يرون لأنفسهم بين حين وحين، ولكن لم يكن فيما بينهم تساند أو تعاون؛ إذ لم يكن لديهم سبيل إلى توحيد قصدهم أو التكاتف في السعي إليه؛ وعلى ذلك فمن أكبر الخطأ أن يقول قائل إن القبط عامتهم دخلوا في عهد الصلح الذي كتبه عمرو عند فتح بابليون؛ فإن ذلك العهد إنما دخل فيه أهل ذلك الموضع. على أن شروط ذلك الصلح نفسه عرضت فيما بعد على من كانوا على كثب من تلك الناحية؛ فإن عبد الله بن حذافة السهمي سيره عمرو إلى عين شمس ليعامل أهل المدينة والكورة التي حولها.
9
وهذا يدل على أن المسلمين عند فتحهم للمدينة أول مرة لم يأخذوا أمرها في يدهم ويقيموا فيها حكم الإسلام.
ولكن هذا الصلح أحدث في دولة الروم أثرا كبيرا، مع أنه لم يكن إلا صلحا مقصورا على جماعة صغيرة؛ وسبب ذلك مكانة ممفيس أو بابليون، فإنها وإن لم يبق لها المحل الأول في البلاد؛ إذ مضى عليها زمن طويل وليست هي عاصمة البلاد؛ كانت لا تزال ذات شأن عظيم؛ إذ كانت باب إقليم الصعيد وإقليم مصر السفلى، وكان حصنها منيعا لا يكاد ينال، فإذا هو وقع في يد عدو دانت له بلاد الصعيد جميعا، وهابته بلاد مصر السفلى في الشمال. ولسنا ندري ماذا كان قواد الروم يصنعون طول مدة الشتاء، وما الذي حملهم على أن يخلوا ما بين المسلمين وبين الحصن حتى استطاعوا على مر الزمن أن ينزلوا من فيه، ولكنا نعلم حق العلم أن الروم ضعفت قوتهم وخارت عزيمتهم عندما فتح العرب ذلك الحصن، في حين أن العرب زادوا قوة وجرأة، وأصبح في يد عمرو ملك الفرما وبلبيس وأثريب وعين شمس؛ فكان باسطا سلطانه على الجانب الشرقي كله من مصر السفلى، فلما دان له الحصن صار سلطانه ثابتا على مجمع النهرين، وجمع في يده أزمة وادي النيل الأوسط، وتم له بذلك الشطر من فتح مصر.
وإنا نرى أن عمرو بن العاص بعدما فرغ من فتح الحصن أمر بإقامة الجسر من السفن في النهر، أو بقول آخر أمر بإعادة إقامته بين الحصن والروضة، وبين الروضة والجيزة، فوصل بذلك بين شاطئي النهر، واستطاع أن يملك ناصيته ويشرف على ما ينتقل فيه من السفن والبضائع. وهذا على خلاف ما جاء في كتب التاريخ؛ إذ جاء فيها أن عمرا أمر بذلك قبل فتح الحصن، وكان عمرو شديد الرغبة في أن يسير جنوده نحو الإسكندرية بعد أن طالت مدة إقامتهم بالعسكر في مصر، وكان يعرف أنه لن تمر ثلاثة أشهر حتى يكون النيل قد أخذ يعود إليه مده وفيضه، فكان الوقت دونه غير متسع، وفي ضياعه مضيعة وخسارة، فأرسل إلى عمر بن الخطاب يصف له ما كان ويستمده، على حين شرع يدبر أمر المدينة التي فتحها وما حولها من إقليمها، وأخذ يرمم بناء الحصن، وجعل فيه مسلحة من المسلمين عليهم خارجة بن حذافة السهمي.
10
وما كان أعظم سرور عمرو؛ إذ رأى نفسه على ظهر جواده مرة أخرى يسير مع جيشه إلى وجه جهاد، وقد جعلوا الحصن وراء ظهورهم، وساروا نحو الشمال يتبعون شاطئ الفرع الغربي للنيل، وتركت خيمة القائد في مكانها؛ فإنه عندما أزمع السير وأمر الجند أن ينزعوا خيمته وجدوا في رأسها عش يمامة قد باضت، فقال عمرو: «لقد تحرم هذا اليمام منا بمتحرم، فأقروا هذا الفسطاط في موضعه حتى يفرخ ويطير.» وقيل إن عمرا ترك على الفسطاط حارسا يمنع تلك اليمامة أن يمسها أحد بأذى.
11
وليس من اليسير أن نصف سير العرب في وقتهم ذاك؛ فإن ديوان حنا النقيوسي لا يذكر من حوادث تلك المدة إلا قطعا من الأخبار لا نظام لها. وإذا نحن جمعنا تلك القطع وأردنا أن نجعل منها قصة متصلة، كان فيها اختلاف كبير عما يرويه مؤرخو العرب. على أننا نستطيع أن نوفق بعض التوفيق بين تلك الروايات المتضاربة، لا سيما وأنا نجد اتفاقا عجيبا بينها في بعض المواضع.
ولا شك أن أول ما قصد إليه عمرو في سيره نحو الإسكندرية كان مدينة نقيوس، وكانت مدينة ذات شأن عظيم، وحصنا ذا منعة وقوة،
12
وهي على الشاطئ الشرقي لفرع النيل الغربي الذي هو فرع رشيد على مسيرة يوم من حصن بابليون، وعلى ساعتين من مدينة منوف، وكانت منوف إذ ذاك في ملك العرب، وكانت نقيوس فوق عظمها مدينة قديمة بها الآثار الجليلة من أيام الفراعنة، وكانت مقر أحد كبار رءوس الدين المسيحي، ولها مكانة حربية كبرى في حفظ الطريق بين حصن بابليون والإسكندرية؛ فكان لا بد للروم أن يجتمعوا هناك مرة أخرى للقاء العرب.
والظاهر أن عمرا ابتدأ سيره أولا على الضفة الغربية للنهر من ناحية الصحراء؛ ففيها مجال أوسع لخيله لا يعوقها هناك ما يعترض مصر السفلى من الترع الكثيرة. وكان الروم على توقع أن يفعل ذلك فلاقوه هناك، وكان أول ما التحموا بجيشه عند مدينة قديمة معروفة، وهي «طرنوتي»، أو «طرنوط»، أو كما يسميها العرب «الطرانة»، وكان في تلك المدينة فرضة يعبر النيل عندها في الذهاب إلى الإسكندرية،
13
وفيها كذلك بدء الطريق المؤدية إلى أديرة القبط في صحراء لوبيا؛ فكان لا بد للروم على ذلك من أن يقفوا وقفة في الدفاع عنها. فقاتلوا العرب هناك،
14
وأبلوا بلاء حسنا، غير أنهم انهزموا، واستطاع عمرو أن يستأنف السير إلى مدينة نقيوس.
وقد مر بنا أن مدينة نقيوس على الشاطئ الشرقي للنهر على مقربة من الموضع الذي تتصل فيه بالنيل الترعة التي بين أثريب ومنوف، وكان عمرو لا يستطيع أن يتركها على جانبه ويسير عنها؛ إذ هي حصن منيع، فعبر النهر إليها، حتى إذا ما فتحها عاد إلى الغرب وواصل السير. وكانت تلك فرصة دون القائد الروماني «تيودور» إذا أراد المناجزة، ولكنه لم يغتنمها، فلم يخرج للعرب بنفسه في عامة جيشه، بل أرسل القائد الجبان الضعيف «دومنتيانوس» ليذود عن نقيوس، وبعث معه كتيبة ضعيفة. وكان عند «دومنتيانوس» كثير من السفن قد أعدها لكي يدافع بها عن المدينة، أو لكي يهبط بها على جيش عمرو في أثناء عبوره للنهر، وكان عمرو لا بد له من عبور النيل إذا فتح المدينة، وإذا هو فشل ولم يفتحها كان أغلب الظن أنه يحاول العبور. غير أن قائد الروم عندما رأى المسلمين على كثب منه خانه جنانه، وترك جيشه وسفنه، ولاذ في سفينة هاربا نحو الإسكندرية. فلما رأى الجنود أن قائدهم يفر عنهم ذلك الفرار وضعوا سلاحهم، وهبطوا إلى الترعة سراعا
15
وقد أذهلهم الخوف، يريدون أن يقتحموها أو يبلغوا السفن فيها، ولكن عدوى خوفهم أعدت نوتية السفن فلم يأبهوا لشيء إلا لسلامتهم، فحملوا سفنهم مسرعين، وهبطوا بها إلى الشمال يطلبون النجاة، فعمد كل منهم إلى قريته، وعند ذلك طلع العرب على جنود الروم وهم في الماء بغير سلاح فقتلوهم عن آخرهم، فلم ينج منهم إلا رجل اسمه «زكريا» بدت منه شجاعة عظيمة عند ذلك، ولعل نجاته كانت لما بدا منه من الشجاعة، ثم دخل العرب المدينة من غير مقاومة؛ إذ لم يكن فيها جندي واحد يقف في سبيلهم، ومع ذلك فقد أوقعوا بأهلها وقعة عظيمة. قال حنا النقيوسي: «فقتلوا كل من وجدوه في الطريق من أهلها، ولم ينج من دخل في الكنائس لائذا، ولم يدعوا رجلا ولا امرأة ولا طفلا،
16
ثم انتشروا فيما حول نقيوس من البلاد، فنهبوا فيها وقتلوا كل من وجدوه بها. فلما دخلوا مدينة «صوونا» وجدوا بها «اسكوتاوس» وعيلته، وكان يمت بالقرابة إلى القائد «تيودور»، وكان مختبئا في حائط كرم مع أهله، فوضعوا فيهم السيف فلم يبقوا على أحد منهم، ولكن يجدر بنا أن نسدل الستار على ما كان؛ فإنه لا يتيسر لنا أن نسرد كل ما كان من المسلمين من المظالم بعد أن أخذوا جزيرة نقيوس في يوم الأحد، وهو الثامن عشر من شهر «جنبوت» في السنة الخامسة عشرة من سني الدورة.»
17
ويقع ذلك التاريخ في اليوم الثالث عشر من شهر مايو سنة 641.
وقد أثبتنا هنا نص قول الأسقف القبطي؛ لأنه يدل على ما كان عليه القبط من قلة حب للعرب الفاتحين، ولكي نظهر أنهم ما كان لهم أن يحبوهم وقد كان منهم ما كان. وقد كان نقيوس معقلا من معاقل الدين القبطي، ولا شك أن الناس كانوا مع ما نزل بهم من الاضطهاد لا يزالون على عقيدتهم يضمرونها في قلوبهم، ولو أظهروا الخروج منها تقية لما نالهم من عسف قيرس. وكان العرب في وقعتهم لم يفرقوا بين قبطي ورومي، وليس فيما وصلنا من أخبار ذلك لفظ واحد يدل على أن القبط كان لهم شأن آخر في معاملة العرب، وكذلك ليس من شك في أن الشقاق والاضطراب قد دهما البلاد واجتاحاها كما يجتاح الطاعون الأرض، فلم يمض طويل زمن حتى عمت الفوضى واندفع لهيب الحرب الأهلية بين أهل مصر، فكان ذلك ضغثا على إبالة، فانقسمت مصر السفلى إلى حزبين؛ حزب مع الروم، وحزب يريد أن يتفق مع العرب. ولسنا ندري إذا كان الفارق بين ذينك الحزبين فارقا من جنس أو من مذهب أو من تشيع سياسي، على أننا نرجح الرأي الأخير. وقد أصبح من الأمور المعتادة في ذلك النضال بين الحزبين أن يتقاتل الناس وينهب بعضهم بعضا أو يحرقوا البلاد، في حين كان العرب ينظرون إلى كلا الحزبين نظرة الازدراء، ولا يأمنون لأيهما، ولا يتعاهدون مع أحد منهما.
ولما فتحت مدينة نقيوس،
18
وتفرقت السفن الرومانية التي كانت بالنيل هناك، أصبح الطريق خاليا من العقبات دونهم إذا شاءوا السير إلى الإسكندرية، وكان جيش الروم عند ذلك يقوده «تيودور»، ويتراجع به شيئا فشيئا نحو تلك العاصمة.
وأقام عمرو في نقيوس بضعة أيام ثم عبر النيل إلى الغرب، ولكنه قبل أن يستأنف سيره أرسل أحد رجاله وهو شريك ليتتبع العدو المنهزم، وكان الطريق على جانب النيل الأيسر مما يلي الصحراء، وكان دهسا للخيل، فلحقت طلائع المسلمين بالروم عند موضع على ستة عشر ميلا إلى الشمال من الطرانة، ولكن المسلمين وجدوا عدوهم أكثر عددا مما كانوا يحسبون، فلم يستطيعوا أن يهزموهم بحملتهم الأولى، بل لقد قيل إن القتال استمر ثلاثة أيام، واستطاع الروم مدة أن يردوا العرب ويلجئوهم إلى نهد من الأرض ظلوا عليه حينا، والروم تحمل عليهم حملات شديدة، وقد أحاطوا بهم من كل جانب. فلما رأى شريك ما يحدق بالمسلمين من الخطر بعث مالك بن ناعمة ليخرج على فرس له أشقر لا يشق له غبار، وأمره أن يقتحم العدو أو يدور حوله حتى يأتي عمرو بن العاص فيحمل إليه النبأ، ففعل مالك ذلك، وأراد جماعة من الروم أن يلحقوا به فأعجزهم. ولما بلغ عمرا ما يهدد شريكا من الخطر أرسل إليه الإمداد سريعا. وقيل إن العدو فر هاربا عندما بلغه مجيء ذلك الإمداد. ومهما يكن من أمره فقد نجا شريك مما كان فيه، ولم يستطع الروم أن يغلبوا تلك الجريدة العربية، فأضاعوا بذلك فرصة كما أضاعوا من قبل كل فرصة أتاحها الحظ لهم. وقد سمي ذلك الموضع الذي وقع القتال فيه باسم القائد العربي؛ فهو معروف إلى اليوم باسم «كوم شريك».
19
وسار عمرو يدفع العدو أمامه، ولعله سار إلى الشمال الغربي على جانب الترعة التي تلي الصحراء حتى بلغ الدلنجات، ومنها سار إلى الشمال في تجاه دمنهور، فوجد الروم مرة أخرى يعترضون سبيله عند سنطيس،
20
وهي على ستة أميال في جنوب دمنهور، ووقعت هناك وقعة شديدة انهزم فيها الروم وتقهقروا أمام العرب، ولم يحاولوا أن يقفوا لعدوهم في دمنهور أو يملكوها، بل تدافعوا نحو الشمال، فانتهى بهم الانهزام إلى الطريق الأعظم المؤدي إلى الإسكندرية، فعبروا الترعة وكانت عند ذلك لا يكاد يوجد بها شيء من الماء، ثم ساروا حتى أظلهم حصن «كريون» بعد مسيرة نحو عشرين ميلا، وكانت مدينة «كريون» آخر سلسلة من الحصون بين حصن «بابليون» والإسكندرية، وكان لها شأن عظيم في تجارة القمح سوى ما كان لها من خطر عظيم في الحرب؛ إذ كانت تشرف على الترعة التي عليها جل اعتماد الإسكندرية في طعامها وشرابها، ولكن حصونها لم تكن في المنعة على مثل ما كان عليه حصن بابليون ولا ما كان عليه حصن نقيوس،
21
مع أن الروم رمموا حصونها وزادوها قوة. ومهما يكن من الأمر فقد عزم «تيودور» على أن يقف هناك وقفته الأخيرة، ولم يكن في وسعه أن يختار مكانا أليق من ذلك؛ فكانت حصون المدينة تساعد الجنود وتشد أزرهم، وكان جنوده أكثر عددا من العدو، وكانت الترعة تحميهم من بين أيديهم، وكان البطريق من ورائهم يفضي إلى الإسكندرية، ومن السهل عليهم حفظه.
وقد قاتل جنود الروم في هذا الوقت قتالا شديدا، حتى شهد بذلك مؤرخو المسلمين أنفسهم، ولم يخذلهم ما أصابهم من قبل من النكبات من سقوط بابليون ونقيوس في يد عدوهم، ولا ما حل بهم من خيانة بعض قوادهم أو جبنائهم، ولم يكن الروم في قلة ؛ إذ أتتهم الأمداد من وراء البحر من «قسطنطينية»، وكان قائدهم «تيودور» غير متهم في شجاعته ولا إقدامه في القتال، غير أنه لم يكن قائدا ذا رأي في الحرب. وقد عرف الناس جميعا فيما يحيط بذلك الموضع، كما عرف الجنود الذين كانوا بالإسكندرية أن ذلك اليوم، يوم كريون، له ما بعده، فأتت الكتائب تترى من كل مكان إلى لواء الروم من سنطيس ومن مدائن أبعد منها، مثل «خيس» و«سخا» و«بلهيب».
22
ولم تكن تلك الوقعة قتال يوم انجلى عن مصير «كريون»، بل كان قتالا شديدا استمر بضعة عشر يوما، وحدث في وقت من أوقاته أن وردان مولى عمرو المعروف كان يحمل لواء المسلمين، فأصابت عبد الله بن عمرو جراحة شديدة وكان إلى جانبه، فأجهضته شدة القتال، فسأله أن يرتد قليلا يطلب الروح، فقال له وردان: «الروح تريد؟ الروح أمامك وليس خلفك.» ثم أقبلا على القتال. فلما سمع عمرو بما أصاب ولده بعث إليه من يسأل عن حاله، فتمثل عبد الله بأبيات من الشعر
23
يطمئن بها والده. فلما سمع عمرو بذلك قال: «إنه ابني حقا.» وحمل المسلمون
24
مرة بعد مرة حملات شديدة، ولكن الفتح أبطأ عليهم، وصلى عمرو بالناس صلاة الخوف. ويلوح لنا أن تلك الوقعة لم تكن نصرا لإحدى الطائفتين، بل تساوت فيها الكفتان، ولكن مؤرخي العرب يقولون إنها كانت نصرا عظيما للمسلمين. ومهما يكن من الأمر فلا شك في أن المسلمين لاقوا نصرا بعد قتالهم في تلك الأيام العشرة؛ وذلك أنهم استطاعوا أن يفتحوا مدينة كريون وحصنها وهزموا الروم عنها. ولا نستطيع أن نقول شيئا عما حدث بعد ذلك في ارتداد تيودور؛ فلا ندري أكان ارتداد جنوده انهزاما لا يلوون فيه على شيء حتى بلغوا أبواب الإسكندرية، أم كان تقهقرا وئيدا في نظام؟ على أن ديوان «حنا النقيوسي» يشتم منه أن التقهقر كان وئيدا، وهو لعمري قول لا يتهم صاحبه.
ولا بد قد خسرت الطائفتان كلتاهما في ذلك القتال بين الطرانة وكريون خسارة كبرى، وكان الروم أقدر على احتمال تلك الخسارة من العرب. وإذا نحن حسبنا ما تركه العرب من المسالح في «بابليون» وسواها من بلاد مصر السلفى، يتضح لنا أن عمرا ما كان ليستطيع السير إلى الإسكندرية ما لم تكن قد أتته أمداد عظيمة في الشتاء المنصرم أو في الربيع، فلم يكن ليجرؤ أن يطلع على الإسكندرية بأقل من خمسة عشر ألفا. وإنه لأقرب للحق أن نجعل عدد جيشه عند ذلك عشرين ألفا. ولما فتح العرب كريون خلا أمامهم الطريق إلى الإسكندرية، ولم يبطئ عمرو إلا ريثما يستريح جنده من عناء القتال الأخير، ثم سار في سبيله، ولم يلق كيدا حتى بلغ الإسكندرية.
ولا بد أن كثيرين ممن كان في جيش العرب عند ذلك رأوا جميل المدائن في فلسطين والشام مثل أذاسة ودمشق وبيت المقدس، وقد يكون منهم من وقعت عينه على أنطاكية الشهيرة، أو رأى عجائب تدمر، ولكن ذلك كله لم يكن شيئا إذا قيس بعظمة المدينة التي تبدت لهم عند ذلك، وهي عظمة بارعة نادرة تتجلى لهم إذ يسيرون بين الحدائق وحوائط الكروم والأديرة الكثيرة بأرباضها؛ فقد كانت الإسكندرية حتى في القرن السابع أجمل مدائن العالم وأبهاها، فلم تبدع يد البناء قبلها ولا بعدها شيئا يعدلها، اللهم إلا روما وقرطاجنة القديمتين. فما سرحت العين لا تقع إلا على أسوار وحصون لا نظير لها، بقيت بعد ذلك قرونا وهي مثار إعجاب من رآها من أهل الأسفار، وكانت تشرف وراء هذه الأسوار والحصون بدائع من قباب ومن عمد، بعضها أسطواني وبعضها مربع (مما يسمى بالمسلات) تقوم فوق قواعدها، ومن تماثيل ومعابد وقصور تتلألأ وتتألق. فإذا ما تياسرت
25
رأيت دون ذلك معبد السرابيوم وقد أناف بسقفه المذهب، والقلعة التي كان يشرف فوقها عمود دقلديانوس.
26
فإذا ما تيامنت بدت لك الكنيسة العظمى كنيسة القديس مرقس، تليها العمد المربعة التي سميت «مسلات كليوبترا»،
27
وكانت عند ذلك قد عمرت نيفا وألفي عام، وذلك ضعفا عمر المدينة نفسها. وفيما بين يسارك ويمينك كان البناء الجليل يبدو ظاهره مشرقا، ويلوح من ورائه ذلك الأثر العظيم المعروف باسم «فاروس»، وكان الناس يعدونه إحدى العجائب السبع في العالم، وحق لهم أن يفعلوا. وما كان هذا الجلال الفائق والجمال البارع وما يبدو من عظمته وقوته إلا ليقع من قلوب غزاة الصحراء موقعا عجيبا، وقد رأوا ما رأوا من المدينة التي جاءوا يفتحونها.
28
وكانت مسلحة المدينة عند ذلك نحوا من خمسين ألفا، وكانت قوات وفيرة فيها؛ إذ هي على البحر، ولم يكن فيه للمسلمين بعد سفينة واحدة تنقص من سلطان الإمبراطور عليه، وكانت الأسوار منيعة تحميها الآلات القوية، وهي الآلات التي رأيناها في زمن «نيقتاس» تفتك بأسطول العدو في النهر وتغرق سفنه، ولم يكن عند العرب شيء من آلات الحصار؛ إذ لم يستطيعوا نقل ما غنموه منها قبل ذلك من الروم، ولم تكن لهم خبرة ودراية في فنون الحصار وحربه؛ وعلى هذا كان في يد الروم من العدة والعدد ما يستطيعون به أن يقووا على حرب فرسان المسلمين، وليس لهم من العدة إلا سقيمها. على أن العرب كانوا قبل ذلك قد فتحوا الفتوح العجيبة في مصر والشام، فلم تقف دونهم حصونها، فكانوا كلما ذكروا ذلك امتلأ قلبهم إيمانا وقوة، ووثقوا من أن العاقبة لهم، ولكن ذلك الإيمان كان بطيء الأثر؛ فإن عمرا عندما حمل بجيشه أول مقدمة على أسوار المدينة كانت حملته طائشة غير موفقة، فرمت مجانيق الروم من فوق الأسوار على جنده وابلا من الحجارة العظيمة، فارتدوا باعدين عن مدى رميها، ولم يجرءوا بعد ذلك على أن يتعرضوا لقذائفها، وقنع المسلمون أن يجعلوا عسكرهم بعيدا عن منالها، وانتظروا أن يتجرأ عدوهم ويحمله التهور على الخروج إليهم.
وليس في أيدينا من الأخبار الموثوق بها ما يدل على وقوع قتال من هذا القبيل؛ فليس في ديوان «حنا النقيوسي»
29
شيء آخر في وصف القتال بالإسكندرية سوى ما ذكرناه من تهور عمرو في حملته الأولى، وما أصاب العرب من فعل المجانيق التي لم يطيقوا عليه صبرا فارتدوا، ولا نستطيع أن نفهم من ذلك الإغفال إلا أمرا واحدا، وهو أنه لم يكن ثمة حصار للإسكندرية بالمعنى الصحيح؛ فقد كان البحر يحمي المدينة من جهة الشمال، وكانت الترعة وبحيرة مريوط تحميانها من الجنوب، وكان إلى غربها ترعة «الثعبان»، فلم يبق من فرج إلا شرقها وجنوبها الشرقي، ولم يستطع المحاصرون أن يقتربوا من الأسوار من ذلك الفرج، فلم يكن لهم بد من أن يقنعوا بالوقوف والرصد، ولم يكن رصدهم تاما ولا مجزيا؛ وعلى ذلك لم يتحقق للعرب حصار المدينة حتى من جانب البر. ومع ذلك فقد كان لوقوف العرب بعسكرهم على كثب من المدينة أثر كبير؛ إذ كانوا هناك يحادون الروم ويقطعون صلتهم بسائر البلاد. ولسنا نعرف عين الموضع الذي كان فيه عسكرهم؛ فإن تعيين ذلك من أشق الأمور؛ فقد قال السيوطي إنه كان «فيما بين الحلوة وقصر فارس وما بعده». وقصر فارس كان في الجهة الشرقية.
30
ولعل الفرس قد بنوه ليستعينوا به على الحصار؛ فإنا نعرف أن دقلديانوس لم يستطع أن يحدث أثرا في حصون المدينة حتى بنى قلعة في شرقها،
31
ولكنه مع ذلك لم يستطع أن يقتحم المدينة وأسوارها المنيعة التي لا تكاد تنال إلا بجيش قوي ظل على الحصار زمنا طويلا، وكان في داخل المدينة خونة يساعدونه؛ فلا بد لنا من أن نقول إن المسلمين عجزوا عن أن يقوموا بعمل ما، وقنعوا بالوقوف والمرابطة في عسكرهم، ولم يكن عسكرهم حيث كان إلا مرصدا يرقبون فيه عدوهم. ولعمري إننا لفي شك من أن العرب أقاموا عسكرا في جوار الإسكندرية، فلعلهم لم يبعدوا به عن مدينة كريون.
مضى عند ذلك أكثر شهر يونيو ولم يكن قائد العرب بالرجل الذي يخادع نفسه عن المدينة، ويعلل نفسه باستطاعة فتحها عنوة؛ فقد علم حق العلم أنه لن يستطيع أخذها بالهجوم، وإنما كان واثقا من شيء واحد، وهو أن أصحابه إذا خرج لهم العدو وناجزهم القتال صبروا وثبتوا وغلبوه وإن كان أكثر منهم عددا، وعلى ذلك عول على أن يخلف في عسكره جيشا كافيا للرباط، وأن يسير هو مع من بقي من الناس فيضرب بهم في بلاد مصر السفلى، قبل أن يتعذر
32
على المسلمين السير بها؛ إذ كان فيض النيل يقترب أوانه. وكان الروم قد هاجروا من حول الإسكندرية، فصارت قصورهم البديعة ومنازلهم الجليلة فيما وراء أسوار المدينة فيئا للعرب، فغنموا منها غنيمة عظيمة، وهدموا كثيرا منها ليأخذوا خشبها وما فيها من حديد، وأرسلوا ذلك في سفن بالنيل إلى حصن «بابليون» كي يقيموا به جسرا ليعبروا عليه إلى مدينة لم يستطيعوا من قبل أن يعبروا إليها.
33
ولم تكن السرية التي سار بها عمرو بن العاص في مصر السفلى سرية كبيرة؛ فما كان يتوقع كيدا كبيرا ولا قتالا شديدا اللهم إلا عند البلاد المحصنة، ولم يكن في الوقت متسع لحصارها لو شاء، وكان عمرو إنما يريد القفول إلى «بابليون»، ولكنه أحب أن يعلم أهل مصر السفلى بقربه ويشعرهم شوكته. فسار إلى كريون، ومن ثم إلى دمنهور، ثم سار إلى الشرق يجوس خلال الإقليم الذي يعرف اليوم باسم الغربية حتى بلغ «سخا». وكان ذلك الموضع إلى شمالي المدينة الحديثة (طنطا) على نحو اثنين وعشرين ميلا منها، وقد ظل إلى ما بعد ذلك الوقت بزمن طويل، وهو قصبة الإقليم، وكان موضعا حصينا.
34
ولم يفلح عمرو في تحقيق ما كان يريده من النزول على تلك المدينة بغتة وأخذها على غرة، ورأى العرب أنفسهم مرة أخرى وقد عجزوا عن أخذ مدينة تحيط بها الأسوار وتكتنفها المياه، فساروا نحو الجنوب. ولعلهم اتبعوا «بحر النظام» حتى بلغوا «طوخ»، وهي على نحو ستة أميال في الشمال الغربي من موضع «طنطا»، ومن «طوخ» ساروا إلى «دمسيس»،
35
وقد ارتدوا كذلك عن هاتين القريتين ولم يستطيعوا فتحهما، ولم يجد أهلهما مشقة في صد العرب. ويرد مع هذه الأخبار ذكر غزوة للقرى التي على فرع النيل الشرقي، قيل إن العرب قد بلغوا فيها مدينة دمياط. ولعل تلك الغزوة كانت على يدي سرية عمرو في هذا الوقت نفسه، ولم يكن من أمرها غير إحراق المزارع وقد أوشكت أن ينضج ثمرها، فلم تفتح شيئا من المدائن في مصر السفلى. ولنذكر أن العرب قضوا في عملهم في هذا الإقليم اثني عشر شهرا
36
إلى ذلك الوقت. وبعد تلك الغزاة التي أوقع فيها عمرو بالبلاد وغنم منها، عاد إلى حصن «بابليون» ومن معه دون أن يجني كبير فائدة. وإن لنا لدلالة في غزاته تلك في مصر السفلى، وما لاقاه فيها من القتال في مواضع كثيرة، وعجزه في جل ما حاوله من الفتح في بلاد الشمال القصوى؛ فإن ذلك يزيدنا برهانا على ما تحت أيدينا من البراهين على فساد رأيين يذهب إليهما الناس: أولهما أن مصر أذعنت للعرب بغير أن تقاتل أو تدافع، وثانيهما أن المصريين رحبوا بالفاتحين، ورأوا فيهم الخلاص والنجاة مما هم فيه.
الفصل العشرون
حوادث القسطنطينية
فيما كانت هذه الحوادث التي نصفها تجري في مصر كانت القسطنطينية تشهد من الغير أجلها. ولقد أشرنا من قبل إشارة موجزة إلى موت هرقل، وقلنا إنه حدث في آخر أيام حصار بابليون، وقد كان منذ وداعه المحزن لبلاد الشام في سنة 636 يقيم في عزلة في مدينة «خلقيدونية»، وجعل يسترجع قوة عقله شيئا فشيئا بعد أن كان قد مسه شيء من الخبل من قبل، حتى لقد استطاع أن يعالج أمور دولته في أوروبا ويحل مشكلاتها، مبديا في ذلك شيئا مما عهد فيه من الكياسة وأصالة الرأي في أمور السياسة، ولكن جسمه كان قد اعتل، وزاد في سقمه وآلام دائه ما كان ينتاب الدولة من المصائب والنكبات تلي إحداها الأخرى؛ فمصائب في الشام تليها نكبات في مصر، ورأى الدولة وقد فقدت بيت المقدس ثم أنطاكية وقيصرية، ثم نزعت كل بلاد الشام عنها وأخذها العدو؛ فأحب أن يخلص مصر من ذلك العدو لما يعرفه من عظم شأنها في دولته. وكانت الحرب الطاحنة التي استمرت طوال السنين قد استنزفت أموال الدولة ورجالها، ولكنه كان لا يزال يستطيع أن يبعث من جيوشه وخزائنه المنتقصة أمدادا كبيرة للدفاع عن النيل. ويقول مؤرخو العرب إنه كان عازما على قيادة تلك الجيوش بنفسه،
1
غير أنهم إذ يقولون ذلك لا يذكرون أن غزو مصر لم يقع إلا قبل موته بسنة تزيد قليلا، وأنه كان عند ذلك صريعا لدائه الذي قضى عليه، وقد سلبه السقام قوته ونشاطه، إذا لم تقل إنه قد سلبه القدرة على الحركة ذاتها، ثم مات الإمبراطور في يوم الأحد الحادي عشر من فبراير من سنة
2
641 بعد أن حكم إحدى وثلاثين سنة، وكان عمره إذ ذاك ستة وستين عاما، وكانت وفاته قبل فتح حصن بابليون بشهرين.
وهكذا ختمت تقلبات عجيبة الحوادث في حياة عظيمة، وكان هرقل يقصد في حياته قصدا، وذلك أن يعيد بناء ما تهدم من الدولة الشرقية، وكان لا أمل في نجاحه عندما ابتدأ ذلك العمل، غير أنه أتمه أو خيل إلى الناس أنه أتمه، وكان إتمامه إحدى العجائب التي قد تبلغ حد الإعجاز، ولكن فشله ابتدأ حيث كان انتصاره؛ فإن البناء الذي أقامه لم يكن متماسك الأجزاء، وكانت جريرته فيه أنه أخطأ وضل، فحل ما كان يجدر به عقده، وقطع ما كان يجب عليه أن يصله من أواصر التعامل والاشتراك بين الناس في حياتهم ومن روابط الدين. وكانت تلك لعمري روابط كفيلة بأن تجمع الناس وتوحد كلمتهم، لو أحسن الحاكم وتسامح في حكمه وأباح للناس ما يشاءون من أمور دينهم. وإن من أعجب ما اتفق وقوعه في التاريخ أن يقع خطأ هرقل في سياسته في الوقت الذي قامت فيه دعوة الإسلام الجديد في مجاهل بلاد العرب، ولكن هكذا جرت مشيئة الله في قدره وقضائه في العالم، وعاش هرقل حتى تبدى له خطؤه الذي قارفه، أو لقد استطالت به الأيام كي يندب سوء حظه الذي أفسد عليه أعماله وأحاط بثمارها. وقد كان في أمور الدين يسير على ما تعارف عليه الناس في زمنه، وكان في ذلك سوء حظه؛ إذ لم يرتفع فوق ذلك، ولم يبتدع في سياسة الدين خطة جديدة تصلح لعصره وما جد فيه من الأحوال. وإنه لجدير بنا ألا نلومه، بل نرحمه ونعطف عليه لما لحق به من الفشل، وحسبه ما لا بد قد لاقاه من غصة الندم فوق ما كان به من ألم الداء في آخر أيامه. وقد عهد قبل أن يموت بما يئول إليه الأمر بعده، فجعل ابنه قسطنطين يقسم الأيمان على أن يعفو عمن كانوا في السجن والنفي، وأن يرجع كل طريد طرده.
3
ودفن الإمبراطور في كنيسة «الرسل المقدسين»، وبقي قبره مفتوحا ثلاثة أيام، وقد جعل مع جثمانه تاجه الذهبي، فنزعه قسطنطين عنه، ثم أعاده إليه هرقل الثاني ووهبه للكنيسة.
4
ولي الأمر بعد هرقل بعهد منه ولداه: قسطنطين ولد زوجه «أودوقية»، وهرقل ابن زوجه الأخرى مرتينه. وجعلت الإمبراطورة شريكة لهما، ولكن ذلك الاشتراك لم يكن مما يتيسر الحكم معه، وما كانت الإمبراطورة مرتينه لترضى بمثل هذا الاشتراك في الحكم وهي من هي؛ ذات العزم القاطع التي حكمت الدولة لا يكاد يشاركها أحد في أواخر أيام زوجها. وكان قسطنطين أكبر الأخوين وآثرهما عند الناس، وكان من حزبه خازن الدولة «فلاجريوس» و«فلنتين» الذي جعل عند ذلك قائدا، وبعث ليكون قائد الجند في آسيا الصغرى؛
5
وعلى ذلك لم توفق مرتينه في سعيها في أمر ولدها هرقل، أو «هرقلوناس» كما كانوا يسمونه تمييزا له، بل وجدت في سعيها ذاك مقاومة شديدة. وكان البطريق سرجيوس قد سبق الإمبراطور إلى أجله، واختير لولاية أمر الدين بعده راهب اسمه «بيروس». ويلوح لنا أنه كان في أول أمره مع قسطنطين ممالئا على مرتينه، فبايع لقسطنطين بالملك ولم يشرك معه مرتينه ولا أحدا من أولادها.
6
ولكن داود و«مارينوس» عملا على اختطاف «بيروس»، وحملاه سرا إلى جزيرة في غرب أفريقيا.
7
وقد قام قسطنطين بإنفاذ أمر أبيه، فأرسل أسطولا عظيما ليعيد «قيرس» من منفاه.
8
وكان يود الاجتماع به كيما يستشيره في أمر مصر، وكانت مرتينه تلح في إرجاعه؛ إذ كانت عالمة بما ينطوي عليه قلبه من الولاء لها والمواتاة في مقاصدها وأمانيها. ولا نعرف عن يقين متى كان اجتماع قسطنطين ب «قيرس»، ولا ما انتهى إليه أمر ذلك الاجتماع؛ لأننا لا نعرف أين كان منفاه، ولا المدة التي استغرقها رجوعه من ذلك المنفى إلى عاصمة الدولة. وقد دعي كذلك «تيودور» من مصر لكي يشير على الإمبراطور بما يراه، واستخلف «أنستاسيوس»
9
على حكم الإسكندرية ومدائن الساحل التي لم يفتحها المسلمون إلى ذلك الوقت. وكان من رأي «تيودور» ألا يدخل الروم في أي صلح مع العرب. ومهما يكن من رأي «قيرس» ومشورته في ذلك الأمر، فقد استطاع تيودور أن يحمل الإمبراطور على أن يعد بإرسال أمداد كبيرة إلى مصر في أثناء فصل الصيف، ثم أمر الملك بتجهيز السفن لنقل الجنود. وما كاد كل ذلك يعد حتى مرض قسطنطين مرضا مخطرا، وكان منذ ولي الملك يضعف جسمه ويعتل، ثم مات في الخامس والعشرين من شهر مايو من سنة 641 بعد أن حكم مائة يوم. ولا نعرف هل مات الموت المعتاد أم قد فتك به غدرا على يد الإمبراطورة مرتينه، وإن تهمة الفتك به لتتردد في أخبار ذلك العصر،
10
وقد جهر بها ابنه قنسطانز فاتهم الإمبراطورة معلنا.
أما مرتينه فقد اتخذت موت قسطنطين ذريعة توسلت بها إلى المبايعة لابنها «هرقلوناس» بملك الدولة، وأرادت أن تتملق الناس فأنفذت تعيد البطريق «بيروس» من منفاه، ولكن ذلك النصر الذي صادفته أثار في قلوب الناس حقدا لم يلبث أن أشعل نار العصيان. فما سمع «فلنتين» بما حدث من موت قسطنطين وما تبعه من عزل «فلاجريوس» حتى جاء بجيشه إلى «خلقيدونية»، وكانت مرتينه هناك، وطلب إليها إرجاع «فلاجريوس». وقد لقي مساعدة على طلبه ومواتاة من جند الإمبراطورة، ثم رضي به هرقلوناس وأقره في خطاب ألقاه. غير أن فلنتين لم يقنع بما أصاب من النصر، بل عبر المضيق مع «دومنتيانوس»، وصحبهما جماعة من أعيان الدولة حتى بلغوا العاصمة، فبايعوا لابن قسطنطين وهو «قنسطانز» الثاني، وجعلوه شريكا ل «هرقلوناس»
11
في الحكم.
ويلوح لنا أن هرقلوناس كان قبل تلك الثورة التي ثارها «فلنتين» قد أعد العدة لإرجاع «قيرس» إلى حكم الإسكندرية، ولا بد أن المبايعة لقنسطانز كانت في أوائل سبتمبر من سنة 641،
12
وذلك بعد أن سافر قيرس في وجهه إلى مصر. وكانت مع قيرس طائفة كبيرة من القسوس ، ولم ينقص شيئا من سلطانه الدنيوي، بل أباح له الإمبراطور أن يصالح العرب، وأن يقضي على كل قتال بعد ذلك في البلاد، وأن يعمل على إقرار الأمر فيها وإدارة شئونها. وإنا لنلمح من ثنايا ما تقدم به الإمبراطور إليه أنه كان لا يزال يساوره الأمل في أنه يستطيع الإبقاء على سلطان الدولة في مصر، ولكنه من غير شك قد حمل الإمبراطور وهو غرير لا رأي له على الإذعان للعرب والتسليم لهم، كما حمل على رأيه هذا مجلس الشيوخ المستضعف ورجال البلاط، وهم من أهل العجز والخور. ولا ندري أكان في ذلك يصدر عن نية طاهرة أم كان يرمي عن مكر وخديعة. ومن الجلي فوق ذلك أنه استمال الإمبراطورة مرتينه إلى رأيه الضعيف، لا سيما وقد كان أنصارها ممن يرون مصالحة العرب مهما كلفهم الأمر، وكانت هي أبدا في سياستها ترمي إلى التسليم والإذعان، وذلك رأي قيرس الذي ظل يجاهر به في كل حين.
أما ما كان يجول في قرارة نفس ذلك البطريق من مختلف النزعات، فأمر لا يصل إليه الحدس ولا يبلغه التصور؛ فقد أظهر الجبن والضعف إذا لم يكن قد أظهر الخيانة منذ أشهر عدة، قبل أن ينقسم الناس ويتفرقوا شيعا في أمر ولاية الملك بعد قسطنطين؛ ذلك التفرق الذي كاد يبلغ حد الحرب الأهلية. فماذا كان الدافع له على الفرار من ميدان أعماله، وإن شئت قلت الهروب من جرائر سعيه؛ فقد قضى عشر سنين وهو يعسف بقبط مصر حتى بدا منهم ما يشبه الإذعان، ولكنه كان يعرف أنهم لن يلبثوا أن يعودوا إلى عقيدتهم إذا ما رفع عنهم وطأته. فهل كان قد أدرك عند ذلك أن سياسته في العسف والاضطهاد كانت جناية لم تلق نجاحا؟ إنه لا شيء أبعد عن الحقيقة من تصور هذا. وإنه لأقرب إلى الحقيقة أن نقول إنه قد أيس من أمر الدولة في مصر منذ رأى ما حل ببلاد الشام، ومنذ بلغ به اليأس ذلك المبلغ عزم على أن يسعى لكي يباح مذهبه الديني في مصر. لا، بل سعى إلى أكثر من ذلك؛ فقد طمع في أن يثيبه المسلمون على مساعدته لهم بأن يبسطوا يده على الكنيسة القبطية في مصر، ويكون عند ذلك مالكا للأمر ليس لأحد في القسطنطينية سلطان عليه.
إذن كان «قيرس» يريد أن يزيد في سلطانه الديني بالإسكندرية، ويقيمه على أطلال الدولة بعد خرابها. ولسنا نجد رأيا آخر أكثر ملاءمة لما بدا منه؛ فهو خير رأي نستطيع به أن ندرك ما كان بينه وبين عمرو من صلات خفية، وما قارفه من خيانة دولته الرومانية. فلنصفه بأنه خائن للدولة في سبيل ما توهمه صلاحا للكنيسة.
وقد قنع بأن يتبع خطوات الإمبراطورة أو أن يشير عليها برأيه، وخالف أمر دينه وهو يحظر أن يلي الملك من ولدوا من زواج غير مباح. والدليل واضح على أن قيرس عاد إلى مصر ومعه جيش قد أعد ليكون إمدادا لجند مصر يساعدهم على قتال العرب إذا لم يسفر الأمر عن صلح معهم. ولعل ذلك الجيش قد أرسل معه ليكون قوة لحزب الإمبراطورة بين جند مصر. وأرسل معه قائد جديد لمسلحة الشرطة اسمه قسطنطين ليحل محل القائد المعزول «حنا». وأما «تيودور» فإنه بين أحد أمرين: إما أن يكون قد حل في الوقت عينه إلى مصر، وإما أن يكون قد ذهب إلى جزيرة «رودس» عند مقدم «قيرس»، وأقام بها حتى يوافيه الجيش فيلحق به. وكانت الإمبراطورة «مرتينه» بتلك الجزيرة كذلك، ولا ندري علة مقامها فيها؛ أكان ذلك هربا من وثبة «فلنتين» وظهور أمر ثورته، أم كان عن ذعر أصابها عندما علمت بمبايعة «قنسطانز»؟ ولعلها أرادت أن تجتمع ب «قيرس» و«تيودور» كي يشيرا عليها بما يريانه فيما جد من الحوادث. وعلى أي حال فقد كانت قمينة أن يقلق بالها لما كان حولها من اختلال الأمور في العاصمة، واختلاف الكلمة واضطراب الأحوال بين رجال الحاشية.
وقد كان فلنتين في كيده وغدره عدلا ل «قيرس»، لا يتورع في وسيلة ولا يقف عند حد. وكان قد سبر قلوب الجند وفحص عما للإمبراطورة فيها، فألفى أن الكثيرين لا يحملون لها إلا نفاقا ورياء، وأن حبها والإخلاص لها لم يتغلغل في نفوسهم، ووضع يده في خزائن «فلاجريوس» فأنفقها في العطاء لجند مصر ليستميله إليه، وأوقع بينهم الفرقة والعداوة، فجعلوا بأسهم بينهم وكفوا عن قتال المسلمين. فكانت الحرب الأهلية على ذلك قد اشتعل لهيبها، ولم تكن بحرب بين القبط والروم،
13
بل بين طائفتين من جيش الدولة. وكان «تيودور» ذا شأن عظيم في عين الثائرين، وكان لا بد لهم أن يستوثقوا من أنه معهم، وأنه لن يعين الإمبراطورة، ولم يكن ثمة شيء يستحيل في مثل تلك الحال المضطربة وما فيها من مكائد ومكر. وكان «تيودور» يخفي في نفسه آمالا يتمنى أن يحققها، فجاءته في «رودس» رسالة في السر بعث بها إليه «فلنتين» يحضه على أن يخذل الإمبراطورة وينقض ما عقد لها من ولائه، وعلم أن «فلنتين» قد بعث بمثلها إلى «بنطابوليس» وإلى سائر بلاد الدولة، ورأى أن يد الكيد تعمل في التفريق بين الجنود الذين جاءوا إلى مصر مع «قيرس»، فأعمل الفكر في أمره حتى استقر به على أن يقطع اتصاله بالإمبراطورة ويرحل خفية إلى «بنطابوليس». ولسنا ندري ما الذي دفعه إلى هذا العزم؛ فقد يكون أراد الاعتزال والابتعاد عن العواصف المقبلة، وقد يكون أراد التشبه بهرقل في المخاطرة بنفسه في سبيل التاج، فيقيم دولة جديدة في قرطاجنة، وقد يكون اعتزم أن يستجم القوة ويجمع المال، ويقف بالمرصاد لما تنجلي عنه الحوادث؛ فمنذ كره أن يذعن للمسلمين أراد أن يستعد بجيش يهبط به عليهم من قرطاجنة. وكان تدبيره أن ينفصل في ظلام الليل عن الأسطول الذي مع «قيرس»، ولم يعلم بذلك إلا ربان السفينة التي كان فيها. والظاهر أن ذلك الربان وعده بإنفاذ ما أراد ثم ندم على وعده، وادعى أن الريح تصد السفينة عن المضي في تجاه بنطابوليس؛ ففشل تدبير «تيودور»، ورأى نفسه مع سائر السفن مصاحبا ل «قيرس»
14
في ميناء الإسكندرية قبل أن يطلع نهار «يوم الصليب المقدس»، وذلك في الرابع عشر من سبتمبر من سنة 641.
الفصل الحادي والعشرون
تسليم الإسكندرية
حدث في أثناء غياب قيرس في منفاه أن ثارت بمصر فتنة بين الناس، يتقد لهيبها بين حين وحين، فثار القتال مرة بين أهل كورة مصر وأهل الكور في الشمال، ثم عاد السلام بينهم بعد أحداث كثيرة. وما كاد الأمر يستقر حتى استعر القتال في العاصمة ذاتها، وكان كبار الروم أحزابا وشيعا، تباعد بينهم الإحن ويغري بينهم التحاسد، وكان حرص كل من الحزبين الأخضر والأزرق على القتال فيما بينهم أعظم من حرصهم على حرب العدو الرابض عند أبواب مدينتهم؛ فكان «دومنتيانوس» الذي أسلم الفيوم و«نقيوس» يناصب «ميناس» العداء، وينافسه في التطلع إلى القيادة العامة في الجيش، وكان «ميناس» يحقد على «أودوقيانوس» أخي «دومنتيانوس» لما كان منه من شنيع الأفاعيل بالقبط الذين كانوا في حصن بابليون
1
في يوم عيد الفصح المشهور. وكان «تيودور» لا يزال غاضبا على «دومنتيانوس» لما كان من جبانته في الهروب من «نقيوس» تاركا جيشه ومتخليا عن واجبه. وإنه لمن العجيب أن يبقى «دومنتيانوس» في منصبه لم يؤاخذ أو يقتص منه بالقتل، فليس غضب رئيسه عليه بالجزاء الوفاق على ما جناه، ولعله لم ينج مما كان يحق عليه من القصاص إلا لمحاباة الإمبراطورة له، ولقرابته من قيرس؛ إذ كان صهرا له بزواجه من أخته. على أن «دومنتيانوس» لم يرع في «قيرس» إلا ولا صداقة، ولم يحفظ له جميلا؛ إذ كان لا يظهر له إلا ازدراء وحقدا غلب عليه عقله، وكان معه الحزب الأزرق، فاتخذ من رجاله عصبة استعان بها في نضاله. فلما رأى «ميناس» ذلك استعد له بمثل عدته، فاتخذ من الحزب الأخضر له عصبة.
وفيما كان الأمر على هذا التحرج المخطر، نزل إلى الإسكندرية رجل اسمه «فيليادس»، وكان حاكم الفيوم وأخا ل «جورج»، وهو سلف «قيرس» على بطرقة المذهب الملكاني. وكان «ميناس» قد أحسن إلى «فيليادس»، ولكنه أساء جزاءه. وكان «فيليادس» فوق هذا مقارفا للخيانة؛ إذ كان يضع يده في الأموال العامة، وكان الجند يكرهونه كراهة تعدل حبهم ل «ميناس ». ولم يمض زمن طويل حتى اشتد الأمر وتأزمت الأزمة؛ ففيما كان «ميناس» يوما يصلي بإخوانه الأقباط في الكنيسة الكبرى كنيسة «قيصريون»، إذ ثار أهل المدينة بفيليادس يريدون قتله، ولكنه فر منهم ولجأ إلى منزل صديق له فاختبأ فيه، فذهب الثائرون إلى بيته فنهبوه وأحرقوه، وكانوا من الحزب الأخضر، وعند ذلك أخرج «دومنتيانوس» إليهم عصبته من الحزب الأزرق، والتقت العصبتان في قتال شديد في طرق المدينة، فقتل منهم ستة وجرح كثيرون، ولم يستطع «تيودور» أن يقضي على الفتنة إلا بعد مشقة وعناء. وبعد أن انتهى الأمر أعيد إلى «فيليادس» ما سلب منه، وعزل «دومنتيانوس» من مرتبته في الجيش، ولكن يلوح لنا أنه أعيد فيما بعد إلى ما كان عليه، وذلك بعد أن أمر «تيودور» بالعودة إلى القسطنطينية؛ فالحقيقة أن «دومنتيانوس» كان مع عداوته لقيرس يرى رأيه في السياسة، وكانا كلاهما سواء في تقريب الإمبراطورة والحظوة عندها، وكان كلاهما يشير عليها ويزين لها رأي الإذعان للعرب.
ولنذكر هنا أن «حنا النقيوسي» يصف نضال الأحزاب في الإسكندرية وكأنما يقر بأنه عاجز عن إدراك أسبابه؛ فإن سياق قوله يدل على أن منشأ ذلك النضال كان بعضه من عداوات خاصة، وبعضه كان من أثر الشيع السياسية. على أنه يذكر بعد ذلك أن بعض الناس يذهبون إلى أن اشتداد ذلك النضال واستعار لهبه إنما يرجع إلى اختلاف المذاهب الدينية، ولكنه لا يوضح الأمر ولا يجلو الظلمة عن حقيقة ذلك النضال، فلا ندري أكان بين «المونوفيسيين» و«الملكانيين»، أم كان بين «الملكانيين» و«المونوثيليين»، أم بين اليهود والمسيحيين؛ فالحق أن الأمر مشكل لا يستبين المرء فيه وجها للرأي، ولكنا إذا ذكرنا أن كثيرين من أهل مصر السفلى والصعيد أتوا إلى الإسكندرية لائذين، وإذا ذكرنا أن «حنا النقيوسي» يروي لنا خبر اجتماع القبط بكنيسة «القيصريون» للصلاة،
2
إذا ذكرنا ذلك أمكن أن نقول إن عدد القبط في الإسكندرية زاد في ذلك الوقت زيادة كبرى، وإنهم استطاعوا أن يتنسموا شيئا من نسيم الحرية، وأن يعود إلى نفوسهم شيء من القوة منذ غاب المقوقس عنهم في منفاه، وارتفع عنهم عسفه واضطهاده. فلعلهم عند ذلك شعروا من أنفسهم بالقوة فرموا سهمهم مع الرامين، يناصرون من أحبوا ويحاربون من كرهوا، ويلقون بدلوهم في دلاء الإسكندرية التي كانت تضطرم من عداوة الأحزاب ونضالها. وإن تعجب فعجب أن يقرأ الإنسان نبأ نزول المقوقس بالإسكندرية في ذلك الصباح من شهر سبتمبر، وأن أهل المدينة طرأ ملكهم الفرح، فخرجوا «يظهرون سرورهم ويشكرون الله على عودة بطريق الإسكندرية».
3
وتوافد الناس من كل جانب يحيونه ويكرمونه من رجال ونساء كبارا وصغارا، فما كنت تسمع كلمة مخالف ولا همسة خوف، ولكن ما كان للقبط أن يدخل إلى قلبهم فرح بمقدم «المقوقس»، بل ما كان لهم أن يبقى أمل في قلوبهم من وراء عودته. ولا يسعنا على هذا إلا أن نذهب إلى نتيجة من هذا القول، وذلك أن القبط ما كانوا في الإسكندرية مهما بلغ عددهم إلا فئة قليلة ضائعة بين أهلها الكثيرين لا يحس أحد بها.
أما قيرس فإنه عمد قبل أن تصحو المدينة ويذيع بين أهلها نبأ مقدمه، فذهب سرا مع «تيودور» إلى دير رهبان «التبنيسي»، ولعله كان قريبا من الموضع الذي نزل فيه من البحر،
4
وأمر بإقفال باب الدير، وأنفذ إلى «ميناس» يدعوه للحضور إلى الدير، فلما جاء جعله «تيودور» قائد مسلحة المدينة، وعزل «دومنتيانوس» عن تلك القيادة، فأسرع أهل المدينة إلى إخراجه منها. وكانت عودة قيرس في مثل اليوم الذي أقيم فيه الاحتفال بإعلاء الصليب، وقصد بذلك أن يعيد إلى نفوس جند الروم ما ضاع من قوتها، وبذل الجهد في الانتفاع بتلك الذكرى ما وجد إلى ذلك سبيلا. ولنذكر عندما بعث حنا قائد الشرطة إلى مصر وقد وجهه إليها هرقل يحمل المذهب الديني الشهير إلى «قيرس»، حمل معه إلى البطريق صليبا من أجل الصلبان شأنا، لعله كانت فيه قطعة من الصليب الأعظم نفسه،
5
وقد أودع هذا الأثر الثمين في دير رهبان «تبنيسي». فلا عجب إذا حمله «قيرس» في موكبه إلى الكنيسة العظمى كنيسة «القيصريون» التي أقيمت فيها صلاة التحية. وقد فرشت النمارق في طريق ذلك الموكب من الدير إلى الكنيسة، وكانت الرايات والألوية من الحرير تخفق فوق رأس «قيرس» إذ يسير بين عبق البخور وترتيل الأناشيد، وازدحمت طرق المدينة العظمى بالناس على سعتها حتى ركب بعضهم بعضا، ولقي الحبر الأعظم مشقة كبرى في السير في ذلك الزحام إلى الكنيسة، ولكن الموكب سار على أي حال سيرا وئيدا حتى بلغ «المسلتين» المصريتين القديمتين فمر بينهما، ثم سار في فناء ذي أروقة إلى أن بلغ باب كنيسة قيصريون فولجه داخلا.
ولما أن صار في الكنيسة أقام الصلاة، وجعل عيد الصليب
6
وإعلاءه موضوع خطبته كما ينبغي له، وكانت الكنيسة الشرقية في ذلك الوقت ولا تزال إلى وقتنا هذا تحتفل بهما معا. وإنه لمعنى جليل ذلك المعنى الذي جعله «قيرس» قطبا لخطبته، معنى يخلع على قائله رونقا إذا أعوزته الفصاحة، فما بالك بقيرس وهو رب البيان والبلاغة؟ فجعل يذكر الناس بحوادث الماضي وما فيها من عجب، منذ قام هرقل بجهاده في سبيل الصليب حتى ظفر به فأعاده من يد أعدائه الفرس، ثم أقامه في بيت المقدس في ذلك اليوم المشهود يوم النصر والفوز. ولقد كان قيرس يرمي إلى غرض من سوق تلك القصة، فما كان ذلك القصد الذي رمى إليه؟ لقد صار بيت المقدس في أسر المسلمين عند ذلك، وقد صار المسلمون على أبواب الإسكندرية ذاتها، فكان الأمر على مثل ما كان عليه من البلاء والشدة عندما كان كسرى يملك فلسطين والشام ومصر، فهل تجرأ قيرس في خطبته على الإشارة إلى المغزى الذي تدركه الأفهام من قصة جهاد هرقل؟ وهل أثار في قلوب سامعيه الأمل في الخلاص والإيمان بالنصر، واستفزهم إلى جهاد عدوهم باسم الصليب؟ إنه ما كان ليجرؤ على ذلك وقد خذل الصليب، وعمل على أن يذله للإسلام ويحنيه لألويته. إنه قد يكون تحاشى الاقتراب من أمور السياسة في خطبته، ولكن لا شك في أنه في خطبته ذلك اليوم لم يزح عن قلبه ما كان يثقله من الأسرار.
ولكن لم تنته تلك الصلاة إلا على كدر ونحس؛ فإن المصلين أقبلوا بعد الخطبة على الصلاة، فقرأ الشماس بدل ما كان يجب عليه قراءته من الأناشيد في ذلك اليوم مزمورة أخرى فيها إشارة لرجعة البطريق؛ يريد بذلك أن يتملقه ويهنئه. فلما سمع الناس ذلك ضجوا قائلين: إنه قد خالف السنن. وتطيروا به على البطريق، وجاء في تلك القصة أنهم قالوا إن البطريق لن يشهد عيدا للفصح بعد ذلك.
7
ولا شك أنهم قد رأوا عليه تغيرا واعتلالا؛ إذ كان النفي قد أسقم جسمه، وكان السير في الزحام ذلك اليوم قد أتعبه، ثم أجهدته بعد ذلك الخطبة وما بذل فيها. ولا بد فوق كل ذلك أن وجهه كان ينم عما كان في قلبه من أشجان تجيش به فتمزقه؛ فقد كان يرى الناس من حوله يثقون به ويرفعون ذكره، ويرونه نصيرا لهم ومعينا في محنتهم، وكانوا جميعا عند ذلك قد طهرت قلوبهم وامتلئوا إيمانا بالصليب، حتى ليجاهدون في سبيله ويلقون النصر على وعده، ولكن فيما كانوا والآمال تطلع عليهم وتملأ نفوسهم، كان الحبر الأعظم يحس في نفسه وكسا ووهنا، ويشعر في قلبه الوخز الأليم؛ إذ كان مقبلا على خيانتهم بعد قليل، مقدما على خذلان الصليب والإيقاع بدولة الروم. لقد كان في مقامه ذلك بين شجون شديدة تنتابه، ولا غرابة أن ينم مظهره الكليل على ما كان يثقله ويهزهز نفسه العاتية، ولا عجب أن يرى الناس في أمارات وجهه أمارات الموت.
قضى قيرس مدة قصيرة بعد مقدمه يعالج طائفة من أمور الدين والدولة كان لا بد فيه من الإسراع بمعالجتها في الإسكندرية. ويلوح لنا أن «أنستاسيوس» كان الحاكم المدني للمدينة في مدة غياب «قيرس»، ومن الجائز أن يكون «جورج» الذي استخلفه «قيرس» عند خروجه من مصر على ولاية الدين هو بعينه البطريق الذي كان قبله.
8
وكان «جورج» عند ذلك شيخا كبيرا، ولكنه كانت له في قومه عزة، وكان كل الناس يظهرون له الإجلال والإعظام، لا فرق في ذلك بين حاكم المدينة ومن هم دونه، ولم تكن له يد في اضطهاد القبط. وفي الحق أن القبط تنفسوا الصعداء منذ رحل عنهم قيرس، ومنذ انقطعت الصلة بين سلطان الروم وبين قطع كبيرة من بلاد مصر، ولكن «قيرس» لم ينس بعد عودته ما كان في قلبه من الحفيظة على ديانة القبط، فكان يرضى بالإذعان للعدو وإسلام البلاد له ومصالحة من لا يؤمنون بدين المسيح، ولكنه ما كان ليرضى بأن يسالم القبط أو يعفو عنهم؛ فاستل سيفه مرة أخرى، ولم يلن قلبه لما حل به من مصائب الدهر ونوازله، بل عاد إلى عسفه بالقبط وظلمه لهم بقلب لا رحمة فيه، وجعل يوقع بمن كان منهم في منال
9
يده.
وإنه لمن العجيب أن يرى المقوقس جدوى في العودة إلى اضطهاده وعسفه؛ فلعله كان يتستر وراء ذلك ليداري عن أهل الإسكندرية حقيقة أغراضه، وهي إسلام بلاد مصر جميعها للعرب. ولا شك في أنه كان في ذلك ينفذ أمرا من مليكه، ولكن أي أمر! لقد كان أمرا غصبه من مليك لا حول له ولا طول، وتوصل إليه بالخداع والدناءة، حتى إنه لم يستطع أن يظهره لكبار قادة الدولة في الإسكندرية، ولا أن يعلنه للناس. فخرج وحده ذاهبا إلى حصن «بابليون»، أو لعله قد استصحب جماعة من قسوسه كانوا على علم بسره. وكان النيل عند ذلك مرة أخرى في أوان فيضه،
10
وذلك في أواخر شهر أكتوبر بعد نحو عام من صلح بابليون الذي لم يتم؛ إذ مزقه الإمبراطور الشيخ «هرقل» في غضب وحنق، وكان عمرو بن العاص عند ذلك قد عاد منذ قليل إلى «بابليون». ولا ندري فيم قضى الوقت إلى ذلك الحين، أقضاه في قتال بلاد مصر السفلى قتالا لم يخرج منه بطائل، أم قضاه في غزو بلاد الصعيد يقود سرية إليها بنفسه؟
11
وليس أمر السرية ذاتها بموضع للشك؛ فقد خرجت كتيبة صغيرة من المسلمين إلى الصعيد حتى بلغت مدينة «أنطنويه»، المعروفة الآن باسم «أنصنا»، وكانت إذ ذاك عاصمة إقليم «طيبة»، وكانت جنود الروم لا تزال منها بقية في ذلك الإقليم. فذهب الناس إلى حاكم الإقليم وهو «حنا»، وكلموه في الأمر، وطلبوا إليه أن يقفوا لقتال العرب، ولكن «حنا» أبى كل الإباء أن يقف للقتال، ثم استولى على الأموال العامة التي جمعت، وحملها معه وخرج بجنوده ضاربا في الصحراء إلى الغرب يقصد الإسكندرية؛ إذ لم تكن به رغبة أن يلقى ما لقيه جنود الفيوم. وكان يرى من نفسه العجز عن مناجزة المسلمين؛ وعلى ذلك لم يلق العرب مشقة كبرى في فتح بلاد الصعيد. وقال حنا النقيوسي في وصف ذلك الفتح إن المسلمين عندما رأوا ضعف الروم وعداوة الناس للإمبراطور «هرقل»، لما أوقعه من الاضطهاد والعسف بأهل مصر كلها ودينهم الصحيح بتحريض قيرس البطريق الخلقيدوني، زادت جرأتهم واشتد ساعدهم في القتال.
12
والحق أن القبط لم يحبوا العرب، ولكنهم في الصعيد كانوا يحملون في قلوبهم أشد الضغن على من اضطهدهم وعذبهم، حتى إن أهل الفيوم بعد أن استقرت بهم الحال في حكم العرب على دفع الجزية، بلغ الأمر بهم أن صاروا يقتلون من وجدوه من جند الروم، وكان أهل البلاد التي في جنوب الفيوم أقل رغبة من هؤلاء في نصرة الروم.
ولكن القائد العربي كان قد عاد إلى بابليون بعد أن فتح بلاد الصعيد أو على الأقل بلاد مصر الوسطى؛ كيما يستريح بأصحابه في أوان فيض النيل. وفيما كان هناك في ذلك الحصن وافاه «قيرس»، وقد جاءه يحمل عقد الإذعان والتسليم، فرحب به عمرو وأكرم وفادته. ولما علم منه ما جاء من أجله من أمر الصلح قال له: «لقد أحسنت في الشخوص إلينا.» فقال البطريق له إن الناس قد عولوا على دفع الجزية كيما تقف رحا الحرب، ثم قال: «إن الله قد أعطاكم هذه الأرض، فلا تدخلوا بعد اليوم في حرب مع الروم.»
13
ولعل المفاوضة والمشاورة قد استطالت مدة أيام كعادة أهل الشرق في مفاوضاتهم، ثم انتهى أمرها إلى صلح اتفق فيه الجانبان على شروطه جميعا، وكتب بها عقد في الثامن من شهر نوفمبر من سنة 641. ولنسم هذا الصلح صلح الإسكندرية كي نميز بينه وبين الصلح السابق الذي عقد في بابليون؛ فإن هذا الصلح الجديد إنما كان خاصا في معظم شروطه بالإسكندرية وتسليمها، وقد تم به فتح العرب لبلاد مصر. واختلفت الروايات في ذكر شروط هذا الصلح، ولكن حنا النقيوسي أورد أكبرها، وهي: (1)
أن يدفع الجزية كل من دخل في العقد. (2)
أن تعقد هدنة لنحو أحد عشر شهرا تنتهي في أول شهر بابه القبطي، الموافق للثامن والعشرين من شهر سبتمبر من سنة 642.
14 (3)
أن يبقى العرب في مواضعهم في مدة هذه الهدنة على أن يعتزلوا وحدهم ولا يسعوا أي سعي لقتال الإسكندرية، وأن يكف الروم عن القتال. (4)
أن ترحل مسلحة الإسكندرية في البحر، ويحمل جنودها معهم متاعهم وأموالهم جميعها. على أن من أراد الرحيل من جانب البر فله أن يفعل، على أن يدفع كل شهر جزاء معلوما ما بقي في أرض مصر في رحلته. (5)
ألا يعود جيش من الروم إلى مصر أو يسعى لردها. (6)
أن يكف المسلمون عن أخذ كنائس المسيحيين، ولا يتدخلوا في أمورهم أي تدخل. (7)
أن يباح لليهود الإقامة في الإسكندرية. (8)
أن يبعث الروم رهائن من قبلهم؛ مائة وخمسين من جنودهم، وخمسين من غير الجند؛ ضمانا لإنفاذ العقد.
ولم يورد المؤرخ القبطي هذه الشروط على هذا الترتيب الذي أوردناها به، فإنما قصدنا بترتيبها هكذا أن نجعلها سهلة المأخذ؛ ففي الشرط الأول ضمان للقبط في أنفسهم وأموالهم وكنائسهم، وإباحة لهم أن يتدينوا كما شاءوا بحسب شعائر دينهم؛ فإن دفع الجزية والأموال جعلهم «أهل ذمة» لهم هذه الحقوق على الفاتحين، وقدرت الجزية بدينارين على كل رجل إلا على الشيخ العاجز والولد الصغير، وقد بلغت الجزية اثني عشر ألف ألف دينار، وذلك نحو ستة آلاف ألف من الجنيهات،
15
وكان على أهل مصر فوق هذه الجزية أن يدفعوا الأموال على أرضهم وعقارهم. وأما الشرط الثالث فالأجدر بنا أن نجعله خاصا بالإسكندرية؛ فإن «قيرس» وإن كان قد صالح العرب بالنيابة عن أهل البلاد كلها، ما كان ليضمن أن ترضى بما رضيت به كل مدينة وكل طائفة، وما كان العرب ليمنعوا من قتال من قاتلهم من أهل البلاد، ولا سيما قد وقع قتال في مدة الهدنة في بعض المواضع التي لم ترض بالتسليم ففتحت عنوة.
ويلاحظ القارئ أن رواية «حنا النقيوسي» لا تذكر شيئا عن موعد حلول أول قسط من الجزية، ولا عن مواعيد ما يلي ذلك منها، ولكنه يدل دلالة واضحة على أن العرب طلبوا أول قسط منها عاجلا، ويتفق معه في ذلك المؤرخ العربي ابن خلدون إذ يذكر ذلك ذكرا صريحا.
16
والآن قد بلغنا مبلغا نستطيع معه أن ندرك ما وقع فيه مؤرخو العرب من الخلط والاختلاف عند معالجتهم مسألة يحبون الخوض فيها، وهي مسألة فتح مصر، وهل كان عنوة أو صلحا. ولا بد لنا هنا من أن نذكر أمرا وقع بالإسكندرية فيما بعد ونعجل به قبل موضعه، وهو أن الروم عادوا إليها فأخذوها بعد ثلاث سنوات أو أربع من وقت مصالحة قيرس وتسليمه للعرب، ثم فتحها العرب مرة أخرى، وكان فتحها هذه المرة عنوة لا صلحا؛ فدوننا الآن اتفاق عجيب في حوادث عدة؛ فقد أراد المقوقس أن يسلم حصن بابليون في أوان فيض النيل، وكان ذلك بعقد وعهد، فلم يرض به الإمبراطور وأبى الموافقة عليه، فبقي الحصن إلى أن هاجمه العرب، ولكن قبل أن يدخل فيه الفاتحون خرج أهل الحصن، فسلموا لهم ونزلوا على عقد وعهد، ثم سلمت الإسكندرية كذلك في أوان فيض النيل، وكان تسليمها صلحا، وذلك بغير أن تجد كيدا كبيرا من القتال، ولكن الروم عادوا إلى الاستيلاء عليها بعد أن بقيت في حكم العرب مدة، ولم يخرج الروم منها إلا بعد حصار انتهى بفتحها عنوة.
فإذا نحن راجعنا هذه الحوادث العجيبة، وذكرنا أن أول من كتب تاريخ الفتح من مؤرخي العرب كتبه بعد نحو مائتي عام منه، وإذا ذكرنا أنه من أشق الأشياء أن تبقى هذه الحوادث على حقيقة صورها، وهي صور متشابهة فيها الاتفاقات العجيبة، فتبقى مدة قرنين لا حافظ لها إلا الرواية، وأكثرها أحاديث شفوية، إذا ذكرنا ذلك لم يكن عجبنا من ذلك الخلط الذي وقع في الرواية والتشويه الذي أصابها، بل كان أعجب العجب أن نجد بقية من الحقيقة لا تزال محفوظة في نتف كثيرة من الأخبار مهما كان اضطرابها وانقطاع نظامها وصلتها؛ وذلك لأن عهدنا بكتاب العرب لا يحسنون تفهم التاريخ، ولا يدركون نظامه، ولا يعبئون بإحكام الصلة بين حوادثه. فنستطيع الآن أن ندرك السبب الذي من أجله نجد بعضهم يذكر فتح حصن بابليون صلحا وبعضهم يذكر أن فتحه إنما كان عنوة، وكذلك ندرك السبب الذي من أجله نجد مثل هذا الاختلاف في فتح الإسكندرية؛ فالواقع أن كلا من الروايتين صحيح من جانب واحد، ولكن صحتهما لا تتم إلا بعد إضافة وتعديل.
وقد رأينا من المستحسن أن نفحص روايات بعض المؤرخين من العرب الذين أتوا في أخبارهم بشيء من التفاصيل شائق لذيذ، ومن هؤلاء «البلاذري»، وهو من مؤرخي القرن التاسع؛ فإنه يروي عن عبد الله بن عمرو بن العاص أنه قال إن عمرا اجتمع بأصحابه من زعماء المسلمين بعد أن فتح حصن بابليون عنوة، واستشارهم فيما أراده من مصالحة المصريين، ثم عقد معهم صلحا على أن يفرض دينارين على كل رجل قادر منهم، وأن يجعل على أصحاب الأرضين
17
ضريبة يؤدونها عن أرضهم، واشترط عليهم فوق ذلك أن يأتوا لكل رجل من المسلمين بكسوة كاملة كل عام، وطلب إليه الحاكم «المقوقس» أن يدخل في ذلك العهد كل بلاد مصر، ولكن أبيح لمن شاء من الروم أن يخرج من البلاد. ويقول البلاذري، وهو مخطئ في قوله، إن هذا الصلح قد نقضه الإمبراطور؛ فإنه من الواضح أن الصلح الذي يذكره هو صلح الإسكندرية. ونجد هذا المؤرخ في موضع آخر يدل على أن مصر إنما فتحت عنوة؛ فيروي أن عمرو بن العاص خطب مرة على المنبر فقال: «لقد جلست مجلسي هذا في هذا البلد وليس لأحد فيه علي عهد ولا عقد، إن شئت قتلت وإن شئت سبيت.» وهذه الرواية إذا صحت كانت دليلا على أن القبط لم يكن لهم من الأمر شيء، وأن العقد إنما كان بين العرب والروم. ولقد كان هذا صحيحا؛ فإن العقد كان بين الروم والعرب، على أن القبط كانوا داخلين فيه. وقد ذهب «البلاذري» إلى هذا الرأي، وجعل يدلل عليه؛ فإنه يذكر أن معاوية كتب إلى وردان يأمره بزيادة الجزية على القبط، فأجابه وردان أنه لا يستطيع أن يفعل ذلك لأن فيه نقضا للعهد الذي لهم. وكذلك يذكر رواية عن أحد ولد الزبير أنه قال: «لقد أقمت في مصر سبع سنوات، وتزوجت فيها، وكان الناس فيها يفرض عليهم من الأموال ما لا طاقة لهم به، فآذاهم ذلك، مع أن عمرو بن العاص كان قد عقد لهم عهدا جعل لهم فيه شروطا معلومة.» ويقول البلاذري بعد ذلك إن في الأخبار سوى ذلك ما يدل على أنه كان بين العرب والمصريين عهد، ولكنه مع ذلك لم يقدر على أن يمحو من ذهنه أن الإسكندرية لم تفتح عنوة، مع إقراره «بأن عمرو بن العاص لم يقتل أهلها ولم يسبهم، بل جعلهم أهل ذمة»، والفتح عنوة لا يتفق بحال مع جعل أهل المدينة أهل ذمة؛ فإقرار البلاذري بأن أهل الإسكندرية كانوا أهل ذمة دليل على أنه عندما ذكر فتح الإسكندرية وقال إنه كان عنوة إنما كان يقصد الفتح الثاني.
وقد جاء في كتاب الطبري ذكر شروط ذلك الصلح، وهو يسميه صلح عين شمس بدل أن يسميه صلح الإسكندرية، وذلك خلط عجيب منه،
18
وإليك نصها كما جاءت فيه: «هذا ما أعطى عمرو بن العاص أهل مصر من الأمان على أنفسهم وملتهم وأموالهم وكنائسهم وصلبهم وبرهم وبحرهم، لا يدخل عليهم شيء من ذلك ولا ينتقص، ولا تساكنهم النوبة، وعلى أهل مصر أن يعطوا الجزية إذا اجتمعوا على هذا الصلح وانتهت زيادة نهرهم، خمسين ألف ألف.
19
وعليهم ما جنى لصوتهم (لصوصهم)؛ فإن أبى أحد منهم أن يجيب رفع عنهم من الجزية بقدرهم وذمتنا ممن أبى بريئة، وإن نقص نهرهم من غايته إذا انتهى رفع عنهم بقدر ذلك. ومن دخل في صلحهم من الروم والنوبة فله مثل ما لهم وعليه مثل ما عليهم، ومن أبى منهم واختار الذهاب فهو آمن حتى يبلغ مأمنه أو يخرج من سلطاننا. عليهم ما عليهم أثلاثا في كل ثلث جباية ثلث ما عليهم.
20
على ما في هذا الكتاب عهد الله وذمة رسوله وذمة الخليفة أمير المؤمنين وذمم المؤمنين. وعلى النوبة الذين استجابوا أن يعينوا بكذا وكذا رأسا وكذا وكذا فرسا على ألا يغزوا ولا يمنعوا من تجارة صادرة ولا واردة.» وشهد عليه الزبير وعبد الله ومحمد ابناه، وكتب وردان وحضر.
21
وهذا النص للصلح ليس فيه خلاف عما جاء في كتاب «حنا النقيوسي»، وإن كان كلا النصين لا يشمل كل ما جاء في النص الآخر؛ فالحق أن كلا من النصين يكمل الآخر. وقد جاء في كتاب ياقوت عن ابن عبد الحكم أن مصر فتحت كلها صلحا، وفرضت الجزية دينارين على كل رجل من أهل مصر على ألا تزاد، ثم جعلت على أصحاب الأرض ضريبة يؤدونها خراجا من ثمار أرضهم، وفرضت على أهل الإسكندرية جزية وضريبة على عقارهم. وأما مقدار تلك الجزية وتلك الضريبة فقد جعل أمره في يد الحاكم؛ لأن مدينتهم فتحت عنوة بلا عقد ولا عهد. ولا شك أن في هذا القول خلطا بين الفتح الثاني للمدينة الذي كان عنوة والفتح الأول الذي كان صلحا، وخير ما قيل في هذا الشأن ما جاء في كتاب المقريزي؛ فإنه أثبت الآراء المختلفة وأوضحها إيضاحا عظيما، وأسند كل رأي إلى صاحبه،
22
وأقوى الأدلة في كل ذلك هي ما دلت على أن الفتح كان صلحا. وإن خير ما نلخص به الأمر كله أن نورد ما قاله شيخ من القدماء؛ إذ سمع رجلا يقول إنه لم يكن لأهل مصر عهد، فأجاب: «ما يبالي ألا يصلي من قال إنه ليس لهم عهد.»
23
الفصل الثاني والعشرون
فتح بلاد الساحل
لما انتهى أمر الصلح أوفد عمرو بن العاص معاوية بن حديج الكندي، وأمره أن يحمل أنباء ما حدث إلى عمر بن الخطاب،
1
فطلب معاوية منه أن يكتب معه كتابا، فقال له عمرو: «ماذا عساني أفعل بالكتاب؟ ألست امرأ عربيا تقدر على وصف أمر شهدته؟» فسار معاوية في رحلته الطويلة في الصحراء حتى بلغ المدينة، ووافق مقدمه وقت الظهر، فأناخ راحلته عند باب المسجد ودخل. وفيما هو هناك خرجت جارية من بيت عمر، فلما رأت رجلا غريبا عليه وعث السفر سألته عن اسمه فقاله لها، ثم قال إنه جاء يحمل رسالة من عمرو بن العاص، فعادت الجارية إلى الدار، فما لبثت أن جاءت إليه مسرعة حتى سمع معاوية خفق نقابها على أقدامها إذ تجري إليه، ثم أمرته أن يتبعها إلى البيت. فلما جاءه سأله عمر عن الأنباء، فقال له: «خير يا أمير المؤمنين، فتح الله علينا الإسكندرية.» فقام معه عمر حتى عاد إلى المسجد وأذن المؤذن للصلاة، فأقام عمر صلاة الشكر لله على ما أولى، ولما عاد مع معاوية إلى داره صلى مرة أخرى ثم طلب الطعام، فقدم له خبز وزيت يؤتدم به، فوضع ذلك أمام الضيف، فأصاب منه شيئا خفيفا على استحياء، ثم أتى بتمر فوضع له، وكان هذا أكبر ما عند الخليفة من لذائذ الطعام وأطايبه، ثم اعتذر معاوية بأنه لم يبادر إلى حمل نبأ الفتح لأنه ظن عمر نائما وقت القيلولة، فقال له عمر: بئس ما قلت، وبئس ما ظننت!
2
لئن نمت النهار لأضيعن الرعية، ولئن نمت الليل لأضيعن نفسي، فكيف بالنوم مع هذين؟
وهكذا أرسل نبأ الفتح إلى المدينة، وهكذا تلقاه الخليفة فيها بغير زينة ولا ضجة، وما كان أعظم الفرق بين هذا وبين ما حدث في الإسكندرية عندما أتاها ذلك النبأ.
أمضي عهد الصلح في «بابليون» في يوم الخميس الثامن من شهر نوفمبر من سنة 641،
3
وكان لا بد له من إقرار إمبراطور الروم، كما كان لا بد له من إقرار خليفة المسلمين عمر، وكان في مدة الهدنة، وهي أحد عشر شهرا، متسع يكفي لذلك وما يلزم له من الرسوم، ثم عاد قيرس مسرعا إلى الإسكندرية يحمل معه كتاب الصلح.
وكان أول ما عني به أن يرسل شروط الصلح إلى «تيودور» وهو القائد الأعلى، ثم إلى قسطنطين وهو قائد الحرس. ومن أعجب الأمور أن «تيودور» لم تكن له يد في مفاوضة الصلح، ولم يحضر كتابته في «بابليون»، مع أنه كان حاكم المدينة من قبل الإمبراطور. والحقيقة أن كل ما يمس «تيودور» محير مدهش، فلسنا ندري من أمره شيئا، حتى لنجهل هل كان قد علم بعزم «قيرس» على تسليم المدينة للعرب قبل أن ينفذه، فإذا كان قد علم بذلك فلا بد أنه قد غير رأيه وأصبح من أشياع الصلح مع العرب، وأما إذا كان غير عالم بذلك فمن أعجب الأمور أن يسارع إلى الموافقة على أمر لا يمكن أن نصفه إلا بأنه كان تسليما شائنا.
وكانت أنباء ذلك الصلح الذي عقد في طي الخفاء تتردد بين رؤساء موظفي الحكومة وبين زعماء الناس في العاصمة، يتناقلها بعضهم عن بعض همسا ووسوسة، يفضي بها الرجل إلى من يأمنه ويطمئن إليه، وأما العامة فإنهم ظلوا في جهالة لا يعلمون من أمره شيئا، وأرسلت الرسائل إلى الإمبراطور هرقلوناس تفضي إليه بشروط الصلح، وطلب إليه أن يقرها. والظاهر أن القائدين كانا كلاهما يعززان ذلك الصلح ويوافقان على طلب إقراره، وإن في تعزيزهما له وموافقتهما عليه لحجة يمكن الاستناد عليها في تبرير ما أتاه قيرس ورفع الوزر عنه بعض الشيء. على أنه من المعلوم ما كان عليه «تيودور» من العجز في قيادة الحروب وضعف الرأي فيها، فموافقته على الصلح على ذلك لا قيمة لها، وحكمه في أمر الحرب مدافع لا يعتمد عليه. ومهما يكن من الأمر فإن «قيرس» عندما أحس بأنه مهد السبيل إلى إعلان الأمر في الإسكندرية، دعا كبار قواد الجيش وعظماء رجال الدولة، ولما انعقد عقدهم جاءوا وعليهم «تيودور» و«قسطنطين»، حتى إذا مثلوا بين يدي البطريق «قيرس» أظهروا له الولاء وأعلنوا له الطاعة. ولنا أن نصوره لأنفسنا، وقد جلس في أبهته واتخذ زينته، وجعل يبين لهم ما تضمنه الصلح من شروط بما أوتي من فصاحة وبراعة، ويسهب في ذكر الضرورة التي استوجبت عقده وما فيه من مزايا، فما زال حتى فاز بما أراد من حمل سامعيه على الإيمان بقوله، ولكنه كان فوزا ما أشأمه.
وبهذا خطا «قيرس» خطوة جديدة في سبيل إنفاذ خطته في الإيقاع بمصر. على أنه ما كان ليستطيع أن يبقي خطته في ستر الخفاء بعد ذلك طويلا، فعلم الناس بما كان، ولكن علمهم لم يأت عن قالة قالها «قيرس»، ولا إشاعة ترددت وذاعت بينهم، بل علموا بالأمر بغتة وقد فجأهم طلوع فئة من العرب على المدينة، فنفخت الأبواق إيذانا بمقدمهم، وأسرع الناس من كل جهة ليقفوا في أماكن الدفاع من الأسوار والحصون، ولكن العرب ساروا على خيلهم لا يلوون على شيء ولا يعبئون بالضجة، وجاء قواد الروم عند ذلك بعد أن كانوا قد قضوا على حماسة الجنود وإقدامهم، فجعلوا يهدئون من روع الناس، وينادون فيهم أن لا جدوى في القتال ولا أمل من ورائه. وقبل أن يقترب العرب حتى يصيروا على مدى رمي المجانيق، أبصرهم الناس وهم يحملون أعلام الهدنة والسلام، فأشير إليهم بعلامة الرد فاقتربوا، حتى إذا ما صاروا بحيث يسمعون ويسمع منهم أفضوا إلى جنود الروم بما كان. وما كان أشد عجبهم ودهشتهم مما علموا؛ إذ عرفوا عند ذلك أن العدو لم يأت ليقاتلهم، بل أتى ليحمل الجزية التي اتفق عليها مع «قيرس» المقوقس في عقد الصلح الذي طلبه من العرب وكتبه معهم على تسليم المدينة، فهاج الناس وثار ثائرهم لما سمعوا، وذهبوا غير مصدقين حتى أتوا قصر البطريق، فاطلع عليهم منه بعد لأي، وكان الخطر في تلك اللحظة محدقا بحياته؛ إذ تهافت الناس إليه يريدون أن يحصبوه.
غير أن كبر سنه وعلو مكانته خذلا الناس عنه وحمياه من الخطر، فأشار إلى الناس إشارة فهدءوا، ثم استطاع الكلام، واستعان بما أوتي من بلاغة وفصاحة على تخفيف جنايته وتهوين خيانته في مقالته التي قالها بين الناس، وجعل يبرر ما كان منه قائلا إنه إنما اضطر إلى ركوب الصعب اضطرارا إذ لم يكن بد منه، وما قصد إلا مصلحة قومه وفائدة أبنائهم؛ فإن العرب قوم لا يقوم لهم شيء إلا غلبوه. وقد أراد الله أن يملكوا أرض مصر، فما كان للروم إلا أن يصالحوهم؛ فإنهم إن لم يفعلوا جرت الدماء في طرق مدينتهم، ونهبت أموالهم وقتلوا، ومن بقي منهم حيا خسر ما كان يملك وضاع أمره، ولكن الصلح حقن دماءهم، وأمنهم على أنفسهم وأموالهم وديانتهم، ومن أراد أن يعيش في أرض مسيحية كان له الخيار في ترك الإسكندرية. وما كان أمر الخيار بين الهجرة من مصر وبين الإذعان للمسلمين بالأمر الهين؛ فلم يتمالك البطريق معه، بل بكى وهو يطلب من الناس أن يصدقوا أنه إنما بذل جهده في أمرهم، وأن عليهم أن يرضوا بالصلح الذي عقده من أجلهم يقصد به صلاح حالهم.
بهذا استطاع «قيرس» مرة أخرى أن يفوز برأيه المشئوم، فإذا بالناس وقد عادوا إلى رأي الجيش، ورضوا بالتسليم والنزول عن مدينتهم العظيمة للعرب على شرط العقد الذي تم. وجعل الثائرون يتلاومون على ما اقترفوا من الوثوب والحنق على ذلك الحبر الطاهر، في حين كان يسعى جهد طاقته ليحول بينهم وبين الهلاك على يد الغزاة، وأخذوا يجمعون قسط الجزية التي فرضت عليهم وزادوا عليها مقدارا كبيرا من الذهب، ووضع ذلك المال في سفينة خرجت من الباب الجنوبي الذي تدخل منه الترعة، وذهب به قيرس بنفسه ليحمله إلى قائد المسلمين.
4
وبذلك تم فتح الإسكندرية، وإذا حسبنا تاريخ ذلك وجدنا أن أداء ذلك القسط الأول من الجزية قد يكون في أول المحرم من سنة إحدى وعشرين من الهجرة، وذلك هو اليوم العاشر من ديسمبر من عام 641، وليس في مصادر التاريخ ما يثبت ذلك التاريخ وينص عليه صراحة، ولكن الرواية التي تناقلها العرب تجعل فتح المدينة في ذلك اليوم، ولعل منشأ تلك الرواية كان عمن حضر ذلك اليوم وشهد إذعان أهل الإسكندرية بحملهم أول قسط من جزيتهم، ومع ذلك فإن مؤرخي العرب يجعلون أول المحرم في يوم الجمعة، مع أن أول المحرم لم يقع في يوم جمعة في ذلك العام ولا في عام قريب منه إلا في عام 645؛ وعلى ذلك يكون لنا أن نقول إن الرواية لا يمكن أن تكون صحيحة في كل أجزائها، بل لقد تكون كلها غير صحيحة، ولكنا نتردد في الأمر، ونحمل أنفسنا على القول إنها لا بد أن يكون لها أساس من الحقيقة؛ لأنها رواية من أثبت الروايات في أخبار الفتح العربي.
5
وعلى أي حال فإنه من المفيد أن نوجه الأنظار إلى اتفاق عجيب آخر يلوح من خلال ما اختلط من تواريخ ذلك العصر، ولعله يفيدنا في بيان أسباب ذلك الخلط بعض التبيين؛ وذلك أن بعض مؤرخي العرب يقرر أن فتح الإسكندرية لم يقع إلا بعد ثلاث سنين من دخول جيش عمرو في مصر، في حين أن طائفة سواهم تقول إن فتح حصن بابليون وفتح الإسكندرية وقعا كلاهما في عام واحد، وهو العام العشرون من الهجرة. ومع ما يظهر من الخلاف بين الطائفتين نقول إن كليهما على الحق؛ فقد سلم حصن بابليون في شهر أبريل من عام 641، وسلمت الإسكندرية في شهر نوفمبر من ذلك العام، وكلا التاريخين واقع في سنة عشرين. ومن جهة أخرى قد دخل عمرو في أرض مصر في عام 639 من الهجرة، ولكن جيشه لم يدخل الإسكندرية إلا بعد ثلاث سنوات من ذلك؛ أي في شهر أكتوبر من عام 642 عندما انقضت مدة الهدنة وهي أحد عشر شهرا. وإنه لمما يسر النفس أن تفوز بكشف الحقيقة من وراء هذا الغطاء من خلاف يخمرها.
وماذا عسانا نقول في هذا الصلح العجيب؟ فليس في طاقتنا أن نملك أنفسنا ونلزم القصد في القول إذا ما أردنا أن نصف فعلة المقوقس، وما أتاه ذلك البطريق من المكر السيئ، وما كان له من الصلة الغريبة بقائد للعرب، وحرصه المدهش في كل وقت من أوقات القتال مع المسلمين على أن يسرع بالإذعان والتسليم لهم؛ فليس مر الأيام بمستطيع أن يمحو عن ذكره وصمة جنايته في خيانة دولة الروم، والقصد إلى تضييع أمرها بعد أن لطخته من قبل جريرة حمقه وقسوته في اضطهاد القبط مدة أعوام عشرة. فالحق أنه لو كان منذ ولي أمر الدين قد قصر همه على هدم سلطان الروم وتضييع أمرهم في مصر لما سار إلا على سيرته تلك، ولما سلك إلا السبيل الذي سلكه. وإنه ليملؤنا العجب إذ نراه يسارع تلك المسارعة إلى اغتنام فرصة الخيانة والإيقاع بمصر، وهي فرصة ما سنحت له إلا من جرائر أفعاله، وما تهيأت إلا من عاقبة سوء حكمه. ولا يخفف من جرمه أن يقول قائل إنه كان يأتمر بأمر مولاه الإمبراطور هرقلوناس وقد خول له أن يعقد ذلك الصلح؛ فلقد كان من أهون الأشياء على مثل قيرس أن يحمل مثل هذا الملك على رأيه، وهو ملك مستضعف لا علم له بأحوال مصر، تسير به مشيئة أمه أنى شاءت.
ولم يكن صلح الإسكندرية أول العهد بخيانته، بل لنا بها عهد منذ أشهر في حصن «بابليون»، وحسبنا بما كان منه في أمر هذا الحصن ردا على من يريد الدفاع عنه بأنه إنما نزل على حكم الضرورة في الحرب؛ فإذا كان العرب عند طلوعهم على الإسكندرية قد بسطوا سلطانهم على أكثر بلاد مصر، فإن الأمر لم يكن كذلك وهم واقفون حول حصن «بابليون» في الوقت الذي أراد فيه أن يعقد معهم صلحه الذي أنكره الإمبراطور. وبعد فلم تكن الإسكندرية قد نزل بها من حرب العرب ضيق، وكانت بلاد الساحل جميعها لا تزال بمنجاة عنهم. وقد حاول جيش المسلمين أن يصدم تلك العاصمة في أول الأمر فارتد عنها عاجزا مخذولا، وقد ذكرنا من قبل أنه ليس في الأخبار ما يحملنا على الظن أن ذلك الجيش قد أقام عسكره على مقربة منها، ويدلنا على ذلك دليلان: أولهما إغفال ديوان حنا لذكر عسكر لهم هناك، وثانيهما قوله إن أهل المدينة عندما رأوا الفئة من المسلمين التي أتت لتحمل الجزية انزعجوا وثاروا، ولو كان المسلمون على مقربة بحيث يراهم أهل الإسكندرية من فوق أسوار مدينتهم كل يوم مدة شهور، كما يقول مؤرخو العرب، لما حدث مثل ذلك الانزعاج عند اقترابهم . فالحق أن مؤرخي العرب يخلطون في هذا الأمر بين تسليم الإسكندرية الأول وفتحها عنوة في المرة الثانية؛ إذ إنهم في المرة الثانية حاصروا المدينة حصارا صحيحا نوعا ما، وأما تسليمها الأول فلم تكن ثمة ضرورة من ضرورات الحرب تدعو إليه.
6
وإنا نعيد هنا ما سبق لنا قوله إن الإسكندرية كانت من المنعة بحيث لا تكاد تنالها قوة عمرو ومن جاء معه من الجنود، فكان دور أسوارها نحو تسعة أميال أو عشرة، ثلاثة منها مما يلي البحر، وأكثرها ما بقي منها تحميه الغياض والبحيرات والترعة. وإذ كان العدو لا يستطيع أن يقترب إلا من جزء يسير من تلك الأسوار، فقد كان من السهل على جند المدينة أن تجعل همها دفع حملاته على هذا الجزء. وإن العرب لو استطاعوا إسكات ما على الأسوار من المجانيق القوية المريعة، وقدروا على الاقتراب منها؛ لما أمكنهم أن يصدعوا الأسوار بما لديهم من الوسائل وما كان أقلها وأضعفها. وإنا لا نكاد نعرف في تاريخ الإسكندرية أنها أخذت مرة عنوة بغير أن يكون أخذها بخيانة من داخلها.
فمن ذلك نرى أن ذلك الصلح الذي عقده قيرس لم تكن ثمة من ضرورة في الحرب تدعو إليه، ما دامت أساطيل الروم تسيطر على البحر، والعرب بعد أبعد الناس عنه لا يمر بخاطرهم أن يتخذوا فيه قوة. قد يقول قائل إن فتح بابليون قد أوهن الروم، وإن جنودهم امتلئوا هيبة من العرب؛ إذ رأوا أنهم لم يصبروا على لقائهم في موطن من المواطن منذ ابتدأت الحرب، وإن الجيش الروماني كان لا يثق في قواده، ولا يرى منهم إلا الجبانة والعجز. وهذا كله صحيح لا شك فيه، ولكن كان في الاستطاعة تغيير الحال، بأن ترسل جنود غير تلك الجنود وقواد غير أولئك القواد، لا تزال في جنانها شدة وفي قلوبها قوة، غير أن ذلك لم يسع إليه أحد؛ فإن الدولة منذ مات عنها هرقل لم تجد حاكما يلم شعثها، ويصرف أمورها، ويحملها على سبيلها. وكان أهل الإسكندرية شيعا وطوائف، تقطع ما بينهم الأحقاد والأطماع، فما كانت تخلو من هيعة أو وثبة. وجاء بعد ذلك موت هرقل، فزاد الحال سوءا؛ إذ شطر حكومة قلب الدولة شطرين ليس بينهما إلا الشحناء والعداوة؛ فالحق أن موته «كسر شوكة الروم» كما قال المؤرخ العربي، ولكنه كسرها كسرا أبلغ مما قصده ذلك المؤرخ؛ فإن الدولة أغفلت بعده همها الأكبر، وهو الدفاع عن حياتها، فشغلتها دسائس «مرتينه» ومكائد «فلنتين»، فتركت مصر تجري في قضائها، وكانت الإسكندرية إذ ذاك قطب الحوادث يدور عليها أمر مصر ومصيرها، فلم تجد في الدولة من يأخذ بيدها، ولو وجدت نصيرا يمدها لنجت من عدوها، ولناجزته بعد ذلك على سواء حتى تخرجه من أرض مصر.
لسنا ننكر أن الروم عند فتح الإسكندرية لم يكن لهم أمل في أن يهاجموا العرب ويخرجوهم من البلاد، ولكن الإسكندرية كانت تطيق الصبر على الحصار مدة سنتين أو ثلاث ريثما يلي الأمر حاكم صلب القناة. فإذا ما كان ذلك لم يكن بالمستبعد أن تعود مصر إلى الروم، ولا يمنع من ذلك ما كان من أثر الماضي وجرائره التي أدت إلى تمكن العرب في البلاد تمكنا تصعب زلزلته؛ فالأمر لم يكن بعد قد أفلت من يد الروم إلى حيث لا يرجع إليهم. وقد كان قيرس صاحب الجريرة في ضياع مصر، لا يجديه دفاعه واعتذاره بأن الجيش كان خائر النفس، وأن الناس كانوا شيعا وفرقا لا تجتمع لهم كلمة، فما كان ينبغي النزول عن الإسكندرية، بل كان أوجب الأمور الاحتفاظ بها مهما كان في سبيل ذلك من مشقة، ولكن قيرس أسلمها للعدو خفية وعفوا بغير أن تدعوه إلى ذلك ضرورة.
ولا نزال نسائل النفس عن السبب الذي حمل أهل الإسكندرية على قبول ذلك الصلح، والمبادرة إلى الرضا عن قيرس بعد أن كانوا قد وثبوا به وأرادوا أن يحصبوه لما رأوا من خيانته؛ فقد كانوا معروفين بالنزق والتقلب في الأحوال، ولكنهم لم يكونوا صادرين عن نزق في انصرافهم عن دولتهم وصدوفهم عنها ورضائهم بالإذعان لحكم الإسلام. وليس ثمة إلا رأي واحد فوق ما سبق لنا ذكره نفسر به ما كان منهم، وذلك أنهم كانوا قد سئموا من كثرة ما أصابهم من الحدثان، وكرهوا فساد الحكم الذي أثقل كواهلهم مدة أربعين عاما، وقالوا في أنفسهم لعلنا نجد في حكم المسلمين قرارا واطمئنانا نأمن فيه على ديننا فلا نكره على شيء فيه، وعلى أموالنا فلا نتحمل من الخراج والجزية إلا قدرا نطيقه. ولعل أكبر ما حملهم على الرضا بحكم العرب رفع ما كان يبهظهم من الضرائب؛ فقد كان الروم يجبون من مصر أموالا يتعذر علينا أن نعرف مقدارها، ولكنها كانت بلا شك كثيرة الأنواع ثقيلة الوطأة شديدة الأذى؛ فأحل العرب محلها الجزية وخراج الأرض. ومهما يكن من مقدارها فقد كانت لها فضيلة البساطة، وكانت ثابتة المقدار محدودة القصد، وكانت أقل في جملتها مما كان يجبيه الروم، أو لقد خيل إلى الناس أنها كذلك. ومنذ كان شعور المصريين الوطني ضئيلا كان تأثرهم بما يمس أموالهم شديدا. ولعل ما كان الناس يتوقعونه من العرب من تخفيف حمل الضرائب كان من أكبر العوامل على فوز المسلمين في فتوحهم جميعها، وأما في الإسكندرية فلعل هذا الأمر كان أعظم الأمور أثرا.
7
على أن ما طمع فيه أهل الإسكندرية من تخفيف هذه الأحمال لم يتحقق لهم، بل خاب أملهم خيبة ما كان أمرها.
أقر الإمبراطور عهد الصلح. ولعل ذلك كان آخر ما أتاه في حكمه؛ إذ انتهى في ذلك الشهر عينه وهو نوفمبر. ويلوح لنا أن عمرو بن العاص كتب شروط ذلك الصلح وأفضى بها إلى أهل مصر، وكانت تلك الشروط تعدهم بالأمن على أنفسهم وأموالهم وذمتهم وكنائسهم وصلبهم، وبحمايتهم من أهل النوبة وسواهم من أعدائهم متى دفعوا الجزية.
8
ولكن المقاومة لم يخب لهبها، ولم يخذلها ما كان من تسليم الإسكندرية العظمى، ولا ما وعد به عمرو من الشروط الحسنة؛ فقد بقيت بعض البلاد في شمال مصر السفلى ترفع لواء الروم ولا ترضى بالتخلي عنه، مع أن فتح الإسكندرية كان قد قضى على الأمل كله في دولة الروم ، وأصبح بعدها من أشد الحماقة أن تصر طائفة على القتال وتأبى الدخول فيما دخل فيه سائر الناس من العهد؛ فكان لا بد للعرب من فتح تلك البلاد حتى يتم لهم الأمر، وكان عمرو قد فرغ مما يشغله، ويستطيع السير إليها في أي وقت شاء.
وكان عمرو في هذه الأثناء منصرفا إلى عمل آخر في بابليون؛ إذ عزم على أن يبني للمسلمين مدينة جديدة في السهل الذي يلي الحصن الروماني، بينه وبين جبل المقطم، وكان موضع عسكره. وقد روى البلاذري أن الزبير هو الذي اختط المدينة واتخذ فيها لنفسه دارا، وجعل فيها السلم الذي صعد عليه إلى سور الحصن، وبقي فيها ذلك السلم حتى احترق في حريق. وأما ياقوت فإنه يذكر أربعة نفر أمرهم عمرو أن يقوموا على اختطاط المدينة وتقسيمها
9
بين أحياء العرب وقبائلهم. ومهما يكن من الأمر فلا شك في أن الذين اختطوا المدينة الجديدة وبنوها كانوا من القبط؛ إذ لم يكن عند ذلك في العرب من له علم بذلك الفن ولا دراية به. ومن الجلي أن اسم الفسطاط الذي سميت به المدينة اسم أعجمي، وقد اختلف فيه مؤرخو العرب؛ فهم يقولون إجمالا إن معناه «الخيمة»
10
تتخذ من الأدم أو من الجلد، وكان عمرو يتخذ لنفسه خيمة منها، أو يقولون إن معناها الموضع حيث يجتمع الناس، وجاء في رواية أن كل مدينة فسطاط، وقد أورد ياقوت ستة أوزان لذلك اللفظ.
11
ويمكننا أن نقول إن علاقة ذلك الاسم بسرادق عمرو وبقصة اليمامة فيها شيء من الصحة؛ فإن لفظ «فساط» يرجع بنا إلى اللفظ البيزنطي، (28 ⋆ )
وهو اللفظ الروماني
Fossatum ، وكان في وقت الفتح لفظا شائعا على العسكر، وكان الرومانيون في حصن بابليون بلا مراء إذا ذكروا موضع عسكر العرب سموه «الفساطون»، (29 ⋆ )
فأخذ عنهم العرب ذلك اللفظ. وإنه لمن أعجب الأمور أن يظهر ذلك الرأي للناس كأنه جديد مستغرب.
12
وإنه لمن البعيد أن تكون مدينة الفسطاط قد جعلت عند اختطاطها مدينة عظيمة، أو أنه كان يقصد منها أن تكون عاصمة للمسلمين؛
13
فقد كان انحصار الجنود في الحصن مما أفسد حالهم ونغص عليهم عيشهم، وما كان من العدل ولا من المستحسن أن يخرج المسلمون أهل مصر من ديارهم ليحلوا محلهم؛ وعلى ذلك فقد رأى العرب أنهم يستطيعون البناء خارج أسوار الحصن لا يخافون شيئا، بعد أن وضعت الحرب أوزارها، وأمنوا الكيد أن يأتيهم من جانب ذلك الإقليم، ولكن المدينة وإن ابتدأت صغيرة، نمت نماء سريعا بعد سنة من إنشائها، منذ أبى الخليفة عمر أن يبيح لعمرو أن يتخذ الإسكندرية عاصمة؛ فاتسعت عند ذلك فسطاط مصر، وكانت تسمى بالاسمين معا، حتى عمت الفضاء الفسيح الذي نرى به اليوم تلك الأكوام من الأقذار في جنوب القاهرة، ومنذ ذلك الوقت صارت عاصمة مصر، ثم نشأت بعد ذلك ضاحية في ظاهر الفسطاط من قبل الشمال، وكان اسمها العسكر، وانتقلت إليها قاعدة الحكم، ثم تلا ذلك بناء القطائع في شمال العسكر، بناها أحمد بن طولون، واتخذ فيها الطولونيون قصورا
14
لهم. فلما انقضت دولة الطولونيين رجعت العسكر إلى شأنها الأول حينا من الدهر، ثم قضي عليها في أواخر القرن العاشر؛ إذ جاء الفاطميون إلى مصر وبنوا لهم عاصمة جديدة، وهي مصر «القاهرة»، أي المنصورة، وقد أخذ أهل البندقية الوصف «القاهرة» ولم يأخذوا الاسم «مصر»، ونقلوه محرفا إلى لغات أوروبا، وهو «كيرو».
وإنا نرى إلى اليوم جامعا عتيقا في شمال الحصن الروماني المتهدم، ويبعد عنه بقليل، وهو أقدم مسجد في مصر يؤمه السفار ويعرفونه، فلا حاجة بنا إلى إثبات وصفه هنا، ونظن أن إنشاءه كان في ذلك الشتاء من سنتي 641 و642،
15
وقد اختار عمرو لبنائه الموضع الذي كان فيه لؤلؤه،
16
وصار يعرف باسم مسجد أهل الراية.
17
وكان ذلك الموضع بين بساتين وكروم
18
تلي شاطئ النهر،
19
وقد حل فيه قبل بناء الجامع أبو عبد الرحمن قيسبة بن كلثوم، فلما طلبه عمرو منه نزل عنه صدقة للمسلمين. وكان المسجد من أول ما يجب على المسلمين اتخاذه. ولقد كان جامع عمرو في الأصل مسجدا ساذجا، وكان ذرعه خمسين ذراعا في ثلاثين، وسقفه مطأطأ، وكان أمامه فضاء ، ولم يجعل له صحن، ومد الطريق حوله، وجعلت له ستة أبواب، ثم ظهر ضيقه بالمصلين، فكان الناس يصطفون للصلاة في الفضاء الذي أمامه. وقيل إن الذين أقاموا القبلة كانوا ثمانية
20
من أصحاب الرسول؛ فيهم الزبير، والمقداد بن الأسود،
21
وعبادة بن الصامت؛ وكانت قبلته منحرفة إلى الشرق انحرافا أكثر مما هي عليه اليوم. ولما تم بناؤه وضع فيه منبر، وكان عمرو يقوم عليه في خطبته
22
حتى تقدم إليه الخليفة عمر يعزم عليه في كسره، ولامه على أنه يطأ رءوس المؤمنين إذ يقوم عليه والمسلمون جلوس تحت عقبيه. وقد زيدت فيه زيادات كان أولها ما زاده مسلمة بن مخلد في سنة 673 للميلاد؛
23
فإنه مده إلى جهة الشمال، وفرشه بالحصر بدل الحصباء، وبنى فيه صومعة عند كل ركن من أركانه، وجعل فيه منائر نقش عليها اسمه، وزاد عدد المؤذنين، وأمرهم أن يؤذنوا للفجر إذا مضى نصف الليل،
24
وأمر ألا يضرب فيه بناقوس
25
عند الفجر كما كان يفعل أولا. وفي حوالي سنة 696
26
أمر عبد العزيز بن مروان بهدم جزء منه. ولعله أمر بهدم الزيادة التي زيدت فيه وأعاد بناءه. ثم أمر الخليفة الوليد بن عبد الملك بعد ذلك في سنة 711
27
واليه قرة بن شريك أن يهدم المسجد كله ويعيد بناءه، فصار بعد ذلك إلى صورته التي بقي إلى اليوم محتفظا
28
بجلها، مع ما دخل عليه من التغيير فيما
29
بعد.
ولا نعرف إلا قليلا من وصف البناء الذي بناه الناس في الفسطاط؛ فقد كانت أكثر المنازل من اللبن، ثم علا فيها البناء حتى صار إلى طبقات أربع أو خمس. فإذا أردنا أن نصور لأنفسنا صورة تلك المنازل كان لا بد لنا أن نصورها قطعا عظيمة من البناء، قائمة على غير استواء ولا نظام، تدعمها أعمدة رومانية لا شيء فيها من الزينة ولا من جمال التنسيق، تشبه كل الشبه ما هو موجود أو ما كان لا يزال في مدينة رشيد من البناء منذ عشرين عاما. وقيل إن بعض هذه المنازل الكبرى كان يسكن فيه نحو مائتي فرد، وكانت الطبقة السفلى مما يلي الأرض لا يسكنها أحد إلا قليلا. وقيل إن خارجة بن حذافة النائب المعروف الذي كان عمرو ينيبه عنه كان أول من اتخذ لداره مشربة أو طنفا. فلما بلغ ذلك عمر بن الخطاب كتب إلى عمرو أنه ما فعل ذلك إلا ليشرف على من حوله ويطلع على عوراتهم وسرهم، وأمره أن يهدمها. وقد بنيت في الفسطاط حمامات كان يسمى أحدها «حمام الفار»؛ إذ كانت صغيرة حقيرة البناء إذا قيست بحمامات الرومان العظيمة.
وكان لا بد للمدينة فوق مسجدها ومنازلها وحماماتها أن يكون لها مقبرة. وقد رويت في ذلك قصة عجيبة، وذلك أن قيرس بعث إلى عمرو أن يبيعه قطعة من الأرض عند سفح الجبل بسبعين ألف دينار، فلما سئل عن سر ذلك الثمن العظيم قال إنه قد جاء في كتبهم أن ذلك الموضع روضة من رياض الجنة. فلما علم عمر بن الخطاب بذلك قال إنما روضة الجنة حيث يدفن المؤمنون، وأبى ذلك البيع على المقوقس، وأمر بجعل تلك الأرض مقبرة للمسلمين. وقد دفن فيها فيما بعد عمرو بن العاص وأربعة من الصحابة.
ثم أقبل عمرو على عمل عظيم آخر، وهو حفر خليج تراجان.
30
وكان ذلك الخليج يخرج من النيل إلى شمال بابليون بقليل، فيمر بمدينة عين شمس، ثم يسير في وادي الطميلات إلى موضع القنطرة حتى يتصل بالبحر الأحمر عند القلزم.
31
وقد أهمل الروم أمره حتى سده الطين، وكان أقدم عهدا من حكم تراجان، وإنما سمي باسمه لأنه أعاد كريه وأصلحه، كما عزم عمرو بن العاص على أن يفعل به عند ذلك. وقد أظهر العلامة «فيل»
32
أن جزءا منه إن لم يكن كله يرجع الفضل في حفره إلى فرعون مصر «نخاو»، وهو الذي حفر خليجا في برزخ السويس من البحر الأبيض إلى البحر الأحمر، وقد أصلحت الترعة مرة أخرى في مدة بطليموس الثاني (فلادلفوس)، ولكنه جعلها تنفصل من النيل عند «فاقوس» بعد أن كانت تنفصل عنه عند «بوبسطة». ولسنا نعرف الوقت الذي حفر فيه جزء الترعة الذي بين بوبسطة وبابليون. على أن هذه الترعة لم تكن ذات غناء كبير؛ لأن الماء لم يكن يجري فيها إلا عند فيض النيل. ولما أهمل أمرها أصبحت من بعد القرن الثاني للميلاد غير صالحة لسير السفن، وكان لا بد للرمل أن يسدها بالسقوط فيها إذا ما قل تعهدها والاعتناء بأمرها. وقيل إنها كانت في ذلك الوقت خفية الأثر حتى احتاج عمرو إلى من يدله على موضعها من القبط، فأجازه برفع الجزية عنه، ولكن سرعة حفرها وإعادتها إلى الصلاح تدلنا على أن بعض مجراها الذي طوله تسعون ميلا كان لا يزال صالحا. على أن مثل ذلك الإسراع لم يكن عجيبا؛ إذ كان يعمل فيها عدد عظيم من أهل البلاد يساقون إلى ذلك كأنهم أرقاء، يسوقهم من ورائهم مقدمون وخول، على ما جرت به سنة أهل مصر منذ أقدم الأزمان. ويلوح لنا أن العرب لجئوا إلى هذه السخرة بشدة لم تعهد من قبل، حتى لقد وصفهم «حنا النقيوسي» وصفا شديدا، وتناولهم بالقول القاذع فقال: «وكان نيرهم على أهل مصر أشد وطأة من نير فرعون على بني إسرائيل. ولقد انتقم الله منه انتقاما عادلا بأن أغرقه في البحر الأحمر بعد أن أرسل صنوف بلائه على الناس والحيوان، ونسأل الله إذا ما حل حسابه لهؤلاء المسلمين أن يأخذهم بما أخذ به فرعون من قبل.»
33
ولكن الظاهر أن هذه الشدة إنما جاءت عفوا في وقت الفتح، ولم تكن صفة ثابتة لحكومة عمرو في مصر.
وقيل إن عمرا كان ينوي حفر خليج بين بحيرة التمساح والبحر الأبيض المتوسط، فيكون بذلك قد قطع البرزخ بالبحر كما هو اليوم، ولكن عمر بن الخطاب أبى عليه ذلك وأنكره، قائلا إنه يمكن الروم من السير إلى البحر الأحمر وقطع السبيل على من أراد الحج. وليس في هذه القصة شبهة تمنع من تصديقها.
ولم ينصرف القائد العربي كل الانصراف إلى هذه الأعمال السلمية، فلم تشغله عن أمور الحرب والقتال؛ فإنه رأى البلاد قد صارت إلى الإذعان للعرب منذ عهد الإسكندرية لا ينقص من سلطانهم عليها إلا بعض بلدان في شمال مصر السفلى، ولا سيما ما كان منها على شاطئ البحر؛ إذ أبت أن تدخل فيما دخل فيه الناس من العهد. وكان لعمرو أن يسير إليها إذا شاء فيقاتلها ولو كان ذلك في مدة الهدنة. ويلوح لنا أنه قد وجه لقتالها جيشا في ربيع سنة 642. ومن العسير أن نصف ما كان من سير جيش العرب، لا سيما وأن حنا النقيوسي لا يذكر شيئا من أمر القتال في هذه المدة؛ فلا بد لنا من الاعتماد على مؤرخي العرب وما جاء في أخبارهم، ومن أشق الأمور فهمها أو الربط بين أجزائها.
فلا نجد مع هذا ندحا من أن نلجأ إلى التصور والحدس، فنقول إن جيش العرب لا بد قد سار من كريون نحو الشرق على ساحل النهر. وكانت في الإقليم الذي كان يعرف بالحوف الغربي مدينة اسمها «إخنا»، ليست بعيدة عن الإسكندرية،
34
وكان حاكمها اسمه «طلما»، فأتى إليه كتاب من عمرو يعرض عليه فيه شروط الصلح الذي صالح عليه «قيرس»، ولكنه لم يقنع بما جاءه في ذلك الكتاب، فأرسل إلى عمرو يطلب الاجتماع به، فسأله عن مقدار الجزية، فلم يطق قائد العرب احتمال هذه المراجعة، وأشار إلى كنيسة قريبة وقال: «لو أعطيتني من الركن إلى السقف ما أخبرتك، إنما أنتم خزانة لنا، إن كثر علينا كثرنا عليكم، وإن خفف عنا خففنا عنكم.»
35
ولا بد أن «طلما» كره هذا الرد وعزم على ألا يذعن؛ وعلى ذلك سار المسلمون إلى «إخنا»، وما لبثوا أن أرغموها على التسليم لهم، وقد أخذوا منها أسرى كثرا وبعثوا بهم إلى الخليفة عمر في المدينة، مع أن تلك القرية سلمت إليهم صلحا بعقد وعهد. وقد حدث مثل ذلك لمدينة «بلهيب»،
36
وكانت مدينة منيعة في جنوب رشيد تبعد عنها بضعة أميال. والظاهر أن عمرا أتاه هناك رد الخليفة عمر بإقرار صلح الإسكندرية.
37
فقرأ عمرو كتاب الخليفة على الناس، وقد جاء فيه أن يخير الأسرى، فمن رضي الدخول في الإسلام منهم أطلق سراحه وصار للمسلمين أخا. فيروى أنه دخلت في الإسلام طائفة كبيرة من الأسرى، وكان المسلمون يكبرون فرحا كلما أسلم منهم أحد، ولكن لم يقع مثل هذا كثيرا أن يسلم جماعة مرة واحدة في مقام واحد، بل إن هذا الأمر ليس له نظير في وقت آخر، ولو صح أنه وقع لكان الباعث عليه طمعا عظيما في أمر من أمور الدنيا في قلوب لم تكن عقيدتها ثابتة، ولعل تلك القصة قد داخلها تحريف ومبالغة.
ويذكر مع صلح «إخنا» صلح آخر عقد مع «قزمان» - ولعله قزماس - حاكم رشيد، وصلح مع «حنا» حاكم البرلس.
38
ويلوح لنا أن الغرب ساروا من بعد البرلس على شاطئ البحر حتى بلغوا دمياط
39
ولم يقف لهم حاكم المدينة «حنا». وأصبح العرب بفتح دمياط مسيطرين على منافذ النيل إلى البحر جميعا. ثم فتحت «خيس» في الإقليم المعروف بالحوف بقرب دمياط.
40
وأكبر الظن أن سلطان العرب صار يمتد عند ذلك على كل بلاد مصر السفلى، اللهم إلا بلادا قليلة كانت في الجزائر التي في رقاق بحيرة المنزلة الفسيحة.
وكانت الأرض التي تغطيها مياه تلك البحيرة إلى ما قبل الفتح العربي بقرن
41
واحد لا تضارعها في بلاد مصر كلها أرض أخرى في جودة هوائها وخصبها وغناها، إلا إذا قلت بلاد الفيوم؛ فقد تكون عدلا لها. وكانت أرضها ترويها ترع لا تنضب مياهها تأتي من النيل، فكانت تنبت نباتا يانعا من القمح والنخيل والأعناب وسائر الشجر. غير أن البحر طغى عليها فاقتحم ما كان يحجزه من كثبان الرمل، وكانت المياه تزيد طغيانا عاما بعد عام حتى عمت السهل الوطيء كله، ولم يبق فوق وجهها إلا عدد من الجزائر بعد أن أكلت المياه ما كان هناك من حقول وقرى، فلم ينج منها إلا ما كان عاليا لا تناله المياه. وأعظم ما نجا من قرى تلك الأرض مدينة «تنيس» الشهيرة، وكانت مدينة لها شيء من الاتساع والكبر، وكانت ذات بناء جميل تجود بها صناعة المنسوجات الدقيقة. وكانت في البحيرة التي تخلفت مدائن أخرى اشتهرت ببراعة صناعها في النسيج، مثل «طونة» و«دميرة» و«دبيق»، ولكن لم تبلغ إحداها مبلغ «تنيس»؛ إذ كانت تضارع دمياط وشطا في دقة منسوجاتها وجودة أنواعها، فما كان في البلاد كلها غير «تنيس» و«دمياط» ما يستطيع أن يخرج ثوبا من الكتان النقي يبلغ ثمنه مائة دينار (أي خمسين جنيها). وقد ذكر المسعودي في تاريخه أن ثوبا صنع هناك للخليفة من عرض واحد بلغ ثمنه ألف دينار، وكان مصنوعا من خيوط الذهب مخلوطة باليسير من دقيق الكتان. وقد ورد في الأخبار كذلك أن تجارة «تنيس» مع العراق وحده بلغت من عشرين ألف دينار إلى ثلاثين ألفا في السنة الواحدة، ولكن ذلك كان قبل أن تقضي عليها الضرائب الفادحة.
كانت تنيس على جزيرة
42
فسيحة، وكانت تصل إليها من الجنوب ترعة اسمها بحر الروم. ولعلها كانت بقية فرع النيل التنيسي الذي كان يبلغ «الصالحية». وكان الاتصال كذلك سهلا في الماء بينها وبين الفرما، أو على الأقل بينها وبين «الطينة»، وهي ثغر الفرما على ساحل البحر. وقيل إن «تنيس» كان لا يزال بها إلى القرن العاشر آثار قديمة، سوى ما كان بها من المساجد وعدتها مائة وستون، تزين كلا منها مئذنة عالية، ثم ما كان بها من الكنائس وعدتها اثنتان وسبعون كنيسة، وكان بها من الحمامات ستة وثلاثون، وكانت لها أسوار حصينة فيها تسعة عشر بابا مصفحة بالحديد الثقيل.
43
وقيل إن الموتى في الجزائر الأخرى كانت تحمل في الماء إلى جزيرة «تنيس» لتدفن بها. والظاهر أن هذه الموتى كانت تحنط هناك. وقد زارها بعد ذلك بقرن الرحالة الفارسي «ناصري خسرو»
44
في عام 1047 للميلاد، فعجب مما رآه من ثرائها ورواج أسواقها؛ فهو يذكر أنه كانت بها عشرة آلاف متجر وخمسون ألفا من الناس، وكانت في مراسي جزيرتها ألف سفينة، ولم يكن بها شيء من الزرع، بل كانت تعتمد في كل أقواتها على تجارتها، وكان النيل إذا علا وفاض طرد ما حول الجزيرة من مياه البحر الملح، وملأ بالماء العذب ما كان فيها من الصهاريج ومخازن الماء الدفينة في الأرض، وكانت تلك كافية لشرب الناس طول الحول. وقد بلغت منسوجات القبط البديعة ذات الألوان شأنا عظيما لم تبلغه في وقت من الأوقات؛ فكان للسلطان مناسج خاصة به تنسج فيها الأثواب له وحده، وكان الثوب لعمامته تبلغ نفقته أربعة آلاف دينار، ولكن الأثواب التي كانت تصنع للسلطان لم تكن مما يعرض في الأسواق. وقد طلب إمبراطور الروم أن يأخذ «تنيس» ويعوض عنها بمائة مدينة من مدائن دولته، ولكنه لم يجب إلى ذلك. وكان مما يصنع في تلك المدينة سوى هذه الأثواب الملكية نوع من الأثواب اسمه «بوقلمون»، وكان من الحرير المتغير اللون، وكانت لمعته زاهية، حتى قيل إنه كان يبدو في ألوان متغيرة في كل ساعة من ساعات النهار، وكانت صناعة السلاح المتخذ من الصلب من الصناعات التي كادت تبلغ في تنيس مبلغ منسوجاتها؛ فكانت على ذلك مدينة من أعجب المدائن وأعظمها شأنا.
ويروى في القصص أن حاكم «تنيس» كان في وقت الفتح العربي رجلا من العرب النصارى اسمه «أبو طور»، وأنه خرج لقتال المسلمين على رأس عشرين ألفا من القبط والروم والعرب، فلقيهم في سيرهم إلى «تنيس» بعد أن فتحوا دمياط،
45
فناجزهم في مواطن كثيرة قبل أن يظفر العرب ويهزموا جيشه ويأخذوه أسيرا. ومنذ تم لهم ذلك فتحوا المدينة وغنموا أموالها وقسموها، ثم ساروا إلى «الفرما». ومهما يكن من أمر تلك القصة ومبلغها من الصدق أو الخطأ فإنها تحوي أمرين لهما قسط وافر من الثبوت، وهما أن «تنيس» دخلت في سلطان المسلمين في ذلك الوقت، وأن صناعتها لم يلحق بها أذى من الفتح نفسه. ولم يجد المسلمون ما يحبب إليهم المقام في هذه المدينة، ولا في أشباهها من الجزائر التي كانت في وسط هذه البحيرة تساورها المياه الزرقاء، مثل «طونة» و«بورا» و«دبيق»؛ وعلى ذلك نستطيع أن نقول إن هذه الجهات ظلت على دينها النصراني زمنا طويلا بعد ذلك لا يكاد يمسها دين الإسلام،
46
ثم قضي عليها وزالت أخبارها من التاريخ، وكان ذلك في وقت نستطيع أن نعينه.
كانت جزيرة «تنيس» مكشوفة للغزو من البحر، على أنها كانت محصنة فيها رباط قوي، وأمر صلاح الدين بإخلائها في سنة 1192، ثم جاء الملك الكامل في سنة 1227 فهدم حصونها وأسوارها حتى تركها أطلالا.
47
وتتصل بفتح هذه الجهات قصة أخرى يجدر بنا أن نشير إليها؛ فإن المقريزي عند ذكره مدينة شطا يصفها بأنها مدينة بين «تنيس» و«دمياط»، ويقول إن اسمها مأخوذ عن رجل اسمه شطا بن الهموك عم المقوقس.
48
وهذا الاشتقاق لا حقيقة له. وتذكر القصة بعد ذلك أن العرب عندما حاصروا دمياط وفتحوها خرج إليهم حاكمها «شطا» ومعه ألفان من الناس، فأظهر إسلامه، وقد كان من قبل عاكفا على درسه والنظر فيه زمنا طويلا، ثم إن ذلك الرجل لما رأى أن العرب أبطأ عليهم فتح «تنيس» جمع جيشا من البرلس ودميرة وأشمون طناح، وجهزه ولحق بإمداد المسلمين الذي بعث بهم عمرو، ثم سار حتى التقى بالعدو، وأظهر من الشجاعة وحسن البلاء ما يظهره الأبطال، وقتل بيده اثني عشر رجلا من فرسان أهل «تنيس» وشجعانهم، وما زال يقاتل حتى قتل في ذلك اليوم، ودفن في ظاهر المدينة. ويقول المقريزي إن قبره لا يزال معروفا يزوره الناس من كل أنحاء البلاد المجاورة ليتبركوا به في يوم مقتله، وهو يوم النصف من شهر شعبان.
49
وليس من العسير أن ننقض هذه القصة كلها ونفندها؛ فإن مدينة شطا كانت تعرف بذلك الاسم قبل أن يغزو العرب مصر بزمن طويل، وقد عرفت منذ أزمان بدقة منسوجاتها وجودتها، وفوق ذلك يعرف اسم حاكم دمياط في ذلك الوقت، وقد ذكره حنا النقيوسي في ديوانه، فهو حنا
50
وليس «شطا» كما زعم المقريزي. وإن الصلة المزعومة بين «شطا» والمقوقس صلة ظاهرة البطلان، ولكنا إذا قلنا إن ذلك الرجل «شطا» لم يكن له وجود، فإن في القصة أمرا يجعلنا نرفعها فوق مرتبة الوضع والكذب، وهو تاريخ الموقعة؛ فإن المؤرخ العربي يذكر يوم وفاة ذلك البطل، ويقول إنه يوم الجمعة نصف شعبان من سنة إحدى وعشرين للهجرة ، وهذا اليوم هو التاسع عشر من شهر يوليو من سنة 642 للميلاد، وهو تاريخ لا نستطيع الشك فيه؛ فإن ذلك العام المذكور - أي عام 642 - هو العام الذي يتفق ومجرى الحوادث التي وقعت في تاريخ فتح هذه البلاد حقيقة، وإن اليوم المذكور وهو التاسع عشر من يوليو كان حقيقة يوم جمعة، وهذا اتفاق من وجهين يندر وقوعه، فإذا وقع كان التاريخ المذكور حقيقيا لا شك فيه. وزيادة على ما ذكرنا فإن زيارة الناس لذلك القبر إلى أيام المقريزي لدليل يعزز صدق القصة؛ فلا يسعنا مع هذا إلا أن نصدق أنه قد وقع قتال في اليوم المذكور في الجزيرة على مقربة من مدينة «تنيس»، وأن رجلا من الروم جاء من مدينة شطا، وقاتل في ذلك اليوم فأبلى مع المسلمين بلاء حسنا حتى قتل.
وهذا التاريخ له قيمة كبرى ودلالة عظمى؛ فإنه يدلنا على أن مقاومة المصريين للعرب استطال أمرها في بلاد مصر السفلى وظلت إلى ما بعد فتح الإسكندرية. وإذا ذكر أن أهل «تنيس» وما يليها من البلاد الواقعة في إقليم تلك البحيرة كانوا من القبط الخلص، تنبض قلوبهم بما تنبض به قلوب القبط، عرفنا أن وقوع تلك الوقعة في ذلك الوقت دليل جديد على فساد رأيين طالما خدعا الناس وتقادم عليهما الدهر، وهما يكفران الحقيقة، وهذان الرأيان هما أن مصر سلمت للعرب بغير قتال، وأن القبط رحبوا بالعرب ورأوا فيهم الخلاص مما كانوا فيه.
لقد كانت خيانة قيرس للإسكندرية سببا في القضاء على آخر آمال المسيحيين بالفوز في مصر، ولكن من العجيب مع ذلك أن تدافع هذه البلاد المتفرقة في مصر السفلى جيوش الغزاة وتقاومهم نحو عام آخر؛ ففي هذه آية على أن أهلها كانوا قوما من أولي النخوة والحفاظ بقوا على عهد دينهم وثبتوا عليه، ولكن التاريخ لم يجزهم بذلك ما يستحقونه من حسن الأحدوثة، بل لبث ينكرها عليهم زمنا طويلا.
الفصل الثالث والعشرون
انقضاء حكم الروم بمصر
كانت بلاد الصعيد قد تم فتحها، ولا سيما إلى حدود إقليم «طيبة» قبل أن تخبو نيران الحرب في بلاد مصر السفلى بزمن طويل، وكان فتح الصعيد على يد سرية أميرها خارجة بن حذافة، وأخرج الروم من بلاد وادي النيل (الصعيد) في عام 641 حتى لم يبق منهم فيه إلا قليل، وكان من بقي منهم ضئيل العدد خائر الهمة، لا يرزءون المسلمين شيئا، ولا ينازعونهم السلطان، فلا تذكر الأخبار شيئا من القتال في هذا الإقليم بعد ذلك. ولنا أن نقول إن بلاد الصعيد أذعنت للعرب بغير قتال بعد فتح الإسكندرية.
ولكن التاريخ يذكر شيئا من أخبار الإسكندرية في المدة الباقية من الهدنة، وإنا موردوه هنا. قد رأينا أن المدينة قد ازدحمت بمن لجأ إليها من جميع أنحاء مصر، وقد جلوا عنها عند مقدم العرب إليهم. فلما عقد الصلح كان من شروطه أن جنود الروم ومن حل بالإسكندرية من الرومان لهم الخيار إذا شاءوا جلوا عنها بحرا وبرا، وأما القبط فلم يذكروا فيه بشيء. فلما رأى اللاجئون بالإسكندرية أن السفن تحمل كل يوم طوائف من الناس إلى قبرص ورودس وبيزنطة قلقوا وحنوا للرجوع إلى قراهم، فذهبوا إلى قيرس وطلبوا إليه أن يكلم لهم عمرا في ذلك، وكانوا يعرفون صلته الوثيقة بقائد العرب، ولكن الظاهر أن عمرا لم يبح لهم الجلاء. ولا عجب في أن يخيب سعي البطريق في هذا الأمر إذا عرفنا أن طلبه هذا كان قبل شهر مارس؛ إذ كانت الحرب لا تزال ثائرة في بعض قرى مصر السفلى. وكان أكثر اللائذين من مصر السفلى؛ فلو أبيح لهم الرجوع إلى قراهم لما أمن أن يقاتلوا جنود المسلمين بأنفسهم، أو أن يمدوا المدائن التي كانت لا تزال مصرة على القتال ولم يفتحها المسلمون بعد.
غير أن قيرس آلمه ألا يجيبه عمرو إلى طلبه، وكان ألمه من ذلك شديدا؛ فقد كان يطمع أن يستميل إليه القبط، ولعله كان يرمي من وراء ذلك إلى أن ينسيهم شيئا من حقدهم عليه؛ فكان هذا الرفض الذي رفضه عمرو لطلبه ضربة شديدة أصابت سياسته في هذا الشأن.
والظاهر أنه يئس قبل ذلك أن يحتفظ بنفوذه عليهم، ذلك الذي أراد أن يقيمه بالاتفاق مع المسلمين ومعاونتهم، فامتلأ قلب المقوقس عند ذلك بالخوف وتوقع المصائب، وكان ذلك يزداد به كلما دنا أجل سلطان الروم في مصر. وكانت الأخبار التي ترد من القسطنطينية لا تبشره بخير؛ فقد آل أمر مرتينه وابنها إلى زوال؛ إذ نحيا عن الحكم أو قتلا، وبويع لقنسطانز وحده بالملك في آخر نوفمبر من سنة 641، ونفي «بيروس» وكان صديقا لقيرس، ويظهر أن قيرس هو الذي استماله إلى جانب مرتينه وحزبها، وأعيد «فلاجريوس» من منفاه، وكان عدوا شديد العداوة ل «قيرس». وحاول «فلنتين» أن يثور ثورة
1
جديدة، ولكنه أخفق؛ إذ لم يواته الناس، وأظهروا له الكراهة، ثم قبض عليه وجيء به إلى الإمبراطور «قنسطانز» ليحاكم على أنه خرج على الدولة وسعى إلى غصب التاج. غير أنه أقسم أغلظ الأيمان على أنه لم يقصد إلى ذلك، وأنه إنما كان يجهز جيشا يحارب به المسلمين. فقبل الملك اعتذاره، وأعاده إلى ما كان عليه، وتزوج من ابنته. فأراد «فلنتين» أن يظهر صدق نيته في الإخلاص للملك، فجعل يوقع إيقاعا بكل من يظنه مواليا ل «مرتينه» و«بيروس»، وكان من هؤلاء «أركاديوس» كبير أساقفة قبرص؛ فإن فلنتين اتهمه بالخيانة، وأنفذ جماعة من الجند للقبض عليه. فحال الموت دون ذلك؛ إذ مات «أركاديوس» فنجا من أيديهم.
ولكن ذلك الحادث كشف لقيرس عن الخطر المحدق به؛ فقد كان «أركاديوس» رجلا لا تشوبه شائبة، قضى حياة في عيش القديسين، ومع ذلك كان على وشك أن يؤتى به إلى القسطنطينية ليحاكم كما يحاكم أهل الريب، فما بالنا بقيرس؟ وماذا عساه يفعل إذا هو أوخذ واتهم بمثل تلك التهمة؛ تهمة الخيانة؟ وقد اشتهر عنه اتصاله بمرتينه و«بيروس»، وكان الناس يعرفون ما اقترف من السعي في ضياع مصر، وكانت حاشية الملك وحزبها قد أدركوا عند ذلك أن ضياع مصر لم يكن من الهنات الهينات؛ فأخذ منهم الغيظ مأخذه، وحقدوا على من جر على الدولة ذلك الشر الوبيل، وما لطخ به شرفها من العار والخزي.
لا عجب إذا كان «قيرس» قد استولى عليه الهم وغرق في الحزن؛ إذ جاءت إليه الأخبار تترى من القسطنطينية بما كان من تلك الأمور، واجتمعت عليه المخاوف، فخشي على نفسه أن يأمر الإمبراطور بنفيه أو بقتله، وكان أمره إلى ذلك الحين نافذا في الإسكندرية، ثم رأى نفسه وقد عجز عن محو أثر اضطهاده من نفوس القبط واستمالتهم إليه، ورأى أن الناس قد أنكروا سياسته للدين إنكارا لا أمل معه في عودة الرضا عنه، ورأى سياسته في أمور الدنيا وقد أصابها العار من وراء انتصاره فيها؛ فأثقل كل ذلك نفسه، وأسقم جسمه، وألقى كل أطماعه وآماله وكأنها أحلام تبددت، وأصبح لا يأمن حتى على حياته نفسها. وكان كلما رأى الحلقات تتضايق حوله وتساور الهموم حياته، صحا إلى ما كان من أمره، وذكر ما قارف من الذنوب وما أصابه من الفشل والخذلان، فكان قلبه يؤنبه، وندم على تفريطه في أمر مصر، وبكى على تضييعه لها بالدمع السخين.
2
وظلت الأكدار تغمره والهموم تحيط به حتى أصابه داء «الدوسنطاريا» في يوم «أحد السعف»، ومات منه في يوم الخميس الذي بعده في الحادي والعشرين من مارس من سنة 642.
ومن الواضح أن وفاته كانت وفاة طبيعية، وأن الموت قد عجل إليه لما أصابه من شقاء الهوان ومذلة العار. وقد ذكر حنا النقيوسي وفاته في موضعين؛ فقال في الأول إنه «أثقلته الهموم، فمرض بالدوسنطاريا ومات منها»، وقال في الثاني إنه «بكى بدمع لا ينقطع خوفا من أن يصيبه ما أصابه من قبل، وذلك هو النفي، وفيما كان غريقا في حزنه مات كما جرت به سنة العالم».
3
ولكنه في موضع منهما يوصف بأنه حزن لما أصاب مصر وما وقع بأهلها من ظلم العرب، وفي الموضع الآخر يوصف بأن أكثر ما أصابه من الحزن كان لرفض العرب شفاعته في أمر المصريين. وليس من سبب يحملنا على أن نشك في شيء مما جاء في هذا الوصف لآخرته، على أنه قد تخلفت رواية قبطية يرجع عهدها إلى أيام ساويرس،
4
وهي تصف موته وصفا آخر، فتقول: «إن عمرا لما أخذ الإسكندرية واستقر الأمر على يديه في المدينة خاف الحاكم أن يقتله عمرو، وكان ذلك الحاكم رجلا سيئ الظن يلي أمر الدنيا والدين معا في المدينة. فلما بلغ منه الخوف جعل في فمه خاتما مسموما فمات من ساعته.» على أننا نعرف أن المقوقس لم يخش عمرا خشيته من الإمبراطور، ولكن القصة أظهرت في سياق عجيب وتأليف بديع أنه كان يخاف خوفا شديدا، وأن ذلك عجل بموته. بقي شيء آخر مما له اتصال بقصة موت قيرس، ويجدر بنا ذكره؛ فقد رأينا أن عمرو بن العاص كان يشتد في وقت الفتح
5
شدة عظيمة في معاملة المصريين؛ ولهذا نجد المؤرخ القبطي يذكره كلما ذكره بالتقبيح والاستهجان على ما أثقل به قومه من الأحمال؛ ولهذا فإنه عند وصف الأيام الأخيرة من حياة البطريق نراه يقول إن «عمرا لم تكن في قلبه رحمة بالمصريين، ولم يرع العهد الذي عقده معهم؛ إذ كان رجلا من الهمج.»
6
ونراه في موضع آخر
7
يصف ما وقع وصفا مفصلا، فيحكي قصة رجل اسمه «ميناس» كان هرقل اختاره حاكما لمصر السفلى فأقره العرب في مكانه، وكان رجلا غرا جاهلا يكره المصريين كرها شديدا. ويذكر رجلا آخر اسمه «سنودة» أو «سنيوتيوس»، أقره العرب على حكم الريف، و«فيلوخينوس»
8
أقروه على حكم «أركاديا» وهي الفيوم. ويصف المؤرخ القبطي هؤلاء الثلاثة بأنهم كانوا يكرهون المسيحيين، ويوالون أعداءهم، ويثقلون كاهلهم بالأحمال الباهظة. وكان القبط يكرهون على أن يحملوا للعرب مئونة لدوابهم وطعاما لأنفسهم كثيرا من اللبن والعسل والفاكهة والخضر وسوى ذلك من الأشياء، فوق ما كانوا يؤدونه من الطعام المعتاد، وهو الضريبة التي كانوا يأخذونها من ثمار الأرض، وكان القبط يؤدون كل ذلك تحت ظل خوف لا اطمئنان معه.
وهذا الوصف له شأن كبير من وجهين؛ الأول: أن هؤلاء الحكام الثلاثة الذين سماهم المؤرخ كانوا أكبر حكام مصر بعد حاكم الإسكندرية، وكانوا من الروم الملكانيين أتباع قيرس، ولم يكن بهم عطف على القبط لا في دينهم ولا في دنياهم. وهذا يدل على أن الذين دخلوا في الإسلام لم يكونوا كلهم من القبط؛ فإن بعض من أسلم من كبراء القوم كانوا من الروم. وإنا نكاد يداخلنا الشك في أمر المقوقس، وأنه قد فعل ما فعل إذ كان يؤمن سرا بدين الإسلام. وأما الوجه الثاني: فإنه قد ثبت أن عمرو بن العاص كان يعامل المصريين قبل فتح الإسكندرية وبعدها أشد المعاملة. وإذا كان الأمر كذلك فكيف يمكن أن يردد قوم تلك الكلمة القديمة الشوهاء، وهي أن القبط رحبوا بالعرب وفتحوا لهم ذراعيهم؟ فإن قول حنا النقيوسي في هذا الصدد يكفي وحده لهدم هذا الرأي وإظهار فساده. أما متأخرو المؤرخين من العرب، وهم الذين يأخذون بهذا الرأي، فبين أمرين: إما أن يكونوا على خطأ فيما ذهبوا إليه، وإما أن يكون في وصفهم لعمرو تهمة شنيعة؛ إذ يجعلونه مرتكبا لأعظم الجحود ومجازاة الإحسان بأشنع الإساءة، وكلما أنعم الإنسان النظر في تاريخ هذا العصر، وجد أن قيرس لم يكن وحده الخائن الذي أوقع بالدولة الرومانية، وحسبنا دليلا على ذلك ما كان من هؤلاء الحكام الثلاثة الذين سارعوا إلى افتداء دنياهم وسلطانهم بأن نزلوا عن دينهم، وجعلوا ولاءهم للإسلام ودولته، وانقلبوا على القبط بما صار في يدهم من السلطان الجديد يؤذونهم في دينهم ودنياهم؛ فالحق الذي لا مراء فيه أن الروم كان فيهم الكثيرون ممن يكيدون لدولتهم، وأن الكائدين كانوا من ناحية يوقعون بالقبط، ومن ناحية أخرى يوالون العرب ويعينونهم.
لم يبق بعد ما ذكرنا إلا قليل من القول في وصف الشهور الستة التي مرت على الإسكندرية بين موت قيرس وبين دخول جنود العرب فيها؛ فإننا لا نعرف شيئا أكيدا من حوادث هذه المدة إلا اختيار خلف للمقوقس بطريقا للمذهب الملكاني، ولم يحدث ذلك إلا بعد أن مضى نيف وثلاثة أشهر على موت المقوقس؛ ففي الرابع عشر من شهر يوليو
9
في عيد القديس «تيودور»، ألبس الشماس بطرس لباس البطرقة، وجلس على العرش الذي خلا من آخر بطارقة الإسكندرية تحت حكم الروم . ولعل ذلك الإبطاء كان لاستشارة القسطنطينية، أو لعله كان لتردد أهل الدين في قبول تلك الولاية بعد أن انشقت الولاية الدينية في مصر عن السلطنة الدينية في الإمبراطورية، وأصبح أمرها مخوفا مضطربا منذ يئس الناس من رجوع الأمر إلى الدولة البيزنطية. أما فلنتين وجيشه الذي كان يملأ فمه بذكره، فلم يغن عن مصر شيئا، ولم يستطع أن يخطو خطوة في سبيلها، مع أن أهل مصر كانوا قد أخذوا يعرفون بطلان أحلامهم التي كانوا يمنون بها أنفسهم من الاطمئنان إلى حكومة العرب واستقرار الأمور معها، وثبوت ما يطلب منهم فيها من ضرائب لا تزداد عليهم؛ إذ جاء أن أهل البلاد جميعا كانوا يئنون من شقائهم في حكم العرب. وكان أجل المصاب ما أصاب مدينة الإسكندرية من ذلك؛ فقد فسد حال التجارة التي كانت تدر الخير على أهلها، وخرج منها جماعة من أغنياء أعيانها وتجارها عولوا على الهجرة والنزوح عنها، فصار عبء الضرائب إلى كواهل من بقي في المدينة من الناس فأبهظها. وأخذ الناس يحسون ما في دخول العدو في بلادهم من ذل لهم وتضييع لملتهم، ولم تجدهم في ذلك ألفاظ معسولة وأقوال ناعمة كان قيرس يزجيها إليهم.
فكان الهم والغم يظلان المدينة في الأسابيع الأخيرة من مدة الهدنة، وكان كثير من المنازل قد خلا من أهله، وهدأت ضجة الارتحال من مراسي المدينة بعد أن تحملت سفن يتلو بعضها بعضا بالنازحين من الروم ومتاعهم وأثاثهم، وسارت بهم إلى الشمال إلى حيث لا عودة، ولم يبق إلا أسطول كبير يتجمع في مرفأ الإسكندرية ليحمل من بقي من جنود الروم. والظاهر أن الذي كان يقوم على ترحيل جنود الروم من بلاد مصر السفلى اثنان من القادة، وهما «تيودور» الذي أصبح حاكم مصر بعد موت قيرس، و«قسطنطين» الذي أصبح القائد الأعلى لجيش الروم بعد «تيودور». وكانا يقومان به بالاتفاق مع العرب.
10
وكان النيل عند ذلك قد أخذ يزداد، وصارت الترع صالحة لسير السفن ونقل الأشياء؛ ولهذا السبب وقع الاختيار على ذلك الوقت لخروج الروم ، فما إن حل حتى ركبت بقية جيش الروم في السفائن مع «تيودور» و«قسطنطين» وهبطوا نحو الإسكندرية، وعند ذلك أطلق سراح من كان في يد العرب من الرهائن الذين أودعوهم حصن بابليون، أو لقد ذهب العرب بهم حتى لحقوا بأصحابهم في العاصمة.
11
دار الفلك دورته وعاد عيد الصليب، وكان من عجائب المقدور أن اتفق في ذلك اليوم الرابع عشر من سبتمبر من العام المنصرم مجيء المقوقس رئيس الأساقفة الخائن في رجعته إلى مصر، ثم عاد اليوم بعد عام ليشهد آخر مشهد من زوال ظل السلطان المسيحي عن مصر، فكانت صلاة إعلاء الصليب تتردد أصداؤها في الكنيسة، في حين كانت السفن تتجهز آخر جهازها في الميناء ويؤذن لها بالسير. فما طلع اليوم الثالث بعد هذا،
12
وهو اليوم السابع عشر من سبتمبر، حتى كان أسطول «تيودور» يحل قلاعه ويرفع مراسيه، ويسير إلى قبرص
13
بمن كان عليه من فلول جيش الروم يرفرف عليهم الأسى. ولم تبق بعد ذلك إلا أيام قلائل لأهل المدينة، وما كان أشقاهم، ليصلحوا فيها من أمورهم؛ فإن الهدنة انقضى أمدها في اليوم التاسع والعشرين من شهر سبتمبر؛ إذ مضت أشهرها الأحد عشر، وفتحت في ذلك اليوم أبواب المدينة، فدخلها عمرو يقود من معه من شعث جنود الصحراء، فساروا بين صفوف مما كان في الإسكندرية العظمى من أعمدة براقة وقصور منيفة، وانتهى بذلك حكم دولة الروم في مصر.
الفصل الرابع والعشرون
وصف الإسكندرية عند الفتح
أرسل عمرو إلى الخليفة كتابا مشهورا يصف فتح الإسكندرية، والرواية المتداولة عنه هي: «لقد فتح الله علينا مدينة من صفتها أن بها أربعة آلاف قصر، وأربعة آلاف حمام، وأربعمائة ملهى، واثني عشر ألف بائع للخضر، وأربعين ألفا من اليهود أهل الذمة.»
1
ونرى أن هذه الأعداد فيها مبالغة، ولعلها لم تكن كذلك في الكتاب الذي بعث به عمرو، بل نقلها النساخ خطأ.
2
ومع ذلك فإنها تدل دلالة واضحة على ما كان للمدينة من الأثر العظيم في نفوس الفاتحين، وقد أدهشهم عظمها وفخامتها، ولكن لقد بهرهم فوق ذلك منها تألقها وسناها، فقال أحد من وصفها: «إن الإسكندرية مدينة يكثر المرمر في أرضها وبنائها وعمدها.» وقال آخر: إن المدينة تبدو بيضاء لامعة في النهار والليل.
3
وقال في موضع آخر إن أهلها جميعا كانوا يلبسون الثياب السود والحمر؛ لأن أرضها وبناءها من المرمر الأبيض، وكان تألق الرخام سببا في اتخاذ الرهبان السواد في لباسهم. وكان من المؤلم أن يسير الإنسان في المدينة بالليل؛ فإن ضوء القمر إذا وقع فيها على الرخام الأبيض جعلها تضيء، حتى كان الحائك يستطيع أن يضع الخيط في الإبرة بغير أن يستضيء بمصباح، وما كان يستطيع أحد أن يدخل المدينة إلا إذا اتخذ غطاء لعينيه يقيهما بهر الطلاء والمرمر. وقال مؤرخ عربي آخر
4
في القرن العاشر إن الناس كانوا يتخذون سترا من الحرير الأخضر يغطون به الطرق، يتقون بذلك وهج الضوء على الرخام.
5
وقال المؤرخ نفسه إن الطرق كلها كانت تكتنفها العمد. وكان هذا ولا شك صحيحا في الطريقين العظيمين اللذين وصفناهما من قبل وهما يقطعان المدينة من أطرافها، فكان أحدهما من أول المدينة في الشرق إلى آخرها في الغرب يصل بين باب الشمس وباب القمر،
6
وكان الثاني يجري في المدينة من أقصى الشمال إلى أقصى الجنوب، وكانا يتلاقيان ويقطع أحدهما الآخر في ميدان فسيح به الحدائق وتحيط به القصور الجميلة. وكان لكثير من القصور في وسط المدينة حدائق غناء؛ فقد قال السيوطي - والظاهر أنه يروي ذلك عن ابن عبد الحكم
7 - إن الإسكندرية كانت تشمل مدائن ثلاثا؛ إحداها إلى جانب الأخرى، وكان لكل منها سور قائم بها، وحول الجميع سور يحيط بها. ولعله يشير بهذا إلى الأحياء الثلاثة: حي المصريين، وحي الروم، وحي اليهود. ولكنا نشك في دقة هذه الرواية. وقد روى عبد الله بن ظريف أن المدينة كان بها سبع قلاع وسبعة خنادق، وكانت قلعة الفرس بلا شك تعد إحدى عجائب الإسكندرية.
وما كانت دهشة العرب من رسم المدينة بأعظم من دهشتهم مما كان تحت أرضها من المباني؛ فقد رأوا بها عددا عظيما من الصهاريج العجيبة تحت الأرض، كان لبعضها طبقات يلي بعضها بعضا أربعة أو خمسة، وكان في كل طبقة منها عدد عظيم من الحجرات والأعمدة، حتى لقد قال السيوطي إن الإسكندرية مدينة قائمة على مدينة، وإنه ليس في البلاد مثلها على وجه الأرض. وكان بها عدد عظيم من الأعمدة لم ير مثلها في موضع آخر في علوها وعظم حجمها. وكانت هذه الحجرات الدفينة تستخدم لخزن المياه توصل إليها في قنوات تجري من الترعة الحلوة التي كانت تشق المدينة في حي المصريين، وكانت تملأ في أوان الفيضان فيشرب الناس منها مدة الحول.
8
وكان أفخم أحياء أنحاء المدينة فيما مضى جهة اسمها «البروكيون»، وكان إلى شمالها ميناء الإسكندرية، وإلى جنوبها الشارع الأعظم الآتي من باب الشمس إلى الحدائق الوسطى بالمدينة. ولا شك قد هدم أورليان جانبا عظيما من ذلك الموضع، ولكنا نظن أن أخبار ما حل به من التخريب فيها مبالغة.
9
وما كانت آثار ذلك التخريب لتبقى فيه بغير أن تصلح ويعاد بناؤه إلى سابق عهده. وعلى أي حال فقد كانت فيه قصور البطالسة والمقبرة الكبرى التي كانت فيها جثة الإسكندر في غشاء من الذهب، وكان فيه المتحف، وتتصل به مكاتبه العجيبة التي كانت مقر العلوم في العالم أجمع. وكان في ذلك الحي إلى الشرق معبد مكشوف اسمه «التترابيلوس»، وهو إيوان به أربعة صفوف من الأعمدة تحيط به. وقيل إن الإسكندر دفن هناك النبي «أرميا»، فكان ذلك الموضع مشهدا يحترمه الناس احتراما بالغا.
10
وإلى جانب ذلك المشهد كنيسة القديسة «ماريا دروثيا» بناها «أولوجيوس»، وإلى شرقها فيما يلي الأسوار على مقربة من البحر الكنيسة الكبرى كنيسة القديس «مرقص»،
11
وكانت عند ذلك لا تزال ماثلة، وفيها مدفن من المرمر به جثمان ذلك الرسول. وقد قال «أركولفوس»:
12 «إذا أتيت من بلاد مصر ودخلت المدينة ألفيت عند جانبها الشمالي كنيسة كبرى فيها جثمان مرقص الإنجيلي، وترى قبره أمام المحراب في الجانب الشرقي وقد أقيم فوقه شاهد من المرمر.» وكان في الحي نفسه كنيستا القديسين «تيودور» و«أنستاسيوس».
13
ولم تكن كنيسة القديس مرقص في القرن السابع أكبر كنائس المدينة وأعظمها شأنا، بل كان أعظم منها كنيسة القيصريون، وكانت في الحي نفسه عند ثنية المرفأ الأعظم، وقد بلغت من عظم الشأن أن كادت تحل محل الكنيسة الكبرى؛ فقد كان بناؤها جليلا، ولها مسلتان قديمتان في فنائها، فكانت تشرف فوق أسوار المدينة أظهر الأشياء التي يراها الرائي أول وهلة في صدر ما يراه
14
إذا أتى من الميناء داخلا مما يلي المنارة، فكانت في هذه الجهة لها مظهر يعدل مظهر «الأكروبولس» والسرابيوم وعمود «دقلديانوس» في نهاية المدينة من الجانب الآخر. وكانت كنيسة القيصريون في مبدأ أمرها معبدا للأوثان، بدأت كليوبترا في بنائه إعظاما لقيصر، ثم أتمه أغسطس. وإنه لجدير بنا أن نرى ما جاء من صفته في كتاب «فيلو» إذ قال:
15 «وكان هذا المعبد معبد قيصر، الذي يعرف في الإسكندرية باسم سبستيان (أغسطس)، أثرا لا مثيل له، وكان على ميناء فسيحة، عظيم البناء، عجيب الصناعة، عالي السمك، يعده الناس علما من أعلام البحر، وقد زانته أبدع الصور والتماثيل، تقدم إليها جليل الهدايا والقرابين، وكانت تجمله كله حلية من الذهب والفضة، فكان نموذجا في جمال تنسيقه وإبداع أجزائه التي كان يشملها من متاحف ومكتبات وقباب وساحات وأبهاء ومماش وخمائل من أشجار ظاهرة، قد وضع كل شيء في موضعه اللائق به، وأبدعت فيه يد الصناعة فأبرزته في حلة أنيقة من الرونق، بذل في سبيلها المال لم يدخر باذله ثمينا ولا غاليا، وكان فوق ذلك جلاء عين أهل الأسفار في البحر إذا وقعت عليه في روحاتهم وغدواتهم.»
وقال فيه حنا النقيوسي: «إنه القصر الجليل.» وقد غيره قسطنطين الأكبر فجعله كنيسة مسيحية، وأهداه إلى اسم القديس ميخائيل،
16
ولكنه كان عند الفتح العربي لا يزال محتفظا باسمه الأول «القيصريون»، ولم يصر كنيسة بطريقية عظمى إلا حوالي سنة 350 للميلاد، ولكن في سنة 366 في أيام أنستاسيوس جاء جمع عظيم من قوم هائجين ثائرين من الوثنيين وأتباع المذهب الآري المسيحي، ودخلوا فناءها ثم اقتحموها، وأحرقوا المذبح والعرش وما كان فيها من النمارق والستر، وسوى مما وصلت إليه أيديهم. ولئن كان قد بقي شيء من المكتبات التي ذكرها فيلو فإنها لا بد قد أحرقت عند ذلك، ثم أعيد بناء الكنيسة وأصلحت في عام 368. وإن الذين يقرءون قصة «هيباشيا» يعلمون أنها وقعت في كنيسة القيصريون فيما بعد هذا العصر بنحو خمسين عاما؛ فإن غوغاء المسيحيين وعامتهم ممن أعماهم التعصب للدين
17
أتوا بتلك الفتاة الحكيمة فمزقوا جسمها تمزيقا، فكان وثوبهم هذا وما فيه من خروج وعنف جديرا بالمعبد القديم معبد زحل (ساتورن). وقد جاء في الأخبار أن تيموثي إيلوروس فر إلى بئر المعمودية في هذه الكنيسة لاجئا إليها بعد نحو خمسين سنة من ذلك العهد، فدخل إليه الناس وأخرجوه منها ثم نفوه. فلما عاد «تيموثي» إلى الإسكندرية بعد أن أقام في منفاه عشرين عاما «لقيه الناس في موكب حافل، توقد فيه المشاعل، وتنشد فيه آيات المديح يرتلها قوم مختلفو الأجناس واللغات»، فسار في موكبه هذا يحدوه النصر إلى أن بلغ تلك الكنيسة عينها كنيسة القيصريون.
18
ولم يبق شيء من وصف ما في تلك الكنيسة من داخلها، ولكن الذي لا شك فيه أنها كانت على طراز الكنائس البيزنطية (البازليكية)، وأنها بقيت على ما كان بها من الحلية الجليلة والزينة البديعة. وكان آخر ما عهدته تلك الكنيسة من مشاهد المجد في عهد الإمبراطورية صلاة الفرح بعودة قيرس، ولا بد أن خطبته إذ ذاك كان لا يزال يذكرها من شهد دخول عمرو بجيشه إلى المدينة، ولكنها لم تبق مدة طويلة بعد فتح العرب؛ فلم يبق إلا اسمها في صورته العربية، وهو القيصرية. وكان يسمى به في أول الأمر نوع من القصور أو الأبنية العامة، ثم وصل إلينا بعد أن دخل على دلالته تغيير.
19
وقد عجب العرب أشد العجب من المسلتين من الصخر المحبب الأحمر (الجرانيت) اللتين كانتا في صدر الكنيسة، وكان مؤرخوهم يكثرون من وصفهما؛ فقال اليعقوبي (وهو من كتاب القرن التاسع) إنه قد كان هناك مسلتان من الحجر الملون تحتهما قاعدتان من البرونز على شكل الجعل، وعليهما نقوش قديمة.
20
وقال مثل ذلك ابن رستاه (وهو من كتاب القرن العاشر)، فوصف أثرين كل منهما على شكل منارة مربعة تحتهما قاعدتان على صورة العقرب من النحاس أو الشبه، وعليهما نقوش، وقيل إن صورة العقرب قد صهرت بنار أوقدت تحتها فوقع الأثران.
21
وجاءت قصة في كتاب ابن الفقيه (وهو ممن كان يعيش في أيام ابن رستاه)، وفي هذه القصة بدأ الخطأ العجيب الذي خلط بين هاتين المسلتين وبين «الفاروس»، وهي التي كان العرب يسمونها منارة الإسكندرية، قال إن منارة الإسكندرية قائمة في البحر على قاعدة من الزجاج على شكل الجعل. وقال: ولها عمودان قائمان على قاعدتين؛ إحداهما من الزجاج، والأخرى من الشبه، وكانت قاعدة الشبه على صورة العقرب، وقاعدة الزجاج على صورة الجعل.
22
فما إن أتى عهد المسعودي حتى كانت هذه القصة قد اتخذت صورة ثابتة، وأصبحت خرافة يبتهج العرب بذكرها، فقال المسعودي: وكانت المنارة قائمة على أساس من الزجاج له صورة السرطان، وكان بناؤها على لسان من الأرض بارز في البحر، وكان على رأسها صور من معدن الشبه؛ إحداها تشير بيمناها إلى الشمس وتدور معها في السماء، فإذا غربت الشمس وضعت يدها؛ وصورة أخرى تشير إلى البحر في الجهة التي يأتي منها العدو، فإذا ما اقترب من المدينة خرج منها صوت هائل يسمع على بعد ثلاثة أميال، فينذر أهل المدينة بالخطر.
23
ومن المعلوم أن «الفاروس» أو المنارة كانت أثرا غير المسلتين، وهي بناء متين من الحجر شاهق العلو. وإنه لمن المضحك أن يتصور أحد أن بناءها العظيم يقوم على كرسي من الزجاج على هيئة السرطان، ومع ذلك فإنه مما يسر النفس أن يصل الإنسان إلى أصل هذه الخرافة التي تظهر في مبدأ الأمر سخيفة لا معنى لها؛ فإنها إنما نشأت من سوء فهم لما ذكره مؤرخو العرب الأوائل من الحقائق التاريخية وتحروا في ذكره الدقة العظيمة. فلا شك في أن المسلتين اللتين كانتا أمام كنيسة «القيصريون» عند دخول عمرو في الإسكندرية، كانتا على قاعدتين على هيئة السرطان كما وصفهما العرب الأوائل؛ فقد قام الدليل على هذا عند نقل إحدى المسلتين إلى نيويورك؛ إذ وجد أن هذا الحجر الهائل كان قائما على أربع صور من المعدن على هيئة السرطان، وكانت هذه تفصل بين المسلة وبين القاعدة. وكانت القاعدة من قطعة واحدة من صخر «الجرانيت»، وكان من تحتها ثلاث طبقات مدرجة من الحجر، ولم يكشف سند نقل المسلة إلا تمثال واحد من التماثيل الأربعة التي على هيئة السرطان؛ لأن القاعدة كانت قد مضى عليها زمن طويل وهي مدفونة تحت الأرض.
24
وكان ذلك التمثال نفسه مشوها، ولكن لم يكن ثمة شك في الغرض من تلك التماثيل؛ إذ قد وجدت كتابة باللغتين اليونانية واللاتينية على المعدن، وكانت لا تزال ظاهرة، وفيها مصداق لما رواه كتاب العرب.
25
وهذا مثل من الأمثلة الظاهرة التي كانت فيها أعمال الحفر والتنقيب مساعدة للتاريخ مصدقة له.
وقد يقول قائل: وماذا كان من أمر الجعلان أو العقارب الزجاجية التي تحت المسلة الأخرى، وما تحسب ذلك القول إلا إحدى الأقاصيص؟ وليس شيء أشد خطأ من مثل هذا القول؛ لأننا إذا سمعنا وصف أمرين متصلين اتصالا وثيقا، وصدق أحدهما صدقا لا شبهة فيه، وكان من آيات الدقة، فإن أعجب العجب أن نقول إن الأمر الآخر مكذوب لا صدق فيه؛ فما يكون قولنا هذا إلا تكذيبا لا مبرر له للتاريخ كله. وليس في وصف هذه المسلات ما يجعلنا في حيرة بين ما يقتضيه العلم وما يقتضيه التاريخ. لا جرم أننا لا نصدق أن تقوم قطعة عظيمة من الصخر في حجم تلك المسلة التي نسميها مسلة كليوبترا على جعالين من الزجاج مما يصنع في أيامنا هذه، وما كان في الزجاج قطع تبلغ من الحجم ما يكفي لمثل هذا القصد، ولكنا نعلم في المعادن معدنا عظيم الصلابة والرونق، وهو الحجر الأسود (الأبسيدي) الذي يشبه الزجاج، ويعرف بالزجاج الطبيعي. ولعل الجعالين التي كانت تحت المسلة الثانية - وهي القائمة اليوم في لندرة - كانت من ذلك الحجر الأسود. وإذا كان هذا غير ممكن فلعلها كانت من حجر آخر متين شديد الصقل. وإنا نؤثر أن نصدق ما قاله كتاب العرب بنصه كما جاء في قولهم، على أن نكذبهم فيه بعدما ظهر من صدقهم فيه صدقا جليا. فإنا لا نشك في أن المصريين كانوا فوق براعتهم في صناعة الزجاج يعرفون من عظيم أسرار صناعته ما تجهل، وليس بالمستبعد أن يكونوا قد استطاعوا صناعة صنف من الزجاج يبلغ من المتانة أن يحمل مثل تلك الكتلة الصخرية العظيمة. ومن المفيد هنا أن نقول إن المسلة التي حملت إلى لندن كانت قد وقعت على الأرض قبل الأخرى بزمن طويل.
إذن نقول إن أثرين عظيمين كانا قائمين أمام القيصريون على قاعدتين ذواتي طبقات، وكان أحدهما قائما على أربعة سرطانات من النحاس أو الشبه، وكان الثاني قائما على أربعة تماثيل من الزجاج المتين أو الحجر الأبسيدي على صورة العقارب. وإذا نحن أزلنا ما طرأ من الخلط على هذا الوصف بين المنارة والمسلتين، عرفنا أن التماثيل النحاسية التي يذكرها المقريزي لم تكن في أعلى المنارة حيث لا تكون ظاهرة لرأي العين، ولكنها كانت في أعلى المسلات، وكان التمثال «الذي يشير إلى الشمس» بغير شك تمثالا ذا جناحين يمثل «هرميس» أو «نيكي
Nike » (إلهة النصر عند اليونان)، وأغلب الظن أنه كان قائما على قدم واحدة فوق قمة المسلة،
26
يمد يده اليمنى على عادة اليونان في تصوير تماثيلهم. وكان التمثال الآخر الذي «يشير إلى البحر» صورة أخرى لا يقصد بها إلا التجميل والزينة وإيجاد التماثل في المنظر. ولا بد أن هذه الأعمدة العظيمة القديمة كانت باهرة الرونق والجمال في صنعها ورسمها الذي أبدعته يد الصناع في عصر أغسطس، وأنها كانت ذات أثر عظيم في النفس إذا ما وقعت العين على قمتها الشاهقة؛ إذ تمر بها السفن في دخولها إلى المرفأ أو خروجها منه.
وأما المتحف فلا نجد له ذكرا باقيا إلى يومنا هذا، ولا بد لنا أن نقول إنه تخرب وزال قبل ذلك بزمن طويل، ولعل زواله كان في الحريق الكبير الذي أحدثه يوليوس قيصر عندما حاصره المصريون في ذلك الحي تحت قيادة «أخيلاس»،
27
أو لعل ذلك وقع في النضال الأخير الذي كان في أواخر عهد الوثنية والاضطراب الذي حل بها عند احتضارها.
28
حسبنا ما تقدم من ذكر الكنيسة، ولنصف بعد ذلك «السرابيوم»، وهو طائفة من الأبنية ذات جمال رائع كان لها أثر عظيم في نفوس العرب، وكان في حي آخر من أحياء المدينة في الموضع الذي به اليوم عمود «دقلديانوس». وكان هذا الحي معروفا بالحي المصري الذي لم يضع اسمه في وقت من الأوقات، وذلك الاسم هو «راقوتي»؛ فإن القبط لم يسموا فيما بينهم مدينة الإسكندرية باسم بانيها العظيم، بل كان أكثر حديثهم عنها باسم القرية التي كانت لبعض الصيادين قبل الإسكندر بزمن طويل. وهذا دليل على شدة احتفاظهم بقديمهم لا يعبئون في ذلك بمر الزمن. وقد عرف موضع السرابيوم معرفة لا موضع للشك فيها مما جاء في وصفه في الكتب القديمة، ومما أسفر عنه البحث الأثري في العصور الحديثة. ويقرن ذكر السرابيوم عادة بذكر عمود دقلديانوس، وهو الذي سماه العرب «عمود السواري»، وكان على مقربة من الباب الجنوبي للمدينة، وهو الذي يسميه العرب باب الشجرة.
29
ولا يتفق أهل الآثار على أنه كان قائما على ربوة تشبه «الأكروبولس» في أثينا، وليس سطح الإسكندرية في الوقت الحاضر مما يسهل تحقيق هذا الأمر. ومهما يكن من شيء فقد كان حصنا معظمه من صنعة الإنسان مع علوه وإشرافه فوق المدينة؛ فقد كان قائما على نهد له نواة من الصخر الطبيعي، ولكن سائره كان من صنع الإنسان. وكانت أسواره المنيفة تحيط بآزاج معقودة تحت الأرض طبقات بعضها فوق بعض.
30
فكان حصنا عظيما مربع الشكل، أعلاه مسطح تزينه أبنية بديعة. والظاهر أنه كان يدخل إليه من طريقين؛ أحدهما تسير عليه العجلات، والآخر سلم له مائة درجة. على أننا لسنا نعرف القصد الذي من أجله بني ذلك السلم.
31
وكان موضعه في الجهة الشرقية من البناء، وفي أعلاه المدخل، وتدعمه أربعة أعمدة عظيمة في كل جانب اثنان منها، وكان للمدخل أبواب من معدن الشبه .
32
وأما شكل البناء الذي على القمة وترتيبه، فليس من السهل أن ندركه مما بقي لدينا من وصفه، ولكن يلوح لنا أنه كان على ما نحن موردون فيما يلي: فقد كان شكله مستطيلا، طوله خمسمائة ذراع في عرض مائتين وخمسين.
33
ويحيط بأعلى النهد من كل جانب صف من البناء المنيف البديع يتصل في مواضع كثيرة بحرم المعبد، وكان في داخل هذه الجوانب الأربعة من البناء فناء يحيط به صف عريض من الأعمدة، وكان فيه كذلك من الوسط أربعة صفوف من الأعمدة يذهب كل صف منها من وسطه إلى جانب من جوانبه، فكانت هذه الأعمدة على هيئة قريبة من صليب في الوسط يحيط به إطار مستطيل الشكل، ولكن وسط هذا المستطيل، وهو قلب الحصن كله، كان فيه معبد «سرابيس»، وكان من سوء الحظ أن هذا المعبد قد تهدم قبل فتح العرب بمدة طويلة، ولكن لا شك في أنه قد كان بناء من أروع الأبنية وأعظمها. وكان حرمه مستطيلا في وسطه بهو له أعمدة من أثمن المرمر، وكانت جدرانه من الرخام من داخلها وخارجها. وكان في وسط ذلك البهو تمثال عظيم للمعبود «سرابيس» من الخشب الملبس بالذهب والعاج، له ذراعان ممدودتان تكاد كل منهما تلمس الحائط الذي يليها. وكان في يسراه سيف، وتحت يمناه صورة مروعة للأعجوبة «قربروس» لها رءوس ثلاثة: رأس أسد، ورأس كلب، ورأس ذئب. وقد التف حولها جميعا أفعى عظيمة.
34
وكانت تزين المعبد جميعه زينة باهرة من النقوش التي لا تقدر بثمن، وكانت من المرمر والشبه، وكان أظهر ما فيها سلسلة من نقوش تمثل حروب «برسيوس». وكان حول جدران ذلك المعبد صف من جليل الأعمدة تجري موازية لصف الأعمدة المحيطة بالفناء جميعه، وتصلها به الصفوف الأربعة التي على هيئة الصليب، والتي سبق لنا ذكرها، وكانت الأبواب العظيمة التي تحيط بالمعبد لا مثيل لها في الفخامة والجلال. وكانت رءوس الأعمدة من معدن الشبه تغطيه طبقة من الذهب، وأما السقوف فكانت يغطيها الذهب والألوان الزاهية في حين كانت الجدران والأرض من أثمن المرمر.
35
لكن أهم من ذلك كله أن عقود هذا المعبد كانت لها أبواب تفضي إلى حجرات في البناء الأعظم كان في بعضها مكتبة الإسكندرية الكبرى،
36
وكان في البعض الآخر مشاهد لآلهة مصر القديمة، وكان في بعض مواضع من حرم هذا المعبد مسلتان قديمتان، وحوض ماء عظيم من المرمر فائق الجمال. وكان العمود العظيم المعروف بعمود دقلديانوس في وقت فتح العرب قائما فوق القلعة مشرفا عليها،
37
على أننا لسنا نعلم في أي وقت أقيم. وكان في موضع من السرابيوم كنيسة باسم القديس «يوحنا المعمدان»، وكان فيه سوى هذه كنائس أخرى كانت لا تزال عند ذلك قائمة، منها كنائس القديسين «قزمان» و«دميان» و«الإنجيليون».
38
وقد بقيت الكنيسة الأخيرة إلى ما بعد الفتح، ولكنها كانت يخشى عليها التهدم، فأعيد بناؤها في أواخر القرن السابع، وقام على ذلك البطريق إسحاق.
39
بقي علينا أن نذكر بناء آخر، وهو البناء الملاصق لمدخل السرابيوم، ويعد جزءا منه، وهو «الأقوس»، ومعناه البيت. ويمتاز عن سائر بناء القلعة بأن كانت له قبة مذهبة عالية قائمة على دائرة مزدوجة من الأعمدة. ولم يتضح لنا القصد من هذا البناء، ولعله لم يقصد منه غير الزينة. والظاهر أنه بقي بعد أن تهدم المعبد، ويرد ذكره في أخبار العرب مع «عمود السواري».
40
وقد قيلت في ذلك العمود قصص عجيبة؛ فقيل إنه كان جزءا من معبد بناه سليمان. وهذا ما ذهب إليه أصحاب الرأي السائد. وقال ابن الفقيه: إن الإنسان إذا رمى عليه قطعة من الخزف أو الزجاج، وقال عند ذلك «باسم سليمان بن داود تكسري»؛ انكسرت، ولكنه إذا لم يذكر ذلك الطلسم لم تنكسر. وقيلت قصة أخرى، وهي أن الإنسان إذا أقفل عينيه وسار إلى ذلك العمود لم يستطع أن يبلغه. وقال السيوطي في سذاجة إنه قد جرب ذلك الأمر بنفسه مرارا وظهر له صدقه، وقال ذلك المؤرخ إن «أهل العلم في الإسكندرية» يذكرون أن هذا العمود كانت عليه قبة جلس تحتها أرسطاطاليس وهو ينظر في علم الفلك، وهذه بقية من ذكر القبة والمكتبة. وقد روى المقريزي عن المسعودي وصفا للسرابيوم، وهو وصف لا بأس به، فقال: «وكان بالإسكندرية قصر عظيم لا يماثله قصر في بلاد العالم، قائم على تل عظيم تجاه باب المدينة، وكان طوله خمسمائة ذراع في عرض مائتين وخمسين، وله باب عظيم كل جانب منه قطعة واحدة من الصخر، وكذلك أعلاه حجر واحد، وكان في ذلك القصر مائة عمود، وفي صدره عمود عظيم لم ير مثله في الحجم، وله قمة كالتاج.» ويقول الكاتب نفسه إن ذلك العمود يهتز عند هبوب الريح عليه. وكان الاعتقاد السائد أن هذه الأبنية أقامها الجن والعمالقة من البشر الأوائل. قال السيوطي إنه قد بنى الجان لسليمان في الإسكندرية إيوانا للاجتماع، به ثلاثمائة عمود علو كل منها ثلاثون ذراعا، وكانت من المرمر المجزع بلغ من صقله أن صار كالمرآة يرى الإنسان فيه من يسير خلفه، وكان في وسط الإيوان عمود علوه مائة ذراع وأحد عشر ذراعا، وكان سقفه قطعة واحدة مربعة من المرمر الأخضر نحته الجن،
41
وكان هؤلاء الجان على صورة الإنسان، لهم رءوس كالقباب وعيون تمزق الأسود. وقد ورد عن ذلك رأي آخر، وهو أن الأحجار كانت في الأزمان السالفة لينة كالطين، أو كما قال كاتب آخر: «وكان من السهل أن يعمل الناس قبل الظهر في محاجر المرمر؛ إذ يكون المرمر كأنه العجين في لينه، ولكنه يصير بعد الظهر صلبا يتعذر اقتلاعه.»
وهذه القصص تظهر دهشة العرب مما رأوا من الأبنية التي صارت ملكا لهم. وإنه لمن المؤلم أن يقرأ الإنسان أخبار تخريبها وهدمها، ولكن العدل يقضي علينا أن نذكر أن أكثر ذلك التخريب كان من فعل الزلازل، فما أتى القرن الحادي عشر حتى كانت المدينة كلها أطلالا خربة، ولكن العجب أن يذكر كتاب ذلك العصر أن الأعمدة كانت لا تزال قائمة،
42
ويقولون إن عدتها كانت خمسمائة. وقد رآها الإدريسي بعد مائة عام من ذلك الوقت، وقال في وصف ذلك إن العمود الأكبر كان حوله فضاء فيه ستة عشر عمودا عند كل من جانبيه الضيقين، وسبعة وستون عمودا عند كل من طرفيه العريضين.
43
وقال بنيامين «التودلي»،
44
وقد زار المدينة في عام 1160، إنه رأى بناء عظيما جميلا فيه أعمدة من المرمر تفصل بين حجراته الكثيرة، وقال إن ذلك كان في «مدرسة أرسطو». وذلك مثل ما يقوله الكتاب المسلمون؛ إذ يسمونه «قبة أرسطو» أو «بيت الحكمة». غير أنه حدث في عام 1167 أن حاكما جاهلا للإسكندرية اسمه «قراجا»، وكان من وزراء صلاح الدين، أمر بهدم هذه الأعمدة، وحمل أكثرها إلى البحر فألقاها فيه ليحول بين العدو وبين النزول إلى البر.
45
ومنذ ذلك الحين بقي عمود «دقلديانوس» وحده في مجده، بقية مما كان في قلعة الإسكندرية
46
من الأبنية التي لم يكن لها مثيل.
ولنترك الآن معالجة مسألة المكتبة وما حل بها، فسنجعل لذلك موضعا آخر، ولنمض إلى ذكر أثر آخر أو أثرين جديرين بالذكر. كان الملهى الذي ذكره العرب في غرب القلعة على ما يلوح لنا، وكان هناك من غير شك ميدان لسباق الخيل في خارج المدينة مما يلي الباب الشرقي. وقيل إن
47
ذلك الميدان كان يتسع لألف ألف من النظارة، وكان بناؤه يجعل كل من فيه يرى ما يجري به، سواء في ذلك من كان في أعلاه أو في أسفله، وكانوا يسمعون كل ما يقال بغير ازدحام أو مشقة. وأما دار التمثيل فقد كانت في موضع من حي «البروكيون»، وكانت بناء عظيما قائما بنفسه.
ولكن المنارة كانت موضعا لأعظم إعجاب العرب وأكبر دهشتهم. وقد كان ذلك البناء الضخم كما هو معروف قائما في الشمال الشرقي من جزيرة «فاروس»، وكانت تلك الجزيرة متصلة ببر المدينة بطريق طويل قائم على عقود اسمه «الهبتاستاديوم»، وكانت الجزيرة في وقت الفتح العربي يحيط بها مرسى السفن، وفيها أبنية مختلفة كان أكبرها كنيستان؛ إحداهما ل «القديسة صوفيا»، والأخرى ل «القديس فوستوس»، وبينهما نزل للأغراب.
48
وكانت بتلك الجزيرة في أيام قيصر قرية كبيرة، وكان أهلها قوما لا خلاق لهم. وقد قال قيصر عن المنارة إنها قطعة عجيبة من البناء،
49
ووصفها سترابو بأنها برج ذو بناء عجيب من الحجر الأبيض وله طبقات عدة.
50
وقد كان بناؤها على يد «سوستراتوس الكنيدي» في أيام «بطليموس فلادلفوس»، وكان القصد منها هداية السفن. وقد أصابها هدم من فعل البحر ومن أسباب أخرى، ولكنها كانت ترمم كلما دعت الحال
51
إلى ترميمها. فكانت في أيام فتح العرب صالحة لم يفسد منها شيء، تلمع في النهار في ضوء الشمس، وتضيء بنورها في الليل على البحر إلى بعد عدة فراسخ من الإسكندرية. وكان شاطئ تلك الجهات ضحلا لا مرفأ له، وكانت السفن الآتية إلى الإسكندرية تعبر إليها بحرا فسيحا لا معالم فيه من البر؛ فكان من أكبر النعم أن يقام علم ظاهر في النهار والليل على مسافة ستين ميلا أو سبعين.
وقد كتب كتاب العرب شيئا كثيرا عن هذه المنارة؛ فقال الإصطخري
52
إن المنارة قائمة على صخرة في البحر، وبها أكثر من ثلاثمائة غرفة لا يهتدي فيها الزائر إلا إذا هداه دليل. وقال ابن حوقل:
53
إنها مبنية من صخور منحوتة قد جمع بعضها إلى بعض وشدت بالرصاص، ولا يشبهها شيء على وجه الأرض. وقد وصفها الإدريسي مثل ذلك الوصف
54
مع تفصيل أعظم، فقال: إن المنارة لا يماثلها شيء في بلاد العالم في قوة بنائها ونظامها؛ فهي من أصلب الصخور صب بينها الرصاص المنصهر، حتى إن حجارتها لا ينفصل بعضها عن بعض. ويصل ماء البحر إليها من جهة الشمال، وعلوها نحو ثلاثمائة ذراع، كل ذراع ثلاثة أشبار؛ فطولها مثل قامة مائة رجل؛ منها سبعون قامة بين الأرض والطبقة الوسطى، وست وعشرون قامة بين الطبقة الوسطى والقمة، وعلو المصباح الذي بها أربع قامات.
55
وهيئة بناء برج المنارة معروفة لا شك فيها؛ فقد كانت ذات طبقات أربع، كل منها أضيق قطرا من الطبقة التي أسفلها. وكانت الطبقة الأولى مما يلي الأرض مربعة، والتي تليها ذات ثمانية أضلاع، وكانت الثالثة مستديرة، وأما الطبقة العليا فكانت مصباحا مكشوفا، وبها مواضع للنار التي يهتدى بها، ومرآة عجيبة. وكان في أعلى الطبقة الأولى المربعة طنف عريض عند قاعدة الطبقة الثانية المثمنة يشرف على المدينة والبحر، وكان بين الطبقة المثمنة والطبقة الدائرية التي فوقها طنف آخر أقل اتساعا من الأول،
56
ولكنه يشبهه. وكان الصعود إليها على سلم يغطيه سقف من الحجارة
57
يصل بين جدرانها، وكان تحت السلم غرف عدة، ويضيق ما بين السلم من الفراغ بعد الطبقة الثانية، حتى يتضاءل الفضاء الذي بداخل المنارة فلا تبقى إلا فرجة صغيرة كالبئر في وسطه، وكان الضوء يصل إليها من نوافذ في جدارها كله من أعلاه إلى أسفله.
58
وقد عجب العرب من عدد غرف المنارة ومن تداخلها؛ فقال المقريزي: ويقال إن كل من دخل المنارة اختبل وضل الطريق مما بها من الغرف العدة والطبقات والمماشي. وقيل إن المغاربة عندما جاءوا إلى الإسكندرية في خلافة المقتدر، دخل جماعة منهم إلى المنارة على ظهور الخيل، فضلوا طريقهم حتى جاءوا إلى شق في كرسي الزجاج الذي على هيئة السرطان،
59
وهو الذي يقوم عليه البناء، فوقع كثير منهم فيه وهلكوا.
60
ولكن قيلت في المرآة قصص أعجب من هذا. وقد أجمع كتاب العرب على أنها كانت في ذاتها بصرف النظر عن المنارة التي كانت هي قائمة عليها، إحدى عجائب العالم. فقيل: قد كان في مدينة «راقوتي» قبة مذهبة على أعمدة من الشبه، وكان فوقها منارة في أعلاها مرآة من معدن مركب يبلغ قطرها خمسة أشبار.
61
وكانت تلك المرآة تتخذ لإحراق سفن العدو. وقد قلدت هذه المرآة في مدينة الإسكندر، فأقيم مثلها على رأس المنارة، ولكنها كانت تستخدم في رؤية العدو من بعد «إذا أقبل من بلاد الروم». وقد دخلت المبالغة على وصفها بعد قليل، فروي عن عبد الله بن عمرو أنه قال: «ومن عجائب بلاد العالم المرآة التي على منارة الإسكندرية، وهي تكشف ما يجري في القسطنطينية.»
62
ولكن المسعودي يصفها بأنها «مرآة عظيمة من الحجر الشفاف، يمكن أن ترى فيها السفن الآتية من بلاد الروم وهي بعيدة عن مدى البصر». وقال كاتب آخر مثل هذا المعنى، ولكنه يذكر أن هذه المرآة كانت من «زجاج مدبر»؛ أي محكم الصنعة.
63
وقال كاتب ثالث إنها كانت من «الحديد الصيني» أو الصلب الثقيل.
64
وقد أجمع الكل على أنها كانت تظهر السفن وهي أبعد من مدى البصر، فكان الإنسان إذا جلس تحتها رأى كل شيء من مكانه إلى القسطنطينية.
وأما الغرض الذي من أجله أقيمت المرآة فمختلف فيه؛ فهل لم تكن تتخذ إلا لتنعكس عليها أشعة الشمس في النهار وضوء النار في الليل لهداية السفن؟ وهل كانت مرآة مما اعتاد الناس اتخاذها، أم كان لها سطح يختلف عن ذلك له قدرة على كسر الضوء؛ فلذلك كانت حقيقة تتخذ لإحراق السفن إذا ما سطعت عليها أشعة الشمس القوية في مصر؟ والجواب على هذا موكول إلى العلماء، ولكن من أعجب الأمور أن يذكر مؤرخو العرب في القرن العاشر للميلاد من وصف هذه المرآة ما يمكن أن نعده تنبؤا باستعمال المنظار المقرب (التلسكوب). وإنه من العجيب كذلك أن يجمع كل هؤلاء الكتاب على أنها كانت من مادة شفافة، فيقول بعضهم من الزجاج المدبر، ويقول البعض من حجر شفاف؛ فإن هذا القول وصف لعدسة ضوئية وليس لمرآة. أليس إذن من الممكن أن تكون مدرسة الإسكندرية العظمى التي فاقت في علوم الرياضة والحيل قد كشفت سر العدسة الضوئية وصنعتها، ثم نسي أمر هذا السر بعد تخريب المنارة؟
وإنه من الثابت أن المنارة كانت تتخذ علما للإشارة، كما كانت تستخدم لهداية السفن، ولكن ليس من الواضح عندنا أكانت النار توقد بها في الليل والنهار؛ فإن الإدريسي إنما يذكر النار بالليل «وسحابة من الدخان في النهار»، ولكن جاء في وصف آخر للمنارة أن الديادبة كانوا يقيمون بها على استعداد لإبقاء النيران بالليل.
65
ولكن من سوء الحظ أنا لا نجد دليلا على ما جرت به العادة في أول الأمر؛ لأن المنارة لحقها كثير من الهدم والتخريب في مدة القرن الأول بعد الفتح العربي. ولذلك التهديم قصة؛ وذلك أنه في خلافة الوليد بن عبد الملك في القرن الثامن للميلاد، رأى الروم فعل المنارة، وضايقهم من أمرها أنها كانت مرقبا يساعد المسلمين على رد غارات البحر ويحميهم من المباغتة، فعولوا على الاحتيال في تخريبها. فذهب رجل من خواص
66
ملك الروم إلى الخليفة يحمل الهدايا النفيسة، وتظاهر بأن الملك قد وجد عليه موجدة عظيمة وسعى في قتله، وأنه جاء راغبا في الإسلام، فصدقه الخليفة، ورحب بإسلامه وقربه، وتنصح الرجل إلى الخليفة في دفائن استخرجت من بلاد الشام، فشرهت نفسه إلى الأموال، فمال إلى تصديق ما وصفه ذلك الرومي الداهية من كنوز عظيمة من الذهب والجوهر كانت من قبل لملوك مصر القديمة، وقال إنها مدفونة في آزاج ومخادع تحت المنارة. فأرسل الخليفة جماعة من جنده ليستخرجوا ذلك، فهدموا نصف المنارة وأزالوا المرآة، وتم ذلك قبل أن يفطن أحد إلى المكيدة. فضج الناس وعزموا على منع ذلك الهدم، وبعثوا إلى الخليفة بخبرها، فنذر الخائن بالأمر فهرب في الليل إلى بلاده، وكانت حيلته قد تمت، وهدم من المنارة نصفها أو على الأقل ثلثها، وبلغ الخائن ما أراد؛ إذ هدم المرآة السحرية. وعرف العرب أنهم خدعوا بعد أن انقضى الأمر، و«بنوا مرآة من الآجر، ولكنهم لم يستطيعوا أن يعيدوها إلى علوها السابق، فلما وضعوا المرآة عليها لم تفد شيئا».
67
وليس ثمة سبب يدعو إلى الشك في جوهر هذه القصة، وليس من العجب أن يتعذر إصلاح ما تلف من المنارة؛ فلا شك أنها كانت من آيات البناء؛ إذ بقيت قائمة مدة قرون وهي شاهقة العلو ناهدة في أطباق الفضاء، وما كان البناءون في مدة حكم العرب ليبلغوا ما بلغه سلفهم في عهد البطالسة. ولم يرد في كتاب المسعودي ذكر لسعي العرب في إعادة بنائها، بل يفهم من قوله أنهم لم يفعلوا شيئا في سبيل ذلك، ولكن لعله مخطئ. ولا نعرف بعد ذلك إلا قليلا من أخبار المنارة؛ فقد ورد أن أحمد بن طولون
68
جعل على قمتها قبة من الخشب حوالي سنة 875 للميلاد. وفي ذلك ما يدل على أن هذا البناء لم يكن يعد منارة على سابق عهده، بل صار مرقبا لا يستخدم لغير ذلك، ولكن هذه القبة لم تبق مدة طويلة، ولما أن أزالها الريح أقيم في موضعها مسجد في مدة الملك الكامل. وقد حدث بعد مدة ابن طولون ببضع سنين أن تهدمت إحدى قوائمها من جهة الغرب مما يلي البحر، فبناها خمارويه.
69
وفي القرن الذي بعد ذلك لعشر من رمضان لعام 344 للهجرة (وذلك يوافق الثامن والعشرين من ديسمبر سنة 955 للميلاد)، تهدم نحو ثلاثين ذراعا من قمتها في زلازل شديدة أحس بها الناس في كل بلاد مصر والشام وشمال أفريقيا، وكانت لها هزات عنيفة بقيت تتوالى نحو نصف ساعة.
70
وفي عام 1182 ذكر ابن جبير
71
أنه رأى مسجدا آخر على رأسها. ويقول ذلك الكاتب إن علوها كان نيفا ومائة وخمسين ذراعا. وفي ذلك دلالة على مقدار نقصان البناء عما كان عليه في أول عهده. وبعد ذلك الوقت بنحو أربعين عاما كتب ياقوت وصفا لها، ورسم لها رسما مربعا ك «الحصن»، له طبقة ثانية قصيرة من فوقها قبة صغيرة. واستطرد من ذكر ذلك إلى أن قال: إن أخبار عظم تلك المنارة وما ورد من تعظيم شأنها لم تكن إلا «أكاذيب وتغرير». ولقد كان حكمه ذلك وليد التسرع؛ فالظاهر أنه لم يفطن إلى ما أحدثه الدهر فيها من التغير. ولقد جاء في قوله: «وبحثت عن موضع المرآة فلم أجد له أثرا.» وكيف يرجو أن يراها على مثل ذلك الطلل المتهدم المشوه وهو كل ما كان باقيا في وقت زيارته؟
72
ولكن ما حدث بها من التلف بعد ذلك كان أعظم وأبلغ؛ فقد وصفها كاتب عربي في أيام قلاوون بأنها «طلل بال».
73
مع أن السلطان «بيبرس» كان قد رممها قبل ذلك وأصلح منها، وقد سعى من جاء بعد ذلك في إصلاحها، غير أنه يلوح لنا أن الزلزال الذي وقع في عام 1375 دمر معظمها، فلم تبق منها إلا الطبقة السفلى من البرج.
74
ولئن ذهبت منارة «الفاروس» وتطاول على زوالها أمد الدهر، فقد بقيت منها هيئتها وجمال منظرها، وما كانت مستعملة من أجله؛ وذلك أن منائر المساجد المصرية إنما رسمت على رسمها،
75
ونسجت على منوالها، وقد سميت باسمها. وإن منائر القاهرة وإن اختلفت أشكالها وتباينت رسومها، لا تزال الكثرة منها على رسم منارة «سوستراتوس» لا فرق فيما بينها؛ فهي برج قاعدته عند الأرض مربعة الشكل، ثم تصير بعد ذلك مثمنة الأضلاع، وتدق في حجمها، ثم تدق بعد ذلك ويستدير شكلها، ثم يعلوها عند القمة مصباح.
إن تاريخ آثار الإسكندرية لم يكتبه أحد بعد، وإن من أراد كتابته لا بد له من بحث كثير لا يتيسر اليوم في كثير من المواضع، وهو بحث لا غنى عنه في إثبات ما يراد إثباته. على أن وصفنا الذي نصفه الآن على ما فيه من نقص قد يفيده في بيان ما وقعت عليه أنظار العرب من تلك الآثار عند أول دخولهم في المدينة.
ولم يكن مظهر العاصمة من خارجها بأقل أثرا أو أحقر منظرا؛ فكانت الأسوار في شمال المدينة تساير الشاطئ في انحنائه كما سبقت الإشارة إلى ذلك، وكانت الأسوار في جنوبها تتبع الترعة حتى تدخل إلى المدينة وتجري فيها، وكان كل ذلك بناء متينا بارع الصناعة تنهض فيه بروج وحصون، فتجعل له هيئة منوعة ظلت يعجب بحسنها السفار الذين كانوا يرونها في السنين الغابرة من أيام الفتح حتى العصور الوسطى.
76
الفصل الخامس والعشرون
مكتبة الإسكندرية
لقد كثر الجدل في أمر مكتبة الإسكندرية العظمى، وطالما احتدم الخلاف في شأن إحراقها، وهل كان للعرب يد في ذلك عند فتحهم للمدينة، أم أنهم لم يقارفوا شيئا من ذلك. وما دام أهل البحث والعلم لا يزالون على اختلاف في ذلك الأمر ولم يهتدوا إلى كلمة فصل فيه، فلا بد لنا في كتابنا هذا أن نعالجه؛ إذ لا نستطيع أن نغفله في كتاب جعلناه لمعالجة تاريخ فتح العرب لتلك البلاد.
والقصة كما أوردها أبو الفرج
1
كما يلي: قد كان في ذلك الوقت رجل اشتهر بين المسلمين اسمه «حنا الأجرومي»، وكان من أهل الإسكندرية، وظاهر من وصفه أنه كان من قسوس القبط، ولكنه أخرج من عمله إذ نسب إليه زيغ في عقيدته، وكان عزله على يد مجمع من الأساقفة انعقد في حصن بابليون. وقد أدرك ذلك الرجل فتح العرب للإسكندرية واتصل بعمرو، فلقي عنده حظوة لما توسم فيه بصفاء ذهنه وقوة عقله من الذكاء، وعجب مما وجد عنده من غزارة العلم. فلما أنس الرجل من عمرو ذلك الإقبال قال له يوما: «لقد رأيت المدينة كلها وختمت على ما فيها من التحف، ولست أطلب إليك شيئا مما تنتفع به، بل شيئا لا نفع له عندك وهو عندنا نافع.»
فقال له عمرو: «وماذا تعني بقولك؟» فقال: «أعني بقولي ما في خزائن الروم من كتب الحكمة.» فقال له عمرو: «إن ذلك أمر ليس لي أن أقتطع فيه رأيا دون إذن الخليفة.» ثم أرسل كتابا إلى عمر يسأله في الأمر، فأجابه عمر قائلا: «وأما ما ذكرت من أمر الكتب فإذا كان ما جاء بها يوافق ما جاء في كتاب الله فلا حاجة لنا به، وإذا خالفه فلا أرب لنا فيه وأحرقها.» فلما جاء هذا الكتاب إلى عمرو أمر بالكتب فوزعت على حمامات للإسكندرية لتوقد بها، فما زالوا يوقدون بها ستة أشهر. ثم قال المؤلف: «فاسمع وتعجب!»
هذه هي القصة كما جاءت في اللغة العربية، وقد كتب أبو الفرج ما كتبه في النصف الثاني من القرن الثالث عشر ولم يذكر المورد الذي نقل عنه قصته، ثم نقله عنه أبو الفداء في أوائل القرن الرابع عشر، ثم المقريزي
2
بعد ذلك. حقا قد ذكر عبد اللطيف (وقد كتب حوالي سنة 1200) إحراق مكتبة الإسكندرية بأمر عمرو، لكنه لم يفصل في ذكر ذلك، ويلوح أنه روى ذلك الخبر مصدقا، وهذا يدل على أن تلك القصة كانت متداولة في أيامه، ولكن لم يرد لها ذكر مكتوب قبل مضي خمسة قرون ونصف قرن على فتح الإسكندرية، ويمنع من تصديقها إغفال كل الكتاب لذكرها من «حنا النقيوسي» إلى «أبي صالح». ولعل قائلا يقول إنها ظلت تلك القرون تتناقلها الألسن. وإن هذا الرأي يعززه أن القبط لا تزال بينهم تلك القصة يتناقلونها مع بعض خلاف فيها؛ إذ يجعلون مدة الإيقاد بالكتب سبعين يوما بدلا من ستة شهور، ولكن ليس من دليل يدل على أن أصل هذه الرواية أقدم من أيام أبي الفرج. ومعنى ذلك بقول آخر أن هذه القصة وإن كانت متداولة بين الناس تكون أخذت عن كتاب القرون الوسطى؛ فتداولها لا يمكن أن يكون دليلا على شيء، كما أنه لا يمكن أن ينقض شيئا، ولكن الشك الذي يحيط بتلك القصة يجعلها غير وثيقة في الدلالة، ولا كافية بذاتها في البرهان.
إذن علينا أن نفحص القصة كما وردت؛ فهي بلا شك قصة خلابة المظهر، وإن رد عمر على كتاب ابن العاص أشبه القول بما اعتاده أهل الشرق في ردودهم، وهذا التشابه في الأسلوب هو أقوى ما تعزز به القصة، ولكن من سوء الحظ أنه قد ورد عن عمر مثل هذا الرد في شأن إحراق كتب الفرس،
3
وهذا نظير قصة أخرى تذكر عن عمرو إذ وقع في الأسر، ثم أنجاه مولاه وردان بضربة على وجهه كانت سببا في خلاصه من الموت إذا هو انكشف أمره، فأخذت تلك القصة من موضعها ونقلها الكتاب المسلمون إلى وقت حصار الإسكندرية؛ فلعل قصة المكتبة تكون كذلك قد عزيت إلى الإسكندرية مع أنها قد تكون في أصلها قائمة على حادثة وقعت قد يكون عمر عناها بذلك القول وقضى فيها بذلك القضاء الشديد، ولكن في القصة مواضع أخرى لا تثبت إذا حملنا عليها بالنقد؛ وذلك أننا لو سلمنا أن المكتبة قد أحرقت كما قيل، لكان الأقرب إلى الأذهان أن تحرق فوق ربوة القلعة، ولكن القصة تريدنا على أن نقول إن تلك المكتبة قد كلفت الناس مشقة حملها في عيب وفرقوها بين الحمامات العدة فاتخذت وقودا مدة ستة أشهر. وما كل ذلك سوى نسيج من الباطل؛ فإن تلك الكتب إذا كان قد قضي عليها بالحرق لأحرقت حيث هي، وما كان عمرو بن العاص وقد أبى أن يعطيها لصديقه «فليبونوس» ليجعلها في أيدي أصحاب الحمامات في المدينة؛ فإنه لو فعل ذلك لاستطاع «حنا فليبونوس» أو سواه من الناس أن يستنقذوا عددا عظيما منها بثمن بخس في تلك الشهور الستة التي قيل إنها جعلت وقودا للحمامات فيها. وبعد فمما لا شك فيه أن كثيرا من الكتب في مصر في القرن السابع كانت من الرق،
4
وهو لا يصلح للوقود، وما كان أمر الخليفة ليجعله يصلح لذلك. فلنسائل إذن أنفسنا، ماذا كان من أمر تلك الكتب المخطوطة على الرق؟ وإذا نحن استبعدناها فكيف يتصور أحد أن ما يبقى من سواها يكفي لوقود أربعة آلاف حمام
5
مدة مائة وثمانين يوما؟ إن إيراد القصة على هذه الصورة مضحك، وإنه ليحق لنا أن نسمع ما فيها ونعجب.
وقد يقول قائل إن هذه الشبهات الصغيرة ليس من العدل أن يؤخذ بها، وإننا إذا أنعمنا النظر في الأمر، واستقصينا ما ذكر عنه، وفحصناه فحصا دقيقا؛ لم نجد مندوحة من الانتهاء إلى أن حريق المكتبة أمر صحيح على وجه الإجمال. ولا يسعنا مع مثل هذا القول إلا أن ندع القصة ونقدها في ذاتها ونلتمس دليلا مما هو خارج عنها لنرى هل يعززها في الجملة أو ينقضها، ولا بد لنا من النظر في أمرين نرى لهما شأنا عظيما فيما نحن بصدده؛ أولهما: هل كان «حنا فليبونوس»
6
على قيد الحياة في وقت فتح العرب؟ وثانيهما: هل كانت المكتبة باقية إلى ذلك الوقت؟ فأما الأمر الأول فإنه أمر مقرر لا يكاد يكون فيه شك؛ فإن حنا لم يكن حيا في عام 642، ولا حاجة بي إلى سرد كل ما يؤيد هذا الرأي؛ فمن المعروف أن حنا كان يكتب في عام
7
540، ولعله كان يكتب قبل تملك جستنيان، أي قبل عام 527، وقد يكون أدرك القرن السابع وعاش بضع سنين في أوله. وأما لو قلنا إنه عاش إلى عام 642، فإن سنه لا تكون عند ذلك أقل من مائة وعشرين عاما؛ فمن الجلي على ذلك أن يكون «حنا فليبونوس» قد مات منذ ثلاثين أو أربعين عاما قبل أن يدخل عمرو في الإسكندرية.
وأما المكتبة ذاتها ووجودها عند الفتح فبحث شائق، ومن أشق الأمور الانتهاء إلى قول فيه؛ فإن أول مكتبة كانت بالإسكندرية هي المكتبة الشهيرة، وكانت في حي البروكيون كما هو معلوم. ولئن كان إنشاء هذه المكتبة العظمى التي اجتمعت فيها أجل مؤلفات العالم يرجع الفضل فيه إلى «بطليموس سوتر»، فإنها لم تتحقق ولم يتم تجهيزها ويكمل نظامها إلا على يد خلفه «بطليموس فلادلفوس». والظاهر أنها كانت في جزء من مجموعة الأبنية الفخمة التي كانت تعرف بالمتحف.
8
وقد قال «سترابو» عن ذلك المتحف إنه كان في جوار قصور الملك العظيمة التي كان بناؤها على ربع مساحة المدينة. وكان بناء المكتبة له بهو عظيم في وسطه من حوله عمد مصفوفة تحيط به، وأفنية ذات آزاج. وكانت هذه الأبنية تتصل بسواها مما كان فيه مدرسة الطب والتشريح والجراحة ومدرسة الرياضيات والفلك ومدرسة القانون والفلسفة، وكان يتصل بالبناء بستان كبير وحديقة لعلم النبات ومرصد.
9
وفي ذلك كما ترى جهاز جامعة من أكبر الجامعات، ولسنا نستطيع أن نعين على وجه الدقة الموضع الذي كانت فيه المكتبة، ولا هيئة بناء المتحف، بل قد اختلف العلماء في تعيين موضع ذلك المتحف. ومن المؤلم أن سترابو لا يذكر شيئا عن المكتبة؛ فإنه لو ذكر عنها شيئا لكان دليله قاطعا في هذه المسألة، ولعرفنا الحقيقة عما رواه بعض المؤرخين القدماء من ضياع المكتبة في حريق سنة 48 للميلاد؛ أي قبل زيارته ببضع سنين؛ فقد كان قيصر عند ذلك محصورا في حي البروكيون يحيط به المصريون من كل جانب، وعليهم قائدهم «أخيلاس»، فأحرق السفن التي في الميناء، وقيل إن النار امتدت من هناك وأحرقت المكتبة فأفنتها. أما قيصر نفسه - وذلك إذا كان هو كاتب وصف ذلك الحادث - فإنه لا يشير إلى شيء من أمر نكبة كهذه، بل إنه يقول إن الإسكندرية لا تكاد النيران تسري فيها؛
10
إذ كان بناؤها لا خشب فيه، بل كان قائما على عقود وآزاج، وسقوفه من الحجر والبلاط المتجمد.
11
وإن إشارة مثل هذه لا يكون القصد منها إلا التضليل والإيهام إذا كان الكاتب يداري في أمره، ويتستر على أنه شهد إحراق مكتبة الإسكندرية، وأنه كان السبب في إحراقها. وإنه من أشق الأمور أن ننتهي إلى نهاية في أمر قيصر فنتهمه أو نبرئه. أما «بلوتارك» فلم يكن به شك في الأمر؛ إذ قال: «ولما رأى أسطوله يقع في يد عدوه اضطر أن يدفع الخطر بالحريق، فامتدت النار من المراسي في الميناء فأحرقت المكتبة.»
12
وواضح أن سنيكا قد صدق هذه القصة؛ إذ قال: «لقد أحرق في الإسكندرية أربعمائة ألف كتاب.»
13
وما أغرب ما قاله «ديوكاسيوس»
14
إذ قال: «وامتدت النيران إلى ما وراء المراسي بالميناء فقضت على أنبار القمح ومخازن الكتب. وقيل إن هذه الكتب كانت كثيرة العدد عظيمة القيمة.» وليس بنا من شك فيما كان معروفا بين الناس في القرن الرابع؛ فإن قول «أميانوس مرسلينوس»
15
واضح جلي؛ إذ وصف «مكاتب الإسكندرية التي لا تقوم بثمن، والتي اتفق الكتاب الأقدمون على أنها كانت تحوي سبعمائة ألف كتاب بذل في جمعها البطالسة جهدا كبيرا، ولقوا في سبيل ذلك عناء كبيرا، وقد أحرقتها النيران في حرب الإسكندرية عندما غزاها قيصر وخربها.» وقد كتب «أورسيوس» ما يعزز هذا القول، وذلك حيث يقول: «وفي أثناء النضال أمر بإحراق أسطول الملك، وكان عند ذلك راسيا على الشاطئ، فامتدت النيران إلى جزء من المدينة، وأحرقت فيها أربعمائة ألف كتاب كانت في بناء قريب من الحريق؛ فضاعت خزانة أدبية عجيبة مما خلفه آباؤنا الذين جمعوا هذه المجموعة الجليلة من مؤلفات النابغين.»
16
وخلاصة القول أننا نرى الأقرب إلى العقل أن نصدق ما جاء من أخبار ضياع المكتبة في حريق الإسكندرية على يد قيصر لا أن نكذبها.
ولكن بعد سبع سنوات أو ثمان من ذلك الحادث الذي وقع لقيصر أرسل «مارك أنطون» إلى الإسكندرية
17
مكتبة ملوك «برجاموس». ولا نقدر على البت في موضع هذه الكتب؛ أكان المتحف لا يزال صالحا لأن يكون لها مقرا، أم وضعت في السرابيوم، فكان ذلك منشأ مكتبة السرابيوم المتأخرة؟ فإن هذا الأمر لا يزال موضع الخلاف والبحث بين العلماء.
18
وإنا نرى الأقرب إلى الصواب تكذيب هذين الرأيين كليهما ؛ فقد رأينا فيما سلف أن المعبد الكبير معبد القيصريون كان من بناء كليوبترا أنشأته تكريما لقيصر،
19
وأن «أغسطس» أتمه بعد ذلك. وذكر أنه كان من أجل ما يحليه مجموعة كتبه. فإذا كانت مكتبة المتحف قد أحرقت، كان أقرب الأمور إلى العقل أن يجعل معبد القيصريون مقرا لمكتبة «برجاموس»، وإن لم يكن مقرا لجميعها فلا أقل من أن يجعل جزء منها فيه، ولعل ما يبقى بعد ذلك يجعل في معبد السرابيوم.
ومهما يكن من ذلك الأمر، فإن أمرين يكاد ألا يكون شك فيهما؛ أولهما: أن جزءا من بناء المتحف كان لا يزال باقيا صالحا إلى أيام «كراكلا» الذي أسال الدماء في المدينة أنهارا، وأقفل الملاهي بها، وأمر بمنع الناس من الذهاب إلى «السيسيتيا»، وهي القاعة العامة في المتحف، وكان ذلك في عام 216 للميلاد. وثاني الأمرين: أنه في أوائل التاريخ المسيحي أنشئت مكتبة كبرى بدل مكتبة المتحف التي ضاعت، وجعلت في معبد السرابيوم على قلعة «الأكروبولس». وقيل إن أورليان هدم أبنية المتحف وسواها بالأرض
20
في عام 273، وذلك عندما أوقع بحي البروكيون فخربه انتقاما من أهل الإسكندرية على ثورتهم مع «فيرموس». وهرب عند ذلك أعضاء المتحف الذين كانوا ينتسبون إليه فلجئوا إلى السرابيوم، أو خرجوا في البحر فرارا. وكانت مكتبة السرابيوم تعرف ب «المكتبة الصغرى» أو «المكتبة الوليدة»،
21
ولكنا لا نستطيع أن نعين تاريخا لنهاية «المكتبة الأم»،
22
ولا لابتداء «المكتبة الوليدة». على أنه قيل في الأخيرة إن الذي أنشأها «بطليموس فلادلفوس». ولكن هذا أمر لا شأن له ببحثنا هذا؛ فحسبنا أن نعرف أن المكتبة الأولى القديمة كانت في القرن الرابع قد قضي عليها وفنيت، وأن المكتبة الثانية الصغرى كانت عند ذلك قد مضى زمن ما على إنشائها.
إذن قد سار معهد السرابيوم على سنة الماضين في تحصيل العلم، وأنشئت جامعة بها عدد عظيم من الكتب، وبقي اسم أرسطو متصلا بالعلم الإسكندري في معهد السرابيوم،
23
كما كان من قبل متصلا بمعهد المتحف. ومعنى ذلك أن دراسة الفلسفة والعلوم بقيت على عهدها بالإسكندرية ، وهي التي جعلت تلك المدينة من قبل مقر العلوم في العالم، ولم يتغير إلا شيء واحد، وهو أن مقر الدراسة أصبح السرابيوم بعد أن كان المتحف.
ولكن كان مقدورا على السرابيوم أن يقضى عليه في أواخر القرن الرابع على يد المسيحيين يقودهم «تيوفيلوس». وقد رأينا فيما سلف كيف خرب القيصريون ونهبوا في سنة 366 في أثناء نضال ديني، وأغلب الظن أن المكتبة التي كانت فيه قد ذهبت ضحية في ذلك النضال. وكان نضال المسيحيين مع عبدة الأوثان يزداد شدة وهولا كلما زاد المسيحيون قوة، وكان السرابيوم بلا شك حصن الوثنية وملاذها، وظل الوثنيون مدة يغيرون من هناك على المدينة ويقتلون أشد المسيحيين عليهم، وقد انتفعوا في ذلك بمناعة موقع السرابيوم، فثأر المسيحيون بأن حاصروا «قلعة الأكروبولس»، ولكن قبل أن يصل النضال إلى نهايته اتفق الجانبان على تحكيم الإمبراطور فيما بينهم؛ فقضى «تيودوسيوس» للمسيحيين، وقرئ حكمه على الناس من الحزبين في ساحة السرابيوم، فهرب عبدة الأوثان المصرية القديمة، وأهوى المسيحيون إلى المعبد العظيم معبد «سرابيس»، وعلى رأسهم «تيوفيلوس»، وجعلوا يهدمونه ويخربون فيه، وكان ذلك في عام 391، ولا يختلف فيه اثنان.
فلنمض الآن إلى بحث آخر لنرى هل ضاعت المكتبة في ذلك التخريب. وإنا لا نستطيع أن نقول على وجه البت إنها قد ضاعت؛
24
فإن ذلك أمر مختلف فيه. ولا بد لنا من فحص ما يتاح لنا من أدلة بتراء لعلنا ننتهي منها إلى حكم، وأول شيء نثبته أن المعبد ذاته قد تهدم في عام 391، وكان هدمه تاما؛ إذ سوي بناؤه بالأرض ونقض من أساسه، كما قال «أونابيوس»، ولعله كان مبالغا في قوله بعض المبالغة. وقد بني في موضعه كنيسة أو أكثر من كنائس المسيحيين، ولكن لم يذكر أحد أن المكتبة قد ضاعت فيما ضاع عند ذلك؛ فلا بد لنا إذن من إثبات أحد أمرين إذا أردنا أن نثبت ضياعها: إما أن نبرهن على أن المكتبة كان مقرها ذلك المعبد، وإما أن نبرهن على أن أبنية «الأكروبولس» قد خربت جميعها في الثورة؛ إذ هدمها المسيحيون مع «تيوفيلوس».
25
ولكن أحد هذين الأمرين محقق، وهو الأمر الثاني؛ فإن المسيحيين لم يهدموا أبنية «الأكروبولس» جميعا. ومن السهل إثبات هذا؛ فقد سبق لنا البرهان على أن بقية عظيمة ذات جلال رائع كانت لا تزال باقية من بناء السرابيوم إلى القرن الثاني عشر، ولكنا نجهل كل الجهل موضع هذه البقية، كما أنا نجهل الغرض من إنشائها أولا.
26
وبقاء هذه البقية إنما يدل على أن المكتبة قد تكون بقيت سليمة إذا كانت في البناء الباقي الذي لم يصل إليه الهدم في ثورة المسيحيين، ولا يدل على أكثر من ذلك، ولكن بين أيدينا براهين تدل على موضع المكتبة ومقدار ما لحقها من التلف على يد المسيحيين، وأول هذه الأدلة ما قاله «أفطونيوس»، وقد زاد السرابيوم في القرن الرابع قبل تدميره بزمن.
27
وثاني هذه الأدلة ما قاله «روفينوس»، وقد شهد ذلك التخريب وكتب ما كتبه بعده. وقول كل من هذين الكاتبين يكمل قول الآخر ويصدقه، ولكن من العجيب أن أحدهما لا يذكر المعبد في قوله ولا يشير إليه، في حين أن الثاني لا يذكر المكتبة ولا يشير إليها، ولكن مع ذلك لا شك في أن «أفطونيوس» يلحق المكتبة بالمعبد، ولا يلحقها بأي بناء آخر من أبنية «الأكروبولس»،
28
كما لا شك في أن المكتبة كانت في وقت زيارته للإسكندرية قائمة هناك مفتوحة الأبواب كعادتها لمن يقصدها من طلاب العلم والقراءة.
فإذا نحن آمنا بأن المكتبة كانت ملحقة بالمعبد، وبأن المعبد قد خرب ودمر؛ فكيف يمكن أن نقول إن المكتبة قد نجت ولم تصر إلى ما صار إليه المعبد؟ لا سيما وقد كان خراب المعبد كاملا؛ إذ نقض من أساسه وسوي بالأرض. قال «أونابيوس»:
29 «إنهم خربوا السرابيوم وحطموا أوثانه، ولم تبق إلا الجدران ذاتها؛ إذ عجزوا عن إزالة تلك القطع العظيمة من الحجارة.» وقال «ثيودوريت» في وصف هذه الحوادث عينها: «ونزعت محاريب الأصنام من أساسها.»
30
وقال سقراط: «وأمر الإمبراطور بهدم كل معابد الوثنيين في الإسكندرية.» ثم قال: «فهدم «تيوفيلوس» معبد سرابيس.» وقال: «وهدمت المعابد، وصهرت الأوثان التي من معدن البرونز، واتخذت منها الأواني.»
31
وقال في موضع آخر: «إنه قد كشفت حجارة عليها نقوش بالحرف المصري القديم عندما كان الناس يهدمون معبد السرابيوم.» وقال مثل ذلك «سوزومن»،
32
وهو يقول إن المسيحيين استولوا على السرابيوم منذ أخذه «تيوفيلوس» إلى وقته الذي كتب فيه. وكل هؤلاء الكتاب كما ترى ممن كتب في النصف الأول من القرن الخامس؛ وعلى ذلك يكادون يكونون كلهم ممن عاشوا في وقت واحد. ومما يؤسف له أنهم لم يقولوا في المكتبة قولا صريحا فنعلم مصيرها على غير شك، ولم يذكروا شيئا عن تخريب أبنية «الأكروبولس» الأخرى، ولم يرد شيء من الإيضاح إلا فيما كتبه «روفينوس»؛ فإنه يذكر أن الأبنية التي كانت تكتنف الربوة من خارجها لم يمسها ضر، وكل ما لحقها أن عبدة الأوثان أخرجوا منها. ويقول إن هذه الأبنية هي التي بقيت بما كان فيها من قاعات الدرس وأروقة البيت، في حين أن معبد سرابيس الأكبر وما كان فيه من عمد لم يبق فيه حجر على حجر، بل سوي بالأرض.
33
إذن فالأمر كما يلي: قد ثبت أن المكتبة كانت في حجرات متصلة ببناء المعبد، شأنها في ذلك شأن المشاهد التي كانت للأصنام المصرية القديمة، وثبت أن بناء ذلك المعبد كله قد هدم وخرب، فلا بد أن تكون المكتبة قد لحقها الخراب نفسه.
34
وقد يقول قائل لعل الكتب قد أنجيت من ذلك الدمار الذي لحق البناء الذي كانت فيه، بل لقد قيل إن تلك الكتب قد نقلت جميعها؛ إذ نقلها «جورج القبادوقي» من هناك قبل ثورة المسيحيين بقيادة «تيوفيلوس»، وقبل أخذهم المعبد بثلاثين سنة، وقيل كذلك إنه عندما أخذ المسيحيون «الأكروبولس» أرسلت تلك الكتب إلى القسطنطينية.
35
وإنه لمما يشك فيه أن يكون الناس الثائرون قد أبقوا على تلك الكتب وأشفقوا على تلك الكنوز أن تضيع، وهي في نظرهم كتب الوثنيين قد وضعوها هناك وديعة عند الوثن الأكبر. إنهم خليقون ألا يفعلوا ذلك وهم الذين حطموا أوثان «سرابيس» وأحرقوا حطامه،
36
ولم يبقوا في معبده حجرا قائما؛ ذلك المعبد الذي كان آية العظمة والإبداع في بلاد العالم. وإنا لنعجب من إغفال كتاب العصر ذكر هذا الحادث، ولكنا مع ذلك نجد الأقرب إلى الأفهام أن تلك الكتب قد ضاعت طعمة اللهيب
37
الذي أحرق وثن «سرابيس»، وأنها لم تنزع من براثن ذلك التخريب الذي مزق المعبد كله، ولم ترسل في البحر إلى موضع آخر. وقد نقل عن «أوروسيوس» أنه رأى الرفوف أو الصناديق في السرابيوم فارغة ليس عليها شيء من الكتب. فإذا صح ذلك لكان دليلا على أن الكتب لم يكن لها وجود منذ سنة 416، وذلك هو العام الذي كتب فيه «أوروسيوس»، ولكان ذلك دليلا على أن بناء المكتبة بقي إلى ذلك الوقت قائما، ولكن ذلك قول غير دقيق، ولفظ الرواية لا يبرره؛
38
فإن «أوروسيوس» لا يذكر بناء السرابيوم، بل يذكر حريق مكتبة المتحف، ويدلي بحجته على النحو الآتي بوجه التقريب: «إذا فرض أننا نرى اليوم رفوفا مما توضع عليها الكتب (في بعض المعابد)، وإذا فرض أنها فارغة ليس عليها شيء قد خلت من الكتب لما أصابها من أيامنا هذه، إذا فرض ذلك ثبت منه أنه قد كانت في تلك المواضع مكاتب في الأزمان القريبة من عهدنا، ولكن لا يثبت منه أن مكتبة قد بقيت وكانت جزءا من مكتبة المتحف القديمة، وأنها نجت من النيران بأن وضعت في بناء آخر، بل إن الذي نستطيع أن ننتهي إليه أنه قد جمعت كتب أخرى تقليدا للمكتبة القديمة، وكان جمعها بعد الحريق.»
هذه حجة «أوروسيوس» يريد بها أن يبرهن على أنه لم ينج شيء من المكتبة القديمة التي أنشأها البطالسة، ولم يشر فيها إلى مكتبة السرابيوم.
39
وقد عزز هذا الرأي كتاب آخرون، من بينهم «ماتر»، وهذا هو الحق بعينه، ولكن ذلك القول له دلالة من وجهتين؛ فإنه إذا كان لقول «أوروسيوس» معنى لا يختلف فيه اثنان، فهو أنه لم تكن في عصره مكتبة قديمة عظيمة في الإسكندرية؛ إذ لو كان في عصره مكتبة كبرى بمعبد السرابيوم لما أغفل «أوروسيوس » ذكرها في أثناء قوله الذي بيناه آنفا؛ وعلى ذلك يمكن أن نقول إن «أوروسيوس» وإن لم يشهد تدمير مكتبة السرابيوم في عام 391، قد شهد أنها لم تكن في الوجود في عام 416.
ولكنا لم ننته بعد من برهاننا على النقطة التي نحن بصددها، وهي أن المكتبة لم يكن لها وجود في القرن السابع؛ فإنه لا يستطيع أحد أن يقول إن كل كتب الإسكندرية قد ضاعت في أثناء تلك الحروب الشعواء التي شنت على المكاتب، أمثال حرب «دقلديانوس» على مؤلفات المسيحيين، وحرب «تيوفيلوس» على مؤلفات الوثنيين؛ فلا بد أنه قد بقيت بعد تخريب المكاتب العامة الكبرى بقية كبرى من تلك الكتب في ملك أفراد الناس، أو في مكاتب الأديرة البعيدة. وإن بقاء العلم في الإسكندرية لم تنطفئ أنواره ليقوم وحده دليلا على بقاء الكتب وانتفاع الناس بها، غير أننا نستبعد كل الاستبعاد أن تكون مكتبة السرابيوم الكبرى قد بقيت إلى القرن السابع، من غير أن نجد في كتابة أحد من كتاب القرنين الخامس والسادس ما يدل على وجودها دلالة صريحة لا لبس فيها ولا إبهام. ولنذكر من ذلك مثلا واحدا وهو «حنا مسكوس»، وقد سبق لنا ذكر زيارته لمصر مع صديقه «صفرونيوس» قبل فتح العرب بسنين غير كثيرة. وقد بينا ما كان عليه هذان الرجلان من محبة العلم، وشغفهما بالكتب وما يتصل بها،
40
وقد كتبا مقدارا عظيما، وسافرا إلى كثير من بلاد مصر وأقاما فيها زمنا طويلا، ولكنا لا نرى في كتاب من كتبهما إذا قلبناها واستوعبنا قراءتها ذكرا لمكتبة عامة في البلاد اللهم إلا لمكاتب أفراد الناس؛ وعلى ذلك يكون قد مر قرنان لا تذكر فيهما تلك المكتبة. وجاء في آخر هذين القرنين كاتبان مكثران، وهما «حنا مسكوس» و«صفرونيوس»، وهما لا يذكران عنها شيئا. ولا يتأتى مع كل هذا أن يقول قائل إن الإسكندرية كانت مكتبة عامة كبرى عندما فتحها العرب.
بقي علينا أن نثبت أمرا أو أمرين؛ فإننا إذا سلمنا بأن كل ما سبق إيراده من الحجج لم يكف لأن يزعزع رأي من يذهبون إلى بقاء مكتبة السرابيوم، ثم سلمنا بأن تلك المكتبة بقيت على عهدها حتى فتح العرب الإسكندرية، إذا سلمنا بذلك كان أبعد الأمور أن يكون العرب قد أتلفوها ودمروها. ولذلك سبب نورده؛ فإن العرب لم يدخلوا المدينة إلا بعد أحد عشر شهرا من الفتح، وقد جاء في شروط الصلح أن الروم في مدة الهدنة لهم أن يخرجوا من البلد إذا شاءوا، وأن يحملوا معهم كل ما استطاعوا نقله من متاعهم وأموالهم،
41
وكان البحر في كل هذه المدة خاليا من العدو لا يقف شيء فيه بين الروم وبين القسطنطينية أو سواها من ثغور البحر، فلو كانت مكتبة السرابيوم عند ذلك باقية لطمع الناس في ثمن كتبها، وأغراهم ذلك بنقلها إن لم يغرهم شيء آخر؛ إذ كانت كتبا قيمة عظيمة القدر يقبل على شرائها كثير من الناس الذين لهم شغف بالعلوم وطلبها، وكان لا بد لمثل هؤلاء أن يكونوا على مثال الشخص الذي جاء في القصص وهو «حنا فليبونوس»، فيسعوا إلى نقل تلك الكنوز العلمية في وقت الهدنة إذا كانت الفرصة ممكنة، وما كانوا ليتركوها تقع لمحاربي الصحراء الذين لا علم لهم بقيمتها، وهم على وشك أن يدخلوا المدينة.
وبعد، فإن الصمت الذي يلزمه كتاب القرنين الخامس والسادس، وإغفالهم ذكر تلك المكتبة، بقي إلى ما بعد الفتح؛ فلم يكن بين العرب مؤرخون كتبوا عن تاريخ مصر في القرنين السابع والثامن. وقد يقال إن متأخري الكتاب تعمدوا إغفال ذكرها، ولكننا لا نستطيع أن نقول ذلك عن «حنا النقيوسي» الأسقف المصري، وقد كان رجلا من أهل العلم، وكانت كتابته قبل القرن السابع، وقد كتب في ديوانه الأخبار المفصلة، وأحاط فيه بمختلف الأحداث. وفي هذا دلالة على أنه كان عظيم الاطلاع، واسع العلم بالأخبار، ولم يفصل بينه وبين فتح العرب إلا خمسون عاما. وإن أبا الفرج نفسه (صاحب القصة التي يتهم فيها العرب) ليشهد بأن الإسكندرية بقيت مقصدا لطلاب العلم إلى حوالي سنة 680 للميلاد؛ فإنه يذكر أن «يعقوب الأذاسي» ذهب إلى الإسكندرية ليتم تحصيله للعلم بعد أن أتم درس اللغة اليونانية والكتاب المقدس في أحد الأديرة بالشام.
42
وهذا يدل على أن بعض المكتبات كانت لا تزال باقية بمصر عند أفراد الناس وفي الأديرة بعد الفتح كما كان قبله، وإلا فلو كان في المدينة مكتبة عامة كبرى قبل الفتح ثم أحرقها العرب عند فتحهم لها، لما أغفل ذكر هذا الحادث رجل مثل «حنا النقيوسي»؛ كاتب قريب العهد بالفتح، قد أفاض في ذكر الإسكندرية، وفصل في وصف فتحها، وما كان ليبيح لنفسه أن يدع للنسيان حادثة كان لها عظيم الأثر؛ إذ ذهبت بما كان يمكنه الاعتماد عليه في كتابة تاريخه، وحرمت العالم أجمع من كنز من أكبر كنوز العلم حرمانا أبديا.
ولعلنا لا نكون مخطئين إذا نحن أجملنا فيما يلي أدلة حجتنا؛ فإن قصدنا أن نبين حقيقة أمر مكتبة الإسكندرية، ومقدار نصيب قصة إحراق العرب لها من الصحة أو الكذب. وقد بينا فيما سلف الأمور الآتية: (1)
أن قصة إحراق العرب لها لم تظهر إلا بعد نيف وخمسمائة عام من وقوع الحادثة التي نذكرها. (2)
أننا فحصنا القصة وحللنا ما جاء فيها، فألفيناه سخافات مستبعدة ينكرها العقل. (3)
أن الرجل الذي تذكر القصة أنه كان أكبر عامل فيها مات قبل غزوة العرب بزمن طويل. (4)
أن القصة قد تشير إلى واحدة من مكتبتين؛ الأولى: مكتبة المتحف، وهذه ضاعت في الحريق الكبير الذي أحدثه قيصر، وإن لم تتلف عند ذلك كان ضياعها فيما بعد في وقت لا يقل عن أربعمائة عام قبل فتح العرب. وأما الثانية، وهي مكتبة السرابيوم: فإما أن تكون قد نقلت من المعبد قبل عام 391، وإما أن تكون قد هلكت أو تفرقت كتبها وضاعت، فتكون على أي حال قد اختفت قبل فتح العرب بقرنين ونصف قرن. (5)
أن كتاب القرنين الخامس والسادس لا يذكرون شيئا عن وجودها، وكذلك كتاب أوائل القرن السابع. (6)
أن هذه المكتبة لو كانت لا تزال باقية عندما عقد «قيرس» صلحه مع العرب على تسليم الإسكندرية، لكان من المؤكد أن تنقل كتبها، وقد أبيح ذلك في شرط الصلح الذي يسمح بنقل المتاع والأموال في مدة الهدنة التي بين عقد الصلح ودخول العرب في المدينة، وقدر ذلك أحد عشر شهرا. (7)
لو صح أن هذه المكتبة قد نقلت، أو لو كان العرب قد أتلفوها حقيقة، لما أغفل ذكر ذلك كاتب من أهل العلم كان قريب العهد من الفتح مثل «حنا النقيوسي»، ولما مر على ذلك بغير أن يكتب حرفا عنه.
ولا يمكن أن يبقى شك في الأمر بعد ذلك؛ فإن الأدلة قاطعة، وهي تبرر ما ذهب إليه «رينودو» من الشك في قصة أبي الفرج، وما ذهب إليه «جبون» من عدم تصديقها. ولا بد لنا أن نقول إن رواية أبي الفرج لا تعدو أن تكون قصة من أقاصيص الخرافة ليس لها أساس في التاريخ.
43
الفصل السادس والعشرون
فتح «بنطابوليس»
رأى عمرو بن العاص أنه بفتح الإسكندرية قد قضى على سلطان الروم في مصر، ولكنه لم ير أنه قد أتم ما كان ينبغي له من الفتح، وقد خرج جيش الروم من مصر وشرط عليه ألا يعود إليها، ولم تبق من المقاومة في مصر إلا جذوة صغيرة في أقصى أرض مصر السفلى، وقد اعتصم أصحابها بموانع من طبيعة أرضهم من نهر أو بحيرة، ولكن تلك المقاومة لم تكن لتحدث في مصير البلاد أثرا، فبقيت مدينة المنزلة كما رأينا على نضالها أشهرا عدة بعد دخول العرب الإسكندرية، وجاءت الأمداد تترى إلى مصر منذ جاء أولها من فرسان العرب مع الزبير، فأدركوا عمرو بن العاص وأغاثوه وهو بين عيني الخطر، فكانت تلك الأمداد تحل محل من يلقى الشهادة من المسلمين في الحرب، وزادتهم فوق ذلك عددا، فأصبح عمرو وقد صار معه جيش عظيم فوق ما كان من المسالح في الحصون والمدائن الكبرى، وما كان من الجند في قتال البلاد التي كان العدو لا يزال يناجز فيها ويقاوم.
وكان عمرو يميل إلى التوسع في الفتح بطبعه، وكان الإسلام في نشأته يرى أن ينشر علمه على الآفاق، فما إن أمن العرب على مصر ولما ينقض فيها القتال كله، حتى عول قائدهم على إنفاذ بعث إلى بنطابوليس، وهو الإقليم الذي يلي مصر غربا من بلاد الدولة الرومانية. ولا بد أن يكون عمرو قد أقام نظام الحكم في وادي النيل في مدة شهور الهدنة الأحد عشر، حتى إذا ما انقضت تلك الهدنة ودخل العرب الإسكندرية لم يبق عليه إلا أن يقيم للمدينة وحدها نظامها. ولو كان الأمر غير ذلك لما استطاع عمرو أن ينفذ بعثة إلى بلاد المغرب بعد مثل ذلك الزمن القصير من فتح العاصمة؛ فإنه أنفذه في تاريخ لا يمكن أن يقع بعد أول عام 643
1
بزمن طويل.
وقد بينا من قبل عند الكلام عن ثورة هرقل على فوكاس، أنه قد كان في القرن السابع سلسلة من المدائن والمنازل على الطريق بين الإسكندرية و«قيرين»، وأن أكثر الطريق كان في أرض خصبة ذات زرع.
2
وإذا قلنا إن السير في ذلك الطريق كان سهلا على جند الروم، فإنه كان نزهة لفرسان العرب،
3
ولم يلقوا في سيرهم هذا كبير كيد؛ فلا يذكر أنه قد وقع قتال حتى بلغ العرب «برقة». والظاهر أنها سلمت لهم صلحا على أن تدفع للعرب ثلاثة عشر ألف دينار جزية معلومة كل عام.
4
وقد جاء في شروط ذلك الصلح شرطان عجيبان: الأول أنه أبيح لأهل برقة أن يبيعوا أبناءهم ليأتوا بالجزية المفروضة، والثاني أنه كان عليهم أن يحملوا الجزية إلى مصر حتى لا يسمح بدخول جباة لجزية إلى بلادهم. وقد قال ياقوت إن أكثر أهلها أسلموا. وسار عمرو بعد فتح برقة إلى طرابلس، وكانت أمنع حصونا وأعز جيشا؛ فقد كانت بها مسلحة كبيرة من الروم، فأقفلت أبوابها وصبرت على الحصار الذي وضعه العرب عليها بضعة أسابيع.
5
وكان البحر من ورائها خاليا من العدو، ولكن لم يأتها إمداد منه، حتى إذا ما كاد جيشها يهلك من جهد القتال وشدة الجوع، عرف العرب أن المدينة كانت غير محصنة من قبل البحر، وأنهم يستطيعون النفوذ إليها من هناك. فدخل جماعة منهم بين أسوار المدينة والبحر، وقاتلوا عدوهم من هناك، وصاحوا صيحتهم: «الله أكبر!» فترددت أصداؤها في طرق المدينة، ولمعت سيوفهم المهندة، فذعر المدافعون عن المدينة، وحملوا ما استطاعوا حمله من متاعهم، وأسرعوا إلى السفن وحلوا قلوعها. وفي أثناء ذلك ترك الحراس الأبواب، ودخل عمرو بجيشه إلى المدينة.
سار عمرو مسرعا كما اعتاد السير، فطلع بغتة على مدينة سبرة،
6
وهاجمها في أول الصباح، وأخذ الناس على غرة؛ إذ كانوا يظنون أن العرب لا يزالون في شغل من حصار طرابلس؛ ولهذا فتحت المدينة عند أول حملة حملوها عليها، وكان أخذها عنوة، فأعمل فيها العرب النهب، وكان هذا ختام تلك الحرب السريعة. فعاد عمرو إلى برقة، وجاءت إليه من قبائل البربر قبيلة لواتة
7
فدانت له، وهي جل من كان يسكن تلك البلاد. فلما تم له ذلك عاد بجيشه المنصور إلى مصر
8
ومعه عدد عظيم من الأسرى ومقدار كبير من الغنائم.
وقيل إن عمرو بن العاص أحب أن يتخذ الإسكندرية مقرا له، ولا سيما وأنه وجد بها قصورا كثيرة من أجل القصور خالية من أصحابها، ولكن عمر بن الخطاب كان قد عول على أن يجعل الفسطاط عاصمة مصر المستقبلة؛ فإنه لم يشأ أن يجعل الأمير الذي أقامه يتخذ عاصمته في مدينة عظيمة على ساحل البحر، جاعلا بينه وبين صحراء العرب مجاري الترع المتشبكة الآخذة من النيل. ولعل عودة عمرو إلى حصن بابليون كانت في صيف سنة 643، وكان جسرا النيل قد أعيدا هناك فأقيما بين الروضة وبابليون على الشاطئ الشرقي، وبينها وبين الجيزة على الشاطئ الغربي،
9
ولكن الشاطئ الغربي ومدينة منفيس التي كانت عليه كانا عرضة للغارات المباغتة من قبائل الصحراء الضاربة فيما وراء الأهرام، فأمر عمرو ببناء قلعة في الجيزة تدفع المغيرين من قبلها، وتمكن للعرب في جانب النيل الآخر، فيكون سلطانهم مبسوطا على الضفتين معا، فتم ذلك قبل حلول شهر نوفمبر من ذلك العام.
10
أصبح السلام سائدا عند ذلك في كل بلاد مصر السفلى وبلاد وادي النيل إلى حدوده الجنوبية عند أسوان، ولكن السودان كان عند ذلك قذى في عين حكام مصر، وهو لا يزال كذلك في كل العصور؛ وذلك لأن قبائله لا يسهل قيادها، وكانت في جبالها أو صحرائها لا ترضى بدين المسيح بدلا، ولا تحب الدخول في الإسلام، ولا تزال تنظر إلى بلاد مصر ذات الخيرات أنها غنيمة لها كما كانت لآبائها وأجدادها لا تدع الإغارة عليها. وقد أرسل عمرو إلى بلاد النوبة جيشا يغزوها، ولكن لم يستطع أن يهزم أهلها، بل اضطر إلى العودة
11
بعد أن لحقت به خسارة عظيمة مما أصاب الناس من سهام رماة النوبة الذين سماهم العرب بعد ذلك رماة الحدق. وبقي القتال بعد ذلك ينشب بين حين وحين مدة بضع سنين إلى أيام خلافة عثمان، فعقد صلحا مع أهل النوبة على أن يدفعوا كل عام جزية من العبيد إلى والي مصر، وشرط لهم العرب أن يرسلوا إليهم خلعة ومئونة. ومن ذلك يظهر أن الصلح كان صلح ندين؛ إذ لم يكن الوقت قد حان لفتح بلاد السودان.
12
كانت بلاد مصر في أثناء هذا آخذة في الاستقرار والاطمئنان تحت حكم عمرو بن العاص، وكان عادلا في حكمه لين الجانب لرعيته، بدا ذلك منه بعد أن هدأت سورة الفتح، وذهبت إحن القتال والنضال التي عصفت بالبلاد زمنا. وقد أرسل إلى الخليفة وصفا لمصر؛ إذ طلب عمر ذلك منه، وهذا الوصف آية دالة على عمرو، يبدو فيها شاعرا معسول القول، وحاكما عظيم الكياسة، وهو في نثر مسجوع ننقله فيما يلي:
13 «اعلم يا أمير المؤمنين أن مصر قرية غبراء، وشجرة خضراء. طولها شهر، وعرضها عشر. يكنفها جبل أغبر، ورمل أعفر. يخط وسطها نيل مبارك الغدوات، ميمون الروحات، تجري فيه الزيادة والنقصان كجري الشمس والقمر، له أوان يدر حلابه، ويكثر فيه ذبابه، تمده عيون الأرض وينابيعها، حتى إذا اضلخم عجاجه، وتعظمت أمواجه، فاض على جانبيه، فلم يكن التخلص من القرى بعضها إلى بعض إلا في صغار المراكب، وخفاف القوارب، وزوارق كأنهن في المخايل ورق الأصائل. فإذا تكامل في زيادته، نكص على عقبيه كأول ما بدا في جريته، وطما في ذرته، فعند ذلك تخرج أهل ملة محقورة، وذمة مخفورة،
14
يحرثون بطن الأرض، ويبذرون بها الحب، يرجون بذلك النماء من الرب، لغيرهم ما سعوا من كدهم، فناله منهم بغير جدهم. فإذا أحدق الزرع وأشرق سقاه الندى، وغذاه من تحته الثرى. فبينما مصر يا أمير المؤمنين لؤلؤة بيضاء، إذا هي عنبرة سوداء، فإذا هي زمردة خضراء، فإذا هي ديباجة رقشاء، فتبارك الله الخالق لما يشاء، الذي يصلح هذه البلاد وينميها، ويقر قاطنيها فيها ألا يقبل قول خسيسها في رئيسها، وألا يستأدى خراج ثمرة إلا في أوانها، وأن يصرف ثلث ارتفاعها في عمل جسورها وترعها. فإذا تقرر الحال مع العمال في هذه الأحوال، تضاعف ارتفاع المال، والله تعالى يوفق في المبدأ والمآل.»
15
وتبدو حكمة فاتح مصر عينها في خطبته التي قالها في مسجده، وهو الذي يسمى جامع عمرو إلى يومنا هذا، وذلك في يوم الجمعة من أيام عيد الفصح من عام 644،
16
وقد رواها عنه رجل ممن سمعه كان عند ذلك مع أبيه في المسجد، فرأى رجالا يزجرون الناس بالسياط عند ازدحامهم، وسمع المؤذن يقيم الصلاة، ثم رأى عمرو بن العاص قام على المنبر. وقد أثرت هيئة عمرو في نفس ذلك الشاب المسلم؛ إذ كان ربعة قصير القامة وافر الهامة، أدعج أبلج، ورأى عليه ثيابا موشية كأن بها العقيان يأتلق.
17
فلما قام عمرو حمد الله وأثنى عليه، وصلى على نبيه، ثم أمر الناس بالإحسان والصدقة وطاعة الوالدين، وأمرهم بالقصد ونهى عن الإفراط والفضول، وحذر المسلمين مما يسبب لهم النصب بعد الراحة، والضيق بعد السعة، والذلة بعد العزة. وهذه الأمور التي حذرهم منها هي كثرة العيال، وإخفاض الحال، والقيل بعد القال. ثم بين لهم أن الإفراط في الفراغ واتباع الشهوات أكبر أسباب الضياع والفساد؛ إذ هي تقضي على فضائل النفس. ثم قصد عمرو بعد ذلك إلى معنى آخر، فقال: «يا معشر الناس إنه قد تدلت، الجوزاء وذكت الشعرى، وأقلعت السماء، وارتفع الوباء، وقل الندى، وطاب المرعى، ووضعت الحوامل، ودرجت السخائل، وعلى الراعي بحسن رعيته حسن النظر، فحي لكم على بركة الله إلى ريفكم، فنالوا من خيره ولبنه، وخرافه وصيده، وأربعوا خيلكم وأسمنوها، وصونوها وأكرموها؛ فإنها جنتكم من عدوكم، وبها مغانمكم وأنفالكم، واستوصوا بمن جاورتموه من القبط خيرا، وإياكم والمسومات والمعسولات؛ فإنهن يفسدن الدين ويقصرن الهمم. حدثني عمر أمير المؤمنين أنه سمع رسول الله
صلى الله عليه وسلم
يقول: «إن الله سيفتح عليكم بعدي مصر، فاستوصوا بقبطها خيرا؛ فإن لكم منهم صهرا وذمة.» فكفوا أيديكم، وعفوا فروجكم، وغضوا أبصاركم،
18
ولا أعلمن ما أتى رجل قد أسمن جسمه وأهزل فرسه، واعلموا أني معترض الخيل كاعتراض الرجال، فمن أهزل فرسه من غير علة حططته من فريضته قدر ذلك. واعلموا أنكم في رباط إلى يوم القيامة لكثرة الأعداء حولكم، وتشوق قلوبهم إليكم وإلى داركم؛ معدن الزرع والمال والخير الواسع والبركة النامية. وحدثني عمر أمير المؤمنين أنه سمع رسول الله
صلى الله عليه وسلم
يقول: «إذا فتح الله عليكم مصر فاتخذوا فيها جندا كثيفا؛ فذلك الجند خير أجناد الأرض.» فقال له أبو بكر: «ولم يا رسول الله؟» قال: «لأنهم وأزواجهم في رباط إلى يوم القيامة.»
19
فاحمدوا الله معشر الناس على ما أولاكم، فتمتعوا في ريفكم ما طاب لكم. فإذا يبس الزرع، وسخن العمود، وكثر الذباب، وحمض اللبن، وصوح البقل، وانقطع الورد من الشجر؛ فحي إلى فسطاطكم على بركة الله. ولا يقدمن أحد منكم ذو عيال على عياله إلا ومعه تحفة لعياله على ما أطاق من سعته أو عسرته.
أقول قولي هذا وأستحفظ الله عليكم.»
ويروي المسلمون رواية عجيبة، وهي أن من أول ما صنعه عمرو بمصر أن أبطل عادة كان المصريون يتبعونها كل عام، بأن يضحوا بفتاة عذراء يلقونها في النيل حتى يفيض. ويقال إن النيل لما امتنعت هذه العادة القديمة بأمر عمرو لم يعل وأبى أن يفيض، حتى كتب الخليفة عمر كتابا ألقى فيه فعلا وفاض.
20
وهذه ولا شك قصة من أقاصيص الخرافة؛ فليس فيما اعتاده مسيحيو مصر ما يدعو إلى تصديق أنهم كانوا يبيحون التضحية بالبشر، وليس من سبب يدعونا إلى تصديق سر كتاب عمر وقوته العجيبة. على أن هذه القصة تشبه أكثر أمثالها من الأقاصيص في أن لها أساسا من الحقيقة التاريخية كما يلوح؛ فقد كان من عادة أهل السودان حقيقة في أقصى أنحائه الجنوبية أن ترمي قبائله الهمج في النهر بفتاة عذراء في زينة الزفاف.
21
ولعل عادة كهذه كانت متبعة في بعض جهات الهمج من بلاد النوبة التي فتحها الإسلام في أول أمره، ولعل عادة التضحية بفتاة ترمى في النهر كانت متبعة في مصر في أيام الفراعنة. وإنه من المحقق أن الاحتفال بالنيل والدعاء من أجل زيادته وفيضه كانت تقع فيه أعمال خرافية كثيرة تختلف من العصور القديمة، ولكنها لم يكن فيها شيء مثل ذلك الجرم من التضحية بالعذراء. وقد بقيت بقية كبيرة من هذه الخرافات القديمة العهد في الاحتفال بالنيل إلى أيام القرن الرابع عشر،
22
ولكنه من أكذب الكذب أن يتهم المسيحيون بأنهم حافظوا على مثل هذه العادة الشنيعة التي لا ترضى عنها ديانتهم، ولا تقرها ملتهم.
وإن قول عمرو الذي اقتبسناه فيما سلف من قولنا ليدل دلالة واضحة على طريقته في الحكم، وعلى ما أراد أن يصله من الصلة بين الغزاة الفاتحين وأهل البلاد. وعندنا دليل أكبر دلالة على هذا الميل وتلك النزعة فيما كتبه عمرو في أمره الذي أمره بتأمين البطريق بنيامين وإعادته إلى سابقة ولايته، وقد حدا به إلى انتهاج تلك الخطة أنه رأى أن أمور السياسة لا تستقر في هذا البلد إلا إذا استقرت معها أمور الدين.
الفصل السابع والعشرون
إعادة بنيامين
لما مات البطريق الروماني «قيرس»، ورحلت عن مصر جيوش الروم التي كان سلطانه يعتمد عليها، حدث تغير كبير في حال الأحزاب الدينية؛ إذ انقضى بذلك أمد البلاء الأكبر الذي حل طويلا بالناس من جراء الاضطهاد. وقد أقيم خلفا لبطريق الرومان في الإسكندرية ليقوم على ولاية أمر المذهب الملكاني، ولكن ولايته كانت لا تتعدى أسوار المدينة، وذهب عنه سلطانه، وانفض من حوله كثير من أتباعه، ولكن بطريق القبط كان لا يزال على اختفائه طريدا يضرب في أنحاء الصعيد ويهيم على وجهه فيه؛ فكان يخيل إلى الناس أن مذهبه قد بات صريعا لا تكاد الحياة تدب فيه؛ مما أصابه من الوطء والعسف في محنته التي تطاولت به مدتها نحو عشر سنوات على يد قيرس الذي كان لا يعرف الرحمة، ولا تخطر على قلبه هوادة. وقد أصبحت مصر بعد وليس دينها دين المسيح؛ إذ وضعت عليها حماية الإسلام تعلو أحزابها جميعا، وأصبح سيفه بينها فيصلا حائلا؛ فأدى ذلك إلى تنفس الناس في عباداتهم، واختيار ما يشاءونه في تدينهم، فلم يكن بالمسلمين اهتمام لمنازعات الأحزاب في شأن مجمع خلقيدونية، واختلافهم في صدق ما أقره ذلك المجمع أو كذبه، وأصبح القبط في مأمن من الخوف الذي كان يلجئهم إلى إنكار عقيدتهم أو إخفائها تقية ومداراة؛ فعادت الحياة إلى مذهب القبط في هذا الجو الجديد، جو الحرية الدينية، وما لبث أن صار مذهب الكثرة الذي يحق له أن يكون مذهب الأمة السائد، وقد قضى عمرو بن العاص بأنه كذلك، وأنفذ قضاءه بأن كتب أمانا لبنيامين وأقر عودته.
وقيل إن الذي حدا بعمرو إلى المبادرة بهذا الأمر ما أبلغه إياه رجل اسمه سنوتيوس (أو هو شنودة)، وكان من قبط مصر، إلا أنه كان مع ذلك من بين قواد جيش الرومان،
1
ولكن الموضع الذي كان به «بنيامين» كان مجهولا
2
لا يعلم به أحد، ولا يعرفه «شنودة» نفسه؛ وعلى ذلك كان لا بد من كتابة أمر الأمان على هيئة كتاب لا تخصيص فيه، وكانت صورته كما يلي: «أينما كان بطريق القبط بنيامين نعده الحماية والأمان وعهد الله، فليأت البطريق إلى هاهنا في أمان واطمئنان ليلي أمر ديانته، ويرعى أهل ملته.»
3
وليس بالمستبعد أن يكون سعي «شنودة» هذا كان في الوقت الذي جاء فيه رهبان وادي النطرون إلى عمرو يظهرون له الطاعة لحكم المسلمين؛ فقد روى المقريزي نقلا عن بعض مؤرخي المسيحيين أن سبعين ألفا من الرهبان خرجوا من تلك الأديرة للقاء عمرو بن العاص، وكان كل منهم يحمل في يده عصا. فلما دانوا له بالطاعة أعطاهم كتابا لا شك أنه كان «عهد أمان»، ولعله كان العهد الذي نذكره الآن، وهو عهد بنيامين.
4
وقد دخلت مبالغة كبيرة على عدد الرهبان كما جرت عادة العرب في إخبارهم؛ إذ يزيدون في العدد زيادة تخرج به عن تصور الأفهام. ولا يمنعنا شيء من أن نصدق أن جماعة من الرهبان قد خرجوا إلى عمرو في نحو سبعين أو سبعمائة منهم فأحسن لقاءهم ورحب بهم؛ فإنا لا نجد بأسا بمثل هذا الخبر، ويمكن للتاريخ أن يسيغه.
ولم يلبث عهد الأمان أن بلغ بنيامين فعاد من مخبئه، ودخل إلى الإسكندرية دخول الظافر، وفرح الناس برجوعه فرحا عظيما بعد أن بلغت مدة غيابه ثلاثة عشر عاما منذ هجر مقره وهرب إلى الصحراء الغربية عند مقدم «قيرس»، ومن هذه المدة عشر سنين وقع فيها الاضطهاد الأكبر، والثلاث الباقية كانت في مدة حكم المسلمين.
5
وكان بنيامين في كل هذه المدة يتنقل خفية بين أصحاب مذهبه، أو يقيم مختبئا في أديرة الصحراء. وإنه لمن الجدير بالالتفات أن هذا البطريق الطريد لم يحمله على الخروج من اختفائه فتح المسلمين لمصر واستقرار أمرهم في البلاد، ولا خروج جيوش الروم عنها. وليس أدل من هذا على افتراء التاريخ على القبط، واتهامهم كذبا بأنهم ساعدوا العرب ورحبوا بهم، ورأوا فيهم الخلاص، مع أنهم أعداء بلادهم. ولو صح أن القبط رحبوا بالعرب لكان ذلك عن أمر بطريقهم أو رضائه، ولو رضي بنيامين بمثل هذه المساعدة وأقرها لما بقي في منفاه ثلاث سنوات بعد تمام النصر للعرب، ثم لا يعود بعد ذلك من مخبئه إلا بعهد وأمان لا شرط فيه. ولو لم يكن في الحوادث دليل على كذب هذه الفرية غير هذا الحادث لكان برهانا قويا، وإن لم يكن برهانا قاطعا فهو حلقة نضمه إلى سلسلة ما لدينا من الأدلة، وقد أصبحت سلسلة لا يقوى على نقضها شيء.
ولما أبلغ شنودة عمرو بن العاص مقدم بنيامين أمر عمرو بإحضاره إليه، وأمر بأن يقابل بما يليق به من الترحاب والتكريم. وقد كان بنيامين ذا هيئة جميلة تلوح عليه سيما الوقار والجلال، وكان عذب المنطق في تؤدة ورزانة؛ فكان لذلك أثر عظيم في نفس عمرو، حتى قال لأصحابه: «إنني لم أر يوما في بلد من البلاد التي فتحها الله علينا رجلا مثل هذا بين رجال الدين.» وقد قيل إن بنيامين قال عند ذلك «خطبة جليلة». ولا شك أن عمرا لم يفهم من ذلك حرفا، ولكنه عندما عرف ما يقصده وفهم مراميه، أحسن تلقيها وقبولها، وجعله أميرا على قومه لا يدافع فيهم أمره، وجعل له ولاية أمر دينهم.
ولقد كان لعودة بنيامين أثر عظيم في حل عقدة مذهب القبط وتفريج كربته، إن لم تكن عودته قد تداركت تلك الملة قبل الضياع والهلاك؛ إذ لم يكن قبط مصر في وقت من الأوقات أشد حاجة منهم في ذلك الوقت إلى ذي رأي حصيف وخلق متين يقودهم ويلي أمرهم؛ فقد كان منهم من خرجوا من عقيدتهم وهم ألوف، ورضوا باتباع مذهب «خلقيدونية» خوفا من اضطهاد قيرس. ولا شك أن الخروج من الدين كرها أو خوفا لا يكون في مبدأ أمره حقيقيا، ولكن لقد مضى على ذلك الأمر عشر سنين، واعتاد الناس السير على ما دخلوا فيه، وما كان بناء عشر سنين ليتهدم في لحظة ويزول. ولقد كان أشد خطرا على القبط من كان يخرج منهم إلى الإسلام. وليس من العدل أن يقول قائل إن كل من أسلم منهم إنما كان يقصد الدنيا وزينتها؛ فإنه مما لا شك فيه أن كثيرا منهم أسلم لما كان يطمع فيه من مساواة بالمسلمين الفاتحين، حتى يكون له ما لهم، وينجو من دفع الجزية، ولكن هذه المطامع ما كانت لتدفع إلا من كانت عقائدهم غير راسية. وأما الحقيقة المرة فهي أن كثيرين من أهل الرأي والحصافة قد كرهوا المسيحية لما كان منها من عصيان لصاحبها؛ إذ عصت ما أمر به المسيح من حب ورجاء في الله، ونسيت ذلك في ثوراتها وحروبها التي كانت تنشب بين شيعها وأحزابها. ومنذ بدا ذلك لهؤلاء العقلاء لجئوا إلى الإسلام فاعتصموا بأمنه، واستظلوا بوداعته وطمأنينته وبساطته.
ولم يكن من اليسير أن يعاد من خرج من المسيحية إلى حظيرتها بعد أن قطع أسبابها؛ فإن ذلك كان لا رجاء فيه، ولكن الأمر كان على غير ذلك في أكثر من اضطر إلى اتباع مذهب الملكانيين خوفا أو كرها. وقد كان لعودة بنيامين إلى عرش الإسكندرية وأبنائها رنة طرب في قلوب أهل مصر جميعا، فعاد جل العامة إلى راعيهم القديم والفرح يملؤهم، «ونالوا على يديه تاج الاعتراف».
6
ونادى البطريق المطارنة الذين اتبعوا مذهب الدولة أن ارجعوا إلى سابق عهدكم وملتكم، فعاد بعضهم يذرفون الدمع السخين ندما، ولكن قيل إن واحدا منهم أبى أن يعود حتى لا يلحقه العار خوف أن تعرف عنه الردة الأولى، وفعل الكثيرين كانوا مثله في هذا. ومهما يكن من الأمر فقد نما أمر القبط وزاد أتباع ملتهم. وكان هم بنيامين في أول الأمر أن «يقدح فكره ليلا ونهارا في أمر رعيته، وإرجاع من ضل منهم في أيام هرقل». فلما أن تم له جمع قومه ولم شعثهم اتجهت همته إلى إصلاح ما تهدم من الأديرة، ولا سيما ما كان منها في وادي النطرون، وقد لحقها من التخريب في أوائل القرن السابع ما لم تعد معه إلى سابق عهدها.
وقد استطاع بنيامين أن يجد ما يلزم لذلك الإصلاح من المال، ثم أتمه على ما أراد. وقد وصف «ساويرس» ما يتصل بهذا الأمر من الحوادث وصفا شائقا، فقال إن جماعة من الرهبان وفدوا إلى الإسكندرية حتى دخلوا «باب الملائكة»،
7
وكان بنيامين عند ذلك يصلي بالناس صلاة عيد الميلاد، فطلبوا إليه أن يذهب معهم ليبارك الكنيسة الجديدة التي بنيت في الصحراء، وهي كنيسة القديس «مقاريوس»، فأجابهم إلى ما طلبوا، وسافر معهم إلى «المنى» و«جبل البرنوج» حتى بلغ «دير البراموس»، وذهب بعد ذلك من هناك لزيارة الأديرة الأخرى. وجاء في اليوم الثاني من شهر يناير إلى «دير مقاريوس»، فلقيه هناك المعلم الأكبر «بازل» مطران نقيوس، ورحب به في موكب حملت فيه بين يديه المباخر وسعف النخيل. وفي اليوم التالي وهو الثامن من شهر طوبة، احتفل بمباركة الكنيسة، واتفقت له عند ذلك - كما قال ساويرس - آيات وكرامات لا محل لذكرها هنا. ولعله من المستحسن أن نذكر هنا كلمات «بازل» الذي شكر الله على ما أولى البطريق من زيارة الصحراء المباركة مرة ثانية، وأن يرى من فيها من الآباء المقدسين والإخوة الطيبين الأبرار، ويشهد بها شعائر الدين القويم، ثم شكر الله على أن أنجاه من الكفرة، وحفظ قلبه من ذلك الطاغية الأكبر الذي شرده، فعاد إلى أبنائه يراهم ملتفين حوله مرة أخرى.
8
وإن هذا القول لا ينم عن قوم يشعرون بأنهم في قيد الذل، بل ينم عمن يبتهج بالنجاة والخلاص. وقد جاء في غير هذا الموضع من كتاب الكاتب عينه ما يؤيد هذا المعنى ويوافقه. قال على لسان بنيامين: «كنت في بلدي وهو الإسكندرية، فوجدت بها أمنا من الخوف واطمئنانا بعد البلاء، وقد صرف الله عنا اضطهاد الكفرة وبأسهم.»
9
وقد وصف قومه بأنهم «فرحوا كما يفرح الأسخال إذا ما حلت لهم قيودهم، وأطلقوا ليرتشفوا من لبان أمهاتهم». وكتب «حنا النقيوسي» بعد الفتح بخمسين عاما، وهو لا يتورع عن أن يصف الإسلام بأشنع الأوصاف، ويتهم من دخلوا فيه بأشد التهم، ولكنه يقول في عمرو إنه «قد تشدد في جباية الضرائب التي وقع الاتفاق عليها، ولكنه لم يضع يده على شيء من ملك الكنائس، ولم يرتكب شيئا من النهب أو الغصب، بل إنه حفظ الكنائس وحماها إلى آخر مدة حياته».
10
إذن فما كان أعظم ابتهاج القبط بخلاصهم مما كانوا فيه! فقد خرجوا من عهد ظلم وعسف تطاول بهم، وهوت بهم إليه حماقة البيزنطيين، وآل أمرهم بعد خروجهم منه إلى عهد من السلام والاطمئنان، وكانوا من قبل تحت نيرين من ظلم حكام الدنيا واضطهاد أهل الدين، فأصبحوا وقد فك من قيدهم في أمور الدنيا، وأرخي من عنانهم، وأما دينهم فقد صاروا فيه إلى تنفس حر وأمر طليق . وقد يقال إن حكامهم الجديدين قد أدخلوا إلى الأرض دينا غريبا غير دين المسيح. وهذا حق، غير أنهم لم يروا في ذلك إلا عدلا من الله؛ إذ أجمع الناس على قول واحد، فقالوا: «ما خرج الروم من الأرض وانتصر عليهم المسلمون إلا لما ارتكبه هرقل من الكبائر، وما أنزله بالقبط وملتهم على يد قيرس؛ فقد كان هذا سبب ضياع أمر الروم وفتح المسلمين لبلاد مصر.»
11
هكذا كان الناس يرون، وهكذا كانوا يحكمون، غير أن التاريخ لن يحكم مثل حكمهم هذا الذي دفعهم إليه الميل إلى ملتهم وحزبهم، ولكنه لن يستطيع إلا أن يحكم بأن العسف وسوء الحكم هما اللذان هويا بدولة الروم بغير شك إلى الضياع وزوال السلطان.
الفصل الثامن والعشرون
الحكم الإسلامي
لم يكن عجبا من أمر القبط أن يسعوا إلى الإيقاع بأتباع المذهب الملكاني والاقتصاص منهم، بعد ما ذاقوه من الروم وبطريقهم قيرس من سوء العذاب، ولكن ما كان عمرو ليبيح لهم مثل هذا الأمر إن دار في خلدهم أن يفعلوه؛ فإن عمرا كان في حكمه يسير على نهج الاعتدال والتسامح، ولم يكن له هوى مع أحد المذهبين الدينيين. ولدينا كثير من الأدلة على صدق هذا الرأي؛ فمثلا يذكر ساويرس أن أسقفا ملكانيا بقي على مذهبه حتى مات لم يمسسه أحد بأذى، وذكر أن بنيامين كان يستميل الناس إلى مذهبه بالبرهان والإقناع. وقد ورد ذكر كثير من كنائس الملكانيين بقيت إلى ما بعد ذلك من العصور،
1
وورد ذكر الملكانيين، وأن عددا كبيرا منهم كان باقيا في مصر إلى ما بعد الفتح بخمسين عاما.
2
وعلى هذا لا بد لنا من أن نقول إن المذهبين كليهما قد بقيا جنبا إلى جنب في مصر يظلهما الفاتحون بذمتهم، ويحمونهما جميعا بحمايتهم.
والظاهر أن حماية المسلمين لأهل الذمة كانت في ذلك الوقت الأول من حكم الإسلام لا تقيدها القيود التي دخلت فيما بعد على أحكامه في أمر أهل الذمة؛ فإن شرط الصلح مع المسيحيين في مصر قضى بأن يدفعوا الجزية على أن يأمنوا في بلادهم ، ويدفع عنهم من أراد غزوهم من عدوهم؛ فكان هذا عهد أهل الذمة الذي استقروا عليه، ولكنا نجد تغيرا طرأ على هذا العهد، فنجد منذ القرن العاشر أن دفع الجزية تقيد بنوعين من الشروط؛ فالنوع الأول من هذه الشروط ما يجب لزومه واتباعه في كل الأحوال، والنوع الثاني ما يكون لزومه واتباعه بحسب شرط العقد إن وجد. والشروط التي لا بد من لزومها واتباعها هي: (1)
ألا يعتدى على القرآن ولا تحرق مصاحفه. (2)
ألا يقال عن النبي إنه كذاب، ولا يحقر في القول. (3)
ألا يسب دين الإسلام، ولا يرد عليه بالتكذيب. (4)
ألا يتزوج مسيحي من مسلمة. (5)
ألا يغرر بمسلم أو يغرى على أن يرتد عن الإسلام، ولا أن يؤذى في ماله ولا في نفسه. (6)
ألا يوالى أعداء الإسلام، ولا ينصروا، ولا يكرم أغنياؤهم.
وأما الأمور التي يتبع فيها شرط العقد فهي: (1)
أن يلبس أهل الذمة لباسا يميزهم، ويعقدوا الزنانير على أوساطهم. (2)
ألا يعلوا في بنيانهم على المسلمين. (3)
ألا يؤذوا المسلمين بقرع نواقيسهم،
3
ولا بترتيلهم في صلاتهم، ولا بما يرون في عقائدهم، سواء في ذلك اليهود والنصارى. (4)
ألا يبدوا صلبانهم، ولا يشربوا الخمر جهارا، ولا يظهروا خنازيرهم. (5)
أن تقام مآتمهم بغير احتفال، وتدفن موتاهم كذلك. (6)
أن يركب أهل الذمة البراذين والخيول المعتادة، وأن يتجنبوا ركوب الأصائل.
4
وليس في كل هذه الشروط ما لا يقبله العقل، ولكنا نشك في أنها كانت مشترطة عند أول دفع الجزية وقت الفتح؛ فإن كثيرا من الأمور التي جرت عليها العادة أصبحت في حكم القانون، وصار الناس ينظرون إليها فيما بعد كأنها من أصل الدين ومن أحكام الإسلام، فقال الماوردي مثلا: «إنه لا يحق لأهل الذمة أن يتخذوا لأنفسهم كنائس أو بيعا جديدة في دار الإسلام، فإذا بنوا لأنفسهم ذلك هدم، ولكن لهم أن يعيدوا بناء ما تهدم من كنائسهم أو بيعهم.» وهذا التفريق لم يكن في أول عهد حكم الإسلام في مصر؛ فقد ورد أن القائد «سنوتيوس» أرسل إلى بنيامين مقدارا عظيما من المال لبناء كنيسة القديس مرقص في الإسكندرية،
5
وورد أيضا أن البطريق «حنا السمنودي» بنى كنيسة وكرسها باسم ذلك القديس عينه.
6
فلما جاء بعده البطريق إسحاق قيل إن حاكم مصر نفسه عبد العزيز بن مروان أمر أن تبنى كنيسة في مدينته الجديدة حلوان.
7
فالظاهر من هذا أن القبط نالوا في أول الأمر كل ما يتصوره العقل ويبيحه من الحرية.
وليس من المستطاع أن نحدد النظام السياسي الذي سارت عليه البلاد عند ذلك بمثل هذه السهولة، غير أن الحكم المدني كان على وجه الإجمال على عهده الأول لم يغير فيه شيء؛ إذ كان العرب رجال حرب وسيف لم يتعودوا حكم البلاد، ولم يحذقوا فنونه، ولم يكن بينهم نظام معروف قد يتخذونه في مصر أو يدخلون منه شيئا في إدارة أمورها، ومصر عريقة في الحضارة ذات نظام مقرر مشعب، بيد أن العرب كانوا أهل ذكاء وفهم سريع؛ فكان في استطاعتهم أن يتناولوا أعنة الحكم التي وجدوها دونهم ويديروا بها الأمور على ما كانت سائرة عليه من قبلهم. وقد بينا فيما سلف أن بعض أكابر حكام الروم قد بقوا في أعمالهم، ولعل طائفة كبيرة من عامة الروم ساروا في ذلك على منهاجهم، غير أنه لا بد قد خلت أعمال كثيرة؛ إذ نزح عمالها الروم الذين لم يرضوا أن يكونوا من رعية الإسلام، فجعل العرب في مكانهم عمالا من القبط، فما مر إلا قليل زمن حتى صار عمال الدولة يكادون جميعا يكونون من المسيحيين. وهذا أمر كان لا بد منه في مثل تلك الحال؛ إذ كان العرب قوما لا عهد لهم بالمدينة، وفتحت لهم بلاد ذات حضارة عالية. وقد تنبأ بذلك الرسول نفسه بثاقب نظره، وأقره في قوله إقرارا صريحا؛ وعلى ذلك خلا المسلمون من أعباء الحكم وانصرفوا إلى أمور الدين؛ إذ لم تشغلهم عنه مشاغل الدنيا. ومن العجيب أن نجد كثيرا من أسماء الروم وألقابهم باقية في حكم الإسلام، ورغم تطاول الزمن؛ فقد بقي القبط إلى آخر القرن السابع يسمون المسجل أو الناموس باسمه الروماني «الخرتولاريوس»، ويسمون رئيسه باسم «الأرباخوس» أو «الأرخون»، ويسمون مقر الحاكم باسم «البريتوريوم»، وكانوا يسمون حاكم الإسكندرية باسم «الأغسطل».
8
وقد ورد لقب «دقس» في كثير مما كتب في القرن الثامن،
9
ولا سيما في الحجج الشرعية، وقد استعمله الكاتب «ساويرس»، وكان في القرن العاشر.
10
ولكن الظاهر أن العرب وإن حافظوا على طرق الروم في تدوين دواوينهم وجمع ضرائبهم، كانوا على ما يلوح لنا أخف منهم وطأة في جباية الأموال؛ إذ كان مقدار الجزية والضرائب الذي اتفقوا عليه في عهد الصلح أخف حملا على الناس وأقل إحراجا لهم. وإنه من الصعب أن يعرف الإنسان حقيقة مثل هذا الأمر؛ فليس دوننا إلا ما كتبه العرب، واختلافهم يبلغ معظمه في إحصاء الأعداد وذكر الأرقام؛ فابن عبد الحكم مثلا
11
يقول إنه لما استقر الأمر لعمرو بن العاص جعل القبط يدفعون من الجزية مثل ما كانوا يدفعون للروم، غير أنها كانت تتغير بحسب غناهم ورواج أمورهم. وليس لهذا في نظرنا إلا معنى واحد، وهو أن عمرا سار على ما كان الرومان يسيرون عليه في جباية خراج الأرض؛ لأن الجزية التي فرضها العرب على القبط كان مقدارا معلوما، في حين كان خراج الأرض يتغير بحسب علو الفيضان وبحسب حال الزراعة. ويقول ابن عبد الحكم بعد ذلك: إن زعماء الناس في القرى كان عليهم أن يجتمعوا لينظروا في حال الزراعة، ويجعلوا جباية المال مناسبة لذلك؛ فكانوا في ذلك بمثابة لجنة خاصة تجتمع لتقدير مقدار ما يجبى من الأموال. فإذا اجتمع من ذلك المال شيء فوق ما فرض على قريتهم أنفق في إصلاح أحوالها. وكانت تجعل في كل بلد قطعة من الأرض يخصص ريعها لإصلاح الأبنية العامة وصيانتها، وذلك مثل الكنائس والحمامات. وكانوا كذلك يقدرون ما يفرض على الناس من المال لضيافة العرب، وكان هذا حقا من حقوق العرب عليهم، وكذلك ما كان يفرض من المال لضيافة الحاكم وإكرامه إذا وفد عليهم.
هذا وصف لا بأس به لحال الضرائب وجبايتها على الأرض، ولكنا لا نعلم هل وقع الاتفاق عليها في شرط الصلح عند الفتح أم أنها بقيت على ما كانت عليه يعدونها ضريبة على ملك الأرض، وكذلك ليس من الجلي ما يقصده مؤرخو العرب إذ يذكرون خراج مصر؛ أيقصدون كل ما يجبى من أموالها، أم يقصدون الجزية وحدها، أم الخراج وحده؟ غير أنه يلوح لنا أنهم إنما يقصدون الخراج؛ فقد جاء عنهم أن عدد من فرضت عليهم الجزية دينارين: ستة آلاف ألف نفس. وجاء بعد ذلك أن مقدار المال الذي جبي من مصر كان اثني عشر ألف ألف دينار.
12
ويقول مؤرخو المسلمين إن هذا المال أقل مما كان يجبيه المقوقس، ومقداره عشرون ألف ألف دينار.
13
فإذا صح لنا أن نصدق هذه الأعداد، ونثق في أنها قدرت على أساس واحد في الحالين، وأنها تصلح لأن تكون أساسا للمقارنة؛ كان لا بد لنا أن نتخذها دليلا على أن حكم العرب كان بركة على المصريين خفف عنهم وطأة الضرائب. على أن الأمر كان على غير ذلك؛ إذ إن المال الذي يذكره العرب لا يقصد منه إلا مال الجزية، في حين أن ما يذكر عن أموال الروم لا يقصد به في أغلب الظن الجزية وحدها؛ إذ إن الروم كانوا يجبون من مصر جزية على النفوس وضرائب أخرى كثيرة العدد.
14
ومع كل هذا فإنه مما لا شك فيه أن ضرائب الروم كانت فوق الطاقة، وكانت تجري بين الناس على غير عدل؛ إذ كانت تعفى منها طائفة ممتازة من أفراد أو جماعات.
15
وكذلك لا شك في أن الدولة في أيام هرقل كانت في أشد الحاجة إلى المال، وذلك في السنوات التي قبل الفتح، فليس ثمة من سبب يحدو بنا إلى تكذيب ما ذكره مؤرخو المسلمين من خفة وطأة الضرائب على المصريين بعد فتح العرب. هذا إلى أن العرب أزالوا ما كان مقررا من التفريق بين الناس في جباية الضرائب وإعفاء بعضهم منها، غير أن النفس بها شيء من الشك في أمر الإسكندرية؛ إذ من المحقق أن أهلها كانوا شديدي الضجر من الحكم الجديد. ولعل هذا الضجر قد لحقهم لما أصابهم من زوال بعض امتياز كان لهم؛ إذ لعلهم كانوا من قبل لا تفرض عليهم جزية على الأنفس، أو لعلهم قد لحقهم ضرر لما أصاب المدينة في أرزاقها من فادح الخسارة في تجارتها، وكساد أسواقها في مدة الحرب الطويلة التي حلت ببلدهم، ومما فقدته من الخير عندما هاجر منها كثير من أغنياء التجار والأعيان عند الفتح وتسليم المدينة. وإذا صح أن عهد الصلح شرط على المدينة أن تفقد ما امتازت به قديما، وهو الإعفاء من جزية الأنفس، كان من العسير علينا أن ندرك كنه ذلك الصلح. وأغلب الظن أن مدينة الإسكندرية قد حرمت من ذلك الامتياز قبل فتح العرب بحين من الدهر.
وقد رأينا فيما سلف أن الضريبة التي كان العرب يسمونها الجزية كانت دينارين على كل رجل، ليس على الصغير الذي لم يبلغ الحلم، ولا الشيخ الفاني، ولم تفرض على النساء، ولا على الرقيق، ولا على المجانين أو المساكين المعدمين. على أن الجزية وإن كانت في مجموعها على عدد الرءوس عن كل رجل دينارين، لم تكن على ما يظهر لنا واحدة على كل فرد، بل كانت تختلف؛ وذلك لأن الدينارين لا يتكلف الغني في حملهما شيئا، في حين أنهما يبهظان الفلاح الفقير؛ فلعل الحاكم كان له الخيار أن يقسم من تفرض عليهم الجزية إلى ثلاثة أقسام: الفقراء، وأوساط الناس، والأغنياء. فكان يضع على كل فئة قسطا من الجزية خلاف ما يضعه على غيرها.
16
وهذا أمر لا يأباه العقل ولا يرى فيه ظلما، غير أنه كان بلا شك عرضة لأن يفسد. وقد تطرق إليه الفساد؛ فمكن الحكام أن يزيدوا مقدار الجزية ويمزقوا بذلك عهد الصلح؛ فإنك إذا نظرت إلى الأمر في ذاته لم تجد بأسا بأن تكون الجزية على الناس بحسب طاقاتهم مع بقاء جملتها واحدة لا تتغير، وكذلك لا تجد بأسا في أن يكون خراج الأرض في جملته متغيرا بحسب السنة وخصبها، وأن يتغير ما يفرض على صاحب الأرض من الخراج بحسب خصب أرضه ومقدار ثمرتها، ولكن ليس في طاقة البشر أن يبقى مثل هذا النظام ثابتا لا تفسده الأطماع؛ فكان لا بد له من عدل كامل لا شائبة فيه كيما يبقى على صلاحه، غير أنه كان عرضة لأن يداخله الفساد وتعصف به الأطماع، ولم يكن بالعجيب أنه قد فسد بعد حين من العمل به.
وإن هذا لموضع لذكر ما رواه ابن عبد الحكم أن الخليفة عمر بن الخطاب تقدم إلى عمرو بن العاص في أن يستشير البطريق بنيامين
17
في خير وسيلة لحكم البلاد وجباية أموالها، فأشار عليه البطريق بالشروط التالية: (1)
أن يستخرج خراج مصر في أوان واحد عند فراغ الناس من زروعهم. (2)
أن يرفع خراجها في أوان واحد عند فراغ أهلها من عصر كرومهم. (3)
أن تحفر خلجانها كل عام. (4)
أن تصلح جسورها وتسد ترعها. (5)
ألا يختار عامل ظالم ليلي أمور الناس.
18
وكان ذلك الشرط الخامس أشق الأمور وأصعبها تحقيقا؛ فإن السيادة التي جرى عليها الحكام في اختيار العمال كانت لا بد أن توجد فيهم تلك الصفات التي تفسد نظام الحكم وتجعله مشئوما.
إنا لا نشك في أن عمرو بن العاص كان في أول حكمه لا يقصد إلا العدل والرأفة بأهل البلاد، ولكن الخليفة لم يواته في هذا ولم يوافقه عليه؛ فقد رأى الخليفة أن عمرا قد ملأ أنباره بالقمح من مصر، ودر على خزائنه الذهب، ومد سلطان العرب على فسيح البلاد، ولكن الخليفة عمر لم يجزه بذلك إلا هوانا وجحودا. وقد بقيت صيغة بعض كتب مما تردد بين الخليفة وواليه، وإنا لا نشك في صحتها،
19
وهي تظهر لنا ظهورا جليا ما كان عليه الرجلان في صلتهما؛ فقد كتب الخليفة عمر مرة إلى عمرو:
20 «أما بعد، فإني فكرت في أمرك والذي أنت عليه، فإذا أرضك أرض واسعة عريضة رفيعة، وقد أعطى الله أهلها عددا وجلدا وقوة بر وبحر، وإنها قد عالجتها الفراعنة، وعملوا فيها عملا محكما مع شدة عتوهم وكفرهم، فعجبت من ذلك، وأعجب مما عجبت أنها لا تؤدي نصف ما كانت تؤديه من الخراج قبل ذلك على غير قحوط ولا جدب. ولقد أكثرت في مكاتبتك في الذي على أرضك من الخراج، وظننت أن ذلك سيأتينا على غير نزر، ورجوت أن تفيق فترفع إلي ذلك، فإذا أنت تأتيني بمعاريض تعبأ بها لا توافق الذي في نفسي، لست قابلا منك دون الذي كانت تؤخذ به من الخراج قبل ذلك. ولست أدري مع ذلك ما الذي نفرك من كتابي وقبضك؛ فلئن كنت مجربا كافيا صحيحا إن البراءة لنافعة، وإن كنت مضيعا نطعا إن الأمر لعلى غير ما تحدث به نفسك. وقد تركت أن أبتلي ذلك منك في العام الماضي
21
رجاء أن تفيق فترفع إلي ذلك. وقد علمت أنه لم يمنعك من ذلك إلا أن عمالك عمال السوء، وما توالس عليك وتلفف اتخذوك كهفا، وعندي بإذن الله دواء فيه شفاء عما أسألك فيه؛ فلا تجزع أبا عبد الله أن يؤخذ منك الحق وتعطاه؛ فإن النهر يخرج الدر، والحق أبلج، ودعني وما عنه تلجلج؛ فإنه قد برح الخفاء، والسلام.»
22
فرد عمرو على ذلك بأن قال: إن الخراج كان من قبله أوفر وأكثر، والأرض أعمر؛ لأن الفراعنة على كفرهم كانوا أرغب في عمارة أرضهم من العرب مذ كان الإسلام.
23
ثم وجه إليه شكوى مما وجهه إليه من شديد التأنيب، وقال: «ولقد عملنا لرسول الله
صلى الله عليه وسلم
ولمن بعده، فكنا بحمد الله مؤدين لأمانتنا حافظين لما عظم الله من حق أئمتنا، نرى غير ذلك قبيحا والعمل به شينا، فتعرف ذلك لنا ونصدق فيه قلبنا. معاذ الله من تلك الطعم، ومن شر الشيم، والاجتراء على كل مأثم. فأمض عملك؛ فإن الله قد نزهني عن تلك الطعم الدنية والرغبة فيها بعد كتابك الذي لم تستبق فيه عرضا، ولم تكرم فيه أخا. والله يا ابن الخطاب لأنا حين يراد ذلك مني أشد غضبا لنفسي ولها إنزاها وإكراما، وما عملت من عمل أرى علي فيه متعلقا، ولكني حفظت ما لم تحفظ، ولو كنت من يهود يثرب ما زدت. يغفر الله لك ولنا! وسكت عن أشياء كنت بها عالما ، وكان اللسان بها مني ذلولا، ولكن الله عظم من حقك ما لا يجهل.»
ولكن هذا الرد السهل في أسلوبه الجليل في معناه لم يكن له أثر في عمر؛ فإنه رد عليه في جفاء، فقال:
24 «أما بعد، فإني قد عجبت من كثرة كتبي إليك في إبطائك بالخراج وكتابك إلي بثنيات الطرق، وقد علمت أني لست أرضى منك إلا بالحق المبين، ولم أقدمك إلى مصر
25
أجعلها لك طعمة ولا لقومك، ولكني وجهتك لما رجوت من توفيرك الخراج وحسن سياستك. فإذا أتاك كتابي هذا فاحمل الخراج؛ فإنما هو فيء المسلمين، وعندي من قد تعلم قوم محصورون، والسلام.»
وقد طلب عمرو أن ينتظر به على الناس حتى تدرك غلتهم، متبعا في ذلك مشورة بنيامين. وقال لعمر إنه لا يستطيع أن يزيد الخراج على الناس بغير أن يؤذيهم، وإن الرفق بهم خير من التشديد في أمرهم، وإكراههم على أن يبيعوا ما هم في حاجة إليه في أمور معيشتهم
26
لكي يؤدوا ما يطلب منهم. وقد اتهمه «فيل» في مراجعته هذه بالنفاق، وأنه إنما كان يضن بالمال كي يحتفظ به لنفسه، غير أنا لا نجد ما يدعونا إلى مثل ذلك الظن؛ فإنا لو آمنا بأن الطمع والجشع قد دبا في قلبه لم يكن لنا أن نذهب إلى أنهما قد ملكا عليه لبه فأنسياه العدل، وجعلاه يتخلى عن أداء أمانته نحو المصريين، غير أن عمر جعل كل قوله وراء ظهره ودبر أذنه، فلم يستشعر رحمة في جباية الأموال،
27
فأرسل محمد بن مسلمة إلى مصر، وأمره أن يجبي منها ما استطاع من المال فوق الجزية التي أرسلها عمرو من قبل. وقيل في رواية أخرى إنه إنما أوفده إلى عمرو لكي يقاسمه ماله. وقد اتهم ابن مسلمة عمرو بن العاص بأنه كان يتستر بالدفاع عن أهل مصر لحاجة في نفسه يريد قضاءها، كما اتهمه عمر بن الخطاب بالخيانة والتفريط، ولكن عمرا كان يدافع عن المصريين كما أقر ابن مسلمة. فإذا أضفنا إلى هذا ما قاله في الدفاع عن نفسه رجح عندنا صدقه وإخلاصه، واستبعدنا اتهامه. وفي الحق أن عمر بن الخطاب أولى بأن يتهم بالحرص؛ فقد روى البلاذري أنه كان كلما استعمل عاملا على بلد أثبت مقدار المال الذي عليه جبايته منه، فإذا زادت الجباية على ذلك شيئا قاسم العامل فيه أو أخذه في بعض الأحيان كله؛ ولهذا لم ينج منه البطل خالد بن الوليد نفسه؛ فإنه بعث إليه في الشام بمن يحاسبه على ماله، وأمره أن ينزل عن نصفه، حتى لقد قيل إنه قد أخذ إحدى نعليه. وقد أشار بعضهم على عمر بأن يرد عليه ما أخذ منه، فقال: «والله لا أرد شيئا؛ فإنما أنا تاجر للمسلمين.» ولكنه كان إذا قال المسلمين لم يقصد إلا نفسه، أو تلك الفئة القليلة التي كانت معه في مكة. وقد كان ذلك وبالا عليه؛ فإن ذلك الرأي الذي كان يراه في أداء أمانته نحو المسلمين وملء بيت المال مما يجمعه من البلاد التي فتحها المسلمون منذ حين، كان كل ذلك سببا في القضاء على حياته.
وقد حذق خلفه ذلك الدرس، وهو لعمري درس وبيل؛ فإن عثمان عزل عمرا عن ولاية مصر، واستعمل عليها عبد الله بن سعد، وكان عمر قد استعمله مع عمرو بن العاص على الصعيد والفيوم، فزاد في جباية الأموال ألفي ألف دينار، حتى بلغ ما جمعه أربعة عشر ألف ألف دينار، فقال عثمان لعمرو عند ذلك: «إن اللقاح بمصر بعدك قد درت ألبانها.» فأجابه عمرو: «ولكنها أعجفت فصيلها.» وكانت زيادة الجزية فوق ذلك نقضا للعهد؛ فقد بينا فيما مضى أن معاوية عندما أمر وردان أن يزيد الجزية على القبط، قال له إن ذلك غير ممكن، وإلا نقض عهد الصلح.
28
وقد روينا عن عروة بن الزبير أنه قال: «إن الناس كان يفرض عليهم ما لا طاقة لهم به فآذاهم ذلك، مع أن عمرو بن العاص كان قد عقد لهم عقدا جعل لهم فيه شروطا معلومة.»
وذلك الوصف يحملنا على أن نحمد لعمرو عدله، غير أن ابن عبد الحكم روى رواية إن صحت كانت ناقضة لذلك؛ فقد قال إن عمرو بن العاص أنذر القبط أن من أخفى منهم كنزا من الكنوز اقتص منه بالقتل. فسعي إليه بأحد قبط الصعيد اسمه بطرس أنه يخفي كنزا. فلما مثل بين يديه أنكر ذلك وأصر على الإنكار، فسجنه عمرو، وسأل بعد حين فقال: هل ذكر بطرس اسم أحد من الناس؟ فقيل له إنه لم يذكر إلا اسم راهب في الطور. فأمر عمرو فأخذ خاتم بطرس، وكتب كتابا إلى ذلك الراهب فقال فيه: «أرسل إلي ما عندك.» ثم ختمه بذلك الخاتم. فجاء إليه بعد مدة رسول يحمل قدرا مقفلة عليها خاتم من رصاص، ففتحه عمرو، فوجد فيه رقعة كتب عليها: «إن مالك تحت الحوض.» فأمر عمرو بالماء الذي في الحوض فأفرغ، ونزعت الأحجار التي في قاعه، فوجدت غرفة فيها اثنان وثلاثون
29
مدا من نقود الذهب. فأمر عمرو بضرب عنق بطرس عند باب مسجده في بابليون. ولا يسعنا أن نمر على قصة كهذه بغير كلمة نقولها؛ فإنها غير جديرة بالتصديق، ولا تحتمل النقد، فما هي إلا قصة من تلك القصص التي خلقها الخيال، وكان ذلك المؤرخ مغرما بإيراد أمثالها يحلي بها كتابه؛ فإنه من الثابت أن القبط كانوا أجدر الناس بأن يأسفوا مر الأسف عندما عزل عنهم عمرو بن العاص.
لم يبق إلا الشيء اليسير فوق ما قلناه في أمر الضرائب، غير أن أمرا واحدا يجب أن نذكره لما له من الشأن، وذلك أن المسلمين في أول الأمر لم يبح لهم أن يملكوا الأرض، وكان إقطاع الأرض في ذلك الوقت قليلا؛
30
إذ كان الرأي أن يبقى العرب على رباطهم لا يشتغلون بالزرع، ولا يحلون بالبلاد كأهلها. فلما أن اطمأنوا في البلاد، أخذ ذلك المنع يرتفع عنهم، وأبيح لهم أن يملكوا الأرض، وكانوا إذا ملكوا أرضا دفعوا عنها الخراج كسائر الناس، ولم يتغير نصيب أرض من الخراج إذا ملكها مسلم من قبطي، بل بقي على حاله، والناس فيه سواء؛ ولهذا كان القبطي إذا دخل في الإسلام لم يرتفع عنه خراج أرضه، ولكن الجزية كانت على غير ذلك؛ إذ كانت الجزية سمة لأهل الذمة وعلامة لغير المسلمين، فكان الدخول في الإسلام كافيا لزوالها؛ إذ تزول بذلك صفتا الذمة واختلاف الدين. وهذا أمر قد أجمع عليه مؤرخو العرب؛ فإن المقريزي يأخذ على عمر بن عبد العزيز (وكانت وفاته في شهر يناير من عام 720 للميلاد) أنه حكم بأن الذمي إذا مات استحقت الجزية من ورثته. ويقول المقريزي: «يحتمل أن تكون مصر فتحت بصلح، فذلك الصلح ثابت على من بقي منهم، وإن موت من مات منهم لا يجعل على خلفه
31
مما صالحوا عليه شيئا»، ولكن روي عن عمر بن عبد العزيز نفسه أنه «وضع الجزية عمن أسلم من أهل الذمة من أهل مصر، وألحق في الديون صلح من أسلم منهم في عشائر من أسلموا على يديه، وكانت تؤخذ قبل ذلك ممن أسلم». وأول من أخذ الجزية ممن أسلم من أهل الذمة الحجاج بن يوسف الثقفي، ثم كتب عبد الملك بن مروان إلى عبد العزيز بن مروان أن يضع الجزية على من أسلم من أهل الذمة، فكلمه ابن جحيرة في ذلك، فقال: «أعيذك بالله أيها الأمير أن تكون أول من سن ذلك بمصر، فوالله إن أهل الذمة لا يتحملون جزية من ترهب منهم، فكيف تضعها على من أسلم منهم؟» فتركهم عند ذلك.
32
وقيل إن ابن شريح،
33
وهو الذي جاءه أمر الخليفة عمر بن عبد العزيز، كتب إلى الخليفة يقول إن الإسلام قد أضر بالجزية، حتى لقد نقص عشرون ألف دينار من عطاء أهل الديوان. فكتب إليه الخليفة كتابا شديدا قال فيه: «أما بعد، فقد بلغني كتابك، وقد وليتك جند مصر وأنا عارف بضعفك، وقد أمرت رسولي بضربك على رأسك عشرين سوطا. فضع الجزية عمن أسلم قبح الله رأيك، فإن الله إنما بعث محمدا
صلى الله عليه وسلم
هاديا ولم يبعثه جابيا. ولعمري لعمر أشقى من أن يدخل الناس كلهم الإسلام على يديه.»
34
راجع كتاب الخطط، الجزء الأول، صفحة 78 والصفحتين السابقتين لذلك.
وعلى ذلك قد كان في الدخول في الإسلام ربح وغنم. ولقد كان عهد الصلح مع القبط كفيلا من الوجهة النظرية بأن يكونوا آمنين في دينهم، غير أن الأمر صار بعد حين إلى خرق العهد ونقضه؛ فالحق أن الأمن في الدين إذا كان مقترنا بأن يكون الرجل مهينا بين الناس، وأن يحمل ثقلا في ماله، لم يكن أمنا حقيقيا ولا باقيا. فلما انتشر الإسلام بين الناس زادت وطأته اشتدادا على القبط، وأصبح عبء الجزية ثقيلا لا ترضاه النفوس، وأصبح أصحاب الجزية من اليهود والنصارى بعد حين وقد صاروا في قلة ظاهرة بسبب من كان يسلم منهم عاما بعد عام. فكان هذا الأمر فاسدا؛ إذ هو بمثابة رشوة لتحريض النصارى على الخروج من ملتهم، فوق ما كان من أثره في نقص مقدار الأموال نقصا ظاهرا، وكان نقص الجزية سريعا، فبينا كان مقدارها في أيام عمرو اثني عشر ألف ألف دينار، وفي أيام خلفه الظالم عبد الله بن سعد أربعة عشر ألف ألف، إذا بها في خلافة معاوية خمسة آلاف ألف بعد أن أسلم عدد عظيم من القبط، ثم إذا بها في خلافة هارون الرشيد أربعة آلاف ألف، ثم ثبتت الجزية على ثلاثة آلاف إلى أواخر القرن العاشر.
35
ولما حدث هذا النقص في الأموال التي كانت تجبى من الجزية، استحدث الحكام وسائل جديدة يعوضون بها ما نقص من مال الجزية. وليس ثمة من شك في أن الحكام عندما استحدثوا تلك الضرائب الجديدة فرقوا فيها بين معاملة المسلمين وأهل الذمة، فميزوا المسلمين فيها؛ فأكبر الظن على ذلك أن المسيحيين قد آل أمرهم في حقيقته ومظهره إلى زيادة فيما يحملون، وكان عبؤهم يزيد عليهم ثقلا كلما قل عددهم؛ فلا عجب إذن أن يخضع كثير من القبط فيسوقهم أتي الحوادث إلى الإسلام، بل العجب أن يبقى عدد عظيم منهم ثابتا في جرية ذلك الأتي، ولم تستطع عواصف الحدثان التي توالت عليهم ثلاثة عشر قرنا أن تزعزعهم عن عقيدة قائمة في قلوبهم على صخرة.
على أننا إن قلنا ذلك فلسنا ننسى أن التاريخ لم يحو بين صفحاته ما هو أعجب من العرب وفتحهم؛ إذ جاءوا إلى مصر فئة قليلة من الصحراء فانتصروا بها، ثم نقول إجمالا إنهم أقاموا لأنفسهم بنيانا مما هدموه فيها من ديانة مسيحية، ومدنية بيزنطية، قد اجتمع بها ضعف ورقة، إلى جمال وروعة، منذ امتزجت بها أكبر المدنيات القديمة الثلاث: المدنية المصرية، والمدنية اليونانية، والمدنية الرومانية.
الفصل التاسع والعشرون
ثورة الإسكندرية بقيادة منويل
ظهر بعد أن فتح مصر لم يتم؛ فإن الحرب عادت جذعة بعد أن ظن الناس أنها قد وضعت أوزارها؛ إذ جاء الروم يسعون سعي المستميت لكي يسترجعوا ما فقدوه من ملكهم، ولا يسعنا إلا أن نصف هذا السعي ولو على وجه الإيجاز.
وقد أخطأ عمر بن الخطاب في أنه كان مع عماله جميعا على سوء الظن يتوقعون منه العزل والمحاسبة، ويأخذ أموال بلادهم كلها لا يدع لهم فيها شيئا. وقد كان لهذه الخطة أثر في التعجيل به، فقتل لبضعة أيام بقيت من ذي الحجة من عام 23 للهجرة، ودفن في غرة المحرم من عام 24 للهجرة،
1
وفي ذلك اليوم اختير عثمان خليفة له. على أن عمر وإن أخطأ في بعض أمره لم تلق دولة المسلمين خيرا بوفاته وولاية خلفه؛ فإنه إن كان يضايق خير ولاته ويسيء إليهم فقد كان عثمان الذي جاء بعده يعزلهم. وكان من آخر ما أتاه عمر في حياته أن قلل من سلطان عمرو بن العاص، وذلك بأن ولى عبد الله بن سعد بن أبي سرح حكم الصعيد والفيوم، وجعل إليه جباية الخراج. فأتم عثمان ما شرع فيه عمر بأن عزل ابن العاص عن ولاية مصر، وجمع ولايتها جميعا لعبد الله بن سعد، فجاء هذا ليلي أمره من مدينة شطنوة في إقليم الفيوم، وكان مقيما بها.
وقد اختلفت الآراء في هذا الوالي الجديد، فقال عنه النواوي: «كان من أعقل قريش وأشرفهم.»
2
في حين أن عمرو بن العاص نعى عليه ضعفه وقلة كفايته في حكم البلاد وفي قيادة الجيوش، ويصفه الطبري بأشنع الصفات، فيقول عنه: «لم يكن في وكلاء عثمان أسوأ من عبد الله والي مصر.»
3
وكانت ولايته هذه في وقت ساء فيه حكم الولاة، وثارت ثورة الناس عليهم، وعلى الخليفة لجورهم في الحكم. والظاهر أن من وصف عبد الله وصفا حسنا إنما يدل على سخافته وحماقته، وليس لوصفه قيمة في التاريخ؛ فإنه لا مراء فيما ارتكبه في مصر من الظلم، وقد ولاه الخليفة قصدا لكي يزيد في جباية الجزية. وإن لدينا من الأسباب ما يحملنا على أن نقول إن عبد الله قد جعل أول همه زيادة الضرائب على أهل الإسكندرية؛ إذ لا شك أنهم كانوا عند ذلك يرزحون تحت عبء ثقيل من الضرائب. ولقد كان من أثر هذا العبء الثقيل أن جماعة من زعمائهم أنفذوا كتبا إلى الإمبراطور «قنسطانز» في قسطنطينية يسألونه أن يخلصهم من ظلم المسلمين، وقالوا له إن الإسكندرية ليس فيها إلا مسلحة ضعيفة لا تقوى على دفع جيش روماني.
فأثرت هذه الكتب في الإمبراطور؛ إذ إنه لم ينس ما أصابه في عزته، وما لحق دولته من الضرر من ضياع مصر، فأمر بإعداد قوة عظيمة، وكتم أمرها كتمانا شديدا. وكان الروم إلى ذلك الحين لا يزالون على سلطانهم في البحر غير مدافعين ولا معاندين، وكان عمر يسمع بحروب البحر، فكتب إلى عمرو بن العاص يسأله عن ذلك، وقال له: «صف لي البحر وراكبه.» فكتب إليه عمرو كتابا عجيبا قال فيه: «إني رأيت خلقا كبيرا يركبه خلق صغير، إن ركن خرق القلوب، وإن تحرك أزاغ العقول، يزداد فيه اليقين قلة، والشك كثرة. هم فيه كدود على عود، إن مال غرق، وإن نجا برق.»
4
فكان وصفه هذا باعثا لعمر على الإشفاق منه، على ما كان عليه من إقدام وشجاعة، فلم يبح لمعاوية أن يجهز السفن،
5
ولم يجرؤ أحد على خوضه حتى آلت الخلافة إلى معاوية، فأخذ العرب عند ذلك في سبيله، وعرفوا قيمة السيادة عليه.
وعلى ذلك لم يكن للعرب في الوقت الذي نصفه سفينة واحدة تأتيهم بأنباء أسطول الروم الذي بعث به الإمبراطور بقيادة منويل للاستيلاء على الإسكندرية. فما فجأ العرب إلا أسطول عظيم يدخل ميناء الإسكندرية في عدة ثلاثمائة سفينة، وألقى فيها مراسيه غير مدافع.
6
ولم يكن بالمدينة إلا ألف رجل من العرب للدفاع عنها، فغلبهم الروم، وقتلوهم جميعا إلا نفرا قليلا منهم استطاعوا النجاة، وعادت بذلك الإسكندرية إلى ملك الروم.
وهذه الحادثة منشأ الرواية العجيبة التي رواها «جبون» وسواه من الكتاب؛ وذلك أنهم قالوا إن الروم عادوا بعد ثلاثة أيام أو أربعة من فتح الإسكندرية الأول بعد أن كانوا قد سافروا في البحر ورحلوا عن مصر، فأخذوا العرب على غرة وهم متفرقون، فملكوا المدينة مرة ثانية، ولبثوا يحكمونها بعد ذلك حينا قصيرا. وليس ثمة من حقيقة لهذه الرواية؛ فإنما منشؤها خطأ في التأويل؛ وذلك أنهم خلطوا بين فتح الإسكندرية في المرة الأولى وفتحها في المرة الأخيرة، ومزجوا بين وصفي الحادثين؛ فهم يقولون مثلا إن فتح الإسكندرية كان في المرة الأولى عنوة، وجعلوا بناء روايتهم كله على أنها فتحت عنوة، في حين أنا قد بينا بيانا واضحا لا نزاع فيه أن فتح الإسكندرية في المرة الأولى كان صلحا، وأن العرب جعلوا لأهلها هدنة مدتها أحد عشر شهرا، ثم دخلوا بعد ذلك إلى المدينة مسالمين، وظلوا بعد ذلك على ملك المدينة لا يحدث لهم حدث حتى جاء منويل في بعثه.
7
وقد اتفق مؤرخو العرب اتفاقا يقل مثله على أن استرجاع الروم لمدينة الإسكندرية قد وقع في أوائل السنة الخامسة والعشرين للهجرة، وذلك نحو آخر سنة 645 للميلاد،
8
ولكنهم لم يتفقوا مثل هذا الاتفاق في ذكر المكان الذي كان فيه عمرو بن العاص عند ذلك. فإذا صحت رواية الطبري، وروايته جديرة بالتصديق، كان عمرو عند ذلك في مكة
9
معزولا. فلما جاءت أنباء هذه الثورة أمر بأن يعود إلى قيادة الجيش بمصر. وعلى أي حال فالظاهر أنه عزل قبل مجيء الروم، ولم يلتفت خلفه العاجز إلى حماية البلاد، فأهمل تحصينها حتى بدا عجزها واشتد خللها، ولم يقف جيش «منويل» عند الإسكندرية بعد أن ملكها وخلصت له، بل سار إلى ما يليها من بلاد مصر السفلى ينهب فيها، ويغصب القمح والخمر والأموال من أهل قراها، لا يدافعه مدافع. والظاهر أن الروم لم يعبئوا بمن تودد إليهم، فكان جندهم أينما حل أو سار في البلاد يعامل الناس معاملة أعداء قد فتحت بلادهم.
10
على أنه قد يكون الأمر على غير ذلك في بعض الأحوال؛ فإن جيش الروم ما عاد إلى امتلاك البلاد إلا بمساعدة من في الإسكندرية من الروم، وكانوا لا يزالون على مكانة عظيمة فيها، وكان هؤلاء يعتمدون على مساعدة بعض الناس في بلاد مصر السفلى وميلهم إلى الروم. وقد ذكرت في الأخبار بعض قرى قامت على بكرة أبيها وانحازت إلى جانب الروم. غير أن القبط كانوا على وجه الإجمال لا يرجون خيرا من وراء رجوع سلطان الروم؛ إذ كانت ذكريات قيرس وعسفه لا تزال منقوشة على قلوبهم، وكانوا غير ساخطين على ما هم فيه مع ما أخذ يظلهم عند ذلك من خوف العرب وظلمهم؛ إذ كانت لهم طمأنينة على دينهم ودنياهم ما كانوا ليحتفظوا بها إذا عاد حكم الروم؛ ولهذا لاذ القبط بالعرب في هذه المحنة وساعدوهم. ولو فعلوا غير ذلك لكانوا أحمق الناس وأجهلهم؛ إذ يكونون كأنهم يسعون إلى وضع أيديهم في أغلال الروم، وكشف أجسامهم لجلد سياطهم. ولسنا نعلم علم اليقين أبقي البطريق بنيامين عند ذلك في الإسكندرية أم هرب قبل مجيء جيش الروم؟ على أننا نرجح هروبه وغيابه عن العاصمة في ذلك الوقت. والأدلة على ذلك قوية، ولكن لا شك في أنه وقف مع قومه من القبط يشدون أزر العرب ويساعدونهم، ويظهرون لهم الود، حافظين بذلك عهدهم الذي تعاهدوا عليه في صلح الإسكندرية.
وفيما كان الروم يتمتعون بما في مصر من ملاذ، ويضيعون الفرصة على عادتهم في تضييع ثمين الفرص إذا ما سنحت لهم؛ عاد عمرو إلى قيادة جيش العرب في بابليون. وقد دعاه العرب لذلك، وألحوا فيه منذ رأوا أنه رجل داهية لا يدانيه مدان في مكيدة الحرب، ولا يثق الناس في أحد ثقتهم فيه؛ لما اعتادوا من النصر على يديه، وشعروا بأنهم في أشد الحاجة إليه في ذلك الوقت العصيب الذي لم يأت عليهم وقت أشد منه منذ غزوا بلاد مصر. ولو لم يضع الروم وقتهم في بلاد مصر السفلى، بل ساروا لا يلوون على شيء قاصدين إلى الفسطاط؛ لما بعد عليهم أن يهزموا عبد الله ويأخذوا حصن بابليون، ولكنهم لم يفعلوا ذلك، بل تهاونوا حتى استطاع عمرو أن يحضر إلى مصر ويجهز جيشه بها. ولم يكن من رأي عمرو أن يسرع في أمره، وهذا غير ما كان يراه خارجة بن حذافة الذي كان عند ذلك قائد مسلحة حصن بابليون؛ إذ كان يرى أن التأخر ضار بالمسلمين مصلح لأمر الروم، وأشار على عمرو أن يبادر إلى العدو قبل أن يأتيه المدد، أو يثب أهل مصر جميعها وينقضوا على العرب. ولكن عمرا كان يرى خلاف ذلك، فقال: «ولا، ولكن أدعهم حتى يسيروا إلي؛ فإنهم يصيبون من مروا به فيخزي الله بعضهم ببعض.» وإنه لمن الجدير بالذكر أن قواد العرب في هذا الوقت لم يميزوا بين قبطي ورومي، بل ظنوا أن الفئتين معا إلب على قتالهم. وهذا يدل على أنه لم يكن ثمة ما يدعوهم إلى توقع محبة القبط لهم، ولا حيادهم في قتال الروم. ولو صح أن القبط رحبوا بالعرب عند أول مجيئهم إلى مصر ورأوا فيهم الخلاص، لركن قواد العرب في هذا الوقت إلى ولاء القبط ومحبتهم، ولتوقعوا منهم الود والمساعدة.
وعلى هذا سار الروم على مهل حتى استدرجوا إلى نقيوس،
11
وهناك لقيتهم طلائع العرب، ولعل جيشهم كان إذ ذاك خمسة عشر ألفا.
12
ولم يذكر التاريخ هل استولى الروم على مدينة نقيوس، غير أنه يذكر أنه قد وقع قتال شديد بين الجيشين تحت أسوار حصنها فيما يلي الخليج أو النهر الذي يجري على كثب من المدينة، وقد قاتل الروم في تلك الوقعة قتالا عظيما، وأبدوا فيه شجاعة لا مثيل لها، وحارب عمرو في صفوف الناس، وعقر تحته فرسه إذ أصابه سهم ، فاقتحم عنه وحارب راجلا، وانهزم العرب في بعض ذلك القتال وولوا الأدبار، وكان أظهر الروم يومئذ في شجاعته وحسن عدته رجل فارس عليه سلاح مذهب. فلما تنازع الناس القتال دعا العرب إلى البراز، فبرز إليه رجل من زبيد يقال له «حومل»، فاقتتلا طويلا برمحين يتطاردان ب