Fath Carab Li Misr
فتح العرب لمصر
Genres
وإنه لمن العجيب أن يرى المقوقس جدوى في العودة إلى اضطهاده وعسفه؛ فلعله كان يتستر وراء ذلك ليداري عن أهل الإسكندرية حقيقة أغراضه، وهي إسلام بلاد مصر جميعها للعرب. ولا شك في أنه كان في ذلك ينفذ أمرا من مليكه، ولكن أي أمر! لقد كان أمرا غصبه من مليك لا حول له ولا طول، وتوصل إليه بالخداع والدناءة، حتى إنه لم يستطع أن يظهره لكبار قادة الدولة في الإسكندرية، ولا أن يعلنه للناس. فخرج وحده ذاهبا إلى حصن «بابليون»، أو لعله قد استصحب جماعة من قسوسه كانوا على علم بسره. وكان النيل عند ذلك مرة أخرى في أوان فيضه،
10
وذلك في أواخر شهر أكتوبر بعد نحو عام من صلح بابليون الذي لم يتم؛ إذ مزقه الإمبراطور الشيخ «هرقل» في غضب وحنق، وكان عمرو بن العاص عند ذلك قد عاد منذ قليل إلى «بابليون». ولا ندري فيم قضى الوقت إلى ذلك الحين، أقضاه في قتال بلاد مصر السفلى قتالا لم يخرج منه بطائل، أم قضاه في غزو بلاد الصعيد يقود سرية إليها بنفسه؟
11
وليس أمر السرية ذاتها بموضع للشك؛ فقد خرجت كتيبة صغيرة من المسلمين إلى الصعيد حتى بلغت مدينة «أنطنويه»، المعروفة الآن باسم «أنصنا»، وكانت إذ ذاك عاصمة إقليم «طيبة»، وكانت جنود الروم لا تزال منها بقية في ذلك الإقليم. فذهب الناس إلى حاكم الإقليم وهو «حنا»، وكلموه في الأمر، وطلبوا إليه أن يقفوا لقتال العرب، ولكن «حنا» أبى كل الإباء أن يقف للقتال، ثم استولى على الأموال العامة التي جمعت، وحملها معه وخرج بجنوده ضاربا في الصحراء إلى الغرب يقصد الإسكندرية؛ إذ لم تكن به رغبة أن يلقى ما لقيه جنود الفيوم. وكان يرى من نفسه العجز عن مناجزة المسلمين؛ وعلى ذلك لم يلق العرب مشقة كبرى في فتح بلاد الصعيد. وقال حنا النقيوسي في وصف ذلك الفتح إن المسلمين عندما رأوا ضعف الروم وعداوة الناس للإمبراطور «هرقل»، لما أوقعه من الاضطهاد والعسف بأهل مصر كلها ودينهم الصحيح بتحريض قيرس البطريق الخلقيدوني، زادت جرأتهم واشتد ساعدهم في القتال.
12
والحق أن القبط لم يحبوا العرب، ولكنهم في الصعيد كانوا يحملون في قلوبهم أشد الضغن على من اضطهدهم وعذبهم، حتى إن أهل الفيوم بعد أن استقرت بهم الحال في حكم العرب على دفع الجزية، بلغ الأمر بهم أن صاروا يقتلون من وجدوه من جند الروم، وكان أهل البلاد التي في جنوب الفيوم أقل رغبة من هؤلاء في نصرة الروم.
ولكن القائد العربي كان قد عاد إلى بابليون بعد أن فتح بلاد الصعيد أو على الأقل بلاد مصر الوسطى؛ كيما يستريح بأصحابه في أوان فيض النيل. وفيما كان هناك في ذلك الحصن وافاه «قيرس»، وقد جاءه يحمل عقد الإذعان والتسليم، فرحب به عمرو وأكرم وفادته. ولما علم منه ما جاء من أجله من أمر الصلح قال له: «لقد أحسنت في الشخوص إلينا.» فقال البطريق له إن الناس قد عولوا على دفع الجزية كيما تقف رحا الحرب، ثم قال: «إن الله قد أعطاكم هذه الأرض، فلا تدخلوا بعد اليوم في حرب مع الروم.»
13
ولعل المفاوضة والمشاورة قد استطالت مدة أيام كعادة أهل الشرق في مفاوضاتهم، ثم انتهى أمرها إلى صلح اتفق فيه الجانبان على شروطه جميعا، وكتب بها عقد في الثامن من شهر نوفمبر من سنة 641. ولنسم هذا الصلح صلح الإسكندرية كي نميز بينه وبين الصلح السابق الذي عقد في بابليون؛ فإن هذا الصلح الجديد إنما كان خاصا في معظم شروطه بالإسكندرية وتسليمها، وقد تم به فتح العرب لبلاد مصر. واختلفت الروايات في ذكر شروط هذا الصلح، ولكن حنا النقيوسي أورد أكبرها، وهي: (1)
Unknown page