134

ولما فتحت مدينة نقيوس،

18

وتفرقت السفن الرومانية التي كانت بالنيل هناك، أصبح الطريق خاليا من العقبات دونهم إذا شاءوا السير إلى الإسكندرية، وكان جيش الروم عند ذلك يقوده «تيودور»، ويتراجع به شيئا فشيئا نحو تلك العاصمة.

وأقام عمرو في نقيوس بضعة أيام ثم عبر النيل إلى الغرب، ولكنه قبل أن يستأنف سيره أرسل أحد رجاله وهو شريك ليتتبع العدو المنهزم، وكان الطريق على جانب النيل الأيسر مما يلي الصحراء، وكان دهسا للخيل، فلحقت طلائع المسلمين بالروم عند موضع على ستة عشر ميلا إلى الشمال من الطرانة، ولكن المسلمين وجدوا عدوهم أكثر عددا مما كانوا يحسبون، فلم يستطيعوا أن يهزموهم بحملتهم الأولى، بل لقد قيل إن القتال استمر ثلاثة أيام، واستطاع الروم مدة أن يردوا العرب ويلجئوهم إلى نهد من الأرض ظلوا عليه حينا، والروم تحمل عليهم حملات شديدة، وقد أحاطوا بهم من كل جانب. فلما رأى شريك ما يحدق بالمسلمين من الخطر بعث مالك بن ناعمة ليخرج على فرس له أشقر لا يشق له غبار، وأمره أن يقتحم العدو أو يدور حوله حتى يأتي عمرو بن العاص فيحمل إليه النبأ، ففعل مالك ذلك، وأراد جماعة من الروم أن يلحقوا به فأعجزهم. ولما بلغ عمرا ما يهدد شريكا من الخطر أرسل إليه الإمداد سريعا. وقيل إن العدو فر هاربا عندما بلغه مجيء ذلك الإمداد. ومهما يكن من أمره فقد نجا شريك مما كان فيه، ولم يستطع الروم أن يغلبوا تلك الجريدة العربية، فأضاعوا بذلك فرصة كما أضاعوا من قبل كل فرصة أتاحها الحظ لهم. وقد سمي ذلك الموضع الذي وقع القتال فيه باسم القائد العربي؛ فهو معروف إلى اليوم باسم «كوم شريك».

19

وسار عمرو يدفع العدو أمامه، ولعله سار إلى الشمال الغربي على جانب الترعة التي تلي الصحراء حتى بلغ الدلنجات، ومنها سار إلى الشمال في تجاه دمنهور، فوجد الروم مرة أخرى يعترضون سبيله عند سنطيس،

20

وهي على ستة أميال في جنوب دمنهور، ووقعت هناك وقعة شديدة انهزم فيها الروم وتقهقروا أمام العرب، ولم يحاولوا أن يقفوا لعدوهم في دمنهور أو يملكوها، بل تدافعوا نحو الشمال، فانتهى بهم الانهزام إلى الطريق الأعظم المؤدي إلى الإسكندرية، فعبروا الترعة وكانت عند ذلك لا يكاد يوجد بها شيء من الماء، ثم ساروا حتى أظلهم حصن «كريون» بعد مسيرة نحو عشرين ميلا، وكانت مدينة «كريون» آخر سلسلة من الحصون بين حصن «بابليون» والإسكندرية، وكان لها شأن عظيم في تجارة القمح سوى ما كان لها من خطر عظيم في الحرب؛ إذ كانت تشرف على الترعة التي عليها جل اعتماد الإسكندرية في طعامها وشرابها، ولكن حصونها لم تكن في المنعة على مثل ما كان عليه حصن بابليون ولا ما كان عليه حصن نقيوس،

21

مع أن الروم رمموا حصونها وزادوها قوة. ومهما يكن من الأمر فقد عزم «تيودور» على أن يقف هناك وقفته الأخيرة، ولم يكن في وسعه أن يختار مكانا أليق من ذلك؛ فكانت حصون المدينة تساعد الجنود وتشد أزرهم، وكان جنوده أكثر عددا من العدو، وكانت الترعة تحميهم من بين أيديهم، وكان البطريق من ورائهم يفضي إلى الإسكندرية، ومن السهل عليهم حفظه.

Unknown page