131

وصنع لهم المرق بالماء والملح، وجعل ذلك أمامهم، وقد جلس القبط إلى جانب العرب، فجعل العرب ينهشون اللحم نهشا، حتى بشع القبط ذلك وعادوا بغير أن يأكلوا. فلما كان اليوم الثاني أمر عمرو قوامه أن يأتوا بألوان الطعام في مصر، وأن يهيئوا منها وليمة عظيمة، ففعلوا ذلك، وجاء أهل مصر فجلسوا إلى ذلك الطعام وأصابوا منه، فلما فرغوا من أكلهم قال عمرو للقبط:

6 «إنني أرعى لكم من العهد ما تستوجبه القرابة بيننا، وقد علمت أنكم ترون في أنفسكم أمرا تريدون به الخروج، فخشيت أن تهلكوا، فأريتكم كيف كان العرب في بلادهم وطعامهم من لحم الجزر، ثم حالهم بعد ذلك في أرضكم وقد رأوا ما فيها من ألوان الطعام الذي قد رأيتم. فهل تظنون أنهم يسلمون هذا البلد ويعودون إلى ما كانوا فيه؟ إنهم يسلمون قبل ذلك حياتهم ويقاتلونكم على ذلك أشد القتال، فلا تلقوا بأنفسكم إلى التهلكة، وادخلوا في الإسلام، أو ادفعوا الجزية وانصرفوا إلى قراكم.»

7

وهذه القصة عجيبة؛ إذ إنها تظهر جانبا آخر من الخلق يختلف عما سمعناه من قول عبادة بن الصامت من احتقار هذه الحياة ونعيمها، وهو القول الذي عجب له قيرس وردده. ولتلك القصة شأن آخر؛ وذلك أنها تدل دلالة واضحة على أن بعض القبط أخذوا عند ذلك يختارون الإسلام ويفضلون الدخول فيه على دفع الجزية؛ فقد رأى هؤلاء أن الإسلام يجعل لهم ما للمسلمين وعليهم ما على المسلمين، ويساويهم بالفاتحين في شرف محلهم، ويجعلهم إخوانهم في كل شيء، يسهم لهم في الفيء، ولا يفرض عليهم الجزاء. فكان في ذلك باعث قوي لكثير منهم على الدخول في الإسلام، لا سيما وقد طحن المقوقس عقيدتهم طحنا، وحطم يقينهم باضطهاده. وكذلك دخل في الإسلام كثير من الروم، بعضهم جنود وبعضهم ممن حل في مصر منهم، وفي هؤلاء يقول حنا النقيوسي: «قوم ارتدوا عن دينهم المسيحي ودخلوا في دين البهائم.» وكان هؤلاء المسلمة يتظاهرون بأنهم من أشد الناس في أمر الدين، يدفعهم ذلك إلى مساعدة إخوانهم العرب المسلمين على استصفاء أموال المسيحيين الذين أخرجتهم الحرب من ديارهم، وصاروا يستبيحون لعنهم، ويصمونهم بأنهم «أعداء الله».

8

ولكن هؤلاء الذين أسلموا لم يكونوا إلا قليلا، وبقي جمهور القبط على دينهم يزدرون الذين خرجوا من نصرانيتهم، وينفرون من ذلك الدين الجديد الذي دخلوا فيه، وهذا ظاهر في قول الأسقف المصري «حنا». ويجدر بنا أن نعيد هنا ما سبق لنا قوله، وذلك أن القبط في ذلك العصر لم يكن لهم زعيم يأتمرون بأمره، ولا جماعة يلزمونها؛ فلم تكن بهم قدرة على أن يتعاونوا على أمرهم، فكان الرجل منهم يرى لنفسه، وكانت الطائفة منهم يرون لأنفسهم بين حين وحين، ولكن لم يكن فيما بينهم تساند أو تعاون؛ إذ لم يكن لديهم سبيل إلى توحيد قصدهم أو التكاتف في السعي إليه؛ وعلى ذلك فمن أكبر الخطأ أن يقول قائل إن القبط عامتهم دخلوا في عهد الصلح الذي كتبه عمرو عند فتح بابليون؛ فإن ذلك العهد إنما دخل فيه أهل ذلك الموضع. على أن شروط ذلك الصلح نفسه عرضت فيما بعد على من كانوا على كثب من تلك الناحية؛ فإن عبد الله بن حذافة السهمي سيره عمرو إلى عين شمس ليعامل أهل المدينة والكورة التي حولها.

9

وهذا يدل على أن المسلمين عند فتحهم للمدينة أول مرة لم يأخذوا أمرها في يدهم ويقيموا فيها حكم الإسلام.

ولكن هذا الصلح أحدث في دولة الروم أثرا كبيرا، مع أنه لم يكن إلا صلحا مقصورا على جماعة صغيرة؛ وسبب ذلك مكانة ممفيس أو بابليون، فإنها وإن لم يبق لها المحل الأول في البلاد؛ إذ مضى عليها زمن طويل وليست هي عاصمة البلاد؛ كانت لا تزال ذات شأن عظيم؛ إذ كانت باب إقليم الصعيد وإقليم مصر السفلى، وكان حصنها منيعا لا يكاد ينال، فإذا هو وقع في يد عدو دانت له بلاد الصعيد جميعا، وهابته بلاد مصر السفلى في الشمال. ولسنا ندري ماذا كان قواد الروم يصنعون طول مدة الشتاء، وما الذي حملهم على أن يخلوا ما بين المسلمين وبين الحصن حتى استطاعوا على مر الزمن أن ينزلوا من فيه، ولكنا نعلم حق العلم أن الروم ضعفت قوتهم وخارت عزيمتهم عندما فتح العرب ذلك الحصن، في حين أن العرب زادوا قوة وجرأة، وأصبح في يد عمرو ملك الفرما وبلبيس وأثريب وعين شمس؛ فكان باسطا سلطانه على الجانب الشرقي كله من مصر السفلى، فلما دان له الحصن صار سلطانه ثابتا على مجمع النهرين، وجمع في يده أزمة وادي النيل الأوسط، وتم له بذلك الشطر من فتح مصر.

وإنا نرى أن عمرو بن العاص بعدما فرغ من فتح الحصن أمر بإقامة الجسر من السفن في النهر، أو بقول آخر أمر بإعادة إقامته بين الحصن والروضة، وبين الروضة والجيزة، فوصل بذلك بين شاطئي النهر، واستطاع أن يملك ناصيته ويشرف على ما ينتقل فيه من السفن والبضائع. وهذا على خلاف ما جاء في كتب التاريخ؛ إذ جاء فيها أن عمرا أمر بذلك قبل فتح الحصن، وكان عمرو شديد الرغبة في أن يسير جنوده نحو الإسكندرية بعد أن طالت مدة إقامتهم بالعسكر في مصر، وكان يعرف أنه لن تمر ثلاثة أشهر حتى يكون النيل قد أخذ يعود إليه مده وفيضه، فكان الوقت دونه غير متسع، وفي ضياعه مضيعة وخسارة، فأرسل إلى عمر بن الخطاب يصف له ما كان ويستمده، على حين شرع يدبر أمر المدينة التي فتحها وما حولها من إقليمها، وأخذ يرمم بناء الحصن، وجعل فيه مسلحة من المسلمين عليهم خارجة بن حذافة السهمي.

Unknown page