76

Fath Andalus

فتح الأندلس

Genres

وفيما هو في هذه الهواجس سمع وطء أقدام في الغرفة فالتفت فرأى يعقوب واقفا ويداه متقاطعتان على صدره كأنه يسمع صلاة، فلما وقع نظره عليه هرول يعقوب نحوه وهو يبتسم ويقول: «ألا يأمر مولاي بتناول الغداء؟»

فلم يصبر ألفونس عن الابتسام وقد انشرح صدره، فوقف وأسرع إلى المائدة بدون أن يتكلم، وسار يعقوب في أثره فجلس ألفونس وظل يعقوب واقفا مثلما يقف الخدم، فأشار ألفونس أن: «اجلس.» فأبى واعتذر، فقال ألفونس: «لم يعد يليق بي أن أعدك خادما بعد ما علمته من علو همتك وتمسكك بنصرة الحق.»

فقال يعقوب: «العفو يا مولاي، إنك لم تعلم عني شيئا بعد، وما هي إلا أقوال سمعتها، فإذا رأيت مني عملا كبيرا ورأيت بعد ذلك أنني أستحق مجالستك أو مؤاكلتك فعلت.»

فتذكر ألفونس وعده بكشف السر بعد وصوله أستجة، فلم يشأ أن يذكره بذلك لئلا يكون الجواب تسويفا، فصبر حتى يكاشفه هو من تلقاء نفسه، ولكنه قال له: «لك الخيار يا يعقوب فيما تفعل، ثم إني فهمت من بعض أقوالك أنك تعلم قصة فلورندا وحديثها.»

فأشار يعقوب برأسه أن: «نعم.»

فقال ألفونس: «فما رأيك في شأنها وشأننا وهي لا تعلم مقرنا، ولا عمي يعلمه، ألا ترى أن نبعث إليهم بالخبر كي يحضرا إلينا ونحن هنا بعيدون عن ذلك الطاغية؟»

فقال: «لا تقل إننا بعيدون، أتظن رودريك أبعدك عن قصره وأغفل أمرك؟ ألا تعلم أن معظم رجال هذا الجند عيون عليك يراقبون حركاتك، لعلهم يتقربون إلى البلاط الملكي بالإيقاع بك؟ وإذا هرمت الدولة واختلت شئونها كثر فيها الجواسيس وتعددت أسباب الوشاية، وفسدت النيات وأصبح الأخ عينا على أخيه، والابن عينا على أبيه، يساعدهم على ذلك انغماس الملك في الترف وانشغاله به عن سياسة رعيته مع ما يحول من أهل التملق بينه وبين المتظلمين، فلا تثق بأحد ولا تأمن أحدا إلا إذا رأيت له في إخلاصه منفعة أو كانت مصلحته ومصلحتك سواء، حتى يعقوب هذا.» قال ذلك وأشار بسبابته إلى صدره؛ فعجب ألفونس لما سمعه ولم يكن قد اختبر شيئا من شئون الناس، ولا اطلع على فساد الطبيعة الإنسانية، فسكت وعاد إلى الأكل حتى فرغ من الغداء ويعقوب لا يزال واقفا بين يديه.

فلما نهض ألفونس عن المائدة قال يعقوب: «استرح يا مولاي الآن، وائذن لي بالنزول إلى المدينة ثم أعود إليك قبل الغروب، وفي الغد ننزل إليها معا لنرى أسواقها وساحتها.»

فأدرك ألفونس بغتة أن الغد يوم أحد، فقال: «ونسمع القداس أيضا.»

فقال يعقوب: «نسمعه يا سيدي، وسنبحث في الأمر غدا. هل يسمح لي مولاي بالانصراف؟»

Unknown page